ملاذ آمن
كانت ماري تقول عادةً إن ليفرلو يُمثِّل لها نهاية العالم. إنه يبعد مسافة ثمانية أميال عن أقرب محطة قطار وعن قرية هانجينجشو الصغيرة، ويوازي الطريق إليه وادٍ ضحل يتوسط مرتفعات مكسوة بالنباتات الخضراء وصولًا إلى حيث تزداد التلال ارتفاعًا، ولن يكشف لك أنك لم تصل إلى أعلى نقطة في الوادي إلا حجم الجدول في الأسفل. ثم يمر الطريق عبر سفحَي تَلَّين شديدَي الانحدار، حيث لا توجد إلا مساحة تكفيه والجدولَ الصغير بمشقة، ثم يلتف الطريق ويمر عبر منطقة دائرية تبلغ مساحتها ميلًا أو ميلين مربعين تحيطها تلال منحدرة مكسوة بمروجٍ خضراء يطل عليها تل لامرلو عاليًا من بعيد. كانت المنطقة الدائرية فناءً لقلعة، وكانت عبارة عن مرج أخضر تتخلله أجزاء من غابة إتريك القديمة وبحيرتين مليئتين بالبوص. يقع المنزل عند تقاطع أربعة طرق محفوفة بأشجار الزان العتيقة، يعود تاريخ إنشاء الحصن إلى القرن الثالث عشر، ويعود تاريخ إنشاء أغلب أجزاء المنزل إلى القرن السادس عشر، ولا شيء أكثر حداثة من ذلك سوى جناح التجديد الذي بناه بروس بارون كينروس. ثمة مروج خضراء وأماكن استمتاع وحديقة مسورة رائعة، ثم تجد نفسك بين المروج مرةً أخرى؛ فالأراضي السبخة تحيط بها مثلما يحيط البحر بالحيد.
كانت الأراضي لمسافة أميال ملكًا لساندي، وظلت متوارثة في عائلته لقرون، وعلى الرغم من امتلاكهم منزلًا آخر: كلينري دين، في فايف، وهو المنزل الذي اشتقوا منه لقب كلانرويدن، بعد تحريف غريب حدث للاسم في القرن الثامن عشر، فإنهم كانوا يتخذون ليفرلو مقرًّا لهم. من جهة قرية هانجينجشو في الجنوب، لا توجد أيُّ منازل سوى بعض مزارع التلال وأكواخ الرعاة. وخلف جدران الوادي التي تضم كل ذلك، توجد مرتفعات خضراء تخفي في داخلها عددًا لا نهائيًّا من الوديان والجداول الصغيرة التي لا يعرف أسماءها سوى قطعان الحيوانات ورعاتها وخريطة سلاح المدفعية ذات مقياس الرسم الكبير. ينتهي الطريق السريع قبل القلعة بمسافة قصيرة، يليه طريق ترابي موازٍ لنهر ليفر الذي يمتد إلى ما لا نهاية، ثم ينحرف في اتجاه الحدود الإنجليزية عبر ممر يُدعَى راكسد ترابل. والمنزل نفسه رائع الجمال لدرجة أن تنحبس أنفاسك عندما يقع بصرك عليه للمرة الأولى، فهو يمثل نموذجًا مثاليًّا لإمكانات المعيشة والجمال على حدٍّ سواء، ولكنه أيضًا مُفعَم بالحركة مثل أعالي البحار ومنعزلٌ مثل مرج أفريقي.
صحبت هارالدسن وبيتر جون من فوسي بالسيارة، في حين استقلت ماري والخادمة والأمتعة وجاك جدستو القطار الذي يمر عبر لندن. كنت معتادًا على أن أصطحب حاجبي جاك معي إلى ليفرلو خلال زياراتي السنوية، فمن جانب كنت أستعين به كحمال أثناء صيد طيور الطيهوج، ومن جانب آخر لأعطيه عطلة في مكان مختلف من العالم. كما أنه يُعد مرشد صيد ومرافقًا رائعًا لبيتر جون. كان جاك إثباتًا حيًّا لخطأ أسطورة أن القروي الإنجليزي غير قادر على التكيف. كان قرويًّا من كوتسولد قلبًا وقالبًا، ولكنه كان يصنع الصداقات أينما حل، وكان يتمتع بموهبة التأقلم مع أي حياة جديدة يتعرف إليها. كان ثمة شيء في ملامحه ينم عن سلامة النية، وجهه المربع وفوداه القصيران اللذان يغزوهما الشيب، وعيناه البنيتان الثابتتان البشوشتان.
