هارالدسن
خلال السنوات الأولى من القرن الحالي، كانت الأراضي شمالي نهر ليمبوبو، وما زالت، مكانًا مثيرًا للعيش فيه. استمررنا، نحن الروديسيين، في ممارسة أنشطتنا اليومية، من تنقيب وتعدين، وتجربة أصناف جديدة من الفاكهة والتبغ، وجازف الكثير منا بالذهاب إلى أجزاء غير مطروقة من البلاد. إلا أن الإثارة بأكملها لم تكن تقع أمامنا؛ فقد أتى بعضها من خلفنا. فقد انهمر علينا من مقاطعة راند ومن كيبتاون وافدون غريبو الأطوار كان على الشرطة أن تراقبهم عن كثب، وأصبحت إنجلترا ترسل إلينا بعض أبناء الطبقة الراقية البيض من حين لآخر. كانت البلاد لا تزال في نظر الكثيرين منطقة متنازع عليها لا تسري في داخلها الأوامر الملكية؛ ومن ثَم أصبحت نقطة انطلاق لجميع الجامحين الآتِين من الشمال. خلال رحلاتي من البلاد وإليها كنت أصادف مجموعات صغيرة غريبة الأطوار من البشر، وعادةً ما كنا نجدهم في أسوأ حال، ويبدو عليهم أنهم مُطارَدون، وكانوا يرفضون بشدة إعطاء أي معلومات عن أنفسهم. والله وحده يعلم ما حل بهم. كنا نُكلف في بعض الأحيان بمهمة إطعام أحد المتشردين يتضوَّر جوعًا، ونساعده على العودة إلى الحياة المتحضرة، ولكن عادةً ما كانوا يختفون بلا أثر وتنقطع أخبارهم. ربما اختلط بعضهم بعامة الشعب وانتهى بهم المطاف كفقراء بيض يسكنون أكواخًا قذرة في إحدى قرى السود. وربما مات البعض الآخر من الحُمَّى، أو هلكوا تعساء من الجوع أو العطش، أو ضلوا طريقهم في غابات روديسيا التي لا يجدر بأحد الاستخفاف بها. وإذا ما سرت في غابات نهر الزمبيزي الأوسط، ووديان الجرف العظيم، ومستنقعات نهرَي مازوي وروينيا، فلا مفر من أن ترى الكثير من أكوام العظام التي عفَّى عليها الزمن.
كنت قد عدت من رحلة إلى شرق أفريقيا، وسعدت في بولاوايو بلقاء لومبارد الذي صادقته في الوادي المتصدع. كان قد انتهى من عمله مع بعثته، وكان في طريق عودته إلى الوطن، وأراد أن يزور جنوب أفريقيا في طريقه. وكان قد سافر عبر البحر من مومباسا إلى بييرا، وكان ينوي قضاء بضعة أيام في مبنى الحكومة. عندما التقاني، كان يتوق إلى الذهاب في رحلة، فقد كان يملك وقتَ فراغٍ عدة أسابيع، ونظرًا إلى أني كنت ذاهبًا في رحلة إلى المناطق الداخلية من البلاد، عرض عليَّ أن يصحبني. أرادت مني شركتي أن أفحص بعض الدلائل على وجود النحاس في مانيكالاند، شمالي نهر البونجو الأعلى في وادي ماكابان. كان لومبارد يريد أن يرى الأرض الرائعة حيث ينبسط الجبل والهضبة ليصبحا سهول نهر الزمبيزي، كما كان يأمل أن يمارس الصيد ولو قليلًا، فلم يكن يحظى بوقت فراغ في وظيفته في شرق أفريقيا. كنت أعلم أن رحلتي ستكون مملة، فرحبت بصحبة لومبارد مغتبطًا، فبالنسبة إلى شخص بسيط مثلي، كان حديث لومبارد بمثابة طريقة لفتح عينَيَّ على عوالم جديدة.
وعندما وصلنا إلى سالزبري، قابلنا مجموعةً غريبةً من البشر. كانت المجموعة مكونة من أربعة أشخاص؛ كهل، وشاب، وامرأتين. كان الكهل يبدو وكأنه تخطى الخمسين بقليل، وكان رجلًا ضخمًا، ذا وجه مربع وشارب مصفف على طراز الفرسان وضحكة صاخبة. كنت سأعتقد أنه كان جنديًّا لولا كتفَاه المتهدِّلتان اللتان تدلان على أنه كان يعيش حياة غير نشيطة على مدار حياته. كان يتحدث بصفته إنجليزيًّا مثقفًا، وخمنت أنه من لندن، فقد كانت كلماته مبتورة وغير واضحة بهذه الطريقة الغامضة التي تميز أبناء العاصمة الأصلاء. وخمنت أن الرجل الأصغر سنًّا أمريكي من لكنته، ولم أحبه منذ وقعت عيناي عليه. فقد كان دائم الابتسام لمن يتحدث إليه والربت عليه، يتظاهر بالطيبة، إذا صحَّ تخميني، إلا أن عينَيه الرماديتين الباردتين الماكرتين لم تبتسمَا أبدًا. لم نكن نهتم بمظهرنا في روديسيا، وكانت ملابس هذين الرجلين لافتة للنظر من فرط أناقتها. كانا يرتديان قميصَين مفصلين ببراعة، وياقتين من الكتان الناعم، وكانت الياقات ابتكارًا جديدًا حينئذٍ، وحذائين رائعين من جلد الغزال. لم يكن نمط زيِّهما صارخًا فعليًّا، ولكنه كان غريبًا، رغم أنه كان عاديًّا، ولا شك، في بورنموث. حتى لومبارد الذي كان أنيق الملبس دائمًا، بدا رثَّ الهيئة مقارنةً بهما.
بدت المرأتان كطائرين من طيور الجنة. كانتا شابتين، وجميلتين إلى حدٍّ بعيد، وكانتا تضعان الكثير من أحمر الشفاه ومساحيق التجميل، وتساءلت عما سيبدو عليه وجهاهما إذا ما لوحتهما شمس أفريقيا. كانتا ترتديان ملابس تصلح للحفلات التي تقام في الحدائق، وفي المساء ارتدتا فستانين منفوشين يصلحان لحفلات الشاي. وبدا عليهما أنهما من طبقة اجتماعية أقل من الرجلين بصحبتهما، فقد كانتا تتحدثان بصوتٍ سوقيٍّ عالٍ ولكنة الطبقة العاملة في لندن. بدا جليًّا أن الجماعة تملك الكثير من المال لإنفاقه. فقد أحدثوا جلبة كبيرة بسبب الطعام الذي كان مكوَّنًا من المعلبات العادية ولحم ثيران الجر، ولكنهم كانوا يشربون الشمبانيا مع جميع وجباتهم، ولم تكن الشمبانيا مشروبًا رخيصًا في سالزبري.
لم أتحدث مع أيٍّ منهم عدا الرجل الأصغر سنًّا. كان أسلوبه متحضرًا جدًّا وكثير الأسئلة، ولا سيما بعدما أعد مشروبًا من أجلي زعم أنه من اختراعه. وقال إنه وأصدقاءه حضروا إلى روديسيا ليروا القضية الروديسية رأي العين، وليقيِّموا أي نوع من الرجال كان الراحل سيسيل رودز. ولكنهم لن يطيلوا المكوث، فقد رأى أنهم سيعودون إلى الوطن في أقرب وقت. كان يتحدث بلهجة أمريكية صحيحة، ولكني خمنت أنها ليست لغته الأم، وتأكد تخميني عندما أدركت أنه دنماركي الأصل يحمل اسم ألبينوس، وقضى بضعة أعوام في الولايات المتحدة. كان أن ذكر مونتانا، وحاولت أن أحمله على الحديث عن النحاس، ولكنه لم يُبدِ أي اهتمام بالموضوع. ولكن بدَا مطلعًا بشكل جيد على أجزاء روديسيا، فقد طرح عليَّ أسئلةً عن الركن الشمالي الشرقي منها الذي لا يعرفه كثيرون، ما أظهر لي أنه قد اطلع على بعضٍ من تضاريسها.
