المرأة وأزمة الفكر العربي
الفكر لا ينمو بغير حرية، والحرية هي الوجه الآخر من العدالة، وإذا غابت الحرية غابت العدالة.
ولهذا يضمر الفكر العربي، وتصيبه أمراض الهزال من شحوب وركود وجحود أو تراجع إلى الوراء.
وإذا غابت الحرية غابت الشجاعة أيضًا.
والفكر الجديد يحتاج إلى شجاعة، لكن ترديد الأفكار القديمة لا يحتاج إلى شيء، مجرد القدرة على ترديد الأصوات، أو تقليد الحركات.
والفرق بين الحيوان والإنسان هو الفرق بين التقليد والتجديد، بل هناك حيواناتٌ قادرة على التجديد، وتغيير أنماط حياتها إذا ما كانت هذه الأنماط تهدد حياتها.
وقد أصبحت حياة الأمة العربية مهددة، بعض الناس يطلقون على هذا الزمن العربي الزمن الرديء، والبعض يسمونه زمن الهزيمة أو زمن الاضمحلال والأفول، فهي ليست هزيمةً عسكرية فحسب، أو انكماشًا مطردًا للأرض العربية، وتشتيتًا متزايدًا للشعوب العربية.
ولكنه أيضًا انكماش مطرد في الفكر العربي، وهروب إلى الماضي والأسلاف، أو الخوف من الجديد والمستقبل.
إنه الخوف، والخوف هو المولود الطبيعي لمجتمعات اللاحرية.
وخوف المرأة أشد من خوف الرجل؛ لأن حرياتها أقل، وحقوقها العامة والخاصة أقل، وبالتالي فإن عقابها أشد في القوانين الوضعية، وفي القوانين الإلهية على السواء؛ لأن حقوقها أقل من الرجل في الحياة الدنيا، وفي الحياة الآخرة أيضًا.
وهناك من المفكرين في بلادنا من يرى أن هذا أمرٌ طبيعي، أو أن الطبيعة لم تمنح المرأة عقل الرجل.
وتصبح «الطبيعة» أو الطبيعة البيولوجية للمرأة هي المسئولة عن الظلم الاجتماعي والسياسي الواقع على النساء، وبالتالي فلا سبيل للتخلص من هذا الظلم.
وهذا التفسير البيولوجي للظلم الاجتماعي والسياسي لا يقتصر عندهم على المرأة فحسب، ولكنه يمتد إلى مختلف أشكال الظلم الاجتماعي والسياسي.
فالثراء أو امتلاك الأطيان والأموال ليس حالةً اجتماعية يفرضها نظامٌ اجتماعي، ولكنها حالةٌ بيولوجية أو غريزة من غرائز الإنسان، وبالتالي فلا سبيل للتخلص من الملكية.
وبالمثل أيضًا يفسرون «الحرب» تفسيرًا بيولوجيًّا، معتبرين أن العدوان غريزة الإنسان، وبالتالي فلا سبيل للتخلص من الحروب.
وينتمي إلى هذا الفكر «البيولوجي» عددٌ غير قليل من المفكرين في بلادنا، ومنهم من يطلق عليهم «الروَّاد» أو أصحاب الفكر العقلاني الذين يشجعون التفكير العقلي، أو النظرة العلمية للأمور، إلا أن نظرتهم العلمية تعاني ما يطلق عليه الجمود العلمي، أو الجمود الفلسفي.
وتتسم الثقافة في بلادنا بصفةٍ عامة بالجمود، أو اللاحركة، وبالتالي اللاتغيير، ويرجع ذلك إلى الخوف من الحركة، سواء كانت حركةً فكرية أو سياسية؛ لأنها تؤدي غالبًا إلى خسائر قد تصل إلى فقدان الوظيفة، أو ربما السجن ذاته، وهي ترجع أيضًا إلى عدم القراءة، أو عدم الاطلاع على الجديد في العلوم، والاكتفاء بما تم تحصيله في سنين الدراسة.
ولهذا نرى بعض المفكرين في بلادنا ثابتين عند فكر أرسطو مثلًا أو ديكارت، أو نيتشه أو هيجل أو سارتر أو ماركس أو غيرهم، سواء كانوا من أقطاب الفكر اليميني أو الفكر اليساري، يرددون ما قاله الآخرون دون إضافة ودون تجديد، يتصوَّرون أن العقل الغربي هو وحده العقل القادر على الخلق، أما العقل العربي فلا دور له إلا النقل.
ويرددون ما قاله الأوروبيون عن الشرق والغرب، من أن الشرق هو «الروح» والغرب هو العقل. ولا يدرون أنهم بذلك يسلبون الشرق، أو يسلبون أنفسهم من العقل. بالإضافة إلى أنهم يسقطون في تلك «الثنائية» الفكرية والسياسية التي نشأت بنشوء العبودية، وقسمت المجتمع البشري إلى أسياد وعبيد، وأصبح السيد هو «العقل»، وهو «الإنسان»، أما العبيد والنساء فقد أصبحوا الجسد بغير عقل، واندرجوا تحت قائمة الحيوانات.
ودخلت هذه الثنائية الفكرية والسياسية في صلب الفكر الفلسفي والعلمي، وعن هذا يقول الدكتور زكي نجيب محمود في مقاله «ثقافة السكون وثنائية الحركة»: المحوران الرئيسيان اللذان يحققان الحياة الكريمة هما أن يكون الناس أحرارًا، وأن تقوم بينهم عدالةٌ اجتماعية تقضي بالتعاون بين أفراد الجماعة تعاونًا لا يهمل معوذًا ولا ضعيفًا عاجزًا، لكن تحقيق ذينك المحورَين ليس بالأمر اليسير؛ لأن في الإنسان من غرائز الحيوان ما يميل به نحو التملك الذي يسلب من الآخرين حرياتهم، ونحو النَّهم الذي لا يشبع، حتى ولو حرم منه الآخرون، فتلك عقبةٌ كامنة في غرائز الإنسان، ولا بد من تذليلها بالتربية التي تجعل الرجحان في طبيعة الإنسان للحرية له وللآخرين، وللعدالة الاجتماعية تقام بينه وبين الآخرين.