الصيدلة عند العرب
(١) في الجاهلية
وللبادية من أهل العمران طبٌّ يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثًا عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانونٍ طبيعيٍّ، ولا على موافقة المزاج، وكان عند الجاهلية كثير من هؤلاء العلماء كالحرث بن كلدة وخزيم من بني تميم.
(٢) في الإسلام
ولد النبي سيدنا محمد — عليه الصلاة والسلام — في القرن السادس للميلاد عام ٥٧١ ميلادية، وشغل العرب في بدء الإسلام فترة من الزمن بالفتوحات، ووقفت حركة العلم، وظلوا كذلك حتى وضعت حروب الفتح الإسلامي أوزارها.
ولما استقر العرب بالبلاد التي انبعثت منها المدنيات القديمة، كسوريا ومصر وفارس والهند، وتولى الخلافة رجال مستنيرون كالرشيد والمأمون، واستتب الأمن في أنحاء الدولة وعمها الرخاء، توجهت الهمم لاستطلاع علوم القدماء ومتابعة أبحاثهم العلمية المختلفة، رجاء الوصول إلى كشف ما يحيط بهم من أسرار الطبيعة وعجائبها، واستخدام ما قد يتاح لهم من القوانين العلمية في ترقية أحوالهم المعيشية.
فنقلوا عن الهند وفارس واليونان والرومان، وقد ساعدهم على ذلك رجال الطائفة السريانية وعلماء القبط واليهود؛ الذين هاجروا من مصر وما جاورها إلى تلك البلدان فرارًا من ظلم الرومان.
وأهم العلوم التي أخذها العرب عن هذه الطرق، وضربوا فيها بسهم وافر هي علوم الطب والكيمياء والصيدلة، فاكتشفوا خواص القلويات والأحماض، وابتدعوا مركبات جديدة.
ونبغ من العرب علماء ظهروا في العصور الذهبية لدولهم المتتابعة، وتفرغوا لعلم الأقرباذين، وصارت لهم شهرة واسعة، واخترعوا كثيرًا من المركبات والمواد الكيميائية، فهم أول من عرفوا الكحول والشراب وحامض الكبريتيك وأكسيد الزئبق وحجر جهنم (نترات الفضة) والأنتيمون والبورق وروح النوشادر والسليماني.
وأدخلوا كثيرًا من العقاقير النباتية التي كان يجهلها علماء الإغريق، كالراوند والتمر هندي وخيار شمبر والسنامكي والكافور والجلبا، وعرفوا الكثير من أنواع الطيب الزكية؛ كجوز الطيب والمسك والقرنفل، وهم أول من اخترع السواغات لإذابة الأصول الفعالة للأدوية، سواء أكانت معدنية أم نباتية أم حيوانية، واخترعوا أجهزة للتصعيد والتقطير والتسامي والخلط والمزج.
وقد شهد علماء الإفرنج أن العرب هم أول من أوصل فن الصيدلة إلى الصورة العصرية الحاضرة المنظمة، وأول من أنشأ حوانيت خاصة بها، ووضعوا قانونًا أقرباذينيًّا أثبتت فيه جميع المركبات الصيدلانية، عززته الحكومة بسلطتها وسارت عليه صيدلياتهم، وقد طغت الروح الأقرباذينية النباتية والكيميائية حتى على علماء الطب في ذلك العصر.
وقد عاصر النبي ﷺ علماء مخضرمون، هم في الحقيقة البقية الباقية من علماء الجاهلية، ذاعت شهرتهم في ذلك الوقت في علم الدواء وأهمهم:
(٣) الحرث بن كلدة
من الطائف، جاب البلاد، وتعلم علم الدواء بفارس، وقد عاصر أبا بكر وعمر وعثمان وعلي — رضي الله عنهم — وله كتاب المحاورة في الطب بينه وبين كسرى أنوشروان.
(٤) النضر بن الحرث
ابن خالة النبي ﷺ وهو ابن الحرث، ورث العلم عن أبيه وجاب البلدان، ثم ابن أرمثة التميمي وابن بحر الكناني.
وكان يعاصر النبي — عليه الصلاة والسلام — في ذلك الوقت قسيس في الإسكندرية يدعى آرون، جمع من بين مؤلفات الإغريق حوالي ٣٠ كتابًا، ترجمها إلى السريانية أحد اليهود، ثم ترجمت إلى العربية حوالي عام ٦٨٣م.