تحدث لومبارد إلى الرجل الأكبر سنًّا، ولكنه لم يعرف أي معلومات عنه سوى أنه إنجليزي يقضي عطلته. قال لومبارد: «إنهم مجموعة متنزهِين سوقيِّين من العامة. ربما فازوا بجائزة يانصيب كبيرة أو ربما حالفهم الحظ بالرهان على الأسهم الرابحة، ولا يريدون الآن سوى المرح. الغريب في الأمر أني أعتقد أن الرجل الأكبر سنًّا يحاول أن يبدو أكثر سوقية مما هو عليه في الحقيقة. فهو يتحدث كرجل نبيل عندما لا يكون منتبهًا. أما المرأتان! فهما من ذلك الصنف المعروف أزلًا؛ فتيات للتسلية، رفيقات سفر مأجورات. المجموعة بأكملها تبدو غير متوافقة مع المكان وتتعارض مع البيئة الطبيعية النقية من حولهم.»
كنا سننطلق فجر اليوم التالي. وقبل أن آوي إلى فراشي، توجهت نحو الحانة لأتناول مشروبًا، وهناك التقيت شرطيًّا من معارفي؛ جيم أركول، وكان اسمًا شهيرًا في منطقة شمال نهر فال بالكامل. لم أسأله عن سبب وجوده في هذا المكان، فكان من نوعية الأسئلة التي لا يسمح بها أبدًا، ولكني أخبرته بخططي. كان يحفظ كل شبر من البلاد مثل اسمه، وعندما عرف إلى أين نتجه، أومأ برأسه. وقال: «ستجد هارالدسن العجوز هناك. إنه ينقِّب في مكان ما بالقرب من قرية مافودي. بلِّغه حبي إن التقيته، وأخبره أن يواصل إبلاغي بتحركاته. إننا نحيا في عالم قاسٍ، وقد يتورط في مشاكل.»
ثم رفع إبهامه نحو السقف.
وقال: «لديك مجموعة غريبة من الأصدقاء في الطابق العلوي.»
أجبته قائلًا: «صديقي الوحيد من بينهم هو لومبارد؛ الرجل الذي التقيته في بولاوايو.»
«لم أعنِ صديقك. أعني الآخرين. الرجلين والسيدتين الجميلتين. هل تعلم من يكون الرجل الأكبر سنًّا؟ إنه إيلمر تروث الشهير.»
لقد نسي الناس قضية السيف المعقوف منذ فترة، ولكنها أثارت ضجة شديدة في إنجلترا منذ عام. كانت جريمة نصب واحتيال مالي ضخمة اشتملت على حادث بشع ربما كان انتحارًا، أو ربما كان جريمة قتل. وكانت ثمة محاكمة شهيرة في محكمة أولد بايلي، وحُكم على خمسة من المتهمين الاثني عشر بفترات سجن طويلة مع الأشغال الشاقة. وكان أحد الشخصيات المهمة في هذه القضية محامٍ شهير من لندن يُدعَى تروث، وكان الشخص الغامض المحرك لعملية النصب بأكملها. ولكنه أفلت من العقاب بعد دفاع مذهل من محاميه، إلا أن القاضي كان قاسيًا جدًّا في تعليقاته وظلت غمامة كثيفة من الشكوك تحيط به.
قلت: «تروث! ماذا يفعل هنا يا تُرى؟ لقد فكرت بالفعل أن ذلك الرجل في الطابق العلوي أكثر أهمية من أن يكون مجرد شخص عادي يقوم برحلة.»
«لا شك في أنه مهمٌّ جدًّا. أما عن سبب وجوده هنا، فلا تسلني أنا. لا شيء لدينا ضده. لقد خرج من المحكمة من دون أي دليل قد يلطخ سمعته. رغم ذلك، فهو رجل وضيع، ولدينا تعليمات بأن نراقبه حتى يصعد على متن سفينة من بييرا أو كيبتاون. ولا أعتقد أنه بصدد القيام بأي فعلة تدينه هذه المرة. ففي ظل وجود طيور الحب التي بصحبته، فهو يرتحل مثقل الكاهل ولن يقدم على فعل أي شيء متهور.»
بعد بضعة أيام، وبعد أن غيرت مساري نحو الغرب لأقابل جزءًا من فريقي، وصلنا إلى التلال الواقعة بين نهرَي البونجو والروينيا. واعتقدنا أننا تخلصنا من تروث وطاقمه ذي الملابس المبهرجة، ونسينا فعليًّا كل شيء عنهم عندما التقيناهم فجأةً في عصر أحد الأيام بينما كنا نريد أن نريح خيولنا عند إحدى البحيرات. ووجدنا أربعتهم هناك جالسِين حول النار يتناولون غداءهم. كان الرجلان قد غيَّرا ملابسهما، وارتديَا سراويل لركوب الخيل وقماطات سيقان وقميصَين ذوَي لون كاكي مفتوحَي الصدر ومشمَّرَي الأكمام، كانا يبدوان مختلفَين تمامًا عن أولئك المتأنقين الذين التقيناهم في الفندق. بدا ألبينوس متمرسًا مر بهذا الموقف من قبل، وحتى تروث نفسه كان يتعامل مع البراري بطريقة جيدة. أما المرأتان فكانتَا مريعتَين. كانتا ترتديَان أيضًا سراويل لركوب الخيل وقماطات سيقان وقميصَين خشنَين، ولكنهما لم تكونا مناسبتين لهذه النوعية من الملابس، فقد أطلت من أعينهما نظرة حزينة مرتبكة أشبه بنظرات كلبَي ترير صغيرَين تورطَا في شجار مع كلاب أخرى. وكانت الشمس، كما توقعت، قد دمرت بشرتهما.
لم يبدُ على أربعتهم أنهم تفاجئوا برؤيتنا — ولمَ يفعلون؟! — فقد كانوا على الطريق المعتاد إلى وادي ماكابان، وكان الكثير من الناس يمرون بهذا الطريق. كان الأربعة ودودين بشكل مبالغ فيه، وعرضوا علينا الشراب، الذي كانوا يملكون الكثير منه، والأطعمة الشهية، التي كانوا يملكون العديد من أصنافها. وكان يبدو عليهم أنهم في مزاج رائع، وكانوا يثرثرون كثيرًا. كان تروث متحمسًا وسعيدًا بكل شيء؛ المكان والمناخ، وروعة العيش في العراء، وكان حزينًا لأنه لم تتوفر له فرصة تجربة كل ذلك من قبل بسبب أشغاله. وللأسف، لم يكن أمامهم إلا بضعة أيام ليقضوها في هذه الجنة، ثم سيكون عليهم أن يعودوا أدراجهم إلى وطنهم. كما أنهم لم يخرجوا من أجل الصيد، فلم يصطادوا شيئًا سوى عدد قليل من الدجاج الحبشي يكفي للطعام. وتمنَّى تروث لو لم يكن غير مهتم بالطبيعة، أو أن يكون ثمة شخص معه ليخبره عن الحيوانات والطيور. كان بريئًا لدرجة أنك من المستحيل أن تكون قد التقيت موظف مصرف في عطلة أكثر منه براءة. أما الفتاتان فقد أدَّتَا دورهما بشكل جيد، رغم أني لم أصدق أنهما كانتا تستمتعان بالرحلة حقيقة. ولم يقل ألبينوس الكثير، ولكنه كان مهتمًّا جدًّا بتقديم المشروبات لنا.
سألتهم عمَّا إذا كانوا يحتاجون أي شيء منَّا، ولكنهم قالوا إنهم على خير ما يرام. وقالوا إنهم ذاهبون لرؤية مكان يُدعى وادي بينتو الذي قيل لهم إنه مكان لمشاهدة المناظر الطبيعية أفضل من ماتوبوس، ومن ثم سيكون عليهم أن يعودوا أدراجهم. بدا من الغريب أن رجلًا له ماضٍ مثل تروث قد يُمتع نفسه بمثل هذه الطريقة البسيطة، ولم يكن ألبينوس يتمتع بأي تذوق فطري لبساطة الطبيعة، أو النساء اللاتي يفْرِطن في استخدام مساحيق التجميل. ولكنهم واصلوا أداء أدوارهم ببراعة، وكانت كلمات تروث الأخيرة التي وجهها إليَّ هي أنه يتمنَّى لو كان أصغر سنًّا بعشرين عامًا وعاش حياةً مثل حياتي. قالها كما لو كان يعنيها.
عندما عدنا لركوب خيولنا، قال لومبارد إنه يعتقد أنهم كانوا حريصِين على إظهار أنفسهم كمبتدئين وعديمي الخبرة أكثر مما هم عليه في الحقيقة. فقال: «لقد لمحت أسلحتهم، ولم تكن بنادق الرش هي أسلحتهم الوحيدة. أقسم لك أن معهم بنادق حقيقية؛ بندقية ماوزر واحدة على الأقل، وما بدا لي بندقية سريعة الطلقات.»
