انتصار العقل على النقل
منذ بداية التاريخ البشري ينقسم الناس إزاء المشكلات التي تواجههم إلى قسمَين: قسم ينحاز إلى العقل والتفكير المنطقي، وقسمٌ آخر ينحاز إلى النقل من السابقين والأسلاف.
يتقدم المجتمع البشري، ويتطور من خلال الصراع بين هذين الفريقَين، الذي يأخذ أحيانًا شكل الحوار العلمي الأدبي، وأحيانًا أخرى يلجأ إلى العنف الواضح، أو المستتر تحت رداء العلم ذاته، أو الطب، أو القانون، أو الدين، أو الأخلاق، وغيرها من المؤسسات الاجتماعية القوية السائدة.
وأثبت التاريخ البشري أن فريق العقل ينتصر دائمًا على فريق النقل، مهما اشتدت الأزمات، ورغم الردة في فترات الركود الثقافي أو الاقتصادي، نلاحظ دائمًا في التاريخ أن فترات النهضة والازدهار تأتي بعد فترات الردة والانحسار، مثل عمليات المد والجزر في مياه البحار. وسوف يحدث هذا في بلادنا؛ لأننا جزء من هذا التاريخ البشري الذي عاش، وانتصر على كثيرٍ من الأزمات.
لهذا السبب أنا أميل إلى التفاؤل في عز اشتداد الأزمة، ولا أميل إلى هؤلاء المتشائمين الذين فقدوا الأمل، خاصةً بعد صدور قرار محكمة النقض ضد أحد المفكرين في مصر، وهو الدكتور نصر أبو زيد، وضد زوجته الدكتورة ابتهال يونس. إلا أن هذا الأمل لا يتحقق إلا بالعمل الدءوب النشيط في جميع المجالات، وتقوية فريق العقل على فريق النقل.
وبالمثل أيضًا في قضيةِ ختان الإناث، وغيرها من القضايا التي تمس صميم حياتنا الشخصية، بمثل ما تمس الحياة العامة السياسية أو الثقافية، فلا يوجد فاصل بين ما نسميه الخاص والعام، كلاهما مترابط على المستوى الفردي الشخصي أو المستوى داخل العائلة أو الدولة في الإقليم الواحد والعالم أجمع، وهناك دراساتٌ جديدة تكشف الترابط بين العنف في السياسة الدولية، والعنف الموجه ضد النساء والأطفال أو الشرائح الفقيرة الضعيفة في أيِّ مجتمع.
ويعتبر ختان الإناث أحد مظاهر العنف الموجَّه ضد نصف المجتمع وهم النساء؛ ولذلك فهو قضيةٌ عامة وليس قضيةً خاصة بالمرأة وحدها.
وفي عام ١٩٦٨ حين كنت عضوًا بمجلس نقابة الأطباء كما سبق وأوضحت أنني طالبت النقابة بأن تعلب دورها كقيادةٍ علمية تؤمن بالعلم والعقل أن تتصدى لمنع جريم ختان الإناث، واقترحتُ على زملائي الأطباء أن نقوم بحملة من الثقافة الصحية في طول البلاد وعرضها لرفع الوعي لدى النساء والرجال، وأذكر أني قابلت حينئذٍ وزير التعليم ووزير الثقافة ووزير الصحة وغيرهم من المسئولين لتنسيق الجهود الثقافية في هذا المجال، إلا أن هؤلاء قد انقسموا إلى فريقَين: فريقٌ مع العقل يؤيد الجهود الجديدة، وفريقٌ آخر مع النقل عن الأسلاف، واحترام التقاليد القديمة، ومنها ختان الإناث.
في مجلس نقابة الأطباء أيضًا انقسم الزملاء إلى فريقَين: فريق يؤيد اقتراحي بأن يشتمل «قَسَم الطبيب» على فقرةٍ جديدة تقول: «وألا أقطع أي جزء من جسم المرأة إلا بسبب المرض، وألا أقوم بعمليات الختان للإناث، وألا أجهض حاملًا … إلخ.» أما الفريق الآخر فقد اعترض على ذلك، وكان عدد الفريقَين متساويًا تقريبًا، ولم يتخذ القرار بأن تدخل عملية ختان الإناث تحت طائلة قانون آداب مهنة الطب.
وقد رحَّب الكثيرون، وأنا منهم بقرار وزير الصحة (الدكتور إسماعيل سلام) لمنع عمليات ختان الإناث، ومعاقبة من يقوم بها، وبرز السؤال: كيف يقع العقاب دون وجود قانون يصدر عن مجلس الشعب بمنع الختان؟ ثم قرأنا تصريحًا لنقيب الأطباء (الدكتور حمدي السيد) يقول فيه: «إن الإجراءات العقابية على ممارسة الأطباء للختان لن تشمل عقوباتٍ جنائية؛ لعدم وجود قانون يمنع الختان يمكن أن نحتكم إليه.» وأضاف النقيب على ذلك قائلًا: «إن الختان لم يدخل حتى الآن ضمن قانون آداب المهنة كجريمة يعاقب عليها الطبيب!» والسؤال الآن: لماذا لم يدخل؟ وهل عُرض الموضوع على مجلس النقابة ثم رُفض كما حدث منذ ثلاثين عامًا تقريبًا؟!
