الكلب سامر
جعلنا وصولُ أنَّا هارالدسن نشدد الإجراءات الاحترازية في ليفرلو. كنا جميعًا مجتمعين في ليفرلو، فيما عدا صاحب المنزل، الذي نثق في قدرته على الاعتناء بنفسه. لم يُبدِ لومبارد أية رغبة في المغادرة. كان قد أنهى جميع التزاماته العملية بغرض الحصول على عطلة، وفكَّر في أن يقضي الأيام الأولى منها في اسكتلندا. أرسل إلى زوجته خطابًا طويلًا أخبرها فيه عن رحلته، وقرأه لي بفخر، ولا شك في أن أسلوب كتابته كان مفعمًا بالحيوية، وفي نهايته، قال شيئًا عن بقائه في ليفرلو ليراقب الأحداث. قال: «هذا سيسعد بيريل. إنها شديدة الاهتمام بهذا الأمر، وسيسرها أن تعرف أني أؤدي مهمتي على الوجه الأكمل.» سألته عن الأحداث التي يتوقع حدوثها، فأجابني أن ثمة شعورًا ينتابه بأن الأحداث ستبدأ في التسارع. ولكن كان رأيي مخالفًا، فبعيدًا عن قصفنا بالطائرات، لم أرَ أن هذه العصابة قادرة على فعل شيء من شأنه إيذاؤنا. فقد كان منزل ليفرلو محصَّنًا كقصرٍ ملكي.
ذكرت سابقًا أن هارالدسن كان في طريقه إلى التعافي. فبفضل رعاية بيتر جون له، أوشك على التعافي من عصبيته بشكل كامل، وكان ينام ويأكل جيدًا، ويضحك من وقتٍ لآخر، وكان يتصرف بوجه عام بصفته إنسانًا طبيعيًّا. كان بإمكانك أن ترى بكل وضوح أنه يشتاق إلى وطنه، فكان يتذكر ممتلكاته كلما رأى ممتلكات ساندي. ولكن لم تعد نظرة عينيه هي نظرة الفريسة المطاردة. واكتمل تعافيه بحضور ابنته. كان الأمر يبدو وكأنه رحَّالة عاد إلى وطنه مجددًا. توقعتُ أن يؤرقه الخطر الكبير الذي تعرضت له ابنته، فأنا أعلم جيدًا لو أن بيتر جون هو مَن تعرَّض لهذا الخطر لم أكن لأستطيع النوم، ولكن الأمر لم يشغل تفكيره على الإطلاق. ولا شك في ذلك، فهو لم يسمع أغلب القصة التي رواها لومبارد. أرسل هارالدسن خطابًا إلى الآنسة بارلوك، وأرسل في طلب أمتعة أنَّا، وانتهى الأمر بالنسبة إليه تمامًا.
ولكن كان من الرائع رؤية هارالدسن والفتاة معًا. فقد مرَّ عامان لم يجتمعا فيهما معًا. كان يتحدث إليها كثيرًا عن نورلاندز، التي كانت على وشك نسيانها، وظل يذكِّرها بأمور حدثت في جزيرة الخراف. لاحظت أنه يحاول أن يبدو مهتمًّا بقصصها عن المدرسة، وبالنسبة إلى هذا الموضوع، كان لديها مستمعون أفضل وهم ماري وباربارا وأنا، وكان الأفضل منا جميعًا هو لومبارد. بدا وكأنه يتمنى لو تمكَّن من نسيان كل ما حدث في إنجلترا، كما لو كان كابوسًا. ذكرني ذات يوم في ارتياح أننا بوصولنا إلى ليفرلو، قطعنا نصف المسافة إلى نورلاندز.
كان ثمة أمر واحد واضح؛ أنه قد طوى صفحة ما حدث في إنجلترا دون رجعة. لم يتعافَ هارالدسن فحسب، بل أصبح رجلًا جديدًا، أو ربما عاد إلى ما كان عليه قبل أن ألتقيه. فقد ظهرت الثقة في صوته، والمزيد من النشاط في عينيه، وبدأ يتصرف ويتحرك كرجل حر. كان هذا التغير نحو الأفضل، فمن المفترض أن يصبح مقاتلًا الآن، على ما آمل، بدلًا من أن يكون خانعًا مستسلمًا. كما أنه بدأ يدافع عن نفسه، وفكرت في أنه لو كان لومبارد محقًّا، وكانت الأحداث ستتصاعد، فإن هارالدسن نفسه سيكون هو القوة الدافعة. فقد أصبح مؤرقًا مرة أخرى، ولكن ليس بسبب أعصابه المضطربة هذه المرة، وإنما بسبب تعاظُم الهدف نصب عينيه. دارت بينه وبين أنَّا مناقشات طويلة جادة في نورلاند، وخمنت أنه كان يحاول دراسة تصرف ما بالتفصيل. وربما سيشارك قريبًا في تشكيل قدره.
