كيف ولماذا يحدث ذلك؟
ألا ترون معي أننا أصبحنا نعود إلى الوراء إلى حد أننا أصبحنا نناقش البديهيات، هل ركوب السيارة حرام وركوب الجمل حلال؟ هل العزف على الجيتار حرام، والعزف على العود حلال؟ هل وجه المرأة حرام أم حلال؟ … إلخ.
وهذه ظاهرة تنذر بالخطر؛ لأنها تستنزف عقول الناس في مناقشة بديهياتٍ إنسانية انتهى التاريخ البشري منها، وتجاوزها منذ قرون، وأخطر ما فيها أننا بعد كل معركة من هذه المعارك نتقهقر إلى الوراء بعد عددٍ من التنازلات. هؤلاء الذين كانوا ضد حجاب المرأة أصبحوا اليوم مع الحجاب ضد النقاب. وهؤلاء الذين كانوا مع الاختلاط في الجامعة أصبحوا اليوم ضد الاختلاط. وهؤلاء الذين كانوا مع الموسيقى والتمثيل أصبحوا اليوم ضد التمثيل، لكنهم مع الموسيقى، والذين كانوا مع الموسيقى أصبحوا اليوم مع الموسيقى الشرقية فقط، والدقِّ على الطلبة والرقِّ وليسوا مع الموسيقى المعزوفة بآلاتٍ أجنبية.
أما هؤلاء الذين كانوا مع الرقص، فقد سكتوا تمامًا، أو اعتبروا الرقص من الرذائل، ثم بدأ النقاش حول الفن والخلاعة، وأصبح كل واحد يدافع عن نفسه، ويقول إنه مع الفن الجاد، وليس الفن الخليع. كأننا جميعًا قد أصبنا بتعطيلٍ مفاجئ في حواسنا وملكاتنا العقلية والفنية، ولم نعد قادرين على التمييز بين الفن والخلاعة. وهذه بديهية من البديهيات، فأنا وغيري نختار ما نقرؤه وما نسمعه وما نشاهده، وهذا الاختيار حق من حقوق الإنسان الأساسية. مثلًا قد يحب بعض الناس مشاهدة مسرحية لعادل إمام على القناة الثانية بالتليفزيون، وقد يفضل بعض الناس مشاهدة مسرحية عن مدام كيوري على القناة الأولى، أو قد يفضلون سماع حديثٍ ديني من أحد المشايخ، أو يسمعون برنامجًا موسيقيًّا، أو يشهدون إحدى رقصات الباليه، أو إحدى الرقصات المحلية على دقات الطبول، أو مشهد زار في قرية وهكذا … فلماذا لا تترك الفنون لأذواق الناس المختلفة؟ ولماذا يفرضون علينا نوعًا معينًا من العزف؟ أو لونًا واحدًا من الفن؟!
وقد احترمت المحكمة في مصر «الحرية الشخصية» بالنسبة لزي طالبات الجامعة حسب الدستور، فلماذا لا تُحترم هذه الحرية الشخصية في الأشياء الأخرى بما فيها الحرية الشخصية في اختيار ما أشاء من الفنون؟ أم أن الحرية الشخصية قاصرة فقط على زي الطالبة في الجامعة، وقاصرة فقط على زيٍّ معين للطالبة وهو النقاب؟ إن الحرية الشخصية في الدستور تشمل حرية العقل والفكر قبل حرية الأزياء، ويتساوى المواطنون والمواطنات أمام الدستور المصري بصرف النظر عن اللون أو العرق أو الجنس أو العقيدة، ويكفل الإسلام حرية العقيدة فما بال حرية تذوق الفنون؟!
جميع رجال القانون في مصر والقضاة في المحاكم ونقابة المحامين ونادي القضاة وغيرها من المؤسسات القانونية والدستورية مطالَبون في بلادنا بأن يقولوا رأيهم في هؤلاء الذين يحرِّمون الموسيقى والتمثيل والفنون.
لا يكفي أن يكتب بعض الصحفيين والكتاب آراءهم، ثم ينسى الناس الحادثة، لتأتي حادثةٌ أخرى أشد. إن الهيئات القانونية الرسمية والشعبية مطالَبة بأن تدافع عن الدستور وحقوق الإنسان والحرية الشخصية بمثل ما دافعت تلك المحكمة عن حرية الطالبة الشخصية في ارتداء ما تشاء، وإن الجمعيات الثقافية والأندية والهيئات مطالبة اليوم بأن تخرج عن صمتها وسكونها الغريب إزاء ما يحدث من تخريبٍ للحرية الأساسية للإنسان.
