إنه عاهة وليس هويَّة
يفقد الإنسان كرامته حين يعجز عن الإنفاق على نفسه، يسري هذا المبدأ على «الفرد» الرجل أو المرأة، ويسري على «مجموع الأفراد» أي المجتمع أو الدولة.
والكرامة جزء من شخصية الإنسان أو ما يسمى الهوية.
حين يصبح الإنسان عاجزًا اقتصاديًّا، فإنه يعيش عالة على الآخرين، يقدمون له ما يسمى صدقة أو مساعدة أو معونة.
أصبحت كلمة «معونة» في عصرنا هذا جارية على كل لسان، تقرؤها كل يوم في الصحف، ندرك أن بلادنا تتلقى معونةً أمريكية، حقيقة تنال من كرامتنا كدولة ومجتمع وأفراد رجال ونساء.
هذه المعونة (كأي معونةٍ أخرى) مهددة بالانقطاع لأسبابٍ متعددة سياسية وغير سياسية، وهي محكومة بشرطٍ أساسي هو القدرة أو الرغبة في إعطائها من الطرف الذي يدفع، ولا أحد يمكن أن يفرض على أحد أن يقدم له معونة.
قرأنا في الصحف أن المعونة الأمريكية لبلادنا مهددة بالانقطاع، أن هناك ضغوطًا لقطع المعونة، وضغوطًا أخرى لعدم قطع المعونة، كل يوم نقرأ عن أخبار المعونة، كأنما حياتنا أصبحت معلقة بهذه المعونة، ألا ينال ذلك من كرامتنا؟! ألا نشعر بالإهانة كل يوم؟! وأي إهانة!
وقد نفهم العلاقة بين إسرائيل والمعونة الأمريكية، نعرف أن أمريكا تساند إسرائيل على طول الخط؛ لذلك لا يمكن أن تساند أمريكا أي دولة، أو أي مجموعة، أو أي فرد يعادي إسرائيل، أو لا يستسلم لشروطها.
ومن المفروض أن نبتهج حين تنقطع المعونة الأمريكية عنا، وأن نقيم احتفالًا باستردادنا لكرامتنا، وبقدرتنا على إعالة أنفسنا على الأقل! لماذا لا نحتفل؟!
ومن المعروف أننا كشعبٍ مصري (رجالًا ونساءً) لا نستفيد من هذه المعونة بقدر ما يستفيد منها الآخرون داخل أمريكا ذاتها، وقلةٌ قليلة من أصحاب الملايين أو البلايين في بلادنا! لماذا إذن نسعى إلى هذه المعونة؟! هل أصبحنا محكومين بحفنة من البليارديرات؟! ألا نرى بأعيننا الهوَّة المتزايدة بين الفقراء المعدمين وبين الأثرياء المتخمين؟!
العجيب أيضًا ما قرأته في الصحف مؤخرًا، أن المعونة الأمريكية لمصر مهددة بالانقطاع إن لم يصدر قانون يمنع ختان الإناث.
ما علاقة هذا بذاك؟ هل يؤلم أمريكا ختان المرأة في بلادنا؟ ربما نصدق ذلك إذا تألمت أمريكا لعمليات القتل المستمرة حتى اليوم لنساء وأطفال أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم ولدوا في بلادٍ لا ترضى عنها أمريكا.
مثلًا يموت كل يوم من شعب العراق ٤٥٠ طفلًا حتى اليوم، بسبب الحصار الاقتصادي الأمريكي للعراق، وفي حرب الخليج مات نصف مليون امرأة وطفل ورجل من الشعب العراقي فقط، خلاف الآخرين من جنسياتٍ عربيةٍ أخرى.
أما المذابح التي تعرض لها الشعب الفلسطيني فهي معروفة، يحدث ذلك على مشهدٍ من أمريكا (بل بسببها وبسبب مساندتها المطلقة لإسرائيل) دون أن تتألَّم أو يهتزَّ لها جفن.