أهمل هارالدسن رفيقه السابق بيتر جون تمامًا، وأصبح وأنَّا يقضيان أغلب الوقت معًا. كنت أسأل نفسي هل سينسجم ابني مع الفتاة، وسرعان ما اكتشفت الإجابة عن هذا السؤال. أنهما لم ينسجما على الإطلاق. لم يكن لبيتر جون علاقات وطيدة مع النساء، فيما عدا أمه بالطبع، وباربارا كلانرويدن وجانيت رويلانس بدرجة أقل، لأنهن ينتمين إلى أصدقائه. لم أعتقد أنه قد يعقد صداقة مع أي فتاة، وسرعان ما تبين لي أن أنَّا ليست من النوع الذي يعجبه بأي حال من الأحوال. لم أرَ في حياتي شخصَين يبدو عدم التوافق بينهما بمثل هذا الوضوح. كان قليل الكلام، وعندما تطرح عليه سؤالًا، يبدو الأمر وكأنك ألقيتَ حجرًا في بئر عميقة، فسيكون عليك أن تنتظر بعض الوقت لتحصل على الإجابة. أما أنَّا فكانت صاخبة كنهر صغير. كان بيتر جون يتحدث بأسلوب رسمي تمامًا — إنجليزية صامويل جونسون، كما كانت معلمته المنزلية تطلق عليها — أما أنَّا فكانت تتحدث بالعامية؛ سواء العامية التي يتحدثون بها في المدرسة والمأخوذة من الروايات، أو العامية المأخوذة من تعليقات الأفلام. كنت أرى أسلوب أنَّا في الحديث لذيذًا في كثير من الأحيان، فهي لم تكن بارعة في التحدث باللغة الإنجليزية. على سبيل المثال، كانت تبتكر كلمات مشتقة غير موجودة في اللغة للتعبير عما تريد قوله. وكان بيتر جون يرى هذه الكلمات محض سخافة. كما أنها كانت تغيظ بيتر جون طوال الوقت، وكان الأمر يبدو وكأنها تحاول إغاظة إحدى مسلات المصريين القدماء فلم تكن تحصل منه على أي رد فعل. كان بيتر جون يعاملها باحترام شديد، ثم يأوي إلى صومعته، كما قد يفعل كلب منزلي مسن في بعض الأحيان عندما يُحضِر الضيوف كلبًا غريبًا معهم.
سار الأمر على هذا المنوال لما يقارب الأسبوع. ثم تحققت نبوءة لومبارد فجأة، وتسارع سير الأحداث حتى صار عَدْوًا.
في عصر أحد الأيام، خرجنا جميعًا، فيما عدا طفل باربارا الصغير، متجهين نحو كوخ الرعاة عند بحيرة كلاترينجشوز، حيث سيزوج راعي الأغنام — واسمه تاراس — ابنته الوحيدة الراعي الشاب نيكسون، الذي يعمل في المزرعة الرئيسية. كانت هذه فترة يقل فيها العمل في العام الرعوي، قبل أن تبدأ مهرجانات الخريف، وتوجه كل من في ضيعة ليفرلو إلى الحفل، فقد كان نيكسون محبوبًا وكان تاراس واحدًا من أقدم الرعاة في المكان. وكان الموعد الذي سيزوج فيه قس قرية هانجينجشو الزوجين هو الثانية والنصف، ثم ستُقام مأدبة شاي على الضفة الخضراء للبحيرة، وسَيَليها حفل راقص يستمر حتى ساعات الصباح الأولى في الساحة الكبيرة. كان قلة منا فقط هم من حضروا زفافًا اسكتلنديًّا من قبل، هذا بالإضافة إلى أن جين تاراس كانت واحدة من الخادمات في ليفرلو، فانطلقنا جميعًا على ظهور الخيول الصغيرة لنستمتع بعصر ذلك اليوم، فيما عدا بيتر الجون الذي فضَّل السير كعادته دائمًا.
