مظاهرات في واشنطن
كانت واشنطن، العاصمة، تلك المدينة الصغيرة الهادئة، حيث البيت الأبيض، كانت دائمًا محط المظاهرات الشعبية. أول مرة زرتُ فيها واشنطن كان عام ١٩٦٥، حين كنت أدرس في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، جاءتني زميلتي «ماريون فورر» في ذلك الوقت، وقالت: غدًا في واشنطن سنتجمع في مظاهرةٍ كبيرةٍ ضد الحرب في فيتنام.
وذهبتُ معها، ركبنا القطار من نيويورك إلى واشنطن، لا أذكر من المظاهرة إلا آلاف الأجسام واللافتات والهتافات ضد «جونسون».
لا زلت أذكر هذا اليوم، كانت عاصفةٌ ثلجية تجتاح الشاطئ الشرقي كله للولايات المتحدة، وقفت في المظاهرة فوق الثلج، ومن فوق رأسي (رغم المظلة السوداء التي أمسكتها بأصابعي المثلَّجة) كانت الثلوج تتساقط من السماء مثل الشظايا اللاسعة، كان قد تجمع حوالي ثلاثمائة امرأة ورجل يرتجفون من الصقيع، لكن الحرارة تسربت إلى جسدي من حيث لا أدري، حين بدأت ألقي كلمتي. كان هدفي أن أربط بين الحرب في يوغوسلافيا والحروب السابقة عليها، ومنها حرب الخليج. لقد أصبح العالم كله محكومًا بقوةٍ عسكريةٍ صناعيةٍ دولية مركزها الولايات المتحدة الأمريكية، قوةٌ كبرى واحدة يحكمها قانون الغابة، أو قانون القوة وليس الحق، قانون الربح المالي السريع، وتراكم رأس المال، قانون القتل والاستيلاء على البترول أو المواد الخام بأرخص الأسعار في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
قلت للمتظاهرات والمتظاهرين: إن اغتصاب النساء في البوسنة إنما هو أحد نتائج هذا النظام العالمي الجديد أو القديم، النظام القائم على القوة المسلحة، نظام العسكر في كل أنحاء العالم، النظام العنصري الطبقي الأبدي الذي يسيطر على البشر منذ نشوء العبودية.
ثم عدت إلى ديرهام، وجاءتني رسالة من «ماري جوزيه رجب».
إنها واحدة من العضوات الناشطات اللائي نظمن المظاهرة في واشنطن، وهي من أصل فرنسي متزوجة من أستاذٍ مصري خبير في الاقتصاد اسمه الدكتور رجب، قالت لي في رسالتها: لا زال صدى كلمتك في نفوس النساء والرجال هنا خاصةً الفقراء منهم، وقد شهدنا جزءًا من المظاهرة على شاشة «سي. إن. إن» ورأيناك، لكن للأسف حذفت «سي. إن. إن» كل كلامك عن حرب الخليج.
أجل، لم يكن هذا غريبًا عليَّ؛ فأنا أعرف أن أجهزة الإعلام في الولايات المتحدة (مثل أجهزة الإعلام في بلادنا العربية) تتحدث كثيرًا عن الديمقراطية، لكنها تمارس نوعًا من الرقابة، ولا تسمح إلا بذلك القدر الضئيل من الحرية الذي لا يمس المصالح العليا لذوي المال والسلاح.
على الشاشة الأمريكية رأيت حوارًا بين قائدَين في الجيش الأمريكي حول السلاح النووي في كوريا الشمالية، أحدهما كان يقول: لا بد أن نلقي القنابل على كوريا الشمالية إذا لم تطع الأوامر، وتكشف لنا عن سلاحها النووي، كما فعلنا مع صدام حسين، ويرد القائد الآخر يقول: ولماذا نلقي القنابل، ألا توجد طريقةٌ أخرى غير الحرب لإرغامها على ذلك؟ ألا يمكن أن نستخدم عقوباتٍ اقتصادية مثلًا؟!
يستمر الحوار حوالي نصف ساعة حول نقطةٍ واحدة، هل تعلن أمريكا الحرب على كوريا الشمالية أم تعاقبها اقتصاديًّا فقط؟!
كدت أخترق شاشة التليفزيون وأسأل: وما دخل أمريكا في هذا؟ ولماذا تملك أمريكا السلاح النووي، ثم تحرِّمه على الآخرين؟ بل لماذا تملك إسرائيل السلاح النووي فلا تعاقبها أمريكا بمثل ما تعاقب الآخرين؟!
وفجأة سمعت المذيع الأمريكي يقول لهما: كلنا نعرف أن إسرائيل تملك القنبلة النووية، فهل نعاملها كما نعامل كوريا الشمالية؟!
وهنا دبَّ الصمت لحظة، ثم تنحنح ذلك القائد العسكري الذي كان متحمسًا لضرب كوريا الشمالية بالقنابل، وقال بصوتٍ منخفض: نعم، لكن وضع إسرائيل يختلف كثيرًا.
ثم أعلن المذيع عن نهاية البرنامج، ورأيت امرأة ترتدي مايوه قطعتَين، وترقص فوق زجاجة من صابون شامبو «بريل».
