الثقة بالنفس والصراع الحضاري
إحدى المجلات الفلسفية العالمية اليوم تحمل اسم امرأةٍ مصرية أصدرت عددًا من المؤلفات الفكرية الهامة، اسمها الفيلسوفة «هيباثيا» كانت تعيش بمدينة الإسكندرية ضمن القيادات الفكرية بها، حين دخلها الغزاة الأجانب، فحرقوا كتبها وقتلوها (عام ٤١٥ ميلادية)، مزَّقوا جسدها أشلاء في شوارع الإسكندرية، ربطوا جثتها بذيول الخيول، داروا بها في أنحاء المدينة كلها ليشهد الناس، ويتَّعظوا، ويكفُّوا عن التفكير، ثم قُتلتْ «هيباثيا» مرةً ثانيةً تاريخيًّا، حين حذف اسمها من تاريخ الفلسفة على يد المستشرقين الأوروبيين الذين أشاعوا أن الفلسفة بدأت في أوروبا بالفلاسفة اليونانيين، وأن الحضارة المصرية لم يكن بها فلسفة ولا فكر، وإنما قامت على الانحرافات والخزعبلات وبناء المقابر للملوك والفراعنة.
أصبحت مجلة «هيباثيا» الفلسفية تتصدر الكتب والمجلات في مكتبات الجامعات الكبرى في العالم، يعرفها الطلبة والطالبات في أقسام الفلسفة يقدمون عنها الأبحاث والدراسات، وهي لا تزال في وطنها المصري مجهولة، لا أحد يعرف عنها شيئًا في الجامعات أو المدارس المصرية، بل لا يزال التلاميذ والتلميذات في بلادنا يقرءون هذه العبارة في كتبهم المدرسية حتى اليوم «بدأت الفلسفة في اليونان، والحضارة المصرية قامت على الخرافات والخزعبلات.» هذه العبارة مدونة في الكتب لأحد كبار الفلاسفة المصريين، لا بد أنه نقلها من كتابٍ في علم المصريات (الإيجبتولوجي) الذي حول الحضارة المصرية العريقة من حضارة الفلسفة والأفكار إلى حضارة الموت والأحجار. أرجو من زميلي القديم في كلية الطب «الدكتور حسين كامل بهاء الدين» بصفته وزيرًا للتعلم أن يسعى إلى تنقية الكتب المدرسية من مثل هذه العبارات، وأن يدعو إلى إعادة قراءة تاريخنا وحضارتنا المصرية، ليس من باب التمجيد الأعمى، واعتبارها نقية خالصة بلا سلبيات، ولكن بالرؤية النقدية السليمة القادرة على إدراك الإيجابيات والسلبيات لا فرق.
قرأت في إحدى المجلات مقالًا يتخذ شكل العلم يقول إن المرأة ناقصة العقل، بسبب الهرمون المؤنث في جسمها، ولأن مخ الرجل يزن أكثر من مخ المرأة. منذ نصف قرن قرأت هذه العبارة، وأنا طفلة في القرية، وتصورتُ أن عقل الحمار يتفوق على عقل الرجل؛ لأنه أكبر وأثقل وزنًا، إلا أن أبي شرح لي أن الفكرة خاطئة يرددها المفكرون الأوروبيون الاستعماريون، ومعها الفكرة الأخرى أن عقل الرجل الأفريقي الأسود ناقص عن عقل الرجل الأبيض، وهي فكرة موروثة منذ العبودية، منذ إدراج العبيد والنساء والحيوانات داخل فصيلةٍ واحدة، وأن الذكاء لا علاقة له بوزن المخ أو لون البشرة أو نوع الجنس.
لماذا إذن نستمر في تلقين التلاميذ والتلميذات في بلادنا بتلك الأفكار العنصرية القديمة التي تسلب من الفتى أو الفتاة المصرية الثقة بالنفس والاعتزاز بالماضي؟! رغم كثرة الحديث عن أهمية إحياء التراث والهوية الأصلية، أو الأصالة الفكرية لم تنعكس هذه الدعوة إلى دراسة تراثنا المصري ولا العربي، بل لا زلنا نردد أفكارًا تحقر من حضارتنا المصرية والعربية، وتحقر أيضًا من نصف المجتمع أي النساء. إن الثقة بالنفس هي الحجر الأساسي الذي يُبنى عليه التفكير وتكوين العقل المستقل القادر على خلق الأفكار الجديدة أو الاكتشافات في مجال العلوم أو الآداب أو الفنون. وفي الوقت الذي نسلب فيه شبابنا وشباتنا الثقة بالنفس نطلب منهم أن يكونوا مفكرين مبدعين، وفي الوقت الذي نحشو فيه أدمغتهم بالخرافات وحكايات الجن والعفاريت أو الشياطين نطلب منهم أن يكونوا عقلاء منطقيين، وألا يقعوا فريسة الخرافات والشياطين، لهذا السبب يتخبط عددٌ غير قليلٍ منهم بين الأفكار الدينية المتطرفة غير المنطقية وبين الأفكار العقلانية المتطرفة، أو العقل النظري الجامد المفصول عن الواقع المعيش.
