تطهير الشر بالنار
تسببت تعاستي الشديدة في أن يجافيني النوم عندما لم نتمكن من العثور على الصغيرين. فبحلول موعد العشاء، كنت أشعر بالقلق، وبحلول منتصف الليل، كنت أشعر بغضب شديد، ولكن عندما بزغ الصباح من دون أن نعرف شيئًا عنهما، غرقت في نوعٍ من السبات المتبلِّد المؤلم. لم أرتح أو هارالدسن أو لومبارد طوال عشر ساعات، وجررنا الخدم المسنين خلفنا حتى كلَّت أقدامهم. كان أول ما فكرت فيه هو قاربَا الكاياك، وتأكدنا من عدم وجودهما في المرفأ. كان جريجارسن، المسئول عن القارب السريع الذي لم يعد ذا فائدة، واثقًا من أن الصغيرَين أبحرا بالقاربَين في الصباح، ولكنه كان يعتقد أنهما عادَا. كان البحر هادئًا كبحيرة، فلم تكن ثمة مدعاةٌ للقلق من أنهما واجها طقسًا سيئًا. كانت مهمتي أن أستطلع ساحل الجزيرة، ولكني لم أعثر على أي أثر للقاربين على طول الجانب الشرقي من الجزيرة، واضطررت إلى تأجيل البحث في الجانب الغربي من الجزيرة حتى اليوم التالي. بحث لومبارد عند بحيرات صيد الأسماك تحسبًا لوقوع أي حادث هناك. أما بالنسبة إلى هارالدسن، فلم أكن أعلم ماذا يتوقع من التسكع على غير هدًى مثل كلب تائه. بدا وكأنه قد أصابه الجنون، وبالكاد تحدث إلينا.
عندما عدت إلى المنزل في حوالي الخامسة والنصف، كانت الأنوار المعلقة على حبال أشرعة السفينة تشالدار على الجانب الآخر من القناة قد أطفئت للتو. راودتني فكرة أن الصغيرين ربما توجها إليها، ولكني نفضتها عن رأسي على الفور. فلم يكن بيتر جون أو أنَّا من نوعية الصغار الذين يحكمون على ذويهم بقضاء ليلة كاملة من القلق بدون داعٍ.
عند أحد أركان المرج، حيث نُصبت تعريشات لحماية مساحة خضراء، عثرت على هارالدسن في حالٍ سيئة. ولكن لم يبدُ عليه الجنون مثلما بدوت أنا. بل بدا كأن عقله قد انعزل عن العالم الخارجي تمامًا. لم تكن عيناه تريان ما حولهما وكأنهما عينَا كلب عجوز يجلس متكاسلًا أمام الباب. كان في حالة غريبة من «المس» منذ أن وصل إلى الجزيرة، ولكن بدا أن اختفاء أنَّا قد قضى على ما تبقى من عقله.
كان يحدق بتركيز شديد في شيء ما يهتز عند قمة التعريشات، كان يحدق بعجز دون أن يفعل شيئًا. كان طائرًا عَلِقَ بطريقة ما عند قمة الأسلاك، وكان يرفرف بجناحيه في هياج وهو مقلوب رأسًا على عقب عالقًا في طرف أحد الخيوط، وبدا جليًّا أنه سيلقى حتفه بالسكتة الدماغية. أدركت أنها موراج عالقة في رسنها.
لم يستغرق مني تخليصها الكثير من الوقت، ولكني تلقيت عضات وحشية أثناء ذلك. رأيت الورقة الملفوفة حول ساقها، وتمكنت من فكها بشيءٍ من الصعوبة. كان أول ما شعرت به عندما قرأت الورقة هو شعور عميق بالامتنان. فبأي حالٍ من الأحوال، لا زال الصغيران حيَّين.
كانا على متن السفينة تشالدار. نظرت إلى السفينة الصغيرة على الجانب الآخر من القناة. كانت تطلق الدخان من مدخنتها، وكانت تتحرك خارجةً من مرساها في اتجاه الشمال. ولكنها ستعود. قالت الرسالة إن هذه السفينة هي قاعدة أعدائنا، وأنهم سيهاجموننا في ذلك اليوم.
أخرجتني تلك الأخبار من حالة الكآبة البليدة إلى فورة الحركة. صحت في هارالدسن كما لو كان أصم. قلت صائحًا: «لقد اختطفوا الصغيرين. إنهما على متن السفينة تشالدار! الله وحده يعلم كيف حدث ذلك، ولكنهم اختطفوهما. لقد قطعوا خط الهاتف وعطلوا القارب السريع، وسيهاجموننا اليوم … هل تسمعني؟ الصغيران في أمان حتى الآن. ولكن يجب علينا أن نستعد لصد هجومهم. لا تنظر إليَّ كالأبله يا رجل. أصبح لدينا الآن هدف علينا أن نعمل من أجله.»
دفعته نحو المنزل حيث وجدنا لومبارد فاتحًا عينيه بمشقة. نقبت عن بعض الطعام في المنزل الذي أصاب أهله الوهن، ولكني تذكرت أننا لن نستطيع أكل أي شيء، فقد شربنا الكثير من أكواب الشاي. وظللت طوال الوقت أناقش أمر دفاعاتنا الضعيفة حتى أبعد فكري وفكر من حولي عن التكهنات السيئة … كان تنظيمنا سيئًا جدًّا. فلم يكن أيٌّ من الخدم المسنين بارعًا في إطلاق النار؛ فالنورديون يعلمون أقل القليل عن الأسلحة النارية. الرجل الوحيد الذي ربما كان ذا فائدة هو أبسالون العجوز، صياد الطيور في القرية، ولكنه كان طريح الفراش. كان الرجال القادرون على القتال هم هارالدسن ولومبارد وأنا وجوردي هاميلتون، جميعنا بارعون في إطلاق النار، وكان هارالدسن قناصًا كما اكتشفت. لحسن الحظ، كنا نمتلك الكثير من الأسلحة والذخيرة. ولكن كان علينا أن ندافع عن منطقة شاسعة، ولم يكن المنزل معدًّا للدفاع عنه؛ إذ يمكن الوصول إليه عبر الكثير من النواحي. كان مقدرًا لنا أن نكون الجبهة الأقل عددًا، كما كنا عاجزين عن التصرف بسبب إمساك العدو بالصغيرين رهينتين. ومما أخبرني به ساندي عن دينجرافيل، أدركت أنه لن يتورَّع عن استغلالهما …
ساندي! جاء تذكُّري له كلكمة في وجهي. ماذا حدث له؟ ها نحن أولاء غارقون حتى آذاننا في معركة من ترتيبه، ولا نعلم أي شيء عنه! تخيلته وقد تعرض لحادث في مكان ما على الطريق، ويحاول جاهدًا أن يبعث رسالة إلى جزيرة أصبحت في الوقت الحالي معزولة عن العالم بصورة تامة.
حاولت أن أفكر بهدوء وأن أتخيل كيفية الهجوم علينا. لقد خرج أعداؤنا لإنهاء الأمر، ولن يتعاملوا بلطف. ماذا يريدون؟ يريدون احتلال المنزل ونهبه كما يحلو لهم. نعم، ولكن ثمة المزيد يمكن الحصول عليه من هارالدسن. فهو الهدف المهم حقيقةً. يجب أن يضعوا أيديهم عليه، وأن يجبروه على فعل ما يريدون. وبالنسبة إليَّ وإلى لومبارد، يجب أن يُخرسونا. إما أن يقتلونا أو يخفونا عن العالم في مكان ما إلى الأبد. أو يرْشونا. راودتني فكرة مقيتة أنهم سيحاولون رشوتي والسعر هو بيتر جون.
