أليست هي جريمةً ثقافية؟!
جئت إلى الوطن في إجازةٍ قصيرة. أول مَنْ طرق بابي فتاة في التاسعة عشرة طالبة بكلية الطب، ومعها شقيقها يكبرها بعامَين في كلية الهندسة. كانت الفتاة ترتعد. تطلب مني أن أفحصها طبيًّا، قالت إن عفريتًا من الجن تسلل إلى فراشها في الليل! عقد الذهول لساني. كنت عائدة لتوِّي من جامعة ديوك حيث أدرِّس «الإبداع» للطلاب والطالبات من مختلف التخصصات والجنسيات بما فيهم طالبةٌ مصرية تدرس الطب والأدب معًا، وطالبة من لبنان تدرس البيولوجي والميكروبيولوجي توصلت إلى اكتشاف مادةٍ كيمائيةٍ جديدة، وأخرى من فلسطين أقامت لها جمعية الطلبة احتفالًا لإبداعها الموسيقي. إن عقل المرأة العربية مثل عقل أي إنسانٍ آخر في الغرب أو الشرق أو الشمال أو الجنوب، وهي قادرة على الإبداع في مجال العلوم والفنون.
أصابتني صدمة، وأنا أستمع إلى طالبة الطب تحكي عن عفريتٍ من الجن يضاجعها خلسةً في الليل، قلت لها: هذا غير معقول! ردت الفتاة بكل صلابة: بل معقول يا دكتورة، ويؤكده لنا الدكتور «فلان» من أكبر العلماء والدعاة، إلا أن شقيقها طالب الهندسة عارضها قائلًا: إن هذا الدكتور العالم الكبير قال إنه من الممكن للرجل من البشر أن يضاجع الجنية من العفاريت، ويستمتع بها، لكن العكس غير صحيح؛ بمعنى أن العفريت من الجن لا يمكن أن يضاجع فتاة من البشر، وإلا حملت جميع بنات حواء!
تضاعفت صدمتي وذهولي، أيمكن أن يحدث هذا في مصر عام ١٩٩٥؟! واشتبك طالب الهندسة مع أخته طالبة الطب في حوارٍ عجيبٍ حول العفريتة الأنثى أو الجنية هي وحدها القادرة على مضاجعة الرجال من البشر، أما العفاريت الذكور فلا، وإلا حملت بنات آدم جميعًا. الأخت راحت تؤكد لأخيها أن العفريت الذكر لا يقل قدرة عن العفريتة الأنثى، بل يفوقها قدرة بالمنطق والعقل. وجاء الرد من أخيها قائلًا: المنطق ليس كل شيء، وعقل الإنسان عاجز عن إدراك هذه الأرواح من الجان.
هنا أفقتُ من ذهولي وسألته: إذا كان العفريتة الجنية من الأرواح، فكيف يصبح لها جسد تضاجع به الرجال؟!
أدركت الطالبة شيئًا من العقل في هذا السؤال، إلا أنها أصرَّت على أن أفحصها طبيًّا لمجرد الاطمئنان. رفضت طلبها، فخرجت من عندي، وذهبت إلى طبيبٍ آخر كما عرفت من أخيها في اليوم التالي.
ثم قرأت في الصحف عن انعقاد مؤتمرٍ دولي في القاهرة لمنع الجريمة. بحثت في جدول أعمال المؤتمر عن جلسة لمناقشة الجرائم الثقافية مثل هذه. أليست هذه جريمة تدمر عقول الشباب والشابات؟!
منذ عدة سنوات كتبت في جريدة الأهرام عن طالبة الطب التي سألت أحد علماء الدين هذا السؤال: هل تشريح جثة رجل بواسطة طالبة أنثى حلال أم حرام؟ سؤالٌ غريب لم يخطر على بالي، وأنا طالبة في كلية الطب منذ أربعين عامًا. إلا أن رد الأستاذ العالم كان أغرب من سؤال الطالبة؛ إذ قال لها: «إذا كان التشريح في غرفةٍ مظلمةٍ يكون حلالًا، حتى لا ترى الطالبة عورة الرجل!»