أصبح الصراع بين الحضارات أو الحوار بين الثقافات قضيةً فكريةً منتشرة اليوم، وكان يمكن أن تؤدي إلى مزيدٍ من الوعي بالإيجابيات والسلبيات في كل حضارةٍ، خاصة أن الحضارة البشرية تتداخل بعضها في بعض، تمتزج عبر السفر والاتصال بين البلاد والشعوب خاصة في عصرنا هذا مع التقدم التكنولوجي الهائل في وسائل الاتصال وتبادل المعلومات، إلا أن الصراع أو الحوار لا يزال يتخبط ما بين التمجيد الأعمى للذات والتحقير الأعمى للآخر، أو العكس، أي التحقير الأعمى للذات والتمجيد الأعمى للآخر.
هذه المشكلة ليست مقصورة على المفكرين في بلادنا، بل هي السمة الأساسية أو الطريقة التي يفكر بها معظم الفلاسفة الأوروبيين والأمريكيين اليوم، إنهم لم يتخلصوا في معظم الأحيان من الفلسفة العبودية أو الاستعمارية القديمة والجديدة. بعضهم من أمثال «صمويل هانتنجتون» يميل إلى تمجيد الحضارة الغربية الأوروبية والأمريكية تمجيدًا أعمى، كأنما هي الحضارة الكونية العظمى الخالية من السلبيات، وغيرها من الحضارات خاصةً في الشرق (مثل الحضارة العربية أو الإسلامية) هي حضاراتٌ متخلفةٌ قاصرة، مصيرها إلى الزوال؛ لأنها لا تقوم على العقل، بل على الخرافات أو القيم الاستسلامية التي تجعل الإنسان بلا إرادة يخضع للقوى غير المرئية في الدولة والدين معًا.
وبالمثل في بلادنا يميل المفكرون إلى تمجيد الحضارة العربية أو الإسلامية كأنما هي حضارةٌ نقيةٌ خالصة كلها إيجابيات، والحضارات الأخرى (مثل الحضارة الغربية)، فهي غير نقية فاسدة تؤمن بالماديات فقط دون الروحانيات ولا تعرف إلا الانطلاق وراء اللذات والشهوات الحيوانية التي يوسوس بها الشيطان.
مثل هذا الحوار أو المباراة بين المفكرين للتمجيد المطلق، أو التحقير المطلق لا يمكن أن يثمر عن فكرٍ جديدٍ مبدعٍ خلاق؛ لأن الإبداع الفكري الإنساني يرتفع فوق التقسيمات المفروضة على البشر على أساس النوع أو الجنس أو الجنسية أو العرق أو الطبقة أو العقيدة أو غيرها.
لهذا نلاحظ دائمًا أن المبدعين الحقيقيين في مجالات العلوم الطبيعية أو الاجتماعية ينهلون من كل الحضارات والثقافات، يثقون بأنفسهم، ولا يخافون الانفتاح على الحضارات الأخرى، وهم على استعدادٍ دائمٍ لالتقاط الإيجابيات في أي حضارة، والاستفادة منها في أعمالهم العلمية والفنية.
كنت أقرأ لأحد العلماء المعاصرين، واسمه «موراي جيل مان» كتب يقول إنه مدين لاكتشافه للجزيء الجديد داخل الذرة الذي أسماه «الكوارك» إلى عددٍ من العلماء والفنانين في العالم، منهم صديقه الشاعر «أرثر سيزو»، ومنهم أيضًا الفيلسوف العربي «محمد بن موسى الخوارزمي»، وهو الذي اكتشف «اللوغاريتم»، وعلم الجبر في القرن التاسع الميلادي، وكلمة «اللوغاريتم» قد حوِّرت عن الكلمة العربية الخوارزم، وهي المنطقة التي عاش فيها «الخوارزمي»، وأبدع فيها نظرياته الرياضية، التي لعبت دورًا في عقل «مواري جيل مان»، وساعدته على اكتشاف «الكوارك» الذي هو أصغر حجمًا من الإلكترون، وينطوي على طاقةٍ هائلةٍ غير معروفةٍ حتى الآن، وقد تؤدي إلى ثورةٍ فكريةٍ جديدة في المستقبل أكبر من الثورة الإلكترونية، والتي أدت إلى هذا العصر الذي يطلق عليه اسم عصر المعلومات والاتصالات الإلكترونية.
هل يدرس التلاميذ والتلميذات في بلادنا العربية شيئًا عن محمد بن موسى الخوارزمي؟ لقد درستُ اللوغاريتمات وأنا تلميذة بالمدرسة الثانوية، وكنت أظن أنها إحدى الاكتشافات الأجنبية مثل نظرية فيثاغورس، وكان خيالي يسرح ويراودني حلم أنني في المستقبل ربما أكتشف فكرةً جديدة في علم الرياضة أو الفلسفة، لكن المدرسين في المدرسة كانوا يسخرون مني، يقولون إن المرأة ليس مجالها الفلسفة، وإن الفلسفة علمٌ صعب لا يقوم به إلا العباقرة من الرجال، ليس منهم أحدٌ مصري، وكلهم من اليونان والبلاد الأوروبية.