آلهة مفقودة
لم أومن قَط بالطوالع والنُّذُر، بخلاف البعض؛ فقد هبطت الأحداث التي غيَّرت مجرى حياتي على رأسي فجأةً كعاصفة استوائية. ولكني لاحظت أنني — بطريقة ما — أكون مستعدًّا لها في بعض الأحيان بأن ينجرف عقلي فجأة إلى مزاج غير متوقع. فكنت أتذكر أمرًا لم أفكر به منذ سنوات، أو يبدأ ذهني في التفكير في أفكار غير معتادة دون سبب يدعو إلى ذلك. هذا ما حدث لي ذات ليلة من ليالي شهر أكتوبر عندما كنت أستقل القطار في مدينة فيكتوريا.
في عصر ذلك اليوم، كنت قد فعلت أمرًا نادرًا بالنسبة إليَّ؛ فقد حضرت نقاشًا في مجلس العموم. كان لامانشا سيُلقي خطابًا رسميًّا، ولامانشا يستحق الاستماع إليه في مثل هذه المناسبات. ولكن لم يكن يشغل بالي فصاحة صديقي أو تعامله البارد مع المقاطعات، بل ما شغلني هو ردُّ وزير شئون المستعمرات على سؤال طُرِح قبل بدء النقاش. قد تسمع اسمًا في بعض الأحيان فيكون كالرائحة أو اللحن الذي يذكِّرك بذكريات نُسِيت منذ أمد بعيد. وعندما نطق ملبَري العجوز كلمة «لومبارد»، انطلقت أفكاري مسرعةً تتسابق في أزقَّة الماضي المعتمة. كان ملبَري يقتبس من مذكرةٍ كُتِبت منذ أعوام كانت مدرَجة ضمن تقرير لإحدى اللجان، وقال عنها إنها «مذكرة بارعة جدًّا كتبها سيدٌ يُدعَى لومبارد»، وكانت تحتوي على النقطة التي كان يريد عرضها. بارعة! يجدر بي أن أعتقد أنها كذلك. وماذا عمَّن كتبها! إن وصفه بأنه «سيدٌ يُدعَى لومبارد» يدل على أن الرجل الذي كنت أعرفه في الماضي قد سقط تمامًا من ذاكرة العالم.
لم أوفِّ خطبة لامانشا حقَّها فقد كنت منشغلًا بلومبارد طوال فترة إلقائها. تذكرته راكبًا معي سيارة الأجرة متجهًا إلى المحطة، وعندما عثرت على مقصورتي في القطار، حال وجهُه بيني وبين صفحات الجريدة المسائية التي أقرؤها. لم أفكر به كثيرًا طوال سنوات، إلا أن اقتباس ملبَري العارض أثار في ذهني مجموعةً من المشاهد مرت أمام ناظريَّ وكأنها شريط صور. تخيلت لومبارد كما رأيته آخر مرة؛ أسمن قليلًا منَّا نحن النُّحفاء الناجين من الحرب، ويرتدي ملابس تختلف قليلًا عن ملابس العصر الحالي، ولم تكن عيناه مشوَّشتَين بسبب قيادة السيارات، ولم تكن نبرة صوته عالية مثل نبرة صوتَينا لكي تعلو فوق صخب محيطنا. تخيلت ابتسامته، والارتفاع الخاطف الغريب لذقنه، وأدركت أني أتقدم في العمر وأني تركت خلفي بعض الأمور الرائعة.
كانت مقصورة القطار ممتلئةً برجال من المدينة عائدين إلى ضواحيهم الجنوبية المريحة. كانوا جميعًا يحملون الجرائد المسائية، وبعضهم يحمل الجرائد الصباحية ليكمل قراءتها. كان يبدو على أغلبهم أنهم يقومون بهذه الرحلة بانتظام، فكانوا يعرف بعضهم بعضًا، ويتناقلون أخبار السوق أو يعلقون على الشئون العامة. كان الأمر يشبه حفلًا خصوصيًّا ودودًا، فجلست في ركني أشاهد عبر النافذة منظرًا طبيعيًّا مختلفًا عما أطلق عليه بعض الشعراء «البيوت القزمة التي يتصاعد منها الدخان»، وأرى وجه شابٍّ مختلفًا تمامًا عن وجوههم.
حضر لومبارد إلى شرق أفريقيا ليشغل منصب سكرتير بعثة حكومية؛ البعثة التي سرعان ما أصبح يتحكم فيها كما يحلو له. التقيته هناك أثناء بعثتي في مهمة تنقيب. كان حينئذٍ صغير السن جدًّا؛ لم يتخطَّ الخامسة والعشرين من العمر، وكان يقضي سنواته الأولى في الخدمة. تلقَّى لومبارد تعليمه في واحدة من المدارس الحكومية العادية وفي جامعة كامبريدج، وكان طالبًا مجتهدًا اطلع على أكبر عدد من الكتب طالته يداه. أتذكَّر لقاءَنا الأول في معسكر بارد فوق هضبة أوسين جيشو عندما قال بيتًا شعريًّا يونانيًّا عن نسمات الفجر الباردة وترجمه لنا. ولكنه لم يتباهَ بتعليمه أبدًا؛ لأنه كان يرغب في أن يتناغم بشكل كامل مع محيطه، وأن يظهر بمظهر المستكشف دون نقصان. تلك كانت الأيام الخوالي في شرق أفريقيا قبل مستعمرة «الوادي السعيد» والمهاجرين المعتمدين في معيشتهم على الحوالات من بلادهم والمستوطنين الذين يريدون حكمًا ذاتيًّا، حين كانت آمال الناس ضخمة. وكان يحب أبطال الماضي حبًّا جمًّا، على غرار رودي أوين وفانديليير، وكان يشترك معهما في أمرٍ ما، عدا أنه كان مجرد فارس متواضع. كان بجسده النحيل وشعره الأشقر الذي لوحته الشمس وبشرته المُسمَرَّة خير تجسيد للرجل الإنجليزي المغامر. كنت أظن أن أحد أسلافه ربما كان من اليهود، أو من أي شعب أجنبي آخر أسمر البشرة، فقد كان أضخم من بقيتنا جسمًا وأكثر سرعةً في الاستجابة. ولكن، كان في مجمله إنجليزيًّا مثل مروج هامشير المائية …
انتشر دخان الغلايين الأزرق اللون في مقصورة القطار. وكان رفاقي يتحدثون عن الحدائق الصخرية. وكان الرجل الجالس في الركن المواجه لي أكثر إلمامًا بالموضوع، وكان يملك الكثير لقوله عن العديد من شركات المشاتل. كان الرجل أشقر، وسمينًا، وأصلع، وكانت نبرة صوته محببة أيقظت في ذهني ذكرى لم أتمكن من تحديدها. وظننت أني ربما رأيته في اجتماع شركة …
عدت لأفكر في لومبارد مجددًا. وتذكرت جلوسنا على صخرة ذات مساءٍ نشاهد غور المنطقة الاستوائية من أعلى، والشمس تصبغ بأشعتها القرمزية غابات أشجار الزيتون البعيدة، حين أخبرني بما يطمح إليه. في تلك الفترة، لم يكن وهج السحَر الذي ألقاه سيسيل رودز على أفريقيا قد خبا بعد، وكان الناس لا يزالون يحلمون. وكانت أحلام لومبارد عظيمة. وكان يقول لي: «لقد حصلت على إلهامي.» لم يعد يشعر بذلك التَّوق القديم للنجاح القانوني أو الأدبي أو السياسي الذي كان يشعر به في الوطن. فقد عثر على هدفٍ جديد لحياته.
كان حديثًا يجري على لسان رجلٍ صغيرِ السن جدًّا. كنت في نفس عمره تقريبًا، ولكني عاركت الحياة قليلًا وأدركت أنه عديم الخبرة. إلا أنه أبهرني بشدة. فقد كان حديثه يحوي بين طياته حماسةً وشعرًا، ولم يخلُ من فطنة جذابة. كان قد تلقَّى «نداءً» وهبَّ مسرعًا لتلبيته. ومنذ ذلك الحين، كرَّس حياته لغايةٍ واحدةٍ؛ إنشاء «إقليم استوائي بريطاني»، تكون فيه المرتفعات الشرقيَّة والجنوبيَّة قاعدة للبيض. ستكون دولةً للبيض والسود على حدٍّ سواء، مملكة الكاهن يوحنا الجديدة. وستربط جنوب أفريقيا بمصر والسودان؛ ومن ثَم ستُكمل خطة رودز. وستكون مصدر جذب لشبابنا ومستوطنة لفائض شعبنا. وستعزز نهضة روحية لإنجلترا. صاح قائلًا: «عندما أفكر في الحياة الخانقة في الوطن! علينا أن نضخ فيها هواءً منعشًا، ونعطي شعبنا دولة مترامية الأطراف بدلًا من الأزقة المغلقة التي يعيشون فيها …»
أصبح الحديث في مقصورة القطار يدور الآن حول رياضة الجولف. كانوا يرتبون لإقامة مباريات يوم الأحد القادم. يبدو أن الرجل الجالس في الركن المقابل لي كان لاعب جولف يمتلك بعض الشهرة، فقد كان يشرح كيف تمكَّن من تحسين معدل التمايُز الخاص به. بالنسبة إليَّ، كانت رياضة الجولف هي أكثر شيء كئيب على الإطلاق، فصمَمت أذنيَّ عن الحديث الدائر عنها. قال الرجل: «لذا، أمسكت مضربي القصير، مضربي القصير العزيز» … بدا أن هذه الكلمات تحمل جميع مظاهر الاختناق التي شكا منها لومبارد. فقد تمثلت فيها حياة الضواحي المتعجرفة التي ثار عليها لومبارد في أكمل صورها. ثم عادت أفكاري إلى قمة التل تلك التي تبعد عني حاليًّا ثلاثة آلاف ميل وثلاثين عامًا …
كنا جميعًا متحذلقين في حديثنا، إلا أن تحذلُق لومبارد لم يكن نابعًا من حماسة بالغة فحسب، بل كان أقرب إلى اعترافٍ شَغوفٍ بالإيمان. لم يكن يدري ما الخطوة التالية في مسيرته المهنية. كان قد عُرِض عليه منصب في الحكومة، كان سيصبح نقلة كبيرة بالنسبة إليه. كما كان يمكنه العمل في مجال التجارة أيضًا. فقد توفرت له فرصة الالتحاق بإحدى الشركات التي كانت بصدد ضخ استثمارات ضخمة في أفريقيا. كان يقول إن المال مهم، ويستشهد بسيسيل رودز وبيت. لم يكن قد قرر أيَّ مسار سيتبع، إلا أن السبل لم تكن تؤرقه كثيرًا. فقد كان هدفه واضحًا لدرجة أنه لا بد وأن يجد طريقًا تؤدي إليه.
ولا أعتقد أني امتلكت انطباعًا عن هدفٍ تملَّك صاحبَه أقوى من هذا الانطباع. فهذا شخص لن يرتضي أبدًا بأن يكون أحد العجول السمينة التي تسكن هذا العالم. قد يفشل، ولكنه سيفشل بطريقة رائعة.
قلت له: «ذات يوم ستكون ثمة دولة تابعة لبريطانيا تُدعَى لومباردي. إنك تملك اسمًا مناسبًا ليُطلق على إمبراطورية.»
كنت أتحدث بجدية تامة، وأخذ هو كلماتي على محمل الجد.
فقال: «نعم، لقد فكرت في ذلك، ولكنها ستكون لومبارديا.»
لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي نلتقي فيها، فبعد عام حضر إلى روديسيا، في بعثة حكومية مرة أخرى، ومررنا كلانا معًا بتجربة غريبة إلى حدٍّ ما. ولكنها حدثت هذه المرة في وقت الشفق الأفريقي، فلم أنسَها أبدًا. رأيته هذه المرة رجلًا كرَّس نفسه لمهمة مقدسة، على استعداد لإخضاع أي قوة ذهنية أو بدنية يملكها لتحقيق طموحه الكبير، وللتضحية بكل ما قد يثبط من عزيمته في الحياة. شعرت حينئذٍ بأني في حضرة فارس شاب يشرع في تأدية خدمته بجدية مبالغ فيها …
نظرت في المقصورة من حولي إلى الوجوه المترهلة المبتهجة التي جسدت بشكل صارخ النقيض التام لوجه الرجل الذي أتذكره. كان الحديث لا يزال دائرًا حول الجولف، وكان الرجل البدين ينقل دفة الحديث إلى المضارب الجديدة المصنوعة من الصلب. لا بأس، يتطلب الأمر جميع نوعيات البشر لتصنع عالمًا …
لم أكن قد التقيت لومبارد لفترة تزيد على ربع قرن. ولم أسمع اسمه طوال هذه الفترة حتى عصر اليوم عندما ذكره ملبَري في مجلس العموم. ولكني كنت في البداية دائم التفكير به أترقب تجسُّده أمامي. كنت أشعر تجاهه مثلما شعر براونينج تجاه وارينج في قصيدته؛ فقد كنت أعتقد أنه إن آجلًا أو عاجلًا — وربما عاجلًا وليس آجلًا — سيتمكن بطريقة ما من أن يصنع لنفسه اسمًا لامعًا. تخيلته يمشي بخطًى ثابتة نحو هدفه، مترفعًا عن الإنجازات غير المكتملة والسمعة سهلة المنال، منتظرًا بصبرٍ الفرصةَ الكبيرة واللحظة المناسبة. وكنت مقتنعًا بأن الموت وحده هو ما يمكنه إيقافه. ثم اندلعت الحرب …
فرغت مقصورة القطار تقريبًا من ركابها. فلم يتبقَّ فيها إلا أنا والرجل الجالس في مواجهتي. وكان أن رفع قدميه على المقعد وجلس يتصفح جريدة أخبار السيارات …
نعم، قررت أن الحرب هي السبب. ولا بد أن لومبارد شارك في الحرب؛ فهو من نوعية الرجال الذين لا بد وأن يشاركوا فيها، بل وفي إحدى المهام الغامضة في مكان ما من ساحة المعركة التي شملت العالم بأسره، أنهى الموت أحلامه. حالة أخرى من الإخفاق في تحقيق الشهرة. انقبض قلبي من هذه الفكرة. فلطالما كان المستفيد الأكبر من هذه الحياة هم العجول السمينة. اندثرت الحكمة والطموحات العالية من العالم، وأصبح المُنعَّمون، مثل ذلك الرجل الجالس أمامي، هم من يملكون العالم.
مررنا بمحطة، وبدَا جليًّا أن المحطة التالية هي وجهة رفيقي في السفر؛ فقد نهض، ومدَّد ساقيه، وأخذ لِفافةً من رف الأمتعة. كان يحمل سمكةً من أجل العشاء. ثم طوى جريدته وأشعل سيجارة. وللمرة الأولى منذ بداية الرحلة، نظر إليَّ الرجل مباشرةً، وبدأ يعتلي وجهَه ببطء تعبيرٌ ينم عن أنه تعرَّف عليَّ. تردد الرجل للحظة، ثم نطق اسمي.
قال: «هاناي؟ ألست ديك هاناي؟»
عندما سمعت صوته تذكرت تلك اللكنة الواضحة المخارج التي لم تتغير أو تتشوه رغم مرور كل تلك السنوات. وتعرَّفَت عليه عيناي، وخطر الجواب على ذهني فجأةً. ورأيت وجهًا أكثر نحولًا وشبابًا خلف الوجنتين المكتنزتين والوجه الممتلئ وأمارات الدعة والراحة.
صحت قائلًا: «لومبارد! لم أرك أو أعرف عنك شيئًا طوال عشرين عامًا. هل تعلم أن وزير شئون المستعمرات ذكر اسمك اليوم في مجلس العموم؟ وظللت أفكر بك منذ ذلك الحين.»
فابتسم لومبارد ومد يده نحوي.
«ماذا قال؟ آمل أنه لم يقل شيئًا يحقر من شأني. فثمة خلاف بيننا وبين وزارته بخصوص العراق. سمعت عنك الكثير، وقرأت عنك في الصحف، وكنت آمل أن ألتقيك مصادفة ذات يوم. لقد فعلتَ أمورًا مذهلة أثناء الحرب. أنت تحمل لقب فارس قائد لرتبة وسام الحمام، أليس كذلك؟ لقد عرضوا عليَّ لقب فارس أيضًا، ولكن شركتي نصحتني ألا أقبله. من سوء الحظ أننا لم يصادف أحدنا الآخر في وقت أبكر، فكنت سأود أن أطيل الحديث معك.»
أجبته قائلًا: «وأنا كذلك. فلدينا الكثير لنتحدث عنه.»
أجابني كما لو أنه قرأ السؤال البادي في عيني.
«لقد قضينا معًا أوقاتًا مرحةً في الماضي. يا إلهي، يبدو أنه قد مر زمن طويل. ماذا كنت أفعل منذ ذلك الحين؟ حسنًا، بدأت العمل في مجال النفط. ولكَم أتمنى لو أني بدأت هذا العمل في وقت أبكر؛ فقد أضعت سنوات طوالً أدور حول نفسي دون هدًى. جَنَت شركتي قدرًا معقولًا من المال أثناء الحرب، والأمور تسير على خير ما يُرام منذ ذلك الحين.»
كان يتعامل بودٍّ، ويبدو سعيدًا برؤيتي، ولكن، بعد مرور تلك الفترة الطويلة على تباعدنا، وجد أنه من الصعب إعادة التقارب بيننا من جديد. ولم تختلف حالي عنه كثيرًا. فكل ما تمكنت من فعله هو التحديق في وجهه اللطيف المريح محاولًا دون جدوى أن أعثر فيه على شيء مضى دون رجعة.
شعر لومبارد بالضغط الواقع على كلينا. وعندما توقفنا عن الكلام، نفَّض قبعته، وعدَّل من وضع معطفه الواقي من المطر على ذراعه، ونظر إلى الخارج عبر النافذة. بدا وكأنه يبحث في عقله عن شيء ليقوله.
ثم قال: «أنا أسكن هناك. يجدر بنا ألا نتوقف عن اللقاء بعدما التأم شملنا من جديد. ما رأيك أن نتناول الغداء معًا في أحد الأيام في النادي الخاص بي؛ فأنا عضو في نادي جونيور كارلتون؟ أو ربما من الأفضل أن تقضي معي عطلة نهاية الأسبوع. ويمكننا أن نلعب معًا مباراة جولف محترمة.»
توقف القطار عند رصيف صغير أنيق مغطًّى بحصًى أصفر ناعم، وكان مبنى المحطة أحمر اللون يشبه كنيسة وزليان عندما تُكسَى في شهر يونيو بزهور دوروثي بيركنز من قمتها إلى قاعدتها. كان ثمة صفٌّ طويل من زهور إبرة الراعي الذابلة، والعديد من أحواض زهور الأقحوان. وخلف السياج، رأيت طريقًا أسفلتيًّا لامعًا وأشجارًا ومروجًا داخل فيلات كبيرة. ولاحظت سيارة ديملر لامعة تقف أمام مدخل المحطة، وتقف على رصيف المحطة امرأة، تشبه زهرة الفاوانيا في أوج ازدهارها، لوَّح لها لومبارد بيده.
وقال لي وهو يخرج من مقصورة القطار: «هذه زوجتي. أود أن أعرفك بها … سُررت جدًّا برؤيتك مجددًا. أملك منزلًا صغيرًا جميلًا هنا … عِدني بأن تحضر لزيارتنا في إحدى عطلات نهاية الأسبوع. ستراسلك بيريل.»
واصلت رحلتي في حالة ذهنية غريبة؛ إذ كنت ذاهبًا إلى مضيق سولنت لإرساء مركَبي الذي استخدمته في سباق يخوت بسيط. انتابني شعور نادرًا ما شعرت به؛ سخط بالغ على الحياة. استحوذت الطبقة المتوسطة العظيمة الراسخة القانعة على لومبارد رغم أنه كان يحتقرها في الماضي، بل وأصبح يبدو سعيدًا فيها. لقد أصبح الرجل الذي اعتقدت أنه نسرٌ جامحٌ راضيًا بأن يكون طائرًا داجنًا. حسنًا، إذا كان راضيًا بحاله، فلا شأن لي بذلك، ولكن ضاق صدري عندما فكرت في مدى هشاشة الآمال والأحلام.
شعرت بحزن أكبر على نفسي. لقد ولَّى شباب لومبارد، وكذلك شبابي. كان لومبارد مستريحًا مثل موآب على دُرْدِيِّه، وكذلك كنت أنا. نرسم جميعًا في خيالنا صورًا لأنفسنا ونحاول تحقيقها، ولطالما كانت صورتي عن نفسي شخصًا صارمًا ومنظمًا يمكنه أن يحافظ على حيوية روحه حتى آخر يوم في حياته. ومن ثَم واظبت على تدريب جسدي عبر التمارين الرياضية، ولكني أدركت أن روحي أيضًا معرَّضة لخطر التفسُّخ. فقد كنت في دَعَة دائمة. كنت أملك جميع النعم التي قد تُغدَق على إنسان، ولكني لم أكن أسعى للحصول عليها. حاولت إقناع نفسي بأني أستحق بعضًا من السلام والسكينة، إلا أن هذه الأفكار لم تُرحني؛ فقد كانت تعني أني قد تقبَّلت تقدمي في السن. وماذا كانت هواياتي وأيامي الهادئة، أهي مجاملات من الشيخوخة؟ نظرت إلى وجهي في المرآة المعلقة في مؤخرة عربة القطار وشعرت بالاشمئزاز، فقد ذكرني برفاق سفري الذين كانوا يثرثرون عن الجولف. ثم غضبت من نفسي. وقلت: «أيها الأحمق! إنك تتحول إلى رجل مسن هش، وتلك سنة الحياة، ويجب أن تملك العزم لأن تشيخ سعيدًا.» وضعَت هذه الكلمات حدًّا لشكواي، ولكنها تركتني بائسًا وغير مقتنع بالكامل.