خلال الأيام الأولى من شهر يوليو، كان ثمة تجمُّع لأشخاص مبهجين جدًّا في ليفرلو باربارا كلانرويدن، وابنتها ماري، وهارالدسن، وبيتر جون، وأنا. ولكن لم يكن ساندي معنا. فقد أوصلته إلى المطار ليلة لقائنا في منزل لومبارد، ولم أره منذ ذلك الحين. وأعطاني عنوانًا في لندن، ليس ناديًا بل مصرف، أرسلت إليه خطابًا أبلغه فيه بخبر وصولنا إلى ليفرلو، ولكني لم أتلقَّ أيَّ رد منه طوال أيام. كان من المفترض أن يكون في ليفرلو أمام العامة، فقد أعلنت الصحافة خبر وصوله إلى هناك ونيته قضاء ما تبقى من الصيف هناك. كما نشرت جريدة «سكوتسمان» والجرائد المحلية أخبار حضوره مناسبات محلية، مثل عرض هايلاند، وحفل زفاف ابنة أحد جيرانه، والاحتفالية السياسية المقامة في منزل على الجانب الآخر من المقاطعة. ولكني كنت واثقًا من أنه لم يغادر لندن على الإطلاق، وعندما التقيت مدير أعماله مصادفة وسألته عن أية معلومات، وجدت أن الرجل تنتابه نفس شكوكي. قال الرجل: «إذا ما حضر سُمُوُّه إلى الشمال، كنت سألتقيه، فثمة بعض الأمور المهمة في العمل تحتاج إلى تدخله. إن هذه الصحف معتادة على نشر أخبار خاطئة.»
في ظرف أسبوع، سلب المكانُ لُبَّنا لدرجة أننا نسينا فوسي تقريبًا، وشعرنا كأننا نعيش في كنف هذا الوادي الهادئ منذ مولدنا. كان ساعي البريد يصل في وقت متأخر من فترة ما بعد الظهر حاملًا الصحف، ولكني كنت نادرًا ما أفتح أعداد جريدة التايمز المتأخرة، وكنت أجري مراسلاتي القليلة عبر البطاقات البريدية والبرقيات. كان الطقس لا يزال مشمسًا مع رياح خفيفة آتية من الشرق، وكنا نقضي النهار بأكمله تحت أشعة الشمس الساطعة.
رغم أننا لم نرَ أي غرباء، فقد كان ثمة اهتمام دائم بمستعمرتنا الصغيرة نفسها. كان ثمة حارسان، سيم وأوليفر، رجلان طويلا الساقين من القبائل الحدودية عاش أسلافهما في نفس هذا الوادي منذ عصر كينمونت ويلي، وكانا يستخدمان في حديثهما من وقتٍ لآخر عبارات حيوية ومؤثرة جعلتني أفهم كيفية كتابة الأغاني الشعبية العظيمة. كما كان هناك رئيس الرعاة ستودارت — أوكل إليه ساندي مهمة رعاية إحدى مزارعه — وكان رجلًا خشنًا وصعب المراس كجذر شجرة سنديان، وكان يبدو وكأنه ينتمي لعصر أكثر قِدمًا. كان يتمتع بتلك الخطوات الواسعة والبصر الثاقب الذي يميز بني جنسه، وكان حديثه ممتعًا جدًّا بالنسبة إلينا، فقد كشف لنا بصوته الرخيم المرح خفايا عالم الرعاة المبهم بالنسبة إلينا. وبفضل دروسه، تعلمت الكثير عن الأغنام، وكنت أصحبه عندما كان يخرج من أجل «النظر من فوق قمة التل»، ومن ثم تعرفت على جزء كبير من المنطقة الريفية الشاسعة. وما أسعدني كثيرًا أني التقيت بجوردي هاميلتون، جندي المشاة الاسكتلندي الذي كان جندي المراسلة الخاص بي خلال الحرب. كان قد تعرف إلى ساندي خلال مغامرته في أمريكا الجنوبية، وعُين في ليفرلو في وظيفة أشبه «بأمين سر»، خادم يمكنه الوصول إلى كل شيء، وعمله الرئيسي أن يهتم بشئون سيده في حال عدم وجوده، مثلما كان توم بوردي بالنسبة إلى السير والتر سكوت. لم يتغير جوردي كثيرًا، فقد كان جسده القوي الممتلئ ووجهه الأسمر وعيناه الزرقاوان المتجهمتان كما أتذكر تمامًا، ولكن تخلل الشيب شعره الأسود الأشعث فوق أذنيه.