لم أتخيل أبدًا احتماليةً أشد بشاعة من تلك، كما أن فكرة تورط الصغيرين في الأمر جعلت قلبي ينقبض. لا شك في أن العدو سيفرض شروطًا … تسليم هارالدسن والمنزل … وأن أوقع ولومبارد اتفاق إذعان من نوعٍ ما. وإذا ما رفضنا هذه الشروط، فسيهاجموننا. يمكننا أن نماطلهم لبعض الوقت، وأن نسبب لهم قدرًا من الضرر، ولكن من المحتم أن يتغلبوا علينا في نهاية المطاف … هل ثمة أمل؟ لا سبيل سوى إطالة الأمر قدر الإمكان على أمل حدوث أمر ما يقلب الطاولة. حاولت تخيل ساندي يسرع لنجدتنا، ولكن هذا لم يواسني أو يطمئنِّي. إذا كان سيفعل أي شيء، لكان قد وصل إلى هنا منذ أمد بعيد.
كان السبيل الوحيد للنجاة من هذه المعركة هو منعهم من الوصول إلى هارالدسن. فهم لن ينتصروا إلا إذا أمسكوا به. لذا، لا بد أن يخرج من المنزل ويختبئ. هل ثمة مكان يصلح لإخفائه؟
لقد كان أكثر تعقُّلًا مما توقعت. فقد أجبر عقله على العودة من شروده، وعادت عيناه تشبهان عينَي كائن عاقل. فهم هارالدسن وجهة نظري. كنت أخشى أن تجعله رغبته في القتال يرفض أن يستبعد من المعركة، ولكن يبدو أن خسارة أنَّا أضعفت عزيمته. واتفق معي على أن فرصة نجاتنا الوحيدة هي تأخير وقوعه بين أيديهم لأطول فترة ممكنة … كان ثمة مكان واحد فقط يصلح للاختباء لا يعرفه أحد إلا هو وأنَّا. ذكرت سابقًا أنه في الجهة الشمالية من المنزل في نهاية رواق مُعمَّد مسقوف يُستخدم لزراعة نباتات الأُصص، توجد زنزانة حجرية صغيرة تعود لناسك أيرلندي كان من بشَّر بالديانة المسيحية في نورلاندز وقُتِل على يد قراصنة البحر. جدَّد هارالدسن الأب هذه الزنزانة، وبنى فوقها سقفًا، لم يكن من العشب الأخضر مثل بقية المنزل، بل بالقش العادي. اكتشف العمال في أرضية الزنزانة درجات سلم تؤدي إلى البحر وتنتهي عند كهف في جرف عند الجانب الشمالي من المرفأ. حُفظ هذا الاكتشاف سرًّا، فقد كان البديل الوحيد لذلك هو إغلاق المكان برمته — وكان المدخل عبارة عن فتحة أُخفيت بعناية تحت أريكة ثقيلة صنعها هارالدسن الأب من الخشب الذي جرفه البحر.
بدا الأمر وكأن هذا ما يريده هارالدسن تمامًا. قلت لهارالدسن إنه يجدر به أن يذهب إلى هذا المكان على الفور وأن يأخذ معه مصباحًا وسلة من الطعام. وإذا ما وقع الأسوأ وقُتِلنا جميعًا أو اختُطفنا، فلن يكون هجومهم ناجحًا إذا لم يعثروا على هارالدسن. أخبرته بألا يحاول الخروج عند البحر، فمن المؤكد حينئذٍ أن يمسكوا به، وأن يبقى صابرًا في الممر حتى يرحل العدو، ثم يبدأ في تجربة كل ما في إمكانه لنحصل على المساعدة. الأمر الوحيد المهم هو أن يظل بعيدًا عن متناول أيديهم. ولكني أعتقد أنه لم يفهم هذا بسبب ذهنه المشوَّش. فقد نظر إليَّ بعينَين تشبهان عينَي كلب متحمس، ولكنه غبي. زوده آرن بالطعام والإضاءة، ولكن كان آخر ما فعله هو أنه اتجه إلى غرفة نومه وأحضر بندقية صيد خفيفة وبعض أمشاط الخراطيش. وقال: «سأشعر بأمان أكثر هكذا»، ولم أرَ ضيرًا من أن يكون مسلحًا. قد يعثر الأعداء على الممر، وينتهي الأمر برمته بمعركة تدور في باطن الأرض. أوصلته إلى الزنزانة، ورأيت ضوء مصباحه يرتعش أثناء هبوطه الدرج الحجري وكأنه يهبط إلى عمق هاوية، ثم جررت الأريكة فوق فتحة المدخل مجددًا. لن يكون الجو خانقًا في هذا الممر؛ فتيار الهواء يمر به وكأنه إعصار.
تمركزت، بعد ذلك، ولومبارد في مواضع تُمكننا من تحصين المنزل. لم يكن بمقدورنا فعل الكثير، فقد كان المنزل ضخمًا كثير الممرات، ولم يُبنَ ليكون مركزًا للدفاع. أغلقنا النوافذ، وكوَّمنا الأثاث خلف الأبواب، وعند الأجزاء الخلفية من المنزل، حيث المدخل الأضعف، وضعنا متاريس من الآلات المهملة مثل قاطعات التبن والعصارات وحتى نول نساج قديم. لم يكن الخدم المُسِنُّون مفيدين إلا في مراقبة مداخل معينة وتنبيهنا على الفور. كلفت جوردي هاميلتون، الذي كان بارعًا في إطلاق النار، بمدخل المنزل الأمامي، وكان موقعه عبارة عن جناح صغير عند الطرف الجنوبي من المنزل. كانت مهمته هي عدم السماح لأحد بالاقتراب من بوابة المنزل الرئيسية، وأن يصدَّ أي شخص يدخل إلى الشرفة. وكلفت لومبارد بمؤخرة المنزل. لم يكن يثق في قدرته على استخدام البندقية، وفضَّل أن يستخدم بنادق صيد ذات فوهتين. لم يكن ثمة مجال واسع لإطلاق النار عند الأجزاء الخلفية من المنزل بفضل التل المرتفع، وكان من المرجح أن يكون أي هجوم عليها عبر القتال بالأيدي. اخترت أنا سطح المنزل الذي منحني رؤيةً لمحيط المنزل بأكمله. وتمكنت من رؤية جزء صغير من الجزيرة؛ فقد حجب التل المرتفع رؤيتي في اتجاه الشمال والجنوب والغرب، ولكني كنت أرى القناة أمامي بوضوحٍ تام، الأمر الذي من شأنه أن يمنحني إنذارًا مبكرًا بوصول السفينة تشالدار.