(٥) عصر الخلفاء ٦٣٢–٦٦١م
ثم جاء عصر الخلفاء الراشدين، فتابعوا السير في طريق التوسع العمراني ومواصلة الفتوحات الإسلامية.
وكان عصر سيدنا عمر بن الخطاب أزهى عصور الخلفاء علمًا، وذلك بعد أن فتح عمرو بن العاص مصر، واستولى على مدينة الإسكندرية، تلك التي قادت العالم يومًا ما بعلمها وعلمائها.
قال المختار الحسن بن بطلان: «إن الإسكندرانيين الذين ترجموا كتب جالينوس كانوا سبعة، وهم اصطفن وجاسيوس وتادريوس وأكلاوس وأنقيلاوس وأقلاديوس ويحيى النحوي، قيل: إن أنقيلاوس كان المقدم على سائر الإسكندرانيين، وأنه هو الذي رتب الكتب الستة عشر لجالينوس، وكانوا يقرءونها على الترتيب، وكانوا يجتمعون في كل يوم على قراءة شيء منها وتفهمه.
وكان يحيى النحوي أسقفًا ثم ترك المسيحية أيام عمرو بن العاص وخدم الإسلام.»
(٦) العصر الأموي ٦٦١–٧٥٠م
وفي أواخر ذلك العصر فتح العرب بلاد الأندلس، وكونوا بها دولة عظيمة في العلم والحضارة كما سنذكره بعد.
وقد نقل ابن وحشة الكلداني عام ٧١٠م كتابًا في (السموم) وكتابًا آخر في (الزراعة) حاويًا لكثير من الفصول الأقرباذينية.
ثم ظهر في أواخر هذا العصر جابر بن حيان عام ٧٥٠ ميلادية، وهو أبو الكيمياء عند العرب.
وترجم خالد بن يزيد في أوائل القرن الثاني للهجرة كتابًا في الكيمياء عن مدرسة الإسكندرية.
(٧) عصر الدولة العباسية ٧٥٠–١٢٥٨م
بلغ العرب أيام الدولة العباسية أوج عظمتهم العلمية، وبذوا العالم أجمع في علوم الصيدلة والكيمياء والعقاقير، وظلوا كذلك مركز الحضارة الفكرية والعلمية ردحًا كبيرًا من الزمن حوالي خمسة قرون، جمعوا ما كان متفرقًا من العلم فأسسوه، وبنوا عليه أبحاثهم، وخلفوا للعالم تراثًا عظيمًا في علم الصيدلة، يذكرهم به علماء الإفرنج حتى الآن بكل إجلال وثناء.
وفي عام ٧٦٢م أنشئت مدينة بغداد العظيمة على ضفاف الفرات.
وفي عام ٧٨٦م تولى هارون الرشيد خلافة الأمة الإسلامية، فقادها إلى ما فيه عظمتها الخالدة وأصبح عصره هو العصر الذهبي لجميع دول الإسلام.
شيد المدارس والكليات، وأنشأ جامعة بغداد الشهيرة، وأسس المكاتب الحاوية لمؤلفات اليونان والرومان، وأقدم العرب إقدامًا شرهًا على نهل معالم الطب والصيدلة والكيمياء، وأخذ العرب عن علماء القبط واليهود والسريان هذه العلوم مما حفظوه عن أجدادهم، وظهر بينهم صيادلة فطاحل نبغوا في فنون العقاقير والأدوية، وكانوا ينعمون كغيرهم من العلماء بالهبات السخية التي يهبها لهم الرشيد.
ولما توغل الرشيد في آسيا الوسطى عثر على كنز ثمين من علوم اليونان، فحملت الكتب إلى بغداد وترجمت برعايته.
ومن مشاهير علماء الصيدلة والعقاقير في ذلك الوقت آل بختيشوع، وهم من علماء السريان، وقد خدم عميدهم جورجس الخليفة المنصور، ثم خدم ابنه من بعده «جبريل بن بختيشوع» الخليفة هارون الرشيد، وأوكل إليه أمر إدارة المدرسة الطبية في ذلك الوقت لِما امتاز به من مهارة في الطب.