أومأت برأسي.
وقلت: «رأيتها أنا أيضًا. هل لاحظت الفتية الذين بصحبتهم؟ لا بد أنهم استأجروا اثنين منهما من سالزبري، ولكن كان ثمة رجل نصف برتغالي أعتقد أني رأيته من قبل، ولم يكن يرغب في أن أراه. فقد اختبأ خلف شجرة عندما رآني. كان آركول محقًّا في مراقبته لهذه المجموعة. لا يعني ذلك أني أدرك مدى الضرر الذي يمكنهم التسبب فيه. إن هذا الجزء من العالم لا يمكنه أن يقدم الكثير لمحامٍ مشبوه من لندن ولمحتال أمريكي.»
بعد ثلاثة أيام، وصلنا إلى وادي ماكابان وكنت قد بدأت مزاولة مهام وظيفتي المتعلقة بالتحقق من صحة تقارير منقبينا في أرض مكونة من رءوس صخرية صغيرة تقع على حافة الجرف العظيم مباشرة. كان بصحبتِي رجل هجين من مقاطعة كيب يُدعَى هندريك، وكان ذراعي الأيمن الذي يعتني بفريقِي بأكمله. لم يكن ثمة شيء لا يمكنه فعله؛ من صيد، أو قيادة عربات، أو علاج خيول، أو أي عمل قد يطرأ فجأة؛ كان شابًّا رائعًا ويمتلك فريقًا من البغال أيضًا، وكان أفضل طاهٍ في أفريقيا. كان لدينا أربعة خدم، من بينهم ماشوناس الذي استخدمته في مهمة سابقة. قضى لومبارد وقته في الصيد، وبما أننا كنا في بلد لا يمكن أن تضل طريقك فيه — إذا كان معك بوصلة — تركته يخرج وحده. ولكنه لم يصطد سوى بضعة ظباء وثَّابة صخور وظبي شجيرات واحد، ولكنها كانت منطقة تعج بالطرائد، فظل يأمل في أن يصطاد أحد ظباء الكودو.
ذات مساء بينما كنا نتناول العشاء بجوار المدفأة، رفعت بصري لأجد بيتر بينار واقفًا بجواري. لم يكن بيتر الذي عهدته أثناء الحرب، بل كان بيتر يصغره بعشر سنوات، فلم يكن ثمة شيب في لحيته، وكان ممشوق القوام ونحيلًا كرياضي أولمبي. ولكنه كان يملك نفس الوجه اللطيف، ونفس العينَين العطوفتَين الناعستَين اللتَين تتذكرهما، ونفس ذلك الهدوء العجيب. لم يكن ظهور بيتر يُصدر ضوضاء تعلو عن تحول الليل إلى نهار.
كان آخر ما وصلني عنه من أخبار أنه في صحراء كالاهاري، وكان هذا سببًا جيدًا لأن أتوقع وجوده على الجانب الآخر من أفريقيا. أكل بيتر كل الطعام الذي أعطيناه إياه، وشرب زجاجتين من البيرة، وكانت هذه عادته، فقد كان يختزن الطعام مثل الإبل، فلم يكن يعلم أبدًا متى سيأكل أو يشرب مرة أخرى. ثم كدس التبغ في غليون ذي وعاء عميق يحمل شعار نبالة قديم من مقاطعة ترانسفال حفره ابن عمه من أجله عندما كان أسير حرب في جزيرة سيلان. انتظرت منه أن يبوح بسبب حضوره، فقد كنت متأكدًا تقريبًا من أن هذا اللقاء لم يكن محض صدفة.
قال بيتر: «لقد هرعت للعثور عليك يا ديك، فأنا أعتقد أن ثمة أعمالًا مشبوهة ستحدث في وادي ماكابان.»
قلت: «من المؤكد أن يكون ثمة عمل مشبوه حيث تحل أنت يا نذير الشؤم العجوز. وما هو العمل المشبوه هذه المرة؟»
«لا أعرف ماذا سيكون، ولكني أعتقد أني أعرف مَن سيفعله. إنهم أصدقاؤك يا ديك، أصدقاء سيئون جدًّا.»
فقلت له: «مهلًا! هل أرسلك آركول؟ هل تراقب السياح الذين التقيناهم على الطريق الأسبوع الماضي؟»
«نعم! لقد أرسلني الضابط جيم. وقال لي: «بيتر، هلا راقبت رجلَين وامرأتين يقضون عطلة قصيرة؟» ولكنه لم يخبرني بأكثر من ذلك، ولم يكن هو يعرف أكثر من ذلك. وربما أصبح يعرف المزيد الآن، فقد أرسلت إليه رسالة. ولكني اكتشفت أمورًا لن يتمكن الضابط جيم من منعها؛ فهي ستحدث في القريب العاجل. لهذا السبب أتيت إليك.»
قلت: «ولكن، هؤلاء السياح الأربعة لن يمكنهم التسبب في أي ضرر. أعرف أن أحد الرجلين محتال، وأعتقد أن الآخر محتال أيضًا، ويصحبهم رجل برتغالي بغيض أكاد أقسم أني رأيته من قبل. إنهم مجرد ثلاثة رجال ومعهم امرأتان تُشكِّلان عائقًا لهم.»
قال بيتر بجدية: «لقد عادت المرأتان إلى المدينة. وستنتظران هناك في هدوء حتى يعود الآخرون. سيجعلون الأمر برمته يبدو بريئًا، ربما يكون بذيئًا، ولكنه بريء. ولكن الرجال الثلاثة الذين تتحدث عنهم ليسوا الرجال الوحيدين. لقد انضموا إلى رجال آخرين في وقت حديثنا هذا، وأولئك الآخرون مجرمون عتاة. قد تقول، كيف عرفت؟ سأخبرك. أنا أعيش في وادي ماكابان، وسكان الوادي يفعلون ما أطلبه منهم. وقد أتوني بأخبار أكثر موثوقية وسرعة من المعلومات التي يمكن للضابط جيم الحصول عليها. ثمة عمل شرير يتم تحضيره. اسمعني، وسأخبرك.»
خلاصة قصة بيتر أن تروث وألبينوس، بعدما تخلصَا من عبء المرأتين، انطلقا من الجرف العظيم إلى حقل الشجيرات. وكان بيتر يعرف كل شيء عن الرجل البرتغالي، ثالثهم. يُدعى هذا الرجل دوراندو، وعثر بيتر على آثار مشاركاته في الكثير من الأعمال المشبوهة، فقد سجن فترة من الوقت في قضية شراء غير مشروع للماس، وبيع غير مشروع للخمور وهو مطلوب في موزمبيق لارتكابه العديد من الجرائم التي تتراوح ما بين قطع الطريق إلى القتل بدم بارد. يا له من رفيق سفر غريب لسائحَين بريئين يهويان المناظر الطبيعية! عندما وصل الثلاثة إلى السهول انضم إليهم رجلان آخران، أحدهما أسترالي شارك في أعمال البحث عن كنز كروجر، ورجل آخر من حقول الماس يُدعَى سترينجر. اتسعت عيناي عندما سمعت الاسم الأخير، فقد كان جيم سترينجر اسمًا مشئومًا في ذلك الوقت في جنوب أفريقيا. كان نموذجًا «للرجل الشرير»، لا يردعه رادع، وكان واسع الحيلة، وأُشيع عنه أنه بارع في التصويب. وقد كنت أعتقد أنه مسجون لتورطه في عملية سطو كبيرة في جوهانسبرج.
قال بيتر: «لقد خرج من السجن الشهر الماضي، ولا بد أن صديقَيك التقياه عندما انتقلا إلى داخل البلاد ورتبوا للأمر معًا. ما رأيك يا ديك؟ ثمة ثلاثة أوغاد أعرفهم جيدًا، بالإضافة إلى صديقَيك اللذين ليسا من الأخيار. يصحب هؤلاء الرجال أربعة فتيان لا أعرفهم من الشانجان، ولكنهم من قرية ماكيندي، وهي قرية لا تلد إلا أشرارًا. ما الذي يسعون إليه في رأيك؟ إنهم لن يبقوا في السهول. لقد تحركوا بالفعل شمالًا ووصلوا إلى بيرج، وهم يتحركون بسرعة أكثر نحو الشمال. إنهم لا ينقِّبون عن الذهب، كما أنهم لا يصطادون، وهم لا يستمتعون بالمناظر الطبيعية. إلى أين يتجهون؟ يمكنني أن أخبرك بإجابة هذا السؤال؛ فقد اكتشفته قبل أن يلتقوا جيم سترينجر. إن الرجلين الإنجليزيَّين لا يشربان الكحول، وإذا ما شربا، لا يثرثران. إلا أن دوراندو يشرب الكحول ويثرثر. ثمة رجلٌ من وادي ماكابان، وهو صديقي، كان مرشدهم، وسمع دوراندو يتحدث وهو سكران. إنهم يتجهون إلى قرية مافودي. ومن يوجد في قرية مافودي يا ديك؟ وبالطبع، لا يرغبون في رؤية مافودي العجوز ملفوفًا ببطانيته الحمراء ثمة شخصٌ آخر هناك.»