وكانت أمامي الدعوة للاشتراك في المظاهرة الكبيرة في واشنطن يوم ٢٥ أبريل ١٩٩٣، أكثر من مليون امرأة ورجل من البيض والسود، ومن مختلف الجمعيات في أمريكا الشمالية ينظمون هذه المظاهرة الضخمة، لماذا؟ بدأت أقرأ الورقة بإمعان: «إنها مظاهرة من أجل إنهاء العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية، أو إنهاء التفرقة بين الأمريكيين على أساس الجنس.» كلمة «الجنس» هنا تعني حرية اختيار «الجنس نفسه» في العلاقات الخاصة.
يقود هذه المظاهرة رجل اسمه «جاي ليتنر» وهو مدير كنيسة المسيح في واشنطن، وهو يقول في الدعوة: «إن جبهة الحقوق المدنية التي أصدرت القوانين في الستينيات لإنهاء العنصرية على أساس اللون تتجمع الآن من أجل إصدار قوانين تنهي الاضطهاد الواقع على النساء والرجال من ذوي الميول الجنسية المثلية.»
خلال شهر فبراير ١٩٩٣ تراجع «بيل كلينتون»، وقرر تأجيل خطته (على الأقل ستة أشهر)، والتي شملت السماح للرجال من ذوي الميول المثلية بدخول الجيش.
يوم ١١ مارس ١٩٩٣ دعيتُ لإلقاء محاضرة في جامعة نورث كارولينا.
كانت القاعة مكتظة بالطلبة والطالبات والأساتذة، وعدد أيضًا من القساوسة الكاثوليك، دار الحوار حول حقوق المرأة في الشمال والجنوب، كان أحد القساوسة غاضبًا؛ لأن «بيل كلينتون» رفع القيود التي كان «جورج بوش» قد فرضها على حق الإجهاض، قبل يومٍ واحد يوم ١٠ مارس ١٩٩٣ كان الدكتور «ديفيد جان»، قد قتل رميًا بالرصاص حين كان يتأهب لإجراء عملية إجهاض في المركز الطبي النسائي في بينساكولا بولاية فلوريدا.
وقال القسيس الكاثوليكي بحماس: إن موت الدكتور ديفيد جان سوف ينقذ أرواح الآلاف من الأجنة التي كان يقتلها في عمليات الإجهاض، وأنا أتفق تمامًا مع «جون تريشمان» رئيس جمعية إنقاذ أمريكا، والذي يقود حملة لمنع الإجهاض حفاظًا على الحياة.
انبرت له شابةٌ أمريكية من الطالبات، وقالت: ماذا تعني بكلمة الحياة هذه؟ إذا كنت أنا المرأة الحامل، فأنا وحدي صاحبة الحق في أن أبقى حاملًا أو غير حامل! وإذا كنتَ حريصًا على الحياة إلى هذا الحد، فلماذا لا تحرك ساكنًا حين يُقتل آلاف الأطفال والنساء والرجال في الحروب الدائرة في العالم، أو بسبب الجوع، أو الفقر المفروض على شعوب العالم الثالث؟!
وانتقل الحوار من الإجهاض إلى الحرب، ومن الحرب إلى السياسة، ومن السياسة إلى الدين والأدب والمرأة، أصبحت كل الأشياء مترابطة، وفي نهاية الحوار وقف القسيس الكاثوليكي، وأعلن أنه تعلم شيئًا جديدًا، ذلك أن «الحياة» من حق كل إنسان يعيش في أفريقيا أو أمريكا أو العراق أو البوسنة أو كوريا أو غيرها، أما الإجهاض فهو حق المرأة؛ لأنها تملك جسدها وتملك الجنين داخلها ما دام أنه لم يولد بعدُ، أما بعد الولادة فلا أحد يملك الحق في أن يسلبه الحياة.
إنني أتبع طريقةً جديدة في التدريس في هذه الجامعة. حقيقة الأمر أنني أكره التدريس والمدرسين، إنني أحاول أن أبدأ حوارًا أو سؤالًا على نحوٍ مختلف، وقد أناقش في الفصل فيلمًا سينمائيًّا رأيتُه بالأمس، أو حفلةً موسيقية شهدتها في إحدى القاعات.
«أنا لا أفهم الموسيقى، ولكني أحسها.» هكذا يقول أستاذ الموسيقى في جامعة ديوك وعازف البيانو. اسمه «جون هانكز».
كنت أظن أنني الوحيدة التي لا أفهم الموسيقى؛ فأنا أسمع الألحان، وأشعر بالفرح أو الحزن أو الغضب أو الثورة أو غيرها، لا أعرف لماذا يهزُّني هذا اللحن أكثر من غيره؟ ولماذا أعرف؟ المهم أن أحسَّ. الفن يخاطب الأحاسيس، لكن ما هي الأحاسيس؟!
أليست هي التحام الجسم بالعقل؟!
عام ١٩٤٨ حين كنتُ تلميذة بالثانوي كتبت موضوعًا إنشائيًّا تحت عنوان:
«الأحاسيس أكثر ذكاءً من العقل»، لكن المدرس أعطاني صفرًا.
والآن بعد مرور أكثر من خمسة وأربعين عامًا أعود وأكتب فوق السبورة في جامعة ديوك: «الأحاسيس أكثر ذكاءً من العقل.»
إنه فصلٌ جديد عن الإبداع، وكم قتلوا الإبداع بتلك العقلانية الجامدة المنفصلة عن الجسم والنفس!