ثم جاء بعد ذلك بختيشوع بن جبريل ثم جبريل بن عبد الله بن بختيشوع، عيسى المعروف بأبي قريش. قال إسحاق بن الرهاوي في كتاب أدب الطبيب: عن عيسى بن ماسة قال: أخبرني أبو حنا بن ماسويه، أن أبا قريش كان صيدلانيًّا بارعًا يجلس على موضع نحو باب الخليفة، وله وصفات كثيرة، وهو أول من اخترع المكمدات، ووصفته في ذلك هي:
دهن بنفسج | تمزج ويعمل منها مكمدات |
ماء ورد | |
خل أحمر | |
ثلج |
وقد أسس هارون الرشيد المستشفيات والصيدليات العامة في مدينة بغداد، وأرسل عام ٨٠٧ إلى شرلمان هدايا كثيرة، منها البلاسم والمراهم والأدوية والعقاقير المختلفة، ثم أصدر أمره بعد ذلك إلى صابر بن سهل في وضع دستور للأدوية والمادة الطبية سماه «كرابادن» التي جاءت منها كلمة أقراباذين وهي فارسية، ووضع قانونًا لمراقبة أصناف الأدوية وأثمانها مراقبة شديدة.
وكان ابن سهل عالمًا صيدليًّا فاضلًا درس جميع الأدوية المفردة وتركيبها، وتقدم عند المتوكل وعند من تولى بعده من الخلفاء، وتوفي أيام المهتدي عام ٩٠٦م، وقد حوى مؤلفه «كربادن» سبعة عشر بابًا كانت المرجع الوحيد في ذلك الوقت في جميع مستشفيات الحكومة والصيدليات.
وجاء بعده تلميذه ماسويه بن حنا بعد أن رافقه حوالي ٣٠ عامًا، ثم اشتغل صيدليًّا للمستشفى من بعده.
ثم جاء يوحنا بن ماسويه الصيدلي البارع الذي ألف كتاب البرهان والبصيرة وكتاب الأدوية المسهلة، وكان من أنصار السنامكي والجلبا. ثم ميخائيل بن ماسويه، وغيرهم من آل ماسويه.
وجاء عصر الخليفة المأمون ٨١٣–٨٤٦م الذي كان مولعًا بالعلوم والفلسفة، وكان عصره من أرقى عصور العلم، ظهر فيه جهابذة في كل باب، فنبغ في الصيدلة والعقاقير آل حنين وعميدهم حنين بن إسحاق؛ الذي أحضره المأمون وكان فتي السن، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب اليونان والرومان والفرس، وإصلاح ما ينقله غيره، فامتثل لأمر مولاه، ومال إلى دراسة الأدوية والعقاقير، وعرَّب كتاب إقليدس، وأضاف إليه كثيرًا من المواد والعقاقير، ثم جاء إسحاق بن حنين وهو الذي قال:
وله كتاب الأدوية المفردة، وكتاب الأدوية الموجودة بكل مكان، وكتاب الأدوية المسهلة، وكتاب صنعة العلاج بالحديد، ثم ظهر حبيش بن الأعسم وهو ابن أخت حنين.
وقد كان المأمون يرسل البعوث للبحث والتنقيب في الكنائس والأديرة عما خلفه القدماء من العلوم، وذهب بعضهم إلى القسطنطينية والهند وفارس، وجلبوا معهم خير نفائس العلم.
ومن الصيادلة المعاصرين في ذلك الوقت يعقوب بن إسحاق الكندي صاحب كتاب الترفق في العطر أو في كيفيات العطر والتصعيدات، وقد افتتحه بصناعة المسك والعنبر، ثم تعطير المياه مثل ماء الورد والصندل وغيره، ويوجد من هذا الكتاب في دار الكتب نسخة فوتوغرافية من أجمل ما يمكن.
ومن أشهر علماء العرب في الصيدلة والعقاقير في ذلك العصر هو الشيخ أبو بكر محمد بن زكريا الرازي، وهو رئيس مستشفى بغداد، ولد عام ٨٧٥م وتوفي عام ٩٢٣م، وألف كتاب الحاوي في ٣٠ مجلدًا، وطبع في مدينة البندقية عام ١٥٤٣م، ووضع كتاب الجامع، وذكر فيه الرهج الأصفر والأحمر والبورق، واستعمل الكحول لإذابة عدة مستحضرات أقرباذينية، وكان يستعمل في تراكيبه الحديد والكبريت والنحاس والزرنيخ والزئبق والأنتيمون والخارصين، وذكر ماء الحياة؛ وقصد به النبيذ، وقد غوى الكيمياء إلى حد الجنون، ومن أظرف ما يروى عنه أنه ألف كتابه في إثبات صناعة الكيمياء للمنصور، وقصده به في بغداد، فدفع له الكتاب، فأعجبه وشكره عليه، وأعطاه ألف دينار.