صحت قائلًا: «هارالدسن!»
«نعم! السيد.» لطالما كان بيتر يدعو هارالدسن بلقب السيد، فقد كان يعمل لديه كمرشد وسائق عربة، وأنقذه هارالدسن من أكثر من ورطة وقع فيها. كان بيتر وفيًّا، وإن كان سيتعهد بولائه لأي شخص على وجه الأرض، فسيكون للدنماركي العجوز.
سألته: «ولكن، ما الذي يربطهم بهارالدسن يا تُرى؟»
قال: «لا أعرف، ولكن لا بد أنهم يتجهون إلى هناك من أجل السيد. فكر في الأمر يا ديك. إنه ليس شابًّا، وهو يقيم هناك بمفرده دون أحد سوى جماعته الصغيرة من الباسوتو وذلك الرجل الهولندي مالان، وهو بالمناسبة رجل ماهر ولكنه ليس مقاتلًا، فهو بذراع واحدة. كما أن السيد رجل فاحش الثراء، ويُعتقد أنه يعلم الكثير من الأسرار. ثمة شيء ما يريده هؤلاء الأوغاد منه، ولن يكون أمرًا جيدًا. ربما كان ثأرًا قديمًا. ربما خدع السيد صديقَيك تروث وألبينوس في الماضي. أو ربما كانوا يريدون سرقته، وهم ذاهبون إليه ليجعلوه يفصح عن مكان ثروته. لا يمكن أن يحتفظ السيد بالكثير من المال معه، ولكنهم سيجبرونه على أن يفصح عن مكانه. لا أعرف، ولكني واثق من أمر واحد، أنهم ينوون أن يضعوا أيديهم على السيد — ولن يخرج من تحت أيديهم سليمًا — وربما لن يخرج حيًّا.»
ألجمت قصة بيتر لساني. فكنت أعتقد في البداية أنه يقول كلامًا فارغًا، فقد كنا مجموعة من المتحضرين في روديسيا، وأصبح العنف دربًا من الماضي. ولكن، لم يكن بيتر ليتفوه بشيء ليس واثقًا منه، وكلما زاد تفكيري في الأمر زاد قلقي. فخمسة أشرار في هذا المكان المنعزل يمكنهم أن يفعلوا ما يحلو لهم بهارالدسن ومساعده ذي الذراع الواحدة. تذكرت أن سمعة ذلك الرجل المسن تتعلق بالبحث عن الذهب طوال حياته، وأنه وجده في أماكن كثيرة جدًّا. ماذا قد يكون أكثر ترجيحًا من انفراد مجموعة من المجرمين المتوحشين به وسط الأحراش وإجباره على تسليم المال أو الإفصاح عن مكانه؟
سألته: «ماذا تنوي أن تفعل؟»
قال بيتر: «سأتجه نحو قرية مافودي مباشرةً. وأعتقد أنك ستأتي معي يا ديك.»
لا شك في أني لم أستطع الرفض، ولكني شعرت بأنه يجب أن أتوخى الحذر. ألن يكون من الأفضل أن نستدعي آركول والشرطة؟ لم أكن أستسيغ فكرة العبث منفردين مع أشخاص لا يتورعون عن فعل أي شيء. علاوة على ذلك، هل سنُحدث أي فارق؟ لقد انتهى عصر هارالدسن ومالان كمقاتلين، وسوف يواجه ثلاثتنا خمسة من عتاة الإجرام.
أبطل بيتر جميع اعتراضاتي بأسلوبه الهادئ. كان آركول يبعد عنا بمسافة مائة ميل. وقد أرسلنا إليه رسولًا من المحليين، ولكن من المستحيل أن يتمكن آركول من الوصول إلى قرية مافودي في الوقت المناسب، لأن تروث وعصابته سيكونون هناك بحلول صباح الغد. وبالنسبة إلى كوننا أقل عددًا، كنا خمسة رجال نزهاء في مواجهة خمسة أوغاد، وكان بيتر يعتقد أن جميع الأوغاد ضعاف القلوب. فقال: «قدرتي على إطلاق النار معقولة، وأنت كذلك يا ديك.» ثم التفت إلى لومبارد متسائلًا.
فقال لومبارد: «يمكنني إطلاق النار على أية حال.» كان يبدو عليه الإثارة، فقد كانت هذه مغامرة ساقها إليه حظه الطيب ولم تكن تصل إليها أقصى أمانيه.
كانت النتيجة أننا لن نحظى بأي قسط من الراحة هذه الليلة. أرسلت أحد غلماني برسالة أخرى إلى آركول ذاكرًا فيها تفاصيل أكثر من تلك التي أرسلها إليه بيتر، واقترحت عليه طريقًا ناحية الشمال الغربي خشيت ألا يكون قد فكر فيها. تركت هندريك والبغال وبقية الفريق ليتبعوني لاحقًا، وأتذكر أني ظللت أفكر في الموقف الذي سيجدونه عندما يصلون إلى قرية مافودي. انطلقنا ثلاثتنا على الطريق بعد تمام العاشرة بقليل. وصحبنا غلام بيتر، وكان شابًّا قويًّا من شعب البتشوانا من بلدة خاما.
كنت قد ارتحلت على هذا الطريق عدة مرات من قبل، وكان بيتر يعرفها جيدًا، ولكن لم يكن من الصعب العثور عليها على أية حال، فكانت تشق الأراضي المكشوفة القريبة من حافة الجرف العظيم، وتنحني إلى الداخل فقط لكي تتفادى الرءوس الصخرية الحادة. كان المشهد بأكمله يسبح في ضوء دافئ أرسله القمر الرائع؛ القمر الأفريقي الذي لا يمت بصلة لذلك الشيء الشاحب في الشمال، بل قمر بازغ كالشمس نفسها. وعندما غاب ضوء القمر، كنا نسير على أرض مرتفعة، هضبة مكسوة بالحشائش الطويلة والنباتات الشوكية، وكانت ثمة هوة عظيمة صنعها المرج الأقل ارتفاعًا من الهضبة بدت لنا وكأنها خليجًا من الظلام يقع عن يميننا. كان من السهل الاهتداء بهذا الطريق، وعندما حل الفجر بأنواره الذهبية والقرمزية من الشرق، كنا قد اقتربنا من القمم الثلاثة الصغيرة الغريبة التي تقع بينها قرية مافودي.
اتجهنا من فورنا نحو معسكر هارالدسن الذي كان يبعد مسافة نصف ميل من القرية على أحد التلال. كان معسكر تنقيب عاديًّا كنت ستجد العشرات مثله في روديسيا في تلك الفترة، ولكنه كان مُنشأً بطريقة أكثر احترافية من أغلبها؛ إذ كان هارالدسن يملك المال المطلوب لفعل كل شيء بالشكل الصحيح. لم أكن أعرف الكثير عن الذهب، إلا أن أكوام الكوارتز التي مررت بها بدت جيدة. كان قد عثر على رأس صخري اعتقَدَ أنه واعد، وانشغل بتتبع مسار العرق المعدني فيه، فدق عمودين طول كل منهما سبعون قدمًا وتفصل بينهما مسافة ربع ميل تقريبًا. ولكني لم أكن منشغلًا بالعمليات التي أجراها هارالدسن، وإنما بهارالدسن نفسه. فقد رآنا غلمانه، وكان هو يقف أمام خيمته في انتظار وصولنا، وبدا مع سقوط ضوء الشمس على شعره الأشعث وكأنه بطريرك.