كان الطقس رائعًا، مناسبًا تمامًا لمأدبة الشاي على ضفة البحيرة، فأقمنا حفلًا مبهجًا. وكانت أنَّا، بوجه خاص، مُفعَمة بالنشاط، ولاحظت للمرة الأولى ملامحها الجميلة التي كانت تتحدث عنها ماري بكل ثقة. فبعدما ارتدت ملابس أجمل من زي المدرسة الموحد، وقضت فترة لا بأس بها تحت أشعة الشمس، أصبحَت كائنًا أكثر حيوية واكتسبت بشرتها المزيد من الحمرة. كان شعرها يتلألأ بلون ذهبي. وكانت بشرتها تقترب من لون العاج الذهبي عندما يتدفق فيها الدم، واكتسبت عيناها الجميلتان عمقًا أكبر بفضل تباين الألوان. كانت تمتطي حصانها ببراعة، وكان صوتها العذب الواضح يرن في أنحاء المرج كصوت جرس. كانت أنَّا تمتطي حصانها وعن جانبيها ماري ولومبارد، وكنت أسير خلفهم وبجواري باربارا وهارالدسن، ولم أتمكن من منع نفسي من إخبار والدها بأنها طفلة بارعة الجمال. كانت تلك الحقيقة جلية لدرجة أنه لم يكلف نفسه عناءَ أن يبدوَ مسرورًا.
فسألته: «مَن اختار لها اسمها؟ والدتها؟»
«لا، بل والدتي. إن اسم أنَّا من الأسماء الشائعة في نورلاندز. ولكنه لا يناسبها. فهي ليست كاهنة يهودية. إذا كان بإمكاني تعميدها مرة أخرى، فسأعطيها اسم نانَّا، على اسم زوجة بالدر.»
تذكرت بصعوبة أن بالدر هو أحد الآلهة الإسكندنافية القديمة، ولا شك في أن الفتاة بدت جميلة كالآلهة في عصر ذلك اليوم. كان هارالدسن شديد الاهتمام بمعتقدات شعوب الشمال في تلك الأيام، فبدأ يشرح بطريقته الغريبة غير المترابطة أنه حتى اسم هذه الإلهة لا يناسبها؛ فهي أقرب إلى النساء المذكورات في كتاب إيدَّا، اللاتي أُجبرن على العيش في العالم السفلي في منزل محاط بالنيران حتى يأتي بطل وينقذهن. بدأ هارالدسن يسرد أسماء هؤلاء السيدات اللاتي لم أميز من بينهن إلا برينهيلد.
قال هارالدسن: «أنَّا المسكينة. ربما ستصبح مثل نساء الملاحم البطولية اللاتي مُنين بسيء الأقدار لأن الرجال في حياتهن قُدر لهم الهلاك. ربما تصبح فخورة وحزينة مثل برجثورا، ولكنها لن تكون خائنة أبدًا مثل هالجيردا.»
لم يكن لدي فكرة واضحة عما يتحدث عنه. قرأتُ واحدة أو اثنتين من الملاحم البطولية بناءً على توصية من ساندي، ولاحظت أنها قصص كئيبة.
قال هارالدسن: «هذه هي الكتب المقدسة لجنسي. وهي تحوي حقائق لا يمكننا تجاهلها، رغم أنها حقائق تبعث على الحزن. إنها تنطبق عليَّ، وعليك يا هاناي، وعلى اللورد كلانرويدن، وعلى سيداتنا الكريمات، وعلى ابنك، الذي يسير على قدميه هناك مثلما سار الإله ثور في رحلاته. وأنتم، معشر الاسكتلنديين، تعرفونها أيضًا؛ فهي موجودة في مقولاتكم. ثمة قدر مشئوم لا يمكن لأحد الفرار منه. الذئب فنريس يتربص بأودين في الجحيم.»
قلت: «كنت سأدع الذئب فنريس ينام في هذا الطقس»، فضحك.
وقال: «أنت على حق. ليس من الجيد أن نفكر في الأمور المطلقة. ثمة مثلٌ من نورلاند يقول إن قلةً يستطيعون رؤية ما هو أبعد من لقاء أودين بالذئب.»
صمت هارالدسن وأخذ يستنشق الروائح العطرة، ذلك المزيج الرائع من روائح الزعتر والخُث والخَلَنْج الذي تحمله نسمات الريح الغربية الخفيفة التي تمر فوق أميال من المروج. قال هارالدسن بعينين شاردتين: «هذا المكان يشبه نورلاند. كنت أشم هذه الرائحة في منتصف الصيف هناك، عندما تهب الرياح آتية من التلال.»