مرت الأيام سريعًا دون أن نشعر بها. تجولنا على التلال راجلين وعلى ظهور الخيول، وتنزهنا عند المسطحات المائية البعيدة. كانت مياه الجداول قليلة والأسماك شحيحة، ولكن أبلى بيتر جون بلاءً حسنًا في البحيرات، وتمكن من صيد سمكة يبلغ وزنها ثلاثة أرطال ذات ليلة من بحيرة المنتزه باستخدام صنارة الصيد بطعم من الذباب الجاف. كنا قبل الشهر الأخير من العام بشهر واحد؛ لذا لم يكن مسموحًا لأنثى الصقر موراج بالذهاب إلى المستنقعات، فبدلًا من ذلك، كان بيتر جون يسلي نفسه بجعلها تطارد الحمام وترعب المتطفلين. أعادت الشهور التي قضيناها في ليفرلو باربارا إلى حالتها الطبيعية، فقد كانت وماري، وصحبتهما من حولهما، سعيدتين، حتى إن غياب ساندي عن المنزل لم يؤثر بها كثيرًا، فلم يكن باستطاعة أحد توقع تصرفاته، وقد يظهر أمامك من العدم في أية لحظة. كان الطقس رائعًا في أرض ربما كانت قطعة من الجنة نفسها خالية تمامًا من المشكلات اليومية التافهة. وعندما فكرت في مشكلتي الخاصة، كان هذا من أجل تذكير نفسي بأننا آمنون تمامًا في الوقت الحالي. كان البائع المتجول الذي يأتي من هانجينجشو والذي يقع منزل ليفرلو في منطقة مبيعاته يتم الإعلان عن قدومه قبله بساعات، وكان لعربات الخباز والجزار مواعيد محددة وسائقون لا يتغيرون، وكان أي غريب يدخل إلى الوادي الصغير يتم استجوابه من جميع سكانه، أما بالنسبة إلى التلال المحيطة بالمنزل، فقد كان الرعاة أشبه بضباط استخبارات لا تفوتهم فائتة. على الرغم من كل ذلك، رأيت أنه من الحكمة أن أخبر الحارسَين وستودارت وجوردي هاميلتون بأن ثمة سببًا خاصًّا لرغبتي في أن يتم إخباري في الوقت المناسب بحضور أي شخص غريب، وكنت أعلم أن الخبر سينتشر انتشار النار في الهشيم.
كنا نعيش جميعًا في سلام، ولكن كان أكثر مَن يبدو عليه السلام من بيننا هو هارالدسن. ربما كان السبب في ذلك هو الهواء القوي، فقد كنا على مسافة أربعمائة ميل في أقصى الشمال، أو ربما الشعور بأن المكان آمن، ولكن لم تعد نظراته خائفة، ولم يعد يجفل من أي صوت مفاجئ، وأصبح قادرًا على التحدث دون أن تتحرك عيناه في كل اتجاه في قلق. بدأ هارالدسن يُقبل على الحياة، ويصحب بيتر جون وجاك في رحلات صيد الأسماك، ويصحب الحارسين وستودارت في جولاتهم، وصحبني أكثر من مرة في نزهات السير الطويلة بين التلال.