بينما كانت قهوتنا الصباحية تُعَد، أخبرته بسبب حضورنا، فلم يكن ثمة وقت لنضيعه، فقد حسب بيتر أن تروث وعصابته لا يبعدون عنا سوى خمسة أميال تقريبًا، طبقًا للطريق الذي سلكوه. كان وجه هارالدسن متغضنًا جدًّا ولم تختلج أيٌّ من قسماته فلم يكشف الكثير عما يعتمل في صدره، وكانت عيناه الرماديتان ثابتتين. ولكن ذِكر اسم تروث أيقظ حواسه، ولم يبدُ مرتاحًا لسماع اسم ألبينوس. وبَدَا أنه يشعر بالقلق منهما أكثر من بقية المجرمين.
قال بصوته العميق ولكنته الدقيقة، فقد كان يتحدث الإنجليزية دائمًا كما لو أنه تعلَّمها من أحد الكتب العتيقة: «أنا أعرف تروث. إنه محتال كبير وعدوٌّ لي. كان، منذ أمد بعيد، شريكًا لي لفترة قصيرة. إنه لا يحبني، وهو محقٌّ في هذا؛ فقد عملت جاهدًا على سجنه. وها هو يأتي الآن كشبح من الماضي يُضمر شرًّا.» أما بالنسبة إلى ألبينوس، فلم يسَعه إلا أن يقول إن والده كان مُتلبسًا بروح شرير، وأنه لا يعتقد أن هذا الروح الشرير طُرِد من الابن.
كان هارالدسن واثقًا من أن العصابة آتية من أجله، ولكنه لم يوضح السبب. وكان كلُّ ما قال هو: «سيحاولون أن يكسروا شوكتي، وإذا لم أنصَع لأوامرهم سيقتلونني. إلا إذا قتلتهم أنا أولًا.»
حاولت كعادتي أن أقيِّم الموقف بمنطقية. فقلت: «إذا ما وجدونا معك، فلن يجرءوا على فعل أي شيء. قد يلجئون إلى أسلوب الاغتيال في هدوء، ولكنهم لن يرغبوا في خوض معركة.»
ولكنَّ هارالدسن هز رأسه نفيًا. وقال إنه يعرف تروث، وسمع عن ألبينوس. لا بد أنه أذاق هذين الرجلين هزيمةً مريرةً في وقتٍ ما لكي يُضمِرا في نفسَيهما هذه الضغينة القاتلة تجاهه، أو ربما كان يعلم مدى جشعهما واستماتتهما في الحصول على المال. ولكن كانت وجهة نظر بيتر هي أكثر ما أبهرني. فقد سمع عن كل من سترينجر ودوراندو، وكان على يقين أنهما لن يعودا إلى وطنيهما دون غنيمة. كما أنهما لن يفكرا في عواقب فعلتهما هذه، فسيمكنهما أن يختفيا في غياهب أفريقيا.
لم أكن ألجأ إلى القتال أبدًا إلا باعتباره خيارًا أخيرًا، فاقترحت أن يركب هارالدسن أفضل حصان لديه ويهرب بأقصى سرعة، وأن يتركنا نواجه هذا الموقف العصيب، فلم يكن ثمة ما يفيد العصابة في قتلنا أنا أو بيتر أو لومبارد. ولكن هارالدسن لم يوافق على هذا الاقتراح. وقال: «إذا ما فررت، فسيعثرون عليَّ فيما بعد، وسأظل أعيش مهددًا. وهذا ما لا يمكنني احتماله. من الأفضل أن أواجههم هنا وننهي الأمر برمته.»
كان رأيه صائبًا، ولكني لم أكن أريد التورط في أي معركة بطولية. فسألته عما إذا كان أيٌّ من غلمانه ذا نفع. فقال: «لا أحد منهم. جميعهم من قبيلة الماشونا، وهم جبناء كالأرانب. كما أني لا أريد أن يتعرض أيٌّ منهم لأذى.»
سألته: «ماذا عن رجال مافودي؟»
وجاء الرد من بيتر. وقال: «مافودي سكران طوال الوقت، كما أنه بلغ من العمر عتيًّا. كانت عشيرته من المقاتلين في الماضي، ولكنهم لا يملكون أي بنادق حاليًّا. إنهم لن يقاتلوا.»
«حسنًا إذن، إن الوضع الآن هو خمسة منا — وأحدنا معاق — في مقابل خمسة منهم.»
ولكن الوضع كان أسوأ من ذلك، فقد كان مالان يعاني من حُمَّى شديدة ولن يكون قادرًا على القتال. كما أن ذخيرة هارالدسن نفدت وأرسل أحد غلمانه ليحضر مخزونًا جديدًا منها، وكانت بنادقه من نوع مانليتشر وبنادقنا من نوع ماوزر، فلم يكن بيدنا شيء نساعده به. وبدا لي أنه من الأفضل أن نتراجع عن هذه المواجهة، ولكن بيتر لم يفقد تفاؤله. فقال: «لنضع خطة»، كانت هذه إحدى عباراته العظيمة، وهرش طرف أذنه اليسرى برفق، ما كان يدل دائمًا على أن عقله يعمل بأقصى طاقته.
ثم قال أخيرًا: «إليكم خطتي. علينا أن نعثر على مكان حيث يمكننا الدفاع عن أنفسنا. سيصل الضابط آركول قبل حلول الظلام أو ربما الليلة، أو غدًا على أقصى تقدير. ولن يمكننا أن نواجه هؤلاء الأوغاد مواجهة عادلة في أرض مفتوحة، ولكننا، إذا ما تحصنا بحصن قوي، سوف نتمكن من صدهم اثنتي عشرة ساعة، وربما أكثر.»
سألته: «وأين هو حصنك؟» وبينما كنت أنظر حولي لهذا المكان المفتوح المشمس، مجموعة الرءوس الصخرية الصغيرة التي تتوسطها حقول قرية مافودي، لم أرَ أي مكان يصلح لأن يكون ذلك الملاذ الذي نريد الاحتماء به. كان المكان بأكمله مفتوحًا وعاريًا، ولم يكن لدينا ما يكفي من وقت لحفر خنادق أو وضعِ متاريس.
قال بيتر مستخدمًا كلمة من لغة الماشونا: «هذا هو تل الفهد الأزرق. إنه يعلو القرية؛ يمكنك أن ترى جزءًا منه خلف ذلك التل. إنه مكان ذو قدسية كبيرة، ولا يذهب إليه سوى القلة بخلاف الكهنة، وهو محاط بسياج من النباتات الشائكة يبلغ ارتفاعه خمسة أقدام بالإضافة إلى سور كبير من الأوتاد. ولا أعرف ماذا يوجد في داخله عدا صخرة سوداء سقطت من السماء. وعلى الشباب الصغار أن ينظروا إلى هذه الصخرة أثناء ختانهم. إذا ما تمكنا من دخول هذا المكان يا ديك، أعتقد أننا قد نسخر من أصدقائك لبعض الوقت … وقت كافٍ لوصول الضابط آركول إلى هنا. ثمة أمرٌ آخر. إذا ما كان المجرمون أقوياء بما يكفي وتمكنوا من اقتحام المكان، فأعتقد أن رجال مافودي سيستشيطون غضبًا. إنهم لا يملكون بنادقَ حقيقة، ولكن الرجال الغاضبين يستطيعون أن يفعلوا الكثير باستخدام العصي الغليظة والفئوس.»
عارضته قائلًا: «ولكنهم لن يسمحوا لنا بالدخول أبدًا.»
«ربما يفعلون. دعني أحاول. لطالما ربطتني علاقة صداقة قوية بقبيلة مافودي.» ومن دون أن ينبس بكلمة أخرى، تركنا وسار في اتجاه القرية.
كنت أشك في نجاح خطته، فقد كنت أدرك جيدًا مدى غيرة المحليين على أماكنهم المقدسة التي طالما سيطر عليها كهنتُهم، خاصة قبيلة الماشونا. ولكني كنت أعلم أن بيتر يحظى بتقديرٍ خاصٍّ من القبائل؛ فهو لم يكن ينعت أيًّا منهم بأنهم زنوج. وانتشر بين الناس أنه كان الرجل الأبيض الوحيد على الإطلاق الذي حضر رقصة التطهير العظيمة لقبيلة أماتولا. كان انتظار عودته عصيبًا؛ فقد تأخر كثيرًا. جعلتُ هارالدسن يجمع حاجياته القيمة، وأعددنا محفة من أجل مالان، الذي وصل إلى تلك المرحلة من الحُمَّى عندما لا يكون المرء مدركًا لما يحدث من حوله. ولم أرفع ناظِريَّ عن ذلك الركن من الرأس الصخري الذي من المتوقع أن يظهر من ورائه تروث وعصابته في أية لحظة.