قلت: «إنه وطني حيث نشأت، وكم يسعدني أن تقول إنه يذكرك بوطنك.»
«إن الذكرى ليست مبهجة بالكامل. فهي تجلب عليَّ الحزن أيضًا. ثمة مثل آخر من أمثالنا — يبدو أني أميل إلى الاقتباس كثيرًا اليوم — يقول إن الرجل يكون في منتهى قوته وهو في منزله. وأنا أعيش حاليًّا في منزل رجل غريب — أكثر الأغراب عطفًا.»
قلت: «وأنا مثلك، ولكني لا أشكو.»
«ولكنك تملك منزلًا، ويمكنك أن تعود إليه في خلال يوم واحد. أملك وأنَّا منزلًا، ولكننا ممنوعان من الذهاب إليه. إنها مثل تلك الأميرة المسكينة المذكورة في الحكاية؛ ثمة حلقة من النيران تحيط بمسكنها.»
قلت بمرح: «سنخمد هذه النيران. ولن يمر وقت طويل قبل أن تستريح في جزيرتك مثلما يستريح ساندي في ليفرلو وأنا في فوسي، ستكون أكثر منا راحة بكثير، فلست مجبرًا على دفع ضريبة على الدخل. وإذا ما ساءت الأمور، سآتي إليك وأعيش معك.»
ارتسم فجأة تعبير غريب على وجه هارالدسن. كان يتحدث منذ لحظات عن أمور كئيبة بصوتٍ قوي، بل كان يحاول الضحك. ولكن الآن، أصبحت تطل من عينيه نظرة جادة، تشبه تلك النظرة التي كانت تطل من عيني والده عادةً.
قال بهدوء: «إني أتساءل عمَّا إذا كان مقدرًا لي أن أجد السكينة ذات يوم. نحن معشر النورلانديين عالقون في شَرَك القدر الذي لا مفر منه. اقرأ ملاحمنا البطولية وسترى أن عجلة القدر تسير بلا هوادة. هروت يذبح راب، ثم يذبح أتلي هروت، ثم يذبح جيسلي أتلي، ثم يذبح كاري جيسلي. يعاقب والدي، رحمه الله، تروث الأب، فيأتي تروث الابن ليعاقبني، وإذا نجح، فربما تعاقبه أنَّا أو أحد أبنائها.»
كنت في دوامة من الأسماء الغريبة، وكان هارالدسن يبدو أشبه بتلك العرافة الغامضة التي عبرت الجدول وحطت رحالها على ضفاف بحيرة كلاترينجشوز الخضراء.
رأينا مشهدًا تفوق بهجته كل توقعاتنا. فقد أحضر ما يزيد عن عشرة من رعاة الأغنام زوجاتهم، وكانت ثمة مجموعة كبيرة من خدم ليفرلو، وحضرت عربة ركاب عتيقة تجرها الخيول تحمل جماعة من قرية هانجينجشو. وجاء القس، الذي كان شابًّا نشيطًا حصل على وسام الصليب العسكري خلال الحرب، راكبًا دراجة. وكان ستودارت، كبير رعاة المزرعة الرئيسية، هو من يقود المراسم، وكان مشغولًا بترتيبات حفل الشاي، وكان سيم وأوليفر يساعدانه. استقبلنا تيراس بهدوئه الوقور الذي يجعل رعاة القبائل الحدودية أفضل النبلاء على سطح الأرض، فقد كان يبدو واثقًا من نفسه وكأنه ملك. كان عدد الحاضرين خمسين تقريبًا. كان الرجال الأكبر سنًّا يرتدون حللهم السوداء المميزة لأيام الأحد، الزي المعتاد الذي يرتدونه في الكنيسة وحفلات الزفاف والمآتم، ولكن كان الرجال الأصغر سنًّا يرتدون ملابس مغزولة منزليًّا، وكان الحراس يرتدون سراويلهم القصيرة بالطبع. لاحظت أن جميع الرجال كانوا يرتدون ربطات عنق منقوشة بمربعات سوداء وبيضاء مثل تلك التي كان يرتديها ساندي طوال الوقت عندما يكون في وطنه، والتي تُعَد بديل ليفرلو للملابس الاسكتلندية ذات المربعات. كان النساء يرتدين ملابس زاهية الألوان، فيما عدا العروس التي كانت ترتدي ملابس بيضاء، وفكرت في مدى الاعتدال الذي أصبحت عليه الملابس النسائية بعد الحرب. فقد كان أغلب الفتيات يرتدين ملابس أنيقة مثلما تفعل باربارا أو جانيت.
كان الجو خانقًا في ردهة كوخ تاراس أثناء إقامة مراسم الزواج، ولكنها لم تستمر طويلًا لحسن الحظ. بعد ذلك صعد نيكسون محمر الوجه مع العروس التي كان يبدو عليها الخجل الشديد سلمًا خشبيًّا واختفيَا ليخلعا بعضًا من حليهما، ووقفنا حيث نحن في المطبخ نتفحص الهدايا. قدَّم تاراس وزوجته الشاي لجميع الحضور في المرج الأخضر، ولم أرَ من قبل حشدًا من الناس يُقبلون على الطعام بمثل هذا الاستمتاع. كان من بين أصناف الطعام فطائر لحم الضأن، ولحم الضأن البارد، ومجموعة رائعة من مختلف أنواع الكعك والمخبوزات التي لا يمكن لأحد في العالم أن يتفوق على الاسكتلنديين في صنعها، وكان ثمة كميات كبيرة من الشاي الثقيل والكريمة الغنية، وبيرة لمن يحبونها، وويسكي للأشخاص الأكبر سنًّا. ألقى تاراس العجوز خطابًا ترحيبيًّا، وردت عليه باربارا بلكنته نفسها تقريبًا، فلكنة سكان جنوب الولايات المتحدة تملك نفس أحرف العلة الممطوطة مثل لكنة القبائل الحدودية، ولكنهم لا يستخدمونها إلا عندما يريدون ذلك. وبعد تناول الكثير من الطعام والشراب، تشارك الجميع في إزالة الطاولات، وانقسم الحشد إلى مجموعات، بينما ظل الصغار يتجولون بلا هدف. كان الرقص على وشك البدء في سقيفة جز الصوف، كان عازفو الكمان يضبطون آلاتهم بالفعل، وسيُقدم العشاء في وقتٍ ما من ساعات الصباح الأولى.
عاد النساء إلى المنزل مبكرًا، ولأني كنت أريد التريض قليلًا، أرسلت مهري إلى المنزل مع جوردي هاميلتون. أبدى لومبارد الرغبة نفسها، وكذلك هارالدسن، الذي ظل صامتًا طوال الوليمة، ومن ثم غادر جوردي وكأنه لص خيول تمكَّن من سرقة عدد معتبر منها. لم نكن في عجلة من أمرنا، فقد كان المنزل يبعد مسيرة نصف ساعة من فوق التل الأخضر؛ لذا، التففنا خلف الكوخ حيث كان يجلس عدد من الرجال المسنين على صخرة تطل على جرف صغير، يدخنون غلايينهم ويتحدثون ببطء. أذكر أني فكرت أني نادرًا ما شعرت بهذا الشعور العميق بالهدوء. فقد توقفت الريح الخفيفة عن الهبوب، وذاب لون الأعشاب العسلي ولون السماء الأزرق في لون الغسق الأرجواني. في هذا الغسق البارد اللطيف العطِر الرائحة، حيث لا صوت مسموع سوى أحاديث البشر التي حملتها الريح من بعيد، وخرير مياه البحيرة، وزقزقة الطيور البرية، وثغاء نعجة مسنة ناعسة، أدركت أني في حضرة مشهد خالد لا يتغير تمامًا مثل هذه التلال.
كانت الكلاب مجتمعة حول باب كوخ تاراس الخلفي تبحث عن بقايا الطعام، وكنت قد جلست للتو على صخرة بجوار ستودارت عندما صدرت ضوضاء صاخبة من ناحية الكلاب. بدت الضوضاء وكأنها معركة كلاب ضارية. هببنا واقفين، ولكننا كنا على الجانب الآخر من البحيرة، وتطلَّب منا الأمر بضع دقائق لندور حول الجرف ونعبر بوابات حظيرة الأغنام، ونصل إلى الباب الخلفي حيث كانت الدراجات والحافلة التي تجرها الخيول من قرية هانجينجشو واقفة. وفي الأمتار الأخيرة تمكنا من رؤية المكان حيث تدور الأحداث.
كان في وسط المعركة كلب ستودارت، يارو قائد قطيع الكلاب. وكان يبلغ من العمر حوالي اثني عشر عامًا، وكان في شبابه فخرَ المنطقة الريفية لأنه فاز في مسابقة رعي الأغنام الكبيرة. يمكنني القول إنه كلب عجوز متغطرس، وربما قال شيئًا للكلاب الشابة من فصيلة كولي لم يعجبها، فليس من طبيعة الكلاب أن تخفي تفاخرها. ولكن، بما أنه كلب ستودارت، فقد كان يملك أفضلية على غيره من الكلاب، وخلال تجمعات جز صوف الأغنام وفطم الحملان وبيعها، كان يتقدم الصفوف دائمًا، وكان يحصل على اللعقة الأولى من الطبق، إذا جاز التعبير. ولكنه ربما تمادى في التفاخر هذه المرة. ويبدو أن جميع الكلاب قد فاض بها الكيل منه، فكشَّرت عن أنيابها تنوي قتله.
كان الكلب العجوز بارعًا في التخطيط. فتمركز في الركن حيث نُصبت سقيفة السماد العضوي خلف جدار الكوخ حتى لا يُباغَت من جانبه أو من خلفه، ودخل في معركة عنيفة من موقعه هذا. كان يواجه دزينة من الخصوم، ولكنهم لم يهاجموه جماعةً واحدة، فإن هجموا عليه معًا، كانوا سيقضون عليه. ولكنهم كانوا يهاجمونه فرادى. انقض كلب صغير ذو لون أسود مصفر نحوه وقفز محاولًا الوصول إلى رقبته، إلا أن يارو صده بوزنه الكبير، فعلى الرغم من أن أنيابه كانت قديمة وثلمة، فإنه كان حيوانًا ثقيل الوزن، وربما كان أثقل وزنًا من أيٍّ من مهاجميه. ولكن يبدو أن بعض مهاجميه قد تمكنوا من إيذائه، فقد تمزقت إحدى أذنيه، وتلطخت رقبته وحنجرته بالدماء.
كانت الطريقة التي يتبعها خصومه هي طريقة القطيع القديمة التي تعلموها من أسلافهم عندما كانوا يصطادون في سهول قارة آسيا. كانوا يقصدون إرهاق الكلب العجوز، ثم ينقضُّون ويقضون عليه. أدرك ستودارت ما يريدون فعله، فألقى بعصاه نحوهم زاجرًا إياهم. كنت على استعداد لأن أراهن على أي مبلغ، أنه لولا وجودنا، لكان الكلب العجوز المسكين سيفقد حياته في خلال عشر دقائق.
ولكني كنت مخطئًا تمامًا، فقد غيَّر يارو من خطته فجأة، وانقلب مسار المعركة. بدلًا من الموقف الدفاعي الذي كان يتخذه يارو، بدأ يهاجم. كشَّر يارو عن أنيابه، وانتصبت كل شعرة في عنقه الغليظ، وأطلق صوتًا لم ندرِ إن كان نباحًا أم عواءً أم صراخًا، ثم انقضَّ على أعدائه. ولكنه لم يُطبِق فكَّيه على أيٍّ منهم، فأسنانه لم تكن قوية بما يكفي، كل ما فعله هو أنه ألقى بثقله عليهم مستخدمًا فكه ومخالبه وكل جزء من جسده كسلاح هجومي. والأهم من ذلك هو أنه جعل الكلاب الأخرى ترى أنه لن يتورَّع عن القتل. وأنه لم يعُد يريد الحفاظ على حياته، بل أصبح يريد إنهاء حياتهم. لم أرَ من قبل مثل هذا الإصرار لدى أي حيوان من قبل، فيما عدا الطرائد البرية الأفريقية. نسي يارو الاثني عشر عامًا من الحياة المنزلية التي قضاها في كنف ستودارت. ولم يعد ذلك الحيوان المنزلي الأليف، شريك عمل راعي الغنم، الحائز جوائز المسابقات الذي يتلقَّى التربيتات والمداعبات، بل أصبح برقًا خاطفًا، إعصارًا، وحشًا مفترسًا … تكوَّنت سحابة من التراب والفراء، ثم بدأت جميع الكلاب تفر. انطلق أحدها من بين قدميَّ، وعرقل آخر لومبارد، وتلقت العديد منها ضربات قوية من عصي أصحابها. أما يارو العجوز، فقد نشب أسنانه المتآكلة في الساق الخلفية لكلب لم يتمكن من الفرار، وتطلب الأمر من ستودارت وقتًا طويلًا ليحرره.