والسؤال الأهم هو: ألا يمكن لنقابة الأطباء ووزارة الصحة الاستفادة من قانون الجنايات الموجود لمنع ختان الإناث؟! هل من الضروري انتظار قوانينَ جديدة، قد تصدر أو لا تصدر؟
يرى الكثيرون من رجال القانون في بلادنا أن قانون الجنايات (في بَندَيه ٢٤٠، ٢٦٨) صالح للاحتكام إليه لمعاقبة مرتكبي الختان، إذا عدنا إلى نص المادة ٢٤٠ التي تقول: «يعاقب بالأشغال الشاقة من ٣–١٠ سنوات كل من أحدث جُرحًا بالغير ينشأ عنه عاهةٌ مستديمة.» وإلى نص المادة ٢٦٨ التي تقول: «يدخل تحت طائلة هتك العرض جريمة الكشف عن جزء من جسم المرأة الذي يعدُّ من العورات التي تحرص على صونها وحجبها عن الأنظار، وإن لم يقترن هذا الكشف بفعلٍ مادي آخر، لما فيه من خدش لعاطفة الحياء عند المرأة، والمساس بعورة لا يجوز العبث بحرمتها.»
إن كلمة «جرح» في الطب والقانون تعني إحداث قطع في الجسم، أو تمزق بالأنسجة، وهذا هو الركن المادي للجريمة، وينطبق على الختان. كلمة «عاهة مستديمة» في الطب والقانون تعني نقص وظيفة، أو قوة عضو من أعضاء الجسم، أو أحد أجزائه، أو فقد وظيفة كليًّا أو جزئيًّا مدى الحياة.
وهذا بالضبط ما يحدث في عمليات ختان الإناث، بالإضافة إلى أن العاهة المستديمة لا تصيب الجسم فقط، ولكنها تصيب أيضًا النفس والمجتمع والأسرة، والعلاقات الشخصية الخاصة والعامة بمشاكل أو تشوهات أثبتتها الدراسات الطبية والاجتماعية.
ويتوافر القصد الجنائي أيضًا في عمليات الختان؛ إذ إن الطبيب أو الداية، أو أسرة الفتاة يقدمون على إحداث هذا الجرح، أو هذه العاهة المستديمة عن إرادة وإصرار، وضد إرادة الفتاة عن طريق الترغيب أو الترهيب. في إحدى الزيارات لقريتي كفر طحلة بمحافظة القليوبية، عقدتُ ندوة في مركز شباب القرية حول الختان، حين كنت طبيبة الوحدة الصحية المجمعة في قرية طحلة عام ١٩٥٦، كنت أعقد مثل هذه الندوات، كان أغلب الناس يؤيدون الختان، وفي ندوة عام ١٩٩٦ انقسم شباب القرية إلى قسمَين متساويَين تقريبًا، قسم يؤيد الختان، والقسم الآخر يعارض. أحد الحاضرين خطيب الجامع في القرية، كان من رأيه أن الختان ضروري لحماية أخلاق المرأة، وتساءلتُ: هل نقطع أعضاء البشر حمايةً لأخلاقهم؟ ما الفرق إذن بين إخصاء العبيد وختان النساء؟! وهل البشر من ذوي الجسم السليم غير المصاب بالختان بلا أخلاق؟! ودار حوارٌ طويل حول الأخلاق، وكيف يمكن أن يتربى الرجال والنساء على الأخلاق المستقيمة دون عملياتٍ جراحية، ورفعت إحدى الشابات الصامتات صوتها قبل آخر الندوة قائلة: الأخلاق ما لها ومال تقطيع جثث الناس بالموس؟! واعترف خطيب الجامع أن الأخلاق لا علاقة لها بالعمليات الجراحية للجسم، وإنما تتعلق الأخلاق بالتربية السليمة في البيوت والمدارس. وهكذا تحوَّل الحديث إلى الثقافة والعلم والعقل ضد التقليد والنقل القديم.
لا تكفي العقوبات لاستئصال عاداتٍ راسخةٍ قديمةٍ مثل الختان، ولا بد من حملاتٍ ثقافيةٍ إعلاميةٍ وتعليميةٍ وتربويةٍ تشرح المفهوم الصحيح للأخلاق والقيم للأطفال والشباب والشابات.
إن قضية الختان في مصر قضيةٌ اجتماعية وسياسية وثقافيةٌ عامة يتصارع فيها الفريقان الأزليان: فريق العقل وفريق النقل، وهي لا تختلف في جوهرها عن قضية تكفير المفكرين الذين يستخدمون العقل بدلًا من النقل عن الأسلاف.