يا إلهي درسنا الطب ولم نسمع عن شيءٍ اسمه «عورة» تحت مشرط الطبيب. لم يكن هناك حياء في العلم أو الطب. كنت أفحص الرجال كما أفحص النساء، فالرسالة الطبية الإنسانية تتجاوز الجنس والعرق والطبقة واللون والعقيدة، وفي ميدان الحرب واجب الطبيب الإنساني أن يعالج جنديًّا من الأعداء بمثل ما يعالج جنديًّا من الوطن.
هل يمكن مناقشة الجرائم الثقافية مثل الجرائم الأخرى؟ فاليد التي تمسك آلة قتل لا تمسكها إلا بعد الاقتناع الفكري بأن القتل هو العلاج.
أي أن الفكرة القاتلة تسبق اليد القاتلة، والعنف الجسدي يتولد عن العنف الفكري والثقافي.
جاءني عبر أسلاك التليفون صوت طالبة الطب مرةً أخرى. فحصها طبيب ممن يؤمنون بوجود العفاريت من الجن ذكورًا وإناثًا، وقدرتهم على التسلل ليلًا إلى الرجال والنساء لا فرق. بل أكد لها إن إحدى الجنيات جاءته ليلًا فطردها بقراءة آية الكرسي. كانت الفتاة ترتعد وتقول لي عبر الأسلاك: «إذا جاء العفريت وأنا نائمة ماذا أفعل؟ قد يفعل كل شيء وأنا غارقة في النوم قبل أن أقرأ أي شيء! أصبحت أرقد مفتوحة العينَين لا يغمض لي جفن أردد آية الكرسي.»
أيمكن لمثل هذه الطالبة الجامعية أن تتفوق في دراستها إذا ظلت طوال الليل مؤرَّقة مذعورة؟
هذه العملية، تخويف الشباب والشابات أو بثُّ الرعب في نفوسهم من عفاريت الجن، أليست هي جريمة ضد العقل المصري ولا أقول الإبداع.
هل يمكن لمثل هذه الطالبة أن تكون طبيبةً مبدعةً قادرة على اكتشاف شيء، بل علاج المرضى أو المريضات؟
وطالب الهندسة الأخ المؤمن بالعفاريت الذكور فحسب، هل يمكن أن يبتكر شيئًا في مجال الهندسة، أو حتى يعمل مهندسًا عاديًّا يستخدم عقله في مشاكل الحياة؟
إن الإبداع نقيض الخرافة واللامعقول. الفرق الوحيد بين المبدع والمجنون أن المبدع ليس مجنونًا، بل عاقلٌ جدًّا إلى حد الإبداع. إلى حد تحويل العقل غير الواعي إلى عقلٍ واعٍ، مما يسمى اليوم «الوعي الأعلى».
تحويل خلايا الخوف والطاعة والاستكانة والسلبية إلى خلايا جريئةٍ نقديةٍ متجددةٍ قادرة على تطوير الإنسان (المرأة والرجل) إلى كائنٍ أكثر عقلًا، وليس أقل عقلًا.
هناك من يحاولون الاستهانة بالعقل. يقولون إن الحضارة الغربية الرأسمالية بُنيتْ على العقل، وأدَّت إلى ما نراه اليوم من فسادٍ واستعمارٍ، وتحويل الإنسان إلى آلةٍ وسلعة في السوق الاستهلاكية. هذه بعض سلبيات الحضارة الغربية، لكنها لا ترجع إلى الفكر العقلاني أو الفلسفة المادية كما يتصور البعض. إنها ترجع أساسًا إلى الفكر الاستعماري والجشع الاقتصادي الرأسمالي.
هناك من يقعون في تلك الثنائية الخاطئة التي تقسم العالم إلى غرب يؤمن بالماديات، وشرق يؤمن بالروحانيات. ذلك أن الحضارات شرقًا وغربًا مادية وروحية في آنٍ واحد، والإنسان جسد وعقل وروح لا انفصال بينها.
المشكلة هي تطور أسلحة الحرب والدمار الشامل في الغرب، وأصبحت الغلبة لمن يملك السلاح، وليس لمن يملك العقل. إن الصراع الدائر اليوم حول مَنْ يملك السلاح النووي، ومَنْ لا يملكه ليس إلا حلقةً واحدة في سلسلةٍ طويلة ممدودة في التاريخ منذ نشوء الاستعمار لن تنقطع إلا بنزع السلاح عن الجميع دون استثناء، بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، وليس إسرائيل فقط.