ولكنهم لم يأتوا، وكان بيتر هو من أتى أخيرًا. نجح بيتر في إقناع شيوخ القبيلة بأن يسمحوا لنا بدخول الساحة المُسوَّرة المقدسة. لم يخبرني بالحجج التي استخدمها في إقناعهم، فلم يكن هذا أسلوبه، فكان يقدِّم النتائج للناس ويدعهم يخمنون الطرق التي اتبعها في تحقيقها. حزمنا أشياءنا في سرعة خارقة، فلم يكن ثمة وقت لنضيعه، ووضعنا مالان في محفته، وأخبرنا غلمان هارالدسن بأن يأخذوا الخيول إلى أعلى الجبل وأن يتواروا عن الأعين حتى نرسل في طلبهم. وفي القرية، في المساحة المفتوحة التي تقع في مركزها، استقبلنا أغلب قبيلة مافودي، وكانوا جميعًا صامتين كالموتى، وهو أمر غير معتاد بين السود. وصُب الماء فوق رءوسنا — الطقس الذي دعته الكتب بطقس التطهير — ووُضعت لطخات صغيرة من الدهان الأخضر على جباهنا. ولم يُسمَح لغلام بيتر من قبيلة البتشوانا بأن يصحب مجموعتنا، فقط الرجال البيض هم من سُمِح لهم بالدخول. ثم قادونا صامتين عبر طريق ضيق تحده الشجيرات من الجانبين ويؤدي إلى أعلى تل الفهد الأزرق، وعندما وصلنا إلى قمته سمعنا المحليين يقولون «أوتش» في صوتٍ واحد، وسمعناهم يصدرون صوتًا كما لو كانوا يتنهدون. كانت ثمة بوابة تشبه بوابات الماشية في السور المحيط بالمكان المقدس، وفتحها الكاهن بهدوء وتؤدة كما لو كان يؤدي طقسًا دينيًّا، وعبرها أربعتنا ومالان على محفته إلى داخل المكان المقدس.
بدا لنا المكان للوهلة الأولى وكأننا عثرنا على ملاذ. كان التل بعلو مائة قدم تقريبًا، وكان أغلبه مغطًّى بشجيرات كثيفة ما عدا قمته المخروطية العارية التي تستقر عليها الصخرة المقدسة. وكانت الشجيرات في أغلبها شوكية يصعب اختراقها، ولكنها كانت تحتوي على عشرات المسارات الصغيرة المختلطة والمتشابكة التي أصبحت أسطحها ملساء مثل الحصى بفعل عصور من الطقوس. فكان من بين خطوات طقس الختان ممارسة لعبة غميضة مثيرة للجنون في هذه المتاهة. وحول قاعدة التل، كما قلت سابقًا، كان ثمة سياج نباتي سميك قد يحتاج إلى كتيبة لفتح ثغرة به. كانت نقطة الضعف الوحيدة هي البوابة، وفكرت أنه في حالة تعرضها للهجوم، يمكن لاثنين منَّا أن يحمياها، فستكون مهمة الرجال الذين سيحاولون اختراقها صعبة في مواجهة البنادق المخفية. وفكرت أنه يمكننا أن نحميها — على أي حال — حتى يصل آركول. وفي الواقع، كنت آمل أن تروث وعصابته قد لا يتمكنون من اكتشاف مكاننا من الأساس. فقد يعثرون على معسكر هارالدسن خاليًا ويستنتجون أنه قد انتقل إلى مكان آخر.
وكانت جميع توقعاتي خاطئة. فبادئ ذي بدء، وصل أعداؤنا إلى حافة الوادي في الوقت المناسب ليروا تحركات قبيلة مافودي أثناء تحركهم نحو التل الصغير، وإذا لم يخمنوا ما حدث حينئذٍ، فقد أدركوا الأمر برمته عندما وصلوا إلى معسكر هارالدسن. فلم ينتشر غلمان هارالدسن في الغابات بالسرعة الكافية. فأمسكوا بأحدهم، وبما أنهم كانوا يتوقون لتحقيق غايتهم ولم يتبعوا أساليب مراعية في استجوابه، فسرعان ما أخبرهم المسكين بما عرفه أو خمنه. وكانت النتيجة أنه بعد نصف ساعة من عبورنا السور، كان الآخرون يحوِّلون قرية مافودي جحيمًا. عثرت على مخبأ أعلى التل مكنني من استطلاع الأراضي المحيطة، ورأيت أن عصابة تروث أكبر مما توقعت. وتمكنت من تحديد تروث وألبينوس، فلم تكن ملابسهما الأنيقة مناسبة لهذا الموقف على الإطلاق، وكذلك لجسم دوراندو النحيل، وساقي جيم سترينجر الطويلتين. كانوا قد تركوا أتباعهم المحليين خلفهم، ولكن كان معهم أربعة رجال بيض آخرين لم يعجبني مظهرهم. كانوا ثمانية وكنا أربعة، أي إن الاحتمالات تصب في صالحهم بنسبة اثنين إلى واحد. دعوت بيتر ليصعد إلى جواري، وفحصت عيناه — الحادتان مثل عينَي العُقاب — التعزيزات. وتمكن من تمييز الرجل الأسترالي ورجل آخر قال إنه من ليدنبرج ثم بصق بعدما ذكر اسمه. ثم قال بهدوء: «أعتقد أنه يجب علينا أن نقاتل يا ديك. إن جشع هؤلاء الرجال قويٌّ لدرجة أنه سيجعلهم شجعانًا. كما أني أعلم أن دوراندو وسترينجر سيئَين، ولكنهما ليسَا جبانَين.»
كنت أعتقد مثلما يعتقد بيتر، فبدأت على الفور في استعداداتي للمعركة، فقد تعلمت القليل عن الجندية خلال الحرب الماضية. أخفيت هارالدسن بعيدًا عن الأعين، فقد كانت حياته هي الأغلى ضمن مجموعتنا، كما أني كنت أريد أن نتظاهر بأننا لا نعرف شيئًا عنه. ووضعت بيتر، الذي كان أبرعنا في الرماية، خلف صخرة حيث يحظى برؤية جيدة للطرق المؤدية إلينا. وأخبرته بألا يطلق النار إلا إذا حاولوا اقتحام البوابة، وأن يحاول تعجيزهم قدر إمكانه لا قتلهم، فلم أكن أريد إراقة الدماء، والدخول في استجوابات رسمية، وأن تُكتَب عنا مقالات في الصحف، فسيضرنا هذا كثيرًا أنا وهارالدسن. تمركزت ولومبارد في موقعينا بالقرب من البوابة، وكانت عبارة عن جذعَي شجرة ضخمَين بينهما أغصان قوية شُدت أفقيًّا وربطت فيما بينها بنسيج نباتي متين. كان كل منَّا يحمل بندقيةً ومسدسًا دوارًا، ولكني كنت أفضِّل لو معي بندقية صيد. وجدت لومبارد يرطن من الانفعال، ولكنه حافَظ على ثبات قسمات وجهه الذي كان شديد الشحوب رغم ذلك.
مر الوقت بطيئًا في البداية. ولم يظهر دوراندو وسترينجر على الطريق القادم من القرية إلا بعد منتصف النهار. وكانا قد ربطَا منديلًا على ماسورة بندقية كما لو كان رايةً بيضاء. أمرتهما بالتوقف عندما أصبحا على بعد ست ياردات من البوابة، وسألتهما عما يريدان.
ولكنهما لم يتحدَّثا إلا كذبًا. فقالا إنهما أتَيَا لمقابلة السيد هارالدسن، صديقهما، وأنهما يريدان لقاءه بغرض العمل. وعلِمَا أنه موجود على قمة التل. فهل سيخرج ويصحبهما لتناول الغداء؟ وكانا كريمَين بما يكفي لتشملني دعوتهما.
قلت لهما إنني لا أعرف شيئًا عن السيد هارالدسن، ولكني أعرف الكثير عنهما. واقترحت عليهما خطة أخرى: أن يتركا أسلحتهما حيث يقفان وأن يعبرا السور إلى الداخل ويتناولا الغداء معنا. فشكراني وقالا إنهما يقبلان العرض، وتوجها نحو البوابة، ولكنهما لم يلقيا أسلحتهما، ورأيت انبعاج جيبيهما المحشوين بالمسدسات الدوارة. فصحت: «توقفا. إما أن تلقيا أسلحتكما أو تبقيا حيث أنتما»، وأظهرت ولومبارد مسدسينا وصوبناهما نحوهما.