لم يكن الاطمئنان وحده هو ما يكتسبه هارالدسن. كان إقبال الرجل على الحياة يصحو من سباته الطويل. وعادت جزيرة الخراف التي يملكها — التي كان يُبعدها عن فكره — لتتربع على قمة أفكاره من جديد بينما يستمتع بممتلكات شخص آخر. كان منزل ليفرلو وطنًا بكل ما تحمله الكلمة من معنًى، لدرجة أن هذا الرجل الذي لا وطن له بدأ يشعر بأنه وطنه. رأيت في عينيه توقًا يتخطَّى مجرد التوق للشعور بالأمان. بينما كنا نتنزَّه معًا، كان يتحدث عن نورلاندز، وأدركت حينئذٍ مدى عمق حبه لها. كان عقله المضطرب يهدأ بفضل استيقاظ ولعه القديم مجددًا. وقفنا ذات مرة في وقت متأخر من ظهيرة أحد الأيام على قمة تل لامر لُو لنتناول مشروبًا ونستمتع بالمنظر الطبيعي، وكان وادي نهر ليفر والمنزل والأراضي المحيطة به يبدون كجواهر رُصِّع بها المشهد بشكل مثالي، وكان الأفق الأزرق الممتد على مرمى البصر نحو الشمال وكل ما يحيط بنا من مناظر عبارة عن عالم من المرتفعات مصبوغة إما بالأخضر الرمادي أو الأرجواني. أخذ هارالدسن نفسًا عميقًا. وقال: «إننا في الفردوس، ولكن ثمة شيء واحد ناقص.» وعندما سألته عما يكون هذا الشيء، أجابني: «البحر.»
ومع ذلك، كان القلق لا يزال يعتريني من آنٍ لآخر. ولم يكن قلَقًا بشأن الوضع الراهن، وإنما بشأن المستقبل. لم أكن أعلم كيف يمكن الهجوم على ملاذنا الآمن، ولكن لم يكن ذلك السلام السحري هو حل المشكلة. فلن يمكننا مواصلة العيش في ليفرلو في هذا الوضع الأشبه بالحصار حتى وإن توفرت كل سبل الراحة. لم أتمكن من تخمين ما يسعى ساندي لتحقيقه فيما عدا أنه يحاول كشف مخططات أعداء هارالدسن، كانت هذه المعلومات ضرورية دون شك، ولكنها لا تعني بالضرورة أننا قد هزمناهم. كل ما كنا نفعله هو تأجيل المواجهة الفعلية. وكانت التعزية الأبرز بالنسبة إليَّ هي أن هارالدسن كان يعود إلى طبيعته بسرعة. فلو كان حاله استمر دون تغيير، كان سيتحول سريعًا من مجرد شخص يسبب لنا الحرج إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في وجوهنا في أي لحظة.
ذات يوم، حدث أمرٌ أيقظ جميع مخاوفي من جديد. كنت قد أخبرت بيتر جون بأن هارالدسن عرضة للخطر، ونبهته لأن يراقب عن كثب وقوع أي حدث مريب أو وجود أي شخص مثير للشك. أصبحت هذه المهمة شغله الشاغل، فقد منحته عملًا أكثر جاذبية بكثير من الساعتَين اللتين من المفترض أن يكرسهما لكتبه كل صباح. كنت أراه يصيخ السمع كلما جاء سيم أو جوردي بخبر جديد. ولكن حتى ذلك اليوم، لم تأتِ مراقبته لهارالدسن بأي نفع.
كان ذلك يوم جز صوف الأغنام في منزل ليفرلو الرئيسي، المزرعة الرئيسية. فأُنزلت قطعان الأغنام من على التلَّين إلى الوادي في الليلة السابقة، وجُمعت في حظائر كبيرة بجوار الجدول. ومن خلفها، كان ثمة زقاق ضيق لا يسمح إلا بمرور اثنين أو ثلاثة من الأغنام في كل مرة إلى حظيرة أصغر حيث اصطفت مقاعد جزازي الصوف. تجمَّع الرجال عند الفجر؛ ستودارت ومساعده راعي الأغنام الشاب الذي يُدعَى نيكسون، ورعاة بقية المزارع في ضيعة ليفرلو الذين قطع الكثير منهم ما يزيد عن عشرة أميال من الأراضي السبخة. كما كان ثمة رعاةٌ من قُرى لانلي بيلد، وكلاترينجشوز، ودرايجرين، وكامهوب الشمالية والجنوبية، ومن تَلَّي لامر، ورجل من أقاصي أراضي ساندي، التل الأخير في قرية كلادن، والذي كانت تصل إليه الخطابات مرةً كل أسبوعين، ولم يرَ جارًا منذ شهور. وكانت ثمة كلاب من كل سن ولون، بدايةً بكلب ستودارت العجوز الذي يُدعى يارو، والذي كان قائدًا لقطيع الكلاب، وصولًا إلى الكلاب النحيلة الرشيقة الشابة من فصيلة كولي، والتي كانت شديدة العدوانية مع الأغراب كما لو كانت صقورًا، ولكنها كانت ماهرة جدًّا في مهامها ومطيعة جدًّا لأي إيماءة تتلقاها من أصحابها. وفي هذا اليوم تحديدًا، لم يكن مطلوبًا من هذه الكلاب شيء؛ إذ كان اليوم عطلة بالنسبة إليها، فغَفَا كل كلب في ظل صاحبه بعدما قضت صباحًا صاخبًا في تحية أبناء جنسها.