إن الحرب هي أكبر الجرائم في العالم، وهي دائمًا من أجل الأرض أو المال أو البترول أي «الاقتصاد»، لكنها تتستر دائمًا تحت أرديةٍ دينية، أو أخلاقية، أو إنسانية. ويلعب «الإعلام» الحديث الدور الأكبر لتغطية الحقائق المادية بستائر من الروحانيات.
وفي الغرب اليوم تصاعدت التيارات السياسية الدينية مسيحية ويهودية وبوذية وغيرها، وهناك مَنْ يروِّجون الخرافات والعفاريت والأرواح الخفية، ويطالبون بحذف نظرية داروين من مناهج المدارس؛ لأنها تتعارض مع نظرية الخلق الواردة في الكتاب المقدس.
لكل حضارة سلبيات وإيجابيات ومراحل صعود وهبوط. في نهاية هذا القرن العشرين نحن نعيش حالة من الهبوط في مختلف نواحي الحياة أخطرها الهبوط الثقافي، وانتشار الخرافات بين المتعلمين، وحملة الشهادات العليا.
من سلبيات الحضارة الغربية والشرقية على حدٍّ سواء، أنها فصلت بين العقل والجسد والروح، مزقت الكيان الإنساني الكل إلى ثلاثة أجزاءٍ متطاحنة تقضي على الإبداع لدى أغلب البشر، إلا هؤلاء القلة المبدعين الذين يعملون بعقولهم وأجسادهم وأرواحهم دون انفصال.
سئل أحد الأطباء الشعراء: ما الفرق بينه وبين الأطباء الآخرين؟ فقال: أنا أعمل بكياني كله، أما هم فيعملون برءوسهم فقط. ويعني بالرأس العقل المجرد الجامد بلا مشاعر ولا روح.
إن الفصل بين التفكير والشعور آفة من آفات الحضارة الحديثة شرقًا وغربًا، وقد بدأت مدارس جديدة في العالم تربط بين العلم والفن، وبدأت بعض كليات الطب تُدرِّس الموسيقى والأدب والشعر لطلبة الطب بمثل ما تُدرِّس لهم التشريح والجراحة والفيروسات.
بدأت مادةٌ جديدة اسمها الإبداع، تدخل المناهج في الكليات العلمية والنظرية على حدٍّ سواء. أصبح «الخيال» العلمي أو الفني ضرورة، والحلم جزءًا من الحقيقة. أصبحت للإنسان جذورٌ ممتدة في الأرض مثل الشجرة ورأسٌ مُحلِّقٌ في السماء، إلا أنه رغم التحليق والطيران يظل قادرًا على العودة إلى أرض الواقع وجسد الحقيقة.
هناك فارقٌ كبيرٌ بين «الخيال» العلمي أو الفني، والخيال الخرافي، تمامًا مثل الفارق بين الإنسان المبدع والمريض نفسيًّا أو عقليًّا، مثل الفارق بين الحلم والوهم، مثل الفارق بين العفاريت أو الجنيات وبين البشر من الرجال أو النساء.
لكل إنسانٍ مبدعٍ حلمٌ كبيرٌ يسعى لتحقيقه، وإن بدا للآخرين كأنما هو مستحيل، لكن المجنون يعيش في وهمٍ ويتصور خيالات لا يمكن أن تكون.
بين الحلم والوهم مسافةٌ كبيرة هي العقل الإنساني في قدرته الإبداعية حين يلتحم بالجسد والروح دون انفصام.
هل يمكن أن تدخل مادة «الإبداع» في مدارسنا وجامعاتنا، حتى يصبح لدينا أجيال من الشابات والشباب من ذوي العقول المبدعة لا يؤمنون بالخرافات؟!
إن علاج الجرائم الثقافية لا يمكن أن يكون إلا ببناء العقل السليم في الجسم السليم في الروح السليمة دون فصل بين الثلاثة داخل كيان الإنسان الواحد.