قال دوراندو بينما تعلو وجهه نظرة بغيضة: «هل هذه طريقة مناسبة للتحدث إلى رجلين نبيلَين؟»
فقلت: «إنها طريقة مناسبة للتحدث إليكما يا صديقيَّ. لقد عرفتكما لفترة طويلة. ألقيا أسلحتكما وادخلا. وإن لم تفعلا، فإني أمهلكما دقيقةً واحدةً لتنصرفا من هنا.»
بدا الحنق على وجه دوراندو، إلا أن سترينجر ابتسم في لامبالاة. كان سترينجر أخطر الرجلين، فقد كان سريعًا في سحب مسدسه ولا يخطئ إصابة هدفه. كان وجهه طويلًا، ولا يحوي فمه الكثير من الأسنان، ما جعل شفتيه مزمومتين. لم أرفع ناظريَّ عنه، وهمست للومبارد ألا يرفع ناظريه عن دوراندو. ولكنهما لم يحاولا اقتحام البوابة، فكل ما فعلاه هو أنْ قالا بضع كلمات فيما بينهما واستدارا وعادا من حيث أتَيَا. وكانت هذه نهاية المواجهة الأولى.
لم يحدث أي شيء آخر طوال فترة العصر. كان الحر خانقًا، ولم يكن ثمة أي ماء على قمة التل، ولم يكن معنا أي سوائل سوى قارورة براندي، فعانينا بشدة من العطش. كان مالان يهذي من الحُمَّى، ونام هارالدسن الذي كان جالسًا في الظل بجواره. لقد مر هارالدسن العجوز بالكثير من المواقف العصيبة في حياته، فلم يَعُد شيء يرهبه. خرجت بعض السحالي الخضراء الصغيرة من جحورها إلى الطرقات لتستمتع بالشمس، وراحت طيور الأرملة تتنقل بين الأشجار، وشق نسرٌ قبيح ضخم السماءَ الزرقاء وحطَّ بالقرب منَّا وظل ينظر نحونا. كانت الأرض بكاملها شديدة السخونة والهدوء، وكانت القرية أسفل التل ساكنة لا يصدر عنها أدنى صوت. لم يكن ثمة أحد ظاهرًا في الساحة بين الأكواخ، لا طفل ولا حتى دجاجة شاردة، وكأننا ننظر إلى مقبرة.
وفجأة صدرت صرخةٌ من داخل أحد الأكواخ، كما لو أن أحدًا يعاني من آلام مبرحة. بدت الصرخة مخيفة جدًّا في ظل هذا الصمت المطبق، فقد بدت وكأنها صرخة طفل، رغم أني أعلم أن أفراد هذه القبيلة يصرخون مثل الأطفال عندما يشعرون بالألم أو الخوف. ورأيت وجه لومبارد يشحب.
وقال بصوتٍ كالنعيق؛ إذ كان فمُه متيبِّسًا من فرط العطش: «ألا يجدر بنا أن نفعل شيئًا؟»
فقلت له: «لا يمكننا فعل شيء. لا أعرف ماذا يفعل هؤلاء الخنازير، ولكن سَيَحِين دورنا قريبًا. أملنا الوحيد هو ألا نتحرك من مكاننا.»
عندما بدأ الغسق، هبط بيتر من موقعه أعلى التل. فمن هذا الموقع العالي كانت لديه رؤية أفضل مما لدينا لما يحدث، وعاد لنا حاملًا أخبارًا.
قال لنا: «الوضع في القرية هادئ. لقد أوى جميع أفراد قبيلة مافودي إلى أكواخهم، فقد قيل لهم إنه سيُطلق عليهم الرصاص إذا ما ظهرت وجوههم. أما الآخرون، فثمة اثنان يحرسان ولم ينم أيٌّ من الباقين. إنهم يهدمون أحد الأكواخ ليحصلوا على القش القديم من سطحه، وأغاروا على حظائر الأبقار حيث يُخزَّن التبن. وبمجرد أن يخيم الظلام، سيصبحون منشغلين جدًّا.»
«يا إلهي!» صِحت بعدما أدركت ما يعنيه ذلك. ثم قلت: «يعني هذا أنهم سيشعلون النار في المكان لإخراجنا منه.»
قال: «نعم. إنهم أذكياء. لن يظهر القمر قبل تمام التاسعة. وسرعان ما سيخيم ليل معتم، ولن يمكننا أن نطلق النار في الظلام. وثمة ثمانية منهم، ونحن أربعة فقط. وفي هذا الوقت من السنة، لا توجد عصارة في الشجيرات الشوكية، ولسوف تحترق مثل مادة سريعة الاشتعال. ولن تعود البوابة مهمة. فسيمكنهم أن يحرقوا السياج من ست نقاط، ولن يمكننا أن نراقبها جميعها. إننا في وضع سيئ يا ديك.»
لم يكن ثمة شك في ذلك. فيما يتعلق بالتجهيز للمعارك، كان هؤلاء المجرمون أبرع منا بكثير، بغض النظر عن تروث وألبينوس اللذين لا أعرف عنهما شيئًا. وإذا كان بيتر محقًّا، فلسوف يتحول ملاذنا الآمن إلى فخ في القريب العاجل. دعوت هارالدسن وعقد أربعتنا اجتماعًا جادًّا. لن يمكننا أن نحتمي بالمكان إذا ما أُحرق، ولن يمكننا الهرب؛ لأنهم سيترصدون بالفجوات التي سيصنعها الحريق في السور، وكذلك بالبوابة.
سألت بيتر: «هل لديك خطة؟»
هز بيتر رأسه نفيًا، فحتى هو قد نفدت حِيَله.
ثم قال في بساطة وظهرت الجدية على قسمات وجهه الهادئ: «لا خيار آخر لدينا إلا أن نثق في الرب. وربما يصل جيم آركول في الوقت المناسب.»
لم يقل هارالدسن أي شيء. ولم يكن يحمل سلاحًا، فمددت له يدي حاملة بندقيتي. ولكنه فضَّل أن يأخذ فأسًا أصرَّ بيتر على إحضارها من المعسكر، ولوح بها في الهواء، فكان أشبه بمقاتل فايكنج عجوز. اعتذرت للومبارد على إقحامه في هذا الموقف العصيب، ولكنه طمأنني وقال لي ألا أقلق. فقد محت تلك الصرخة التي صدرت من القرية أي عصبية أو خوف من نفسه. وتحول تفكيره بالكامل إلى الطريقة التي سيقضي بها على هؤلاء الأشقياء الثمانية القابعين عند قاعدة التل.
اختفى الغسق البنفسجي، الذي لم يستمر طويلًا، من السماء، وخيم الليل على العالم كوشاح أسود سميك. أرسلت لومبارد وبيتر إلى قمة التل حيث يمكنهما أن يحصلا على معلومات مبكرة عما يحدث، فقد كنت أدرك أن ثمة محاولة ستحدث لإحراق السياج في عدة أماكن في الوقت نفسه. بقيت عند البوابة، وأصر هارالدسن على البقاء بجواري لسبب لا يعلمه أحد إلا هو. نقلنا مالان المريض إلى مساحة خالية من الشجيرات، فقد خشيت أن إحراق السياج قد يتسبب في انتشار النيران إلى جميع الشجيرات على التل.
لم يكن الانتظار مريحًا في تلك الساعة العصيبة. لم أرَ أن لدينا أي فرصة للنجاة، إلا إذا حدثت معجزة، وأقصى ما يمكننا أن نأمل فيه هو معركة جيدة وميتة سريعة. قد تسأل عن سبب عدم تفاوضنا مع أعدائنا لكسب بعض الوقت. سأجيبك بأننا كنا على قناعة بأنهم ينوون قتلنا دون رحمة إذا ما سنحت لهم أدنى فرصة ليفعلوا، كانوا ينوون فعل ذلك بهارالدسن على أقل تقدير، ولم نكن لنسمح بذلك. كان هارالدسن نفسه يريد أن ندعه يخرج ويهبط التل ويواجههم بمفرده، ولكني وبيتر أخبرناه بألا يكون أحمق.