كيف إذن تتألم كل هذا الألم بسبب ختان البنات في مصر؟ شيءٌ غريب ليس له إلا تفسيرٌ واحد هو أن أمريكا تريد ضرب الحركة النسائية المصرية المتقدمة لصالح الحركات الأخرى المتخلفة، والتي تساندها أمريكا سرًّا أو علنًا.
ومن المعروف سياسيًّا أن الضربات الموجهة للخصوم تتغير وتتبدل وتتناقض أحيانًا وأغلبها غير مباشر. من المعروف أن أمريكا شجعت التيارات الدينية الإرهابية في أفغانستان لضرب خصومها (الاتحاد السوفياتي)، وشجعت إسرائيل منظمة حماس لضرب منظمة التحرير الفلسطينية، ثم بدأت تضرب حليفتها بعد أن انتهت من تصفية خصومها السابقين، وهكذا تدور السياسة في عالمنا المعاصر تحكمها المصالح وليس المبادئ.
وتتغير اللغة السياسية وتتناقض الكلمات والألفاظ مع الأفعال لإخفاء الأهداف، وقد تمرَّست البلاد الأوروبية والأمريكية في هذا الخداع السياسي واللغوي بشعوب أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، مما يطلقون عليه اسم «العالم الثالث».
لقد أصبحت الحرب اللغوية والإعلامية جزءًا لا يتجزأ من الحرب الاقتصادية والعسكرية التي يشنها العالم الأول على العالم الثالث، وهي حربٌ غير متكافئة بسبب تقدم العالم الأول في تكنولوجيا الخداع الإعلامي، بحيث يصبح للكلمة الواحدة عدة معانٍ، وللتصريح السياسي وجهان متناقضان، ظاهره الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمرأة، وباطنه ضرب الديمقراطية، وضرب حقوق النساء والرجال والأطفال.
بعد أن نشرت الصحف النبأ بأن أمريكا تهدد بقطع المعونة عن مصر إن لم يصدر قانون يمنع ختان الإناث انقلبت بعض المجموعات والأفراد على عقبيها، وغيَّرت موقفها من ختان الإناث؛ لإثبات الوطنية والقومية والثورية ضد أمريكا وإسرائيل.
هكذا يتم التضحية بحقوق البنات والأطفال الإناث في الساحة السياسية، وهي الساحة التي ينتصر فيها القوي على الضعيف (دوليًّا ومحليًّا وعائليًّا).
وفي الساحة الثقافية والإعلامية أيضًا ينتصر الأقوياء الذين يملكون السلطة الدولية أو المحلية؛ لهذا ارتفع صوت بعض الذكور من القيادات (ذوي الصوت العالي) في مجال الدين أو الأخلاق أو الطب أو السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو اللغة، ارتفعت أصواتهم للدفاع عن ختان النساء، قرأت لأحدهم يقول: «إن ختان الإناث هو جزء من هويتنا الثقافية في مواجهة الغرب الذي يسعى إلى الهيمنة علينا، وأحد وسائل الهيمنة هو تحطيم القيم التي درجنا عليها، والهوية الأصلية لنا، والخصوصية الثقافية التي تميزنا عن الآخرين.»
هكذا وجدت الحركة النسائية المصرية المتقدمة نفسها في مأزق، إن حربها ضد ختان النساء قد يبدو كأنما هو ضد المصالح الوطنية والقومية للبلاد، كأنما هو ضد الهوية والنسق القيمي الاجتماعي والأخلاق، كأنما هو ضد تراثنا الأصيل وثقافتنا المصرية والعربية.
لهذا انخفضت أصوات النساء، هي في الأصل منخفضة وهامشية في ساحة الصراع السياسي الطبقي الأبوي، وبعض النساء انقطعت أصواتهن تمامًا وبعضهن بدأن حملة ضد ما يسمى الحركة النسوية «الفيمنست» التي تنشغل بأمورٍ تافهةٍ مثل الختان عن القضايا الكبرى مثل المعونة الأمريكية، أو الصراع الإسرائيلي العربي، أو السوق الشرق أوسطية إلخ.
كيف يمكن في هذا الصراع السياسي أن يحدث ما نسميه «رفع الوعي الثقافي العام بقضية ختان الإناث»؟
إن ختان الإناث ليس قضيةً جنسية تخص النساء فقط، ولكنه قضيةٌ سياسيةٌ اقتصاديةٌ ثقافية وجنسية أيضًا، وهي تخص الرجال والنساء والأطفال، إنها إحدى مشكلات التخلف في المجتمع، وهي تربطه بالمشاكل الأخرى، ومنها الأمية وتدهور أساليب التربية والتعليم والإعلام، وتزايد الفقر والبطالة والمخدرات، وكلها مشاكلُ مترابطةٌ ناتجة عن المشاكل السياسية والاقتصادية الدولية والمحلية.
لا يمكن فهم مشكلة المرأة، ومنها مشكلة الختان دون فهم ما يدور في العالم من سياسات ينعكس أثرها علينا كدول أو أفراد من الرجال أو النساء أو الأطفال.
إن الوعي الحقيقي بأي مشكلةٍ اجتماعيةٍ يتطلب دراستها من كافة النواحي، ومنها أيضًا الناحية التاريخية، كيف نشأت هذه المشكلة في التاريخ ولماذا؟
وهناك محاولة لربط قضايا تخلف النساء، ومنها الختان، بالدين الإسلامي؛ بسبب تزايد العداء العالمي ضد العرب لصالح إسرائيل.
هناك حركةٌ سياسيةٌ عالمية ضدنا نحن العرب بسب القوة المتصاعدة لدولة إسرائيل والمساندة الأمريكية والأوروبية لها منذ نشوئها عام ١٩٤٨.
هناك محاولةٌ سياسيةٌ عالمية لإقناع الناس أن العرب ليسوا إلا شعوبًا متخلفةً همجية يمارسون الختان والإخصاء والإرهاب وضرب الزوجات، وأن دولة إسرائيل متحضرة وديمقراطية ليس فيها ختان ولا إرهاب ولا ضرب زوجات، بل إن المرأة هناك محرَّرة ومساوية للرجل، وهذا كله غير صحيح، ويحتاج إلى مراجعةٍ علمية وتاريخية.
مثلًا في اليهودية يقول الرجل في صلاته: «أحمدك يا رب؛ لأنك لم تخلقني أنثى.» مع ذلك تعلن زعيمات الحركة النسائية اليهودية الأمريكية أن المرأة في البلاد العربية مقهورة بسبب الإسلام. إن الرجل المسلم لا يشكر الله في صلاته لأنه لم يخلقه امرأة! فكيف إذن؟ ولماذا إذن تسعى هؤلاء النساء (اللائي يطلقن على أنفسهن ألقابًا ثوريةً عُظمى) إلى إلصاق تهمة قهر المرأة بالإسلام؟
وفي كتاب التوراة هناك نصٌّ واضح عن ختان الذكور، يأمر رب اليهود شعبه المختار بإجراء عمليات الختان للأطفال الذكور، فلماذا تسعى هؤلاء النساء الثوريات اللائي يطلقن على أنفسهن لقب «فيمنيست يهودية» أو «فيمنيست مسيحية» إلى الادعاء بأن الإسلام هو الذي بدأ فكرة الختان للذكور والإناث على حدٍّ سواء.
تنتهز هؤلاء النساء فرصة عدم دراية الناس بالتاريخ الحقيقي للأديان أو النصوص في الكتب الدينية لربط القهر الواقع على النساء بالدين الإسلامي، وليس الأديان الأخرى.
اشتدت الحركة السياسية المعادية للعرب بعد الثورة المصرية عام ١٩٥٢، وتصاعدت الحركات الشعبية العربية ضد الإرهاب الإسرائيلي في المنطقة، وتضاعف العداء ضد العرب بعد الهزيمة المفجعة عام ١٩٦٧، وبعد الهزيمة الأخرى المفجعة عام ١٩٩١ (حرب الخليج).
«العجل وقع هاتوا السكين!» هذا المبدأ هو الأساس الأول للسياسة العالمية والمحلية منذ نشوء النظام العبودي في التاريخ، لا يرقى إليه إلا مبدأ «فرِّق تسُد!» لهذا دأبت القوى الحاكمة (في أي مكانٍ وزمان) على تفتيت قوى المحكومين ومقاومة أي حركة تسعى إلى وحدتهم وتضامنهم سواء كانوا رجالًا أو نساء.
لهذا السبب ضُربت جميع المحاولات للوحدة العربية أو التضامن العربي أو تضامن المرأة العربية.
هناك محاولة أيضًا لادعاء أن العرب والإسلام شيءٌ واحد، في حين أن هناك الملايين من المسلمين في العالم ليسوا عربًا ولا علاقة لهم بالعرب، كما أن هناك الملايين من العرب ليسوا مسلمين ولهم عقائدُ دينيةٌ مختلفة.
إلا أن هذا الخلط يخدم السياسة العالمية المعادية للعرب المؤيِّدة لإسرائيل، هناك محاولة لتصوير الصراع العربي الإسرائيلي كأنما هو صراعٌ ديني أو ثقافي أو حضاري، وليس صراعًا حول الأرض والمال والتجارة والسوق ومياه الأنهار وغيرها من الأمور المادية.
إن تحويل الصراع من مادي إلى روحاني هو المبدأ الأول للسياسة العالمية في العهود المختلفة السابقة، حتى الرأسمالية الحديثة وما بعد الحديثة.
أصبحت الهيئات الدولية المموِّلة للمؤتمرات ترفض تمويل أي مؤتمر (رجالي أو نسائي) لا يدور حول الصراع بين الثقافات أو الأديان.
خلال العشرين عامًا الماضية أصبح الحوار الفكري العالمي والعربي يدور حول الأديان، أصبح التنافس الأكاديمي بين المفكرين والكتاب (من الرجال والنساء) هو تنافسًا بين فرقٍ دينية، يحاول كل فريقٍ أن يثبت أن دينه هو الحقيقة، وتراثه هو الأمثل، وقيمه الأصلية هي القيم الأعلى، ولغته هي اللغة المقدسة.
تحوَّل الحوار الفكري بين الأساتذة والأستاذات (من جميع الأطراف المتصارعة) إلى حوارٍ حول الكلمات واللغة والقيم والتراث والحضارة والثقافة … إلخ.
وأنا لا أُقلِّل من قيمة هذا الحوار، إلا أنه قد يؤدي إلى نتائجَ سلبية إذا ما انفصل عن السياسة والاقتصاد والمياه والتجارة والسوق، بل إنه قد يلعب دورًا في تحويل المعارك الرئيسية إلى معاركَ سطحيةٍ كلامية تهتم بالألفاظ أو الأزياء أو شكل غطاء الرأس أكثر من أي شيءٍ آخر.
سأضرب مثلًا واحدًا على ذلك من حياتنا. لي صديقة أفنت حياتها في العمل في المستشفى، كانت حكيمة في قصر العيني منذ عام ١٩٥٦، حين كنتُ أنا طبيبة امتياز، أربعون عامًا من العمل المتواصل ليل نهار لتربِّي أولادها الخمسة الذكور (بعد أن طلَّقها زوجها، وهاجر إلى بلدٍ آخر لا تعرف أين هو، ولم يشاركها في الإنفاق على أولاده)، هذه السيدة المحترمة اشتغلت خارج بيتها لتعلِّم أولادها في أعلى المعاهد، أكبرهم مهندسٌ ناجح، وأصغرهم طبيبٌ ناجح، والباقي نجحوا في جميع المهن والأعمال، فماذا كانت نتيجة جهودها؟! منذ أيام رأيت مشهدًا عجيبًا بعينَي رأسي، رفض الابن الأكبر المهندس الناجح أن يصافح أمه حين زارته في بيته، لماذا؟ لأنها لا ترتدي الحجاب! سمعتُه يقول لها: «لما تلبسيه أسلم عليكي؛ لأن التسليم على امرأة غير محجبة حرام.»
ورأيت هذه الأم تمسح دموعها وتقول لي بحزن: بعد كل اللي عملته ابني ما يسلمش عليَّ؟ «العمل عبادة»، وأنا اشتغلت طول حياتي ما خدتش يوم أجازة عشان أربي أولادي؛ يكون ده جزائي!
في أحد المؤتمرات بالقاهرة هذا العام حول صراع الثقافات وقفت أستاذةٌ مصرية، وتكلمت ضد ختان البنات، وأثبتت أنه عادةٌ قديمةٌ ضارة بالصحة، إلا أن بعض الأساتذة المصريين (ومنهم أساتذة في الجامعة كانوا يتشدقون بالاشتراكية والعدل في الستينيات) عارضوا هذه الأستاذة، واتهموها بالتغريب (يعني الانحياز إلى الثقافة الغربية)، وراحوا يتنافسون في إثبات روحانية القيم في تراثنا العظيم لمواجهة الغزو الثقافي الغربي، الذي يقوم على الماديات، ويحاول تحطيم قيمنا التي درجنا عليها، والتي تكوِّن هويتنا، ومنها الختان والحجاب وطاعة المرأة لزوجها، وتفرُّغها للخدمة في البيت، ومنح الحنان والحب داخل الأسرة.
أحد هؤلاء الأساتذة المعارض لمادية الغرب كان يعلِّق حول أذنيه سماعاتٍ ماديةً غربية، ويركب سيارةً أمريكية، ويشتغل في مكتبه وبيته على كمبيوتر أجنبي، إنه يستمتع في حياته العامة والخاصة بجميع المنتجات الغربية المادية، لكنه يلعن هذه الحضارة المادية في اللحظة نفسها دون أن يهتزَّ له جفن، أغرب من ذلك أن زوجته الأستاذة زميلته في الجامعة تدرس اللغة الإنجليزية، وابنته تدرس في الجامعة الأمريكية، ولا تجيد اللغة العربية، إلا أنه وقف وراح يمدح التعليم في كتاتيب القرية التي تعلم اللغة العربية الصحيحة، فاللغة العربية والقيم الإسلامية مثل الحجاب والختان، وتفرغ المرأة لبيتها هي الأسلحة التي يجب أن نحارب بها الغزو الثقافي المادي الغربي للروحانية التي نتميز بها، وتشكل ما أسماه «خصوصيتنا الثقافية».
هل بتر عضو من أعضاء الإنسان جزء من هوية هذا الإنسان؟ هذا السؤال له إجابةٌ واحدة هي: لا يمكن! لا يمكن أن نستأصل من الإنسان جزءًا من جسمه (وإن كان صغيرًا) تحت اسم الهوية أو القيم أو التراث … إلخ.
وفي تراثنا المصري لا يوجد دليلٌ واحد على أن «الختان» كان جزءًا من هويتنا، وفي تراثنا الإسلامي والقبطي لا يوجد دليلٌ واحد على ترابط الهوية بالختان.
فقط في التوراة والدين اليهودي يعتبر ختان الذكور جزءًا من هوية الرجل اليهودي، فالرجل لا يكون يهوديًّا (في نظر رب اليهود) إذا لم يكن مختتنًا، مع ذلك لا يتحدث يهود العالم ولا يهود إسرائيل عن تراثهم هذا. إن أغلب اليهود لا يختنون ذكورهم، وقد حذفوا هذه الآية من التوراة كما حذفوا أيضًا مبدأ تحجيب النساء؛ إذ تقوم الفلسفة اليهودية على تغطية رأس المرأة، لماذا؟ لأن المرأة في التراث اليهودي جسد بلا رأس، وحين تتزوج يصبح زوجها هو رأسها، أما المرأة غير المتزوجة فهي تظل بلا رأس، ومن هنا نشأت فكرة دونية المرأة، ونقصان عقلها، ونشأت معها فكرة تغطية رأسها بالحجاب (أو البروكة)، وتقوم التغطية على أساس أن المرأة لا بد أن تخجل من كونها جسدًا بلا رأس؛ لذلك يجب أن تتخفى بسبب هذا العار، وأهم ما تخفيه هو رأسها.
«كيف يُفرض على المرأة اليهودية إخفاء رأسها مع أنه غير موجود؟»
لكن هذا تناقضٌ واحد من تناقضاتٍ كثيرة تعرضت لها النساء اليهوديات القديمات، أما النساء اليهوديات الحديثات، فقد حذفن كل هذا من تراثهن، وقدمن للعالم تفسيرًا جديدًا للفلسفة والدين اليهودي يقوم على احترام المرأة، وأن لها رأسًا وعقلًا كالرجل تمامًا، وأن الحجاب أو الختان أو قهر النساء لا علاقة له بالدين اليهودي أو المسيحي، بل بالدين الإسلامي فقط. ويضربن مثلًا على ذلك، قائلات: «إذا سرت في أي شارع شرقًا أو غربًا، ورأيت امرأةً تغطي رأسها أو شعرها بالحجاب، فهي امرأةٌ مسلمة، ولا يمكن أن تكون يهودية أو مسيحية.»
هناك نساءٌ أمريكياتٌ مناصرات لدولة إسرائيل، يحاولن إلصاق تهمة ختان البنات بالإسلام فقط دون الأديان الأخرى، على حين يؤكد الحاضر والماضي على أن ختان البنات لا علاقة له بالإسلام، ولا بأي دينٍ آخر، وإنما هو عادةٌ قديمة منذ نشوء العبودية.
لماذا إذن نُسيء إلى أنفسنا وهويتنا وثقافتنا وتراثنا، ونعتبر الختان جزءًا من هذه الهوية، وعلامة الأصالة في مواجهة الحداثة والتغريب؟!
إن كثيرًا من القوى السياسية والاقتصادية العالمية والمحلية تلعب دورًا في تكريس قيم وعاداتٍ قديمةٍ ضارة بنا (نساءً ورجالًا)، ومنها ختان الإناث.
إن عقاب الأم التي تختن طفلتها لا يمكن أن يتساوى مع عقاب الأب (الذي يملك القرار في معظم الأحيان)، ولا يمكن أن يتساوى عقاب الداية الجاهلة مع عقاب الطبيب، وهذا لا يمكن أن يتساوى مع عقاب مسئولٍ كبير في مجال الصحة، أو مسئولٍ كبير في مجال الإعلام الثقافي أو الديني.
المفروض أن المسئولية تزداد بازدياد المنصب الذي يشغله الإنسان، والقرارات التي يتخذها وتأثيرها على كثيرٍ من الناس، كلما زاد العدد زادت المسئولية.
إن صاحب القرار الذي يمتلك السلطة والمعرفة أكثر مسئولية من غيره، إلا أننا نعاقب الأضعف والأجهل، وهي المرأة أو الأم المسكينة التي تسعى إلى ختان بناتها إرضاءً لزوجها والمجتمع، فلسفة عقاب الضحية، وإطلاق سراح الجاني.
نحن في حاجةٍ إلى تجريم ختان الإناث بواسطة القانون والتعليم والإعلام والتربية جميعًا دون استثناء، لا يكفي القانون وحده، ولا يكفي التعليم والتربية وحدهما. لا يكفي أن يتصدى لهذا الأمر وزارة الصحة فقط، بل هذا واجب نقابة الأطباء أيضًا، ولا بد من تطوير قَسَم الأطباء وميثاق شرف المهنة، بحيث يشمل هذه العبارة «أقسم ألا أقطع أي جزء من جسم الإنسان ذكرًا أو أنثى طالما هذا الجزء سليم لا يعاني مرضًا من الأمراض.»
ولا بد من تطبيق قانون الجنايات الذي يعاقب كل من يُحدث عاهةً مستديمة لأي أحد، واعتبار ختان الإناث من العاهات المستديمة وليس هويةً أصيلة.