حضرنا جميعًا عملية جز الصوف. كان الطقس شديد الحرارة، وكان الهواء داخل الحظيرة مُعبَّأً برائحة الأغنام ورائحة الدهان المستخدم في رسم حرف L كبير على الحيوانات التي جُزَّت. رأيت عددًا كبيرًا من عمليات جز صوف الأغنام خلال حياتي، ولكني لم أرَ أحدًا يجريها أفضل من هؤلاء الحدوديين الذين كانوا يعملون في صمت تام وبسهولة ويسر. ربما كان رعاة الأغنام الأستراليون قادرين على أداء هذه المهمة بسرعة أكبر، ولكنهم لن يتمكنوا من إتمامها بمثل هذه الكفاءة. فلم يتسببوا في جرحٍ أو علامةٍ بالمقص، ووُضع الصوف المجزوز مُكدَّسًا بجوار المقاعد، وأصبحت الأغنامُ التي لم تعد داكنة أو مكفهرة اللون بل بيضاء ناصعة، مقلمة الصوف بشكل متساوٍ كما لو كانت نساءً راقيات بين يدي مصفف شعر محترف. كانت رائحة المكان سيئة بدرجة لم تحتملها النساء لفترة طويلة، ولكن على مسافة عشرين ياردة، كان ثمة مرج ناضر بدأت زهور الخلنج تصبغه باللون القرمزي، إلى جانب الضفة المكسوة بالحصى ومياه الجدول الصافية. انتهى بنا المطاف بالتخييم على تلة صغيرة حيث تمكنا من النظر إلى المشهد من أعلى، وإلى التلال الغارقة في حرارة الجو من حولنا، وإلى السماء الزرقاء من فوقنا التي ينبعث منها صياح صقرين حوامين.
تناولنا غداءنا هناك عندما توقف العمل خلال راحة منتصف اليوم، وهبطت وهارالدسن إلى أسفل التل لندخن بين الرعاة. أُقيمت مأدبة يوم جز الصوف طبقًا للتقاليد القديمة. فكانت البيرة توزع على الجميع، إلا أن الويسكي يُقدم للشيوخ فقط. كانت ثمة صناديق مليئة بفطائر لحم الضأن التي يشتهر خباز قرية هانجينجشو بإعدادها، وسلال مليئة بالكعك المدهون بالزبد وكعك الشوفان وجبن الحليب المنزوع القشدة. كانت الجماعة تضم رجالًا شديدي النهم، ولاحظت أن ذلك الراعي من التل الأخير في قرية كلادن، الذي يَعُد هذه المناسبة حدثًا لا يُنسَى بالنسبة إليه، قد التهم ست فطائر وكمية من الكعك والجبن تكفيني لمدة أسبوع.
عدنا بعد ذلك إلى المنزل، ولكن تخلَّف بيتر جون عنا، فقد قرر أن يصبح مربي أغنام ما جعل الرعاة يثقون به كثيرًا. وبعد الظهر، اصطحبت هارالدسن لزيارة حصن هاردرايدينج الذي يبعد مسافة عشرة أميال عن المنزل، وهو عبارة عن برج حجري مبني فوق جرف صخري مجاور لأحد الجداول. أتذكر تفكيري في أني لم أرَ معنوياته مرتفعة هكذا من قبل، إذ بدا لي أن الصباح الذي قضاه في مشاهدة جز صوف الأغنام ومخالطة هؤلاء القوم المهذبين الطيبين قد أسعداه أيَّما سعادة.
عندما عدنا إلى المنزل قبل موعد العشاء، وجدت بيتر جون في انتظاري وقد ارتسمت على وجهه نظرة واجمة أكثر من المعتاد.