حلت الكارثة حين لم أكن أتوقعها، كعادة مثل هذه الأحداث. رأيت فجأة وهجًا أحمرَ يشق عتمةَ الليل، بدا وكأنه على الجانب الآخر من التل. ثم انتشر هذا الوهج، ما كان يعني أن ثمة حرائق أخرى قد أُشعلت. وسمعت صوت طلقة بندقية افترضت أن بيتر من أطلقها، ثم وجدت لومبارد يهبط من على قمة التل متعثرًا حاملًا خبر أن السياج يحترق في أربعة أماكن. تبع ذلك مباشرة اشتعال حريق كبير على بعد خمس ياردات مني تقريبًا، وظهر في اللحظة نفسها أناس عند البوابة. أطلقت النار على أحدهم، فردوا عليَّ بوابل من الطلقات، وشعرت بألم حادٍّ في كتفي اليسرى. ثم رأيت النار تندلع في البوابة بعدما أُشعلت النيران في السياج.
بعد ذلك حدثت فوضى عارمة. رأيت وجهًا قبيحًا بالقرب مني، فأطلقت النار عليه، ورأيت الدماء تتدفق من عينيه. كان هذا هو الرجل من ليدنبرج، فقد عثرنا على جثته لاحقًا. رأيت آخرين يعبرون البوابة، ثم رأيت مشهدًا أسطوريًّا. بدا هارالدسن عملاقًا في ذلك الوهج الأحمر وهو يقفز نحو الأمام ويلوح بفأسه يمينًا ويسارًا صارخًا مثل المجانين. ولا بد أن هذا المشهد أربك المهاجمين، فبدءوا يطلقون النار بغزارة. مرت طلقة عبر أحد جيوب سراويله، ومرت أخرى عبر شعره، ولكن لم تستقر أي طلقة في جسده. ورأيته يقفز عابرًا حطام البوابة المحترقة ويهبط بفأسه على رأس أحدهم. ثم عبر من بينهم واختفى تحت ستار الظلام.
كنت ذاهلًا وثائرًا، واعتقدت أن الأمر لا بد وأنه قد انتهى الآن، ولكن الموقف أخذ فجأة منعطفًا جديدًا. تعالى فوق أصوات الطلقات وأجيج النيران صوت آخر لم أسمعه منذ تمرد ماتابل، صياح السود الأجش العميق في طريقهم إلى الحرب. تصاعَد صياحُهم إلى عنان السماء مثل ريح عظيمة؛ ومن ثَم استعدت رشدي وأدركت ما حدث. لقد نهض رجال مافودي. كانوا مثل الماشية المستأنسة طوال اليوم، إلا أن هذا الاعتداء الوحشي على مكانهم المقدس أيقظ المروءة في نفوسهم. كانوا يشتهرون في الماضي بأنهم قبيلة مقاتلة، وها هي ضراوتهم قد بُعِثت من جديد. كانوا يتجمعون حول السياج مثل النحل ويتعاملون بسرعة مع مهاجمينا. إن السود يرون في الظلام أفضل من البيض، والعِصِيُّ والفئوس سلاحٌ أفضل من البنادق في المعارك التي تدور في الظلام. كما أن أعدادهم كانت غفيرة، حوالي مائة من الهمج الثائرين الذين أعماهم غضبهم من جراء انتهاك مكانهم المقدس.
لم يكن ثمة شيء يمكنني فعله عدا الانضمام إلى بيتر ولومبارد على قمة التل. ولكني لم أجد أيًّا منهما هناك، فقد اتجه كل منهما إلى واحدة من الفجوات المحترقة ليفعل كل ما بإمكانه ليحمي الحصن. في واقع الأمر، لم تتمكَّن النار من حرق السياج بما يكفي لإحداث فتحة به؛ ومن ثَم لم يتمكن أيٌّ من المهاجمين من عبور السياج. فكان الهرج والمرج يحدث بالكامل حول السياج، فقد كان بعض رجال مافودي يحاصرون عصابة تروث وبقيتهم يحاولون إخماد النيران. ولم تكن تلك المهمة الأخيرة بالمهمة السهلة، وبزغ القمر منيرًا المكانَ قبل أن ينتهوا منها. جلست في مكانِي على القمة الجرداء بجوار الصخرة المقدسة أنتظر انتهاء المعركة. فلم يكن ثمة شيء لأفعله. كان بيتر ولومبارد في مكان ما على التل، ولكن كان من المستحيل العثور عليهما في تلك المتاهة المعتمة. سرعان ما خفتت صيحات الرجال المحليين، فأدركت أنهم انتهوا من مهمتهم. فقد أُخمِدت جميع الحرائق عدا واحدة ظلت تستعر. ومن وراء الأفق، بزغ القمر، وعاد النور يغمر العالم من جديد. كنت قد بدأت البحث عن الآخرين عندما سمعت جلجلة سُرُج ووَقْع حوافرَ أنبآني بوصول الشرطي آركول ورجاله أخيرًا.
ألقى آركول القبض على عصبة من الأوغاد؛ خمسة على وجه التحديد، أمسك بهم رجال مافودي. ومات ثلاثة من أفراد العصابة؛ الرجل من ليدنبرج الذي أطلقت عليه النار، وأحد الرجال الجدد والذي شق هارالدسن جمجمته بفأسه، وتروث نفسه، كما لو أنه خَطَا بقدميه نحو مصيره المحتوم. كان بيتر هو من قنص تروث منذ بداية المعركة عندما ظهر أمامه لثانية واحدة في وهج الحريق الأول. وها هو ذا يرقد بملابسه اللندنية الأنيقة التي اخترقتها طلقة بيتر، كلب منزلي بين بنات آوى، ولكنه الأسوأ بين القطيع.
قال ساندي: «قصة شيقة. لقد حكا لي هارالدسن العجوز الكثير عن مغامراته، ولكنه لم يقص عليَّ هذه أبدًا. إن نهايتها سعيدة.»
قلت: «ولكن هذه ليست النهاية. خرج هارالدسن من الحصن إلى كنف رجال مافودي الذين يعرفونه جيدًا، فتعرَّفوا عليه وأبعدوه عن الخطر. ولكن، بمجرد وصول آركول وإمساكه بزمام الأمور، كان لدى الرجل العجوز أمرٌ لينجزه. كان شديدَ الاهتياج عند البوابة، ولكنه بدا الآن «مجنونًا». وقال إن ثمة أمرًا لم يُنجَز بعد، وأصر أن أصحبه وبيتر ولومبارد إلى قمة تل الفهد الأزرق. وهناك، ألقى على مسامعنا خطابًا، وبدا أشبه برجل إسكندنافي عجوز أكثر من أي وقت مضى. قال في خطابه إننا إخوته بالدم وإننا كنا على استعداد للدفاع عنه حتى النهاية. ولكن النهاية لم تحِن بعد، رغم موت تروث ودخول عصابته للسجن عما قريب. فثمة ميراث من الضغائن سيتبعه حتى آخر يوم في حياته، ميراث سيتركه تروث لخلفائه. لذا، كان يريد من ثلاثتنا أن نتعهد بأن نهب لمساعدته حينما يطلب المساعدة أيًّا كان المكان الذي نوجد فيه في هذا العالم. علاوة على ذلك، علينا أن نكون مستعدين لمساعدة ابنه، فقد كان يرى أن هذا الثأر لن ينتهي بوفاته، وأن علينا أن نورث هذا التعهد إلى أبنائنا. وبما أنه لم يكن أحدٌ منَّا متزوجًا، فلم يساورنا الكثير من القلق حيال ذلك.
كان الأمر يبدو كأنه مشهدٌ من إحدى قصصه الملحمية. فهناك كنا نقف فوق الشجيرات التي يغمرها ضوء القمر الفضي القوي على صخور بدت في ذلك الضوء وكأنها ركام ثلجي. تناوَبنا على إمساك يده اليمنى ووضعها على جباهنا، ثم رفعنا أذرعنا اليمنى ورددنا كلمات مجنونة عن الندى والنار والمياه الجارية … يا إلهي، كم أتذكر ذلك كأنه البارحة؛ ذلك العالم الأبيض، ورائحة الشجيرات المحترقة، والألم في كتفي، ولومبارد، الذي تحمل ما لا يطيق، يئن ككلب مذعور!»
قال ساندي: «حسنًا، لقد مات الآن، وتحررت من عهدك معه، فمن غير المرجح أن يزعجك ابنه. يا للأسف! لقد ولَّت أيام الجموح. فقد مات بيتر منذ وقت طويل. وماذا عن ثالثكما؛ لومبارد، أعتقد أن هذا اسمه؟»
قلت: «الغريب في الأمر أني التقيته الخريف الماضي. إنه لم يعد يفكر في أي تعهد بطولي في الوقت الحالي. لقد أصبح رجل أعمال ذا شأن وصار بدينًا أصلع الرأس.»