وقفت مكاني أضحك، فقد كانت تلك النهاية واحدة من أفضل النهايات التي شهدتها في حياتي. فكان كل راعٍ منشغلًا بتجميع وتأديب كلابه التي أساءت التصرف، وتُركنا أنا ولومبارد وهارالدسن وبيتر جون وحدنا. لمحت التعبير الذي ارتسم على وجه هارالدسن، فأمسكته من ذراعه، فقد بدا وكأنه سيفقد الوعي. كان وجهه شاحبًا كورقة بيضاء، وكان يرتجف مثل ورقة شجر. كان يمر بنفس الحالة التي مر بها في ذلك الصباح في هانام عندما فرت الإوزة بيضاء الجبهة من صقر بيتر جون.
صدرت الكلمات بطيئة من بين شفتَي هارالدسن الشاحبتين. كان يدرك أن ثمة درسًا أخلاقيًّا عليه أن يتعلمه مما يحدث، ولكنه كان على النقيض من الدرس الذي تعلمه في هانام. ولكن كانت الكلمات الأولى التي تفوه بها هي نفسها التي قالها وقتها.
فصاح قائلًا: «إنها رسالة من السماء. هذا الكلب مثل سامر الذي مات مع صاحبه جونار من ليتهند. لقد ذكرني بما نسيت.»
في هذا الوقت، كان ستودارت قد جر يارو إلى داخل الكوخ لينظف جراحه ويضمدها، وكان بقية الرعاة منشغلين بكلابهم. وأخبرنا الظلام المتزايد بأنه قد حان وقت العودة للمنزل. تبعنا هارالدسن بشكل آلي بينما كنا نعبر الحقل الصغير حيث يزرع تاراس البطاطس، والمنحدرات الطويلة التي لفحتها الشمس الغاربة وجعلتها صفراء بلون الذرة. كان يسير بخطًى واسعة محاذيًا لنا، ولكن عن يميننا قليلًا، كما لو كان يتمنَّى لو تركناه بمفرده مع تأملاته الإسكندنافية الكئيبة. ولكني لمحت شيئًا جديدًا بشأنه. كان يرتدي حُلة ذات لون بني محمر زادت من ضخامة حجمه إلى حدٍّ ما. ظل مطأطئ الرأس وهو يتحرك نحو الأمام، حانيًا كتفيه العريضتين، وكان يبدو وكأنه دب بني ضخم خرج للصيد. أصبح مظهره ينم عن تحدٍّ وعزم بعدما كان الخنوع يتملكه ويظهر جليًّا على كل تصرفاته. كان ثمة شبه بينه وبين يارو العجوز عندما تمالك نفسه وغيَّر استراتيجيته وهبَّ للمواجهة الأخيرة.
توقفنا عند مصب الوادي لاإراديًّا، فقد كان مشهد العشرين ميلًا من التلال ذات القمم المستديرة الجاثمة تحت أشعة شمس الأصيل يستحق التأمل. كانت ثمة كومة من الحجارة جلست عليها ولومبارد، بينما ظل بيتر جون كعادته يدور حولنا مثل كلب كولي قلق. ثم تحدث هارالدسن قائلًا:
«يجب أن أرحل قريبًا؛ أنا وأنَّا. فقد تطفلنا عليكم لفترة طويلة.»
قلت: «جميعنا متطفلون على ساندي.»
ولكنه لم يسمع ما قلت. فقد كان مزاجه في هذا الوقت يميل إلى ضرب الأمثال، واقتبس كلمات من هافا مال (أيًّا كانت). وكانت تعني شيئًا كالآتي: «لا تبقَ في منزل واحد لفترة طويلة، بل انصرف؛ فالحب يتحول إلى احتقار إذا ما أقام رجل لفترة طويلة في منزل رجل آخر.»
قلت: «محض هراء. إننا لسنا هنا نتسول الضيافة. جميعنا متورطون في اللعبة نفسها، وبقاؤنا هنا جزء منها.»
رد عليَّ قائلًا: «هذا ما أعنيه تمامًا. إننا لا نلعبها بالشكل الصحيح. لقد كنت أحمق، على أي حال.»
صمتنا في انتظار ما سيقول، وبدا أن ثمة فكرة تدور في رأسه لم يستطع التعبير عنها بالكلمات. ولكنه كان يفتقد الكلمات فقط، فقد نمَّت كل قسمات وجهه على الإصرار.