جلست بين الخضرة الغنَّاء على السطح مستترًا خلف المدخنة، ومسدسي في جيبي، وبندقيتان من عيار ٠٫٢٤٠ بجواري، وكنت محبَطًا بدرجة لا أتذكر أني وصلت إليها من قبل. انقبض قلبي عندما فكَّرت في بيتر جون. قالت الرسالة المربوطة في ساق موراج إنهما بخير، ولكني لم أقتنع؛ فقد كانا على متن السفينة تشالدار؛ ما يعني أنهما تحت رحمة الأعداء. لم يكن من المرجَّح أن يرفض دينجرافيل هذه الورقة الرابحة. وسوف يستخدم هذين الصغيرين اللذين لا حول لهما ولا قوة إلى أقصى حدٍّ تسمح به المفاوضات، وإذا رفضت شروطه، فلن يتورع عن إيذائهما … أتذكر تفكيري إلى أي مدى سيظل رفاق دينجرافيل — تروث وبارالتي والباقون الذين تهمُّهم نوعية الجرائم التي يتورطون فيها — يوافقون على أفعاله. ولكن، لن يلتفت دينجرافيل كثيرًا لرغبات هؤلاء الضعفاء الذين لا بد أنهم أصبحوا عجينة طيِّعة بين يديه الآن … تمنيت أن أرى السفينة تشالدار تظهر؛ فقد كان هذا يعني بداية النهاية، كما يعني أنه لا يفصلني عن ابني سوى ميل واحد أو نحوه. حاولت أن أركِّز تفكيري على وضع خطة، ولكني لم أستطِع التركيز. يجب أن أنتظر لأرى كيف سيبدأ دينجرافيل الهجوم.
كان صباحًا معتدلًا، ولكنه لم يعد كذلك قبل الظهيرة. كانت الرؤية معتدلة، ولكن كانت القناة لا تزال واضحة، ولم تظهر السفينة تشالدار فيها … بعد الثانية عشرة بخمس دقائق، عندما فكرت في فحص دفاعاتنا، رأيت الأثر الأول لأعدائنا. رأيت شخصًا مُتخفيًا بشكل جيد يظهر على سفح تل سنوفيل، ويتخذ موضعًا شماليَّ المنزل على بعد نصف ميل تقريبًا. نظرت نحوه بنظارتي المقرِّبة ورأيت أنه يلبس حذاء البحر الطويل وصديرية البحارة، وأنه مُسلَّح. بدا وكأنني رأيته في الوقت المناسب، فبعد خمس دقائق جعلني صخب مفاجئ أصدره سرب من طيور النورس السوداء الظهر أنظر جهة الجنوب حيث مصدره، ورأيت رجلًا آخر بالهيئة نفسها يواري نفسه خلف خزان المياه مباشرةً ويراقب المنزل والحدائق بنظارته المكبِّرة. كنت أدرك ما يدور من حولي. كان دينجرافيل يوزع مراقبيه ليمنع خروج أحد من المنزل. كان يجب السيطرة على الأراضي قبل وصول القوات … نظرت عبر نظارتي المكبِّرة نحو تل سنوفيل. كان ثَمة رجلان جاثمان فوق قمته.
ثم راودتني فكرةٌ منحتني لحظات من الهدوء. لماذا اتَّخذَ كل هذه الإجراءات الاحترازية؟ لا بد أنه اعتقد أننا لسنا عاجزين فحسب، بل غافلون أيضًا. ربما نبَّهَنا تعطلُ الهاتف والقارب السريع إلى أن شيئًا غريبًا يحدث، ولكن لم يكن ثَمة سبب يجعلنا نفترض أن العدو أصبح قريبًا. أو أن السفينة تشالدار هي قاعدتهم. ولكن أنَّا وبيتر جون كانا يعلمان! هل فرَّا منهم؟ هل يعتقد دينجرافيل أنهما في المنزل الآن؟ رفضت هذا الأمل الواهي. كيف قد يتمكن الصغيران من الهرب من بين براثن رجال لم يتركوا شيئًا للظروف؟ أو لماذا قد يتخيل هؤلاء الرجال أننا يمكن أن نهرب في حين أنه لا يوجد مكان يمكننا اللجوء إليه؟
لم يحدث أي شيء طوال ساعة أو اثنتين. هبطت من مجثمي وجُلتُ في أرجاء المنزل. لم يرَ جوردي هاميلتون شيئًا؛ فقد كان في مكان منخفض جدًّا لا يمنحه رؤية جيدة لمسافة طويلة. لم يكن لدى لومبارد أيضًا مجال رؤية واسع، وكان المراقبون الجاثمون على قمة تل سنوفيل خارج نطاق رؤيته. تركت جوردي يلتهم بنَهمٍ غداءً مكوَّنًا من الخبز والجبن والبيرة، وتباحثت وضعنا مع لومبارد، ثم عدت إلى برج مراقبتي. لاحظت أن الطقس يتغير. فقد بدأت السماء تظلم من ناحية الشرق فوق جزيرة هالدر، وبدأ سطح مياه القناة الهادئ تُعكره اضطرابات بسيطة غريبة، وعلى الرغم من أن الجو كان لا يزال مستقرًّا، فإني كنت أشعر وكأني في غرفة حارَّة بجوار صندوق ثلجي — كما لو أن أمرًا جسيمًا ومريرًا على وشْك الحدوث.
قبل الثالثة بقليل، حدث تطورٌ في الأحداث. سمعت صوت طلقة من خلفي، وعندما نظرت من فوق حافة السطح رأيت بعض شظايا حجرية متناثرة من إحدى زرائب الأبقار. أسرعت هابطًا من على السطح لأستطلع الأمر، واكتشفت أن الطلقة أُطلقت على لومبارد. كان قد تذكر أن موراج محبوسة في سقيفة الجبن، وأنها ربما كانت شديدة العطش. فتوجَّه إلى هناك ليعطيها بعض الماء، ورآه أحد المراقبين فأطلق عليه طلقة تحذيرية جعلته يعود إلى مخبئه. كان المحاصِرون يأخذون عملهم على محمل الجِد.
بعد بضع دقائق، جاءنا الخبر الأول من الكلاب. عند الجرف الذي في اتجاه البحر شماليَّ المرفأ، رأينا مقدمة السفينة وهي تقترب. لم أكن قد رأيت السفينة تشالدار عن قرب مسبقًا، ولم أميزها في البداية. كانت تبدو وهي تقف في مرساها في جزيرة هالدر أصغر من الحقيقة. ولكني استخدمت نظارتي المقرِّبة لأقرأ اسمها. لم تكن ترفع أي أعلام؛ فقد أُزيل العَلم الدنماركي من على صاريتها …
لم أرَ السفينة وهي ترسو وتنزل قواربها إلى البحر. فبمجرد عبورها مدخل الخليج، تحوَّل الاكفهرار الذي يجثم على القناة إلى عاصفة عاتية. كدت أسقط من مجثمي لولا احتمائي بالمدخنة. وفي خلال دقيقة أو نحوها، تحوَّل العشب على سطح المنزل إلى اللون الأبيض بسبب كرات البَرَد التي في حجم بيض العصافير التي سقطت من السماء. واكتست الحديقة والشرفة وسفح التل بالثلج. ومع البَرَد، جاءت رياح قارسة تشقُّ جسدي كسكين. مرَّ نحوُ نصف ساعة قبل أن يمر الإعصار، وتمكنت من النظر في اتجاه البحر والرؤية بعد الرياح الشديدة التي أعمتني.
رأيت السفينة تشالدار وكانت مكسوَّة باللون الأبيض وكأنها قد انجرفت وهُجرت في الثلج القطبي، وكانت ترتجُّ بقوة وسط البحر الذي أصبح هائجًا وثائرًا فجأةً. كان السلم على ميمنتها مُدلًّى، ولكن لم يكن ثَمة أثر للقوارب. لا بد أنها رست على الشاطئ. تخيلت أني رأيت ثوبًا نسائيًّا يُرفرِف على سطحها … ثم نظرت إلى مقدمة المنزل حيث يوجد طريق يصعد من المرفأ حتى الشرفة. وفي اللحظة نفسها، رأيت رءوسًا تظهر على حافة الشرفة، وسمعت صوت جوردي هاميلتون يصيح مُهدِّدًا. فاختفت الرءوس من أمام ناظري. وجدت بقعةً أفضل للرؤية في ركن المدخنة وأمسكت بإحدى البندقيتين. فكرت في أنه يجدر بي أن أبدأ العمل الآن.