(٨) ابن سينا
هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا البخاري، ولد في بخارى عام ٩٨٠م، وأجاد القرآن وهو في سن الثانية عشرة، واتصل بالأمير نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان لمرضٍ اعتراه، فأدخله مكتبته، ولم يكن لها نظير، فقرأ الكثير من علماء الأقدمين، واتفق أن احترقت المكتبة بعد مدة، فلم يستفد بها أحد سواه، ولم يكمل ثمانية عشر عامًا حتى أكمل تحصيل علومه، وتدرج في مراتب الدولة حتى وصل إلى مرتبة وزير، وسجن، وفر من سجنه، فآواه صيدليٌّ من أصدقائه في حمدان، وأخذ عنه الكثير، وتوفي سجينًا بهمذان.
ويقول العلماء: إن الطب كان معدومًا فأوجده أبقراط، وميتًا فأحياه جالينوس، ومتفرقًا فجمعه الرازي، وناقصًا فكمله ابن سينا.
(٩) عصر الأندلس ٧١١–١٤٩٢م
وفي عام ٧١١ غزا العرب بلاد الأندلس، واتخذوا عاصمتهم العربية هناك مدينة قرطبة، مدينة العلم والحضارة في ذلك الوقت، وخرج منها علماء كانوا حلقة الاتصال بين حضارة الشرق والغرب، وظلت بلاد الأندلس تحمل لواء العلم وخصوصًا فن العقاقير، فظهر أبو القاسم الزهراوي صاحب كتاب التصريف، وطبعت ترجمته باللاتينية في أكسفورد عام ١٥١٩م.
ثم بنو زهر الذين أشبهوا في قرطبة بني بختيشوع في بغداد، وأهمهم: أبو بكر محمد بن مروان ثم عبد الملك أبو مروان بن زهر المسمى «أفينزوار»، الذي كان له غرامٌ خاصٌّ بالصيدلة، وله مؤلفات عديدة منها كتاب السموم والترياق.
ثم العالم المحقق أبو علي يحيى بن عيسى بن جزله صاحب كتاب المنهاج، الذي رتبه على الحروف الأبجدية، وجمع فيه أسماء الحشائش والعقاقير، وكان نصرانيًّا ثم أسلم على يدي ابن الوليد، وقد قيل عنه: إنه كان يأتي معارفه، ويحمل إليهم الأشربة والأدوية بدون مقابل، وتوفي عام ١٠٩٩م.
ثم أبو الصلت أمية بن عبد العزيز أبي الصلت الأندلسي، المتوفى عام ١١٣٤م وصاحب كتاب الأدوية المفردة، وابن رشد: وهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المالكي، ولد في قرطبة عام ١١٢٠م، وقربه المهدي يوسف، ورقاه أسمى المراتب، وقد أخذ علمه عن علماء الإغريق والإسكندرية، وشرح أرجوزة ابن سينا، ومن مؤلفاته كتاب «كليات ابن رشد»، وأصل مؤلفاته غير موجودة في العربية، وأكثرها مترجم إلى اللاتينية، وقلب الدهر له ظهر المجن؛ فعيبت عليه آراؤه التي جاهر بها، وصودرت أمواله، وأرغم على الإقرار علانية بالعدول عن آرائه.
ابن البيطار، هو ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد الأندلسي النباتي، نزيل القاهرة، ومصنف كتاب الأدوية المفردة، وكان حجة انتهت إليه معرفة النباتات وتحقيقه ووصفه وأسمائه وأماكنه، ولا يجارى في ذلك، سافر إلى بلاد اليونان والرومان، وقال الموفق بن أصيبعة: «شاهدت معه كثيرًا من النباتات في أماكنها بظاهر دمشق، وقرأت عليه تفسيره ولا سيما أدوية دايسقوريدس، فكنت آخذ من غزارة علمه ودرايته شيئًا كثيرًا، وكان لا يذكر دواءً إلا ويعين في أي مكان هو من كتاب دايسقوريدس، وجالينوس.»
كان في خدمة الملك الكامل، وكان يعتمد عليه في صناعة الأدوية المفردة والحشائش، وجعله مقربًا عنده، وعين بمصر رئيسًا للعشابين، وأهم مؤلفاته هو مفردات ابن البيطار، وتوفي في دمشق عام ١٢٩٧م.