وإذا كانت أحزاب المعارضة في مصر تناضل من أجل الحريات الأساسية، وضد القوانين المقيِّدة للحريات، ومنها قانون الطوارئ، فلماذا تسكت هذه الأحزاب عن الدفاع عن حرية العقل في اختيار ما يشاء من الفنون؟! أو على الأقل لماذا يكون صوتها خافتًا أو مترددًا أو غامضًا.
وإذا ضُرب الإنسان بالجنازير الحديدية لمجرد أنه يعزف الموسيقى، فماذا يبقى من حريةٍ ومن كرامةٍ للإنسان؟!
وهل تصل بنا الأمور إلى حد أن يصبح عرض مسرحية لعادل إمام في قرية خطرًا على حياته يتحداه، ويعلن في المصور أنه مسافر لعرض المسرحية، وجمهوره سوف يحميه؟!
لا شك اننا نحيي شجاعة عادل إمام، ونود أن ينزل الفنانون والفنانات إلى القرى ويعرضوا أعمالهم. ونود أيضًا أن ينزل الشعراء والكتاب والأدباء ليتحدثوا مع الناس في القرى في ندواتٍ، لم تعد الكتابة في الصحف وحدها تكفي الآن، وكثيرٌ من الناس لا يقرءون، ولكنهم يسمعون أو يشاهدون التليفزيون. والتليفزيون جهازٌ هام، فلماذا لا يفتح أبوابه للكتاب والصحفيين من ذوي الفكر المتقدم، لا يكفي للدولة أن تهتم بالدعاة الدينيين فحسب، فهناك موضوعات غير دينية … علوم وفنونٌ أخرى لا يعرف عنها الدعاة الدينيون شيئًا.
وفيما يخص الفن مثلًا أو الموسيقى، فهل تدخل في أمور الدين؟! وهل نحتاج إلى فتوى من مفتي الديار ليقول لنا هل الموسيقى حرام أم حلال؟!
إن إقحام الدين في كل شيء قد أفقد الدين هيبته وجلاله، ألا نذكر تلك الفتوى عن مفطرات الصيام؟ وذلك السؤال من الطبيبة عن: هل تشريح جثة رجل حرام؟ والسؤال الآخر: هل أخلع الحجاب أمام كلبٍ ذكر تربى معنا في البيت؟
وهل ندفن المرأة والرجل في مقبرةٍ واحدة؟ وغير ذلك من الأسئلة الغريبة التي قرأنا عنها في الصحف في السنين الأخيرة.
وإذا كانت الدولة حريصة على الدستور، والدستور يحضُّ على الحرية، حتى حرية العقيدة، فلماذا يُحرم من الحديث في التليفزيون والراديو وأجهزة الدولة المفكرون والمثقفون من مختلف الاتجاهات الفكرية بصرف النظر عن كونهم من المعارضة أو الحكومة؟! ولماذا توافق الدولة على هذه التنازلات والقرارات التي اتخذها رؤساء الجامعات ومنعوا الحفلات الموسيقية؟!
إن تناقض المسئولين في الدولة، وتردد المعارضة، وسكوتها عما يحدث، وسكوت أغلب المثقفين والكتاب والمؤسسات الرسمية والشعبية هو الذي يعطي الفرصة لهذه الردة الحضارية الخطيرة أن تستشري.
إن موقف عادل إمام يحتاج إلى المساندة والتشجيع، لكن هذا لا يكفي، لماذا لا نسمع صوت نقابة الفنانين ونقابات واتحادات الأدباء وغيرهم من المؤسسات الفنية الرسمية والشعبية في مصر؟ لقد ثارت نقابة الفنانين ضد قانون الانتخابات، واعتصمت وفرضت على الرأي العام في مصر احترامها، فلماذا لا تعلن النقابة عن رفضها لهذه القوى الغريبة التي تحرم الموسيقى والفن؟ لماذا لا تتصدى نقابات الفنانين في مصر لهذه الحملة ضد الفن والموسيقى؟