لم تكن جماعة السفينة تشالدار من الحمقى. لا بد أن بعضهم اتجه جنوبًا تحت الجرف حيث يتمركز مراقبهم بجوار خزان المياه، وعرفوا منه أماكن تمركز رجالنا. تمنيت لو أن جوردي حافَظ على سرية موقعه، ولكن من المؤكد أنه أظهر نفسه أمام المراقب الذي أخبر الوافدين الجدد بمكانه. على أي حال، كان ما سمعته لاحقًا صيحةً أشبه بخُوار ثور آتية من ناحية خيمة جوردي الصغيرة، ولمحت صراعًا فوضويًّا يحدث انتهى بصمت مفاجئ. لقد تغلَّبوا على الجندي الاسكتلندي، وها قد قلَّ عدد المدافعين الثلاثة واحدًا …
لم يتأخر الحدث التالي كثيرًا. فجأةً أصبحت الشرفة مزدحمة، ولم يواجه الوافدين الجدد أحد. لم يقلل دينجرافيل من قدر خصومه، فلِكَي يواجهنا نحن التعساء الثلاثة، أحضر معه على الأقل عشرين رجلًا. لم أحسب عدد الرجال الذين أراهم في الأسفل، ولكن كان عددهم كبيرًا، كما أن هناك مراقبين عليَّ وضعهم في حسباني. كان من الجلي أنهم يعرفون كل شيء عنا، وبدا أنهم يتصرفون بحريةٍ الآن بعدما تولَّوا أمر جوردي هاميلتون. كانوا يتبعون خطة موضوعة مسبقًا تعتمد على المعرفة الدقيقة بالمكان؛ فقد اتجه بعضهم نحو خلف المنزل، واتجه البعض الآخر نحو الرواق المؤدي إلى زنزانة الناسك، ولكن بقي أكثرهم عند قاعدة السلم المؤدي إلى مدخل المنزل الرئيسي. كانوا قد قسموا أنفسهم في مجموعتين تاركين ممرًّا ضيقًا بينهما، وبدا أنهم ينتظرون شخصًا ما.
سرعان ما ظهر مَن ينتظرونه. فعبر الممر الضيق، ظهر ثلاثة رجال. كنت واثقًا من معرفتي بالرجال الثلاثة؛ إذ كنت لا أزال أذكر أوصاف ساندي لهم. كان دينجرافيل هو ذلك الرجل طويل القامة الذي يرتدي قبعة البحارة والملابس الصوفية الرمادية، كان قد أطلق لحيته مجددًا وبدا أشبه بضابط بحري، إلا أن مِشيته الخفيفة النشيطة لم تكن مشية رجل اعتاد الإبحار. أما الرجل النحيل الأسود الشعر ذو الوجه الطويل الحادِّ القسَمات، فكان كاريراس الإسباني. ومن دون أدنى شك، كان الرجل النحيل، الذي يرتدي الحُلة الزرقاء المتسخة والقبعة المنسدِلة قليلًا على إحدى عينيه، هو مارتل البلجيكي.
كان انطباعي عن بقية الرجال عامًّا وغامضًا؛ فقد كانوا قساة وخشنين وعديمي الرحمة، لكن منظمين جدًّا. ربما كانوا مجرد عصابة من المجرمين، ولكنهم كانوا يطيعون الأوامر وكأنهم كتيبة من الحرس الملكي. ولكن ترك القادة الثلاثة أقوى وأوضح تأثير على عقلي. كانوا على بعد ثلاثمائة ياردة تقريبًا مني، ولكن كانت شخصياتهم طاغية وكأنهم معي في الغرفة نفسها. وصلني منهم انطباع لا يُقاوَم بحيوية مُفرِطة ولكن شريرة، شر مستطير. كان الشر يظهر جليًّا من قوام دينجرافيل المشدود، ومن طريقة وُقوفه التي تشبه وقفة نمر متحفز. كما كان الشر يشع من وجه كاريراس الأبيض القاسي. وكان الشر يشع بوضوح أكبر من هيئة البلجيكي مارتل الرشيقة اللئيمة. كان الأخير هو أكثر من كرهت. كان دينجرافيل هو الشيطان نفسه، وكان كاريراس شريرًا عاديًّا، أما مارتل فبدا كأحد مقاتلي الأباتشي، وفأر مجارير، ولص خبيث في الوقت نفسه.
كانوا يريدون التحدث إلينا. عندما خرجت من مخبئي خلف المدخنة، رأوني على الفور، ووجدت عشرين سلاحًا موجهًا نحوي. فألقيت بندقيتي ورفعت يديَّ إلى أعلى.
صحت بصوتٍ عالٍ ليسمعوني وسط الرياح الشرقية القوية: «هل تتكرمون أيها السادة وتخبرونني بما تريدون؟»
وجاء الرد من دينجرافيل. انحنى دينجرافيل أمامي وفعل رفيقاه المثل.
وقال بصوت مرح سمعته بسهولة إذ نقلته الرياح: «السير ريتشارد هاناي، أليس كذلك؟ نريد التحدث إلى السيد هارالدسن. ولكني أريد التحدث إلى اللورد كلانرويدن أولًا، توفيرًا للوقت والجهد.»
صحت قائلًا: «آسف. السيد هارالدسن ليس هنا. لقد غادر الجزيرة.»
رأيت من موقعي ابتسامة ترتسم على محيَّاه، وكذلك فعل رفيقاه. كانوا يعلمون يقينًا أني أكذب.
قال دينجرافيل: «يا للأسف! حسنًا، ماذا عن اللورد كلانرويدن؟»
هل يعرفون أن ساندي لم يأتِ؟ أم إنه سؤال مخادع للإيقاع بي؟ أم إنهم يعتقدون بالفعل أنه في المنزل؟ على أي حال، لم أكن لأعطيهم ما يريدون.
قلت: «إذا كان لديك ما تريد قوله، يمكنك أن تقوله لي. هيا قل ما لديك؛ فالبرد قارس.»
قال دينجرافيل: «إن أسطح المنازل ليست مكانًا مناسبًا للاجتماعات. ألن تنزل من مُستقرِّك يا سير ريتشارد؟ البرد قارسٌ اليوم كما قلت للتو، ويمكننا التحدث داخل المنزل.»
قلت: «حسنًا، سأنزل.» وعندما نظرت إلى الرجال الثلاثة، راودتني فكرة مفاجئة. كنت أنوي أن أطلب أن يكون دينجرافيل مبعوثهم عندما لاحظت أن مارتل يقف في موضع غريب مُمررًا ذراعه اليسرى أمام صدره لتقبض يدها على العضلة ذات الرأسين في ذراعه اليمنى. كنت قد رأيت هذا السلوك من قبل، فأيقظ في داخلي تخمينًا جامحًا. ربما كان يقصد بهذه الوضعية أن يعطيني إشارة. كان عقلي يائسًا، فقد بدت لي رغبتهم في الحديث دليلًا أكيدًا على رغبتهم في أن يُمْلوا علينا شروطًا تتعلق بالصغيرين، ولكنه لم يكن مُتبلدًا لدرجة ألا يلاحظ هذه الإشارة الصغيرة.
خاطبت دينجرافيل قائلًا: «يمكنك أن تتحدث أنت مع اللورد كلانرويدن. أما أنا فسأتحدث إلى ذلك الرجل الواقف على يسارك. اجعله يتقدم وسوف أسمح له بالدخول.»
قال دينجرافيل وقد علا صوته فجأة: «إن كان في الأمر خدعة، فستدفع ثمن ذلك من دمك. هل تفهم؟»
«نعم أفهم. سأترك الباب مفتوحًا حتى يمكنك رؤيتنا، ويمكنك أن تطلق النار عليَّ إذا ما شعرت بأن ثمة أمرًا غريبًا يدور.»
هبطتُ الدرج وشعور مقيت بالخواء يملأ صدري. كان آرن العجوز مكلفًا بحراسة المدخل الرئيسي للمنزل فبنى متراسًا قويًّا من الأثاث استغرق مني بضع دقائق لإزالته. عندما فتحت الباب وضربت الرياح الشرقية وجهي، رأيت أن الرجال الثلاثة قد اقتربوا — أصبحوا قريبين من قاعدة الدرج. أشرت إلى مارتل.
وقلت: «انتَظِرا هنا. سأدخل وهذا الرجل إلى الرَّدهة اتقاءً للرياح. وسنكون في مرمى بصركما.» استدرت وعُدت إلى داخل المنزل. سمعت صوت خطوات على الحجارة وتنبَّهت إلى أن مارتل قد تبعني. كان قلبي يخفق بقوة، فقد كنت متيقنًا من أن كلماته الأولى ستتعلق بالصغيرين وبالثمن الذي نحن على استعداد لدفعه مقابلهما.
استدرت لأواجهه. وسألت: «حسنًا؟ ماذا تريدون؟»
ثم لم أدرِ ماذا عليَّ أن أقول.
قال الرجل الذي يُدعى مارتل: «ديك، صديقي، لقد صعَّبنا الأمور على أنفسنا جدًّا.»
•••
الله وحده يعلم كيف تمكَّن من فعل ذلك. لم يكن تنكرًا عاديًّا، فلم يكن يضع شاربًا مستعارًا أو صبغ شعره أو أي شيء من هذا القبيل. ولكنه تمكَّن من جعل نفسه يبدو منحطًّا ببراعة — هذه هي الطريقة الوحيدة للتعبير عن الأمر. كان مظهره بالكامل — حاجباه المائلان، عيناه الثاقبتان، فمه الماكر، كتفاه المنحنيتان — لئيمًا وشريرًا؛ لأنه كان يريد أن يبدو هكذا. ولكن عندما نظر إليَّ مباشرةً بذلك البريق المألوف في عينيه وتلك الشِّفاه المجعدة الشيطانية، رأيت أقرب صديق لي في العالم بأسره.
وبدت لامبالاته المعروفة عنه في عينيه للحظة. ثم بدت الجِدية في عينيه.
وقال: «يجب أن ننهي حديثنا بسرعة؛ فلا يوجد أمامنا كثير من الوقت. لقد أفسدت بعضًا من خططهم، وأعتقد أني فعلت ذلك ببراعة. أولًا: فلتُرِحْ بالك. بيتر جون والفتاة آمِنان … حتى الآن على أي حال.»
قلت في سعادة: «حمدًا لله!» وضعت كلماته عن كتفيَّ حملًا ثقيلًا وعادت إليَّ ثقتي. إلا أن كلمات ساندي التالية أصابتني بالحيرة.
«لقد حققت أغلب ما كنت أصبو إليه؛ فقد جعلت بارالتي وجماعته يشعرون بالرعب. ولن يرتكبوا مزيدًا من الجرائم التعسفية! وهم الآن جالسون في السفينة تشالدار غارقين في عرَقهم مذعورين … لقد جمعت ضدهم أدلةً كافية ستجعلهم مستقيمين لما تبقَّى من حياتهم، ووقعت يداي مصادفةً على أدلة تودي بدينجرافيل وأغلب عصابته إلى حبل المشنقة. هل تعلم أننا حتى هذه اللحظة لم نكن نملك شيئًا ضده قد تقتنع به أي محكمة؟ لذا، كان عليَّ أن أجعله يُورِّط نفسه بنفسه. هل تفهم؟ كان عليه أن يهاجم هارالدسن في جزيرته، وأن يستعرض قوته لمرةٍ واحدة أخيرة. حسنًا، اعتقدت أني تمكنت من توريطه. وكنت أعتمد على أن يوفي هارالدسن بوعده وأن يجهز عددًا كبيرًا من سكان الجزيرة الشباب ليدافعوا عنه. كنت أعرف خطط دينجرافيل، كَوْني ضابطه الأول؛ ومن ثَم أُفسدها. ولكن، يا للعَجب! عندما وصلت إلى هنا، لم أجد أحدًا في الجزيرة سوى العجائز، كان المكان برُمَّته غير محمي وكأنه حوت قد جنح للشاطئ لينتحر.» توقف ساندي عن الحديث وتشمم الهواء وقال شيئًا غريبًا. قال: «هذا طقس مثالي لصيد الحيتان. يا إلهي، سنكون محظوظين إن كان كذلك.»
ثم سأل: «أين هارالدسن؟» أخبرته بمكانه فأومأ برأسه. وقال: «أتمنى أن يظل حيًّا … اسمع يا ديك. الخطة التي وضعتها تتمحور حول تشجيع دينجرافيل على مهاجمتكم حتى يدين نفسه. ولكن قبل أن يسبب أي ضرر، سيصل رجالكم ويوقفونه. حسنًا، هذا لن يحدث، فلا رجال لديكم. لقد تحدثت إلى المدمرة الدنماركية التي تحرس سواحل الصيد. إنهم آتون إلينا، ولكنهم آتون من ويستمانس، ولن يتمكنوا من الوصول قبل منتصف الليل. وهذا سيمنح دينجرافيل الوقت الكافي ليسبب ضررًا كبيرًا. حاولت أن أؤجل الهجوم، وتمكنت من تأجيله حتى هذه اللحظة — كان من المفترض أن يحدث الهجوم صباح اليوم — لأني جعلتهم يبحثون عن الصغيرين. ولكن لا مناص من حدوثه الآن. ثَمة سبع ساعات أو ثمانٍ حتى منتصف الليل، وهذا وقت يكفي لأن يذبحنا دينجرافيل جميعًا إذا أراد. وإذا ما أمسك بهارالدسن، فسوف يجعله يعاني بشدة. إذا كان الأمر يتعلق بك ولومبارد فقط، فربما كان يرضيه نهب المنزل. لِكَمْ من الوقت يمكنكم أن تصمدوا؟»
قلت: «ساعة واحدة على ما أعتقد. إننا لا نملك أي قوة بشرية لصدهم. كما أنهم متمرسون، ولن يمنحونا الفرصة لاقتناصهم الواحد تلو الآخر.»
قال ساندي: «لا لن يفعلوا. إذا ما تمكنتم من الصمود لثلاث ساعات، فربما نتمكن من تنفيذ الخطة … سأعود وأخبر دينجرافيل بأنك لن تستسلم. سأقول إنك لن توافق على أي شروط من دون إذن هارالدسن، وإنه ليس موجودًا على الجزيرة، وإنك ستبذل أقصى ما في وسعك لتدافع عن منزله في غيابه. سأحاول أن أُعقِّد الأمور على الجانب الآخر. سأعود إليك في وقتٍ ما، ولكني سأختار هذا الوقت … الوقت الذي أرى أني سأكون فيه ذا فائدةٍ كبيرة. إذا ما اكتشف دينجرافيل أنه قد خُدع وتمكن من الإمساك بي، فسيقتلني، ولن تكون جثتي ذات فائدة تُذكَر لكم.»
بينما كان ساندي يتحدث، قفزت إلى خيالي ذكرى حية لربوةٍ تكسو الأشجار قمتها تحت ضوء القمر الأفريقي حين كنا ندافع عن هارالدسن الآخر، حيث عرَّضت أنا ولومبارد حياتنا للخطر. بدا لي الأمر وكأني قد فعلت كل هذا من قبل، وأني أعرف ماذا سيحدث لاحقًا، وتلك المعرفة المسبقة منحتني الثقة. ولا بد أني ابتسمت؛ فقد رمقني ساندي بحدة.
وقال: «إنك تستخفُّ بالأمر يا ديك. أنت تعرف مدى خطورة موقفنا، أليس كذلك؟ أملنا الوحيد هو وصول السفينة الدنماركية عند منتصف الليل. إذا ما صمدنا حتى ذلك الوقت، فسننتصر. يجب أن أنصرف.» لوَّح ساندي بيده إلى دينجرافيل الذي يقف عند قاعدة السلم واستدار لينصرف. وكانت كلماته الأخيرة كالآتي: «أبعدْ هارالدسن عن المشهد أرجوك. إنه نقطة ضعفنا.» هبط ساندي درجات السلم، وبعد ثانية كنتُ قد أغلقت باب المدخل الضخم من خلفه وأحكمت إغلاق الترابيس. تركت آرن العجوز يعيد تكديس المتاريس وصَعِدت إلى مكمني خلف المدخنة، وكنت أنوي أن أطلق عليهم بعض الطلقات. رأيت ساندي يتحدث إلى دينجرافيل وكاريراس، وقد عاد مرةً أخرى ليبدو ذلك السفاح.
•••
فجأةً، في لحظة هدأت فيها الريح، رنَّ صوتٌ عالٍ، صوتٌ آتٍ من جهة الشمال، من ناحية زنزانة الناسك عند نهاية الرواق.
صاح الصوت قائلًا: «ابتعدوا عن الشرفة. عودوا إلى زرائبكم أيها الخنازير وإلا فسأطلق النار.»
كان هذا هارالدسن — لا يمكن لأذني أن تخطئ هذا الصوت — ولكن بدا وكأنه قد اكتسب نبرةً ومدًى خارقَين؛ فقد ملأ المكان مثل هدير أمواج البحر داخل خليج صغير. كان مُجرِمو دينجرافيل معتادين على اتخاذ سواتر، وفجأة قلَّ عدد العصابة؛ فقد تباعدوا فيما بينهم وزحفوا على الأرض مثبتين أعينهم على الشمال. جميعهم فيما عدا واحدًا … كاريراس. لا أعلم ماذا حلَّ بالرجل. ربما كان يبحث عن ساتر بين درجات السلم والمنزل؛ على أي حال، تحرك الرجل نحو الأمام بدلًا من الخلف. دوَّى صوت طلقة، وقفزت إحدى ذراعيه من مكانها ودار حول نفسه نصف دورة نحو اليسار، ثم سقط على وجهه.
في لمح البصر، كان جميع الرجال جاثمين على الأرض، وزحفوا وهم على هذه الوضعية نحو جدار الشرفة الذي سيحميهم من طلقات البندقية القاتلة. ثم تحدَّث الصوت مرةً أخرى، وفاجأ ما قاله أحد الرجال الجاثمين على الأرض، على الأقل.
فقد صاح قائلًا: «كلانرويدن. عُد ثانيةً إلى المنزل! أسرع يا رجل! افعل كما آمرك. لن يمكنني أن أتولى أمر هؤلاء الحثالة إذا كان في وسطهم صديق لي.»
كيف عرف مَن يكون مارتل حقيقةً، لا أعرف. ولكنه كان تصرفًا غبيًّا، وكاد أن يودي بحياة ساندي نتيجةً له. كانت عبارة «عُد ثانيةً إلى المنزل» هي الخطأ؛ فقد جعلت دينجرافيل يكشف هُوية مارتل، في حين كانت من الممكن أن تبدو محض خدعة. على أي حال، فكَّر ساندي في المثل؛ فقد فزعت عندما رأيته يقف على قدميه من خلف أجمةٍ من أشجار الصفصاف القطبي. كان يعلم أنه في خطر، فاستدار وتحرَّك مسرعًا بشكلٍ جانبي مثل الأرنب. شعرت بصدمة ممزوجة بالخوف؛ فلم أكن أستطيع الوصول إلى الباب الرئيسي في الوقت المناسب، كما أن هناك المتاريس التي وضعها آرن وراء الباب: كانت مقدمة المنزل خالية من أي ساتر، وحتى يتمكن من الالتفاف حوله، سيكون هدفًا سهلًا لبنادق الأعداء. ولكن طلقةً واحدةً فقط أُطلقت عليه، وأنا على يقين أنها لم تأتِ من بندقية دينجرافيل، فلا بد أنه كان واثقًا من أنه سينتقم بكل سهولة. لم تُصِب الطلقة هدفها، وأعتقد أن سبب ذلك هو أن الهارب تعثَّر في جثة كاريراس وسقط لحظة إطلاقها. وفي غضون ثوانٍ، أصبح ساندي خارج نطاق رؤيتي. سيكون آمنًا خلف المنزل في الوقت الحالي، إلا إذا التقى أحد مراقبيهم خارج موقعه.
خرج ساندي من تفكيري في هذه اللحظة أيضًا؛ فقد أصبح انتباهي بأكمله مُنصبًّا على دينجرافيل. استتر دينجرافيل وقواته الرئيسية خلف جدار الشرفة، بعيدًا عن طلقات بندقية هارالدسن، وأدركت بوضوحٍ ما ينوي فِعله. كان من الغباء محاولة حصار هارالدسن من الجانب ومن الخلف. كان باب الزنزانة ونافذتها يُطلان على جهة الجنوب، ويمكن لهارالدسن أن يحرسها في هذا الاتجاه، ولكن ماذا سيفعل لو جاء الهجوم من أعلى عبر السطح المكسو بالعشب؟ يمكن لثلاثة رجال أقوياء أن يزيلوا العشب من على السطح في غضون خمس دقائق.
حشر شخصٌ نفسه بجواري خلف المدخنة. وقال ساندي: «لقد نجوتُ بشق الأنفس. لقد اخترقت الطلقة جيبي. لو لم أتعثر وأنقلب على جانبي، لكنت في عِداد الموتى … ما الذي ينوي صديقنا فِعله؟ آه، فهمت. حريق. سيحرقون العشب ويخرجونه من مكمنه بالدخان. هذا أسوأ ما قد يحدث. كان على هذا الأحمق أن يظل مختبئًا في وَكْره بدلًا من أن يحاول أن يكون بطلًا. لقد جُن. هل سمعت صوته؟ هذا صوت رجل مجنون بلا أدنى شك. كما أنه وشى بي، ذلك الأحمق، ولا أعلم كيف تعرَّف عليَّ! دليلٌ آخر على جنونه! لقد انقلبت الأوضاع في غير صالحنا يا ديك. في خلال نصف الساعة، سيُمسِك بهارالدسن، وسرعان ما سيمسك بي، ولن يكون رحيمًا مع أيٍّ منا.»
خيَّم ظلامٌ مؤقَّت بسبب غيمة حرَّكتها الرياح الشرقية، ولم أعد أرى من مكمني على سطح المنزل سوى السماء الملبَّدة بالغيوم والبحر الأسود المضطرب. كانت الشرفة خالية، ولكني تمكنت من رؤية ما يدور خلفها، وراقبت ما يحدث بعينَي مُشاهِدٍ مشدوه في قاعة سينما، وراعني ما رأيت، ولكني كنت أدرك في عقلي الباطن الحيلة المرجوَّة من كل ما يحدث. رفض عقلي أن يتقبل هذا العالم المجنون الذي ضللت طريقي فيه على أنه واقع، رغم أن المنطق أخبرني بأنه واقع كئيب لا شك فيه. لمحت الخيالات الواحد تلو الآخر بين الشُّجيرات القصيرة والأراضي المنخفضة التي تقع شمال وشرق زنزانة الناسك. ثم لفتت صيحة من ساندي انتباهي إلى الزنزانة نفسها. كان ثَمة رجل يقف على سطحها ويسكب شيئًا من دلو. همس ساندي: «بنزين. كان تخميني صحيحًا. سيُخرجونه من مكمنه باستخدام النار.»
اندلع لسان من اللهب تحوَّل على الفور إلى كرةٍ من النار. وحملته هبةٌ من الرياح إلى أعلى مُشكِّلًا لولبًا ذهبيًّا طويلًا. وتحتي مباشرةً، رأيت رجالًا يَظهرون في الشرفة مجددًا. فقد أصبح الوضع آمنًا بالنسبة إليهم الآن، فلم يكن هارالدسن قادرًا على إطلاق النار عليهم من داخل هذا الفرن المحترِق.
كان دينجرافيل ينظر إلى الأعلى نحونا؛ فقد خمَّن أين قد يتخذ ساندي ساتره.
صاح دينجرافيل قائلًا: «لورد كلانرويدن، لقد وفيت بوعدك. أنا سعيد أنك فعلت، فهذا المكان ممل من دونك.»
أظهر ساندي جسده بالكامل.
وقال: «شكرًا لك. أحب أن أفي بوعودي.»
واصَل دينجرافيل حديثه بصوته المرح قائلًا: «لقد نجحت خدعتك الأولى. لقد تمكنت من خداعي بمهارة، وأنا لست ممن يمكن خداعهم بسهولة. عليَّ أن أمدحك على ذلك. ولكني لا أعتقد أنك ستنتصر في النهاية. بعدما نمسك بهذا المجنون، يُسعدني أن آتي إليك بنفسي.»
قلت سابقًا إن صوته مرح، ولكن من المؤكَّد أنه أصبح الآن ناعمًا ولطيفًا بشكل غريب، رغم وضوحه. ولكن كانت ثَمة نبرةٌ غادرة فيه مثل خرخرة القطط. كان يقف ومن حوله طاقمه المتوحش، أنيقًا، ومبتهجًا، وواثقًا، دون ذرَّة من شفقة. ألقى مظهره الخوف في قلبي. لن يمر وقت طويل قبل أن نصبح تحت رحمته، والأمل الوحيد في نجدتنا يبعد عنا ساعات، ساعات طِوالًا. لم أكن قلقًا على نفسي، أو حتى على هارالدسن الذي بدا أنه لم يعد بين الأحياء حاليًّا، ولكني لم أرَ شيئًا في عينَي ساندي سوى الدمار؛ فقد تراهن رجلان على حياتيهما … والصغيران! ما المخاطر التي يواجهانها على هذه الجزيرة الملعونة وأين؟
فجأةً، تردَّد صدى زئير قوي علا فوق صوت الرياح، وكان صوت دينجرافيل زقزقة عصفور مقارنةً به. كان الزئير أشبه بهُتاف حماسي، كما لو أن زعيمًا من زعماء الفايكينج يصيح وهو يهاجم أعداءه في معركته الأخيرة. خرج هارالدسن من الزنزانة. كانت النار المشتعلة في السقف تُلقي بضوئها على جسده الذي كانت جميع تفاصيله واضحة. كان يرتدي ملابسه النوردية الغريبة، ولمعت أبازيم الأحزمة والأزرار الفضية في بريق النار. كان جزءٌ من وجهه مسودًّا بفعل الحريق وباقيه شاحبًا. وكان شعره الأشعث أشبه بإكليل من أوراق الشجر على قمة شجرة صنوبر طويلة. لم يكن يحمل سلاحًا، ورفع يديه أمامه كما لو كان كفيفًا يتلمس طريقه. ولكنه كان يتحرك كجلمود صخر يتدحرج من على جبل، وبدا وكأن ثانية واحدة قد مرت قبل أن أجده تحتي مباشرة في الشرفة.
لم يكن ثمة شك في هدفه من هذا الفعل. لقد أصيب الرجل بالجنون وأصبح مستعدًّا لمواجهة أي عدد منهم بقبضتَيه العاريتين. إذا كنت قريبًا منه بحيث أرى عينيه، فأنا واثق من أنهما ستكونان ثابتتين متحجرتين وكأنهما زجاجيتان … رأيت في مدينة بييرا ذات مرة أحدَ أفراد قبيلة المالاي اندفع كالمجنون وراح يقتل كلَّ من يصادفه بسكين ضخم حمله في يده. كان الحشد الذي تعرَّض لهجومه مسلحًا بالكامل، إلا أن الغريب في الأمر أن أحدًا لم يطلق النار عليه، وكان قد ذبح رجلًا وشجَّ جمجمتَي اثنين آخرين قبل أن يُعرقله بحارٌ ثَمِلٌ اندفع من شارع جانبي فاصطدم به وأوقعه أرضًا دون أن تكون لديه أدنى فكرة عمَّا يحدث. هذا بالضبط ما حدث الآن. كان ثَمة رجال من خلفه يحملون أسلحة، ويوجد عشرون رجلًا في الشرفة يحملون البنادق والمسدسات، إلا أن سلوكه العاصف هذا ووجهه الذي حمل أمارات الموت مكَّناه من المرور عبرهم دون أن يعترضه أحد. بدوا وكأنهم أصيبوا بالشلل مثلما يحدث لمتسلقي الجبال الذين يعلَقون في طريق انهيار ثلجي، كما قيل لي.
لا بد أن ما حدث لاحقًا استغرق دقائق كُثرًا، ولكنه بدا لي وكأنه حدث في لحظة واحدة. لم أدرِ بما يحدث إلا بعدما انتهى، وشعرت بأظافر يد ساندي التي تقبض على معصمي تنغرس في لحمي من فرط الإثارة … كان دينجرافيل يقف في طليعة مجموعة صغيرة أحاطت به عندما اقترب منه هارالدسن كالعاصفة. أزاحهم هارالدسن عن طريقه وكأنهم أوراق شجر ذابلة، ولكني لم أدرِ إن كان تغلُّبه عليهم بدنيًّا أم معنويًّا. ثم حمل دينجرافيل بين ذراعَيه مثلما قد أحمل طفلًا صغيرًا ابن ثلاث سنوات. في هذه اللحظة، وليس قبلها، دوَّى صوت طلقة. كان دينجرافيل هو من استخدم سلاحه، ولكني لا أعلم ماذا أصابت الطلقة. ولكني واثق من أنها لم تُصِبْ هارالدسن.
رفع هارالدسن أسيره نحو السماء كما لو كان كاهنًا يقدم قربانًا. مدَّ هارالدسن قامته لأقصى ارتفاع لها، وبدا لعينيَّ الخائفتين أضخم من البشر. حرَّر دينجرافيل جزءًا من جسده من قبضة هارالدسن، وبدا لي كأن هارالدسن ألقاه في الهواء ثم التقطه وأحكم قبضته عليه بقوة أكبر. بعد ذلك استدار هارالدسن نحو الشمال مرة أخرى، وبدأ يعدو عائدًا أدراجه إلى زنزانة الناسك.
ثم بدأ دويُّ طلقات الرَّصاص. كان الرجال المتمركزون في الشرفة يُصوِّبون أسلحتهم على ساقَيه، رأيت طلقات البنادق تثير التراب في أحواض الزهور. ولكن لم يتمكن أيٌّ منهم من إصابته لسبب مجهول. حاوَل الرجال بالقرب من الزنزانة أن يوقفوه، ولكنه داسهم تحت قدميه دون عناء. واحدٌ منهم فقط هو من تمكَّن من إطلاق النار، ووجدنا أثر هذه الطلقة فيما بعدُ حيث صنعت أخدودًا عبر شعره … تمكَّن هارالدسن من تَخطِّي هؤلاء الرجال، ووصل إلى الزنزانة المحترقة حيث كانت عارضة سقفها الأخيرة تسقط إلى داخل الحفرة المشتعلة. ظننتُ للحظةٍ أنه سيُلقي دينجرافيل فيها، والذي لا بد أنه أصبح نصف ميت الآن بسبب تلك الضمَّة الجبَّارة بين ذراعَي هارالدسن. ولكنه لم يفعل. بل تجاوز الزنزانة وانحرف يمينًا نحو السهول المُطلة على البحر.
أصبح الآن خارج مجال الرؤية من الشرفة، ولكنه دخل في مجال رؤيتي وساندي من فوق سطح المنزل. ربما يجدر بنا أن نشطب اسم دينجرافيل الآن، فلا أمل في نجاته. لم يبطئ هارالدسن من سرعته على الإطلاق. كان يقفز قفزاتٍ كبيرةً فوق الأخاديد والصخور، وبسبب بعض ألاعيب الضوء، بدا كأنه يزداد ضخامة بدلًا من أن يصغر كلما ابتعد؛ لذا عندما وصل إلى حافة الجرف كانت معالم جسده غير واضحة أمام السماء، وكان عملاقًا.
ثم تذكرت واحدة من حكايات الجزيرة التي أخبرنا بها إبَّان وصولنا، والتي حكاها باستمتاع وواقعية وكأنه شهدها بعينيه. كانت حكاية هالوارد سكالسبليتر الذي أغار على جزيرة الخراف منذ ألف عام وخرَّبها بلا رحمة. ولكن عزَلته عاصفة عن سفنه مع اثنين من رفاقه، وثار عليهم سكان الجزيرة، وربطوا أيدي مقاتلي الفايكينج وأقدامهم وألقوا بهم من فوق جرف فولنس في البحر … كان جرف فولنس هو ما أنظر إليه الآن، حيث يمتد المدخل الأرضي للمرفأ إلى جرف يُطل على البحر بعلو ثلاثمائة قدم.
كان تخميني صحيحًا. اعتقدت في البداية أن هارالدسن ينوي إنهاء حياته أيضًا. ولكنه عدَّل من وضعية جسمه على حافة الجرف، وأرجَحَ دينجرافيل بين ذراعيه القويتين، ثم ألقى به من فوق الجرف. وقف هارالدسن للحظات موازنًا نفسه على حافة الجرف ينظر نحو الأسفل إلى قاع الجرف. ثم استدار وبدأ يعرج عائدًا أدراجه. ثَبَّتُّ نظارتي المقربة عليه ورأيت أنه سقط على المرج الأخضر وكأنه ميت.
•••
لا شك في أن هذه الأحداث الدرامية الرهيبة من شأنها أن تترك المرء عاجزًا ومرهقًا. مات دينجرافيل، لكن عصابته لا يزالون أحياءً، وسيكونون حاليًّا أكثر استماتة مما سبق، فلم يعد ثَمة قائد يفكر بدلًا منهم. كانت حياتنا لا تزال على المحك، وأصبح من المهم وضع خطة للتخلص منهم. ولكن تمسكت وساندي أحدنا بالآخر في إرهاق كما لو أننا مصابان بالدُّوار.
قال ساندي أخيرًا: «يا له من شيطان مسكين! لم يكن يعرف ما سيحل به. لا بد أن عناق هارالدسن القوي أفقده وعيه.»
قلت: «ربما كنا أقل عددًا، ولكن لدينا وحشًا مسعورًا في صفنا.»
«لا أعتقد ذلك. لقد انتهت ثورته. وعاد إلى طبيعته إلى حدٍّ ما، واستعاد سيطرته على نفسه مجددًا.» أخرج ساندي ساعته. وقال: «لم نصل إلى السابعة حتى! علينا أن نواصل صد الذئاب لخمس ساعات أخرى. ذئاب جائعة بلا قائد … مزيج خطير! … يا إلهي! ما هذا؟»
كان يحدق نحو الجنوب، وعندما نظرت في الاتجاه نفسه، رأيت مشهدًا حبس أنفاسي. كان اللهب الذي يحرق زنزانة الناسك نحو الشمال يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكنه كان يبدد عتمة الغسق في هذا الاتجاه، ولكن ناحية الجنوب، كان ثمة شيء يبدد العتمة وكانت دائرة السماء الصافية تتسع. كانت معالم السهول الجنوبية تظهر بوضوح في مقابلها. وفي تلك الواحة من النور، رأيت أمرًا غريبًا … كان في البحر أسطول صغير من القوارب يقترب من المرفأ في صف طويل، وكان ثمة قارب أو اثنان يبحران بمجاديف كبيرة ويتجهان نحو الشاطئ مباشرةً. من فوق التل، تحرَّك جيش لا يقل عدده عن مائة من الرجال الأقوياء مرورًا بخزان المياه وانتشروا على المرج، وكانوا شُعثًا غُبرًا مغطَّينَ بالدماء، ويحمل كلٌّ منهم رمحًا يقطر دمًا.
لم أتمكن من استيعاب المشهد، ولم أقوَ على شيء سوى المشاهدة واللهاث. بدا الأمر وكأن جماعة من الغيلان قد قفزت من تحت الأرض فجأةً، فلم أرَ في هؤلاء الرجال أي دلالة على أنهم من البشر. كانوا يرتدون الملابس النوردية التي تشبه ملابس الغيلان، والتي أصبحت الآن ملطخة بالطين والدم بصورةٍ غير معقولة، وكان شعرهم وأعينهم تجعلهم أشبه بتلك الكائنات الوحشية التي تعيش في التلال، والصيحات التي كانت تخرج من حناجرهم لم تكن لتخرج من أُناس قادرين على الكلام، وكان كلٌّ منهم يتقلد رمحه اللامع المخضَّب بالدماء … رأيت خيالات القوارب وهي تدخل المرفأ، ويُغِير ركابها على السفينة تشالدار وكأنهم سكان جزر من آكلي لحوم البشر يُغِيرون على سفينة تِجارية. ورأيت خيالات رجال دينجرافيل الواقفين تحتي يُلقون نظرةً واحدةً على ذلك الهجوم الدامي ثم يعْدُون في هياج نحو الشاطئ. لم ألُمهم. فقد جمدت رؤية هذا القطيع الهائج الدم في عروقي.
سمعت ساندي يغمغم بصوتٍ خافت: «يا إلهي، لقد أتت حملة صيد الحيتان.»
لم أفهم ما يقول، ولكني فهمت أن شيئًا أتى. وفي طليعة جيش الغزاة، رأيت أنَّا وبيتر جون.