يبدو أن زوَّارًا حضروا عملية جز الصوف عصر اليوم. وكان أحدهم ليتل، منظم المزادات من ليفركيرك. كان يجب توقع حدوث ذلك، فقد كان «لايتل»، كما ينطق القرويون اسمه، رجلًا شهيرًا في المقاطعة، وكان رجلًا قصيرًا أحمر الوجه يملك روح دعابة لا حدَّ لها، وقد اشتهرت دعاباته في قاعة المزاد عبر السهول. ولكنه كان يملك أيضًا لسانًا لاذعًا، وهذا إلى جانب معرفته العميقة بالأغنام ذات الوجه الأسود؛ ما جعله محترمًا في مجتمعه فضلًا عن كونه محبوبًا. وكان يحضر دائمًا عملية جز صوف الأغنام في ليفرلو، وكان صديقًا مقرَّبًا من ستودارت. ولكنه أحضر معه هذه المرة صديقًا لم يره أحد من قبل. ووصفه لي بيتر جون بدقة. رجل متوسط الطول، صغير السن إلى حدٍّ ما، ذو شارب صغير مهذب بعناية كالجنود. كان يرتدي سراويل لركوب الخيل وغطاءً قماشيًّا للساق، وقبعة أنيقة، وكان يحمل في يده عصا رماية بها مقعد قابل للطي. كان اسكتلنديًّا، وكان يتحدث بطلاقة، ولكن ليس بالطريقة المحلية، واعتقد ستودارت أنه ربما جاء من ناحية دومفريس. كان يُدعَى هاركوس، وقدمه ليتل للجميع على أنه تاجر صاعد لن يمر وقت طويل قبل أن يبزغ نجمه، وأنه جاء في عطلة لمشاهدة أسراب الطيور في نهر ليفر. وبدا أنه يعرف الكثير عن أغنام الشفيوت ذات الوجه الأبيض.
قلت لبيتر جون بعدما سمعت قصته: «حسنًا، إنه لا يبدو خطرًا. من الطبيعي أن تجد تاجرًا في يوم جز الصوف، وإن كان ليتل هو من أحضره، فلا بأس به.»
ولكني استنبطت من وجه الصبي أنه ليس راضيًا.
فقال: «لم أرتح لهذا الرجل. فقد كان حديثه ناعمًا جدًّا، وكان يريد أن يعرف معلومات أكثر من اللازم. وقال جوردي هاميلتون إنه «يحاول إخراج ما في داخل الحلزون.» فقد طرح الكثير من الأسئلة عن القاطنين في المنزل، وعما إذا كان اللورد كلانرويدن لا يزال هنا أم لا. ونعت اللورد كلانرويدن بأوصاف جميلة رأى السيد ستودارت أنها مداهنة. واعتقد السيد ستودارت أنه يريد شيئًا منه.»
قلت: «لا شيء مريب في ذلك. هذه عادة التجار. ربما كان يريد شراء صوف المزرعة الرئيسية المجزوز قبل إرساله إلى ليفركيرك. هل هذا هو الأمر الوحيد الذي جعلك تشعر بالشك؟»
قال ببطء: «لا. ثمة أمر آخر. لقد تعامل معي بغرابة. كنت جالسًا خلف قدر الدهان أصنع صافرة عندما سمعت حديثه مع السيد ستودارت والسيد نيكسون كاملًا. رأيت أنه لاحظ وجودي حال وصوله. كان يحاول التظاهر بأنه لا يعرف أننا نقيم في هذا المنزل، وبدت عليه الدهشة عندما أخبره السيد ستودارت بأنك تقيم هنا، وسأله عما إذا كان يعني الجنرال هاناي الذي سمع عنه أثناء الحرب؟ ثم قال فجأة: «ابن السير ريتشارد هنا. أود أن أتعرف إليه»، وكان على السيد ستودارت أن يعرف أحدنا على الآخر. كشف لي هذا التصرف أنه يعرف كل شيء عنا بشكل مسبق، وأنه يعرف أني ابنك.»
أقررتُ — منبهرًا بفطنة بيتر جون: «هذا غريب بالفعل.» سألته عن الحديث الذي دار بينهما، وأخبرني أن الحديث تناول أمورًا عادية؛ ما مدرسته، وما رأيه في اسكتلندا، وماذا يريد أن يصبح عندما يكبر، وأنه ضحك عندما سمع مخططه لتربية الأغنام. قدم ستودارت مشروبًا للضيفَين، وبقيا لساعة ثم انصرفا نحو أسفل التل في سيارