عن أزمة الهوية
الهوية ليست شيئًا ثابتًا
يتكلم الناس اليوم عن الهوية، أو الشخصية الأصيلة، بمثل ما كانوا يتكلمون منذ سنين عن الطبيعة الأنثوية، والطبيعة الذكرية، وبمثل ما كانوا يتكلمون في عهد اليونان القديم عن العقل الثابت، أو «اللوجوس» وقد اتضح في ضوء الفلسفات الجديدة أنه ليس هناك ما يسمى ﺑ «اللوجوس» أو العقل الثابت، وليس هناك أيضًا ما يمكن أن يسمى بالطبيعة البشرية الثابتة التي لا تتغير للرجل أو المرأة.
لقد وُجد أن الطبائع البشرية ظواهرُ نسبيةٌ متغيرة على الدوام مع تغير المجتمع، والبيئة والثقافة، وظروف الحياة.
إن طبيعة الرجل البدائي في العصر الحجري مثلًا تختلف تمامًا عن طبيعة الرجل اليوم.
وينطبق هذا القول أيضًا على ما يسمى بالهوية أو الشخصية.
إن هوية الرجل العربي المسلم، في العصر الأموي مثلًا ليست هي هوية الرجل العربي المسلم اليوم، إن الشخصية الإنسانية في تفاعلٍ مستمر مع القيم الثقافية والاجتماعية السائدة، وهي تتغير من مجتمعٍ إلى مجتمع، ومن زمن إلى زمن، ولا يمكن أن نقول: إن الجلباب هو الزي العربي أو الزي الإسلامي مثلًا؛ لأن الرجال كانوا يرتدون الجلاليب في الجزيرة العربية منذ ألف عام!
ولا أن نقول: إن الحجاب بالنسبة للمرأة هو جزء من شخصيتها الأصلية أو هويتها لمجرد أن النساء العربيات في زمنٍ ما، أو في عهدٍ ما ارتدين الحجاب.
إن عقل الإنسان العربي (رجلًا وامرأة) يتطور مع الزمن، وتتغير ويتغير معه الزي الذي يلبسه بالضرورة ليتفق مع حركته الجديدة في المجتمع، ومع دوره المتغير دائمًا.
وعلى ذلك فإن الذي يحدد الهوية ليس هو «الزي» أو الشكل الخارجي للإنسان، وإنما «دوره» في حياته، وعمله، وأفكاره، وتفاعله مع قضايا مجتمعه، وتاريخه، واشتراكه مع الآخرين لحل مشاكل بلده، وتحقيق العدالة والحرية لنفسه وللآخرين.
لكن موضوع «الهوية» في بلادنا ينسى دائمًا «الجوهر» ويتحدث عن «الشكل»، يتجاهل «الأصول» ويتمسك بالفروع، مثل ارتداء الجلباب أو السروال، تربية الذقون، تغطية وجه المرأة.
لكني أرى أن الجلباب أو النقاب ليس هو الهوية العربية الأصيلة، إن الذي يرتدي جلبابًا، ثم يجهل تاريخ بلده، أو تاريخ الفلاسفة العرب مثلًا، لا تكون له هويةٌ عربيةٌ أصيلة، والمرأة التي ترتدي نقابًا، ثم تجهل تاريخ نشوء الإسلام وحياة النساء العربيات قبل الإسلام وبعده لا تكون لها هويةٌ عربيةٌ أصيلة.
الفراعنة واليونان
يقول الدكتور مراد وهبة: إن «الوهم» هو لبُّ الحضارة الفرعونية على عكس الحضارة اليونانية التي محورها «العقل»، ويضرب على ذلك مثلًا بزيارة العالم فيثاغورس لمصر أيام الفراعنة؛ لكي يتعلم الهندسة، لكنه اكتشف أن المصريين عمليًّا يعرفون الهندسة، لكن دون براهين، بمعنى أنهم يعرفون مثلًا أن المربع المنشأ على الوتر يساوي مجموع المربعَين المنشأَين الآخرين، لكن ليس لديهم برهان على ذلك، أما عبقرية فيثاغورس فقد كانت في استخدامه العقل للعثور على البرهان. واستكمالًا لنفس الرؤية يعتقد د. مراد وهبة أن «الأهرام» ليست إلا رمزًا للوهم؛ لأن الهدف من بنائها لم يكن ترقية الحياة الإنسانية، بل إنها رمز لسخرة المجموع من أجل فرد.
ويعتقد د. مراد وهبة أن أولى خطوات الرؤية العقلية السليمة هي أن نواجه أنفسنا بحقيقة الأوهام، التي نعيشها حتى لو كانت الأهرام.
لكني أرى أن أحد الأوهام التي يعيشها أغلب المفكرين في بلادنا هو الوهم القائل بأن الحضارة اليونانية قامت على «العقل»، وأن الحضارة المصرية قامت على «الوهم»، أو اللاعقل أو النفس أو «الروح» حسب تعبير توفيق الحكيم.
من الخطأ أن نقارن بين علم الهندسة عند الفراعنة، وعلم الهندسة في اليونان القديم، والفرق بين العصرَين يزيد عن الألف عام.
إن علم الهندسة عند الفراعنة قام على «العقل» تمامًا مثل علم الهندسة عند اليونان القديمة، بل إن علماء اليونان نقلوا عن مصر، وكان يحجُّون إليها من أجل نقل العلم والمعرفة.
والمشكلة ليست جغرافية: مصر أو اليونان، الشرق أو الغرب، ولكن المشكلة هي نشوء العبودية في مصر واليونان وانهيار الحضارة الأولى قبل الفراعنة، وقبل أن ينقسم المجتمع إلى عبيد وأسياد ورجلٍ مسيطر وامرأةٍ خاضعة.
- (١)
الأشخاص: وهم الرجال الملَّاك الأسياد.
- (٢)
الأشياء: وهم العبيد والنساء والحيوانات.
هل يمكن لمن يقرأ أرسطو الآن أن يقول: إن مثل هذا الكلام منطقي أو قائم على العقل؟
ربما لم يكن «الوعي» الاجتماعي عند أرسطو واضحًا كما هو عندنا اليوم؛ ولذلك نحن لا نحكم على أرسطو بالوهم أو اللاعقل. إن حماسه للعبودية لم يقلَّ عن حماس الفراعنة، لكن الأزمنة اختلفت. وقد قامت حضارة مصر القديمة على العقل بمثل ما قامت الحضارة اليونانية على العقل، وكلتاهما قامتا على العقل الناقص الذي يظن أن العبودية أمر طبيعي.