وضع هارالدسن يده الضخمة على كتفي.
وقال: «هل تذكر ما حدث في يناير الماضي على شاطئ نورفوك؟ لقد رأيت الإوزة تهرب من الصقر عبر الطيران على ارتفاع منخفض. واعتقدت حينها أنه يمكنني الهرب أيضًا بأن ألتزم الهدوء والخنوع … ولكني كنت مخطئًا، فالخنوع يستنزف الرجولة دون أن يمنح الأمان. لقد شهدت اليوم فضيلة الجرأة. ولن أكون سلبيًّا أحاول مراوغة أعدائي بعد اليوم. بل سأبحث عنهم وأواجههم، مثلما فعل الكلب سامر.»
جلسنا ثلاثتنا مشدوهين، فهارالدسن الذي يقف أمامنا لم نلتقِه من قبل. كان قريب الشبه جدًّا من والده، فيما عدا ذقنه الحليقة. ربط هارالدسن يارو العجوز بكلبٍ في ملحمة بطولية، ويبدو أنه يمثل نفسه بشخصية أحد أسلافه. بدا أنفه الأشم أشبه بمقدمة إحدى سفن الفايكينج، وحملت عيناه الفاتحتان حمية شعوب الشمال الزرقاء الجليدية.
واصل هارالدسن حديثه قائلًا: «لقد نسيت الجنس الذي أنتمي إليه. لطالما مُنينا بالحظ العاثر، وعاملنا القدر بقسوة. ولكننا لم نفرَّ أو نختبئ منه، بل واجهناه وقبضنا على تلابيبه، وتمكنا في بعض الأحيان من إسقاطه أرضًا. كنت جبانًا، وأدركت أن الجبن رذيلة. كما كنت مريضًا، ولكني عدت رجلًا معافًى من جديد. لن أتجنب المخاطر التي تحدق بي بعد الآن، بل سأهُبُّ لمواجهتها، طالما أن هذه هي مشيئة الرب …»
•••
«كويسكوي سوس باتيمور مانيس» (وتعني بالعربية: لكل منا أشباحه الخاصة). سمعت صوتًا يقول هذه العبارة من ورائنا، ولكني لم أفهم ما تعنيه. ولكن فهمها لومبارد، وربما بيتر جون، رغم أني أشك في أنه فعل.
التفتنا نحو مصدر الصوت لنجد ساندي أمامنا. كان قد تسلق التل متسللًا بينما كنا نتحدث، وجلس خلفنا يسترق السمع. وكان يرتدي حلة صوفية رمادية قديمة، وبدا شاحب اللون، كما لو أنه ظل بعيدًا عن الشمس لفترة طويلة.
سألته: «كيف وصلت إلى هنا بحق السماء؟»
«لقد طرت. أقلني أرتشي رويلانس حتى كريستون، وهي لا تبعد عن هنا إلا خمسة أميال فقط. وتمكنت في اللحظة الأخيرة من تهنئة جين تاراس وشرب نخب في صحتها … ماذا كنت تقول عندما قاطعتك؟» قالها ملتفتًا نحو هارالدسن.
لم تبدُ على وجه هارالدسن أيٌّ من أمارات الدهشة من ظهور ساندي المفاجئ؛ فقد كان غارقًا حتى أذنيه في أفكاره.
رد هارالدسن قائلًا: «كنت أقول إني لن أواصل الاختباء في بلد أجنبي أو في منازل رجال آخرين. سأعود إلى وطني وأرضي وسأواجه أعدائي هناك.»
سأله ساندي: «هل ستواجههم وحدك؟»
«سأواجههم وحدي إذا ما تطلَّب الأمر ذلك. لقد كنتم خير أصدقاء لي، ولكن لا يمكن لأصدقائي أن يحملوا عني عبء واجبي.»
رمقه ساندي بنظرة التقدير السريعة التي يشتهر بها والتي نمَّت عن الكثير. رأيت في عينيه أنه اكتشف شيئًا جديدًا في هارالدسن، مثلما فعلت أنا، لم يتوقعه ولكنه أسعده كثيرًا. وارتسمت على وجهه ابتسامة.
وقال: «خاتمة رائعة. الخاتمة التي فكرت فيها أنا أيضًا. وقد أتيت إلى هنا لأتحدث عنها … ولكن لنعُد إلى المنزل لتناول العشاء. فقد فتح هواء ليفرلو العليل شهيتي بصورة لم أشهدها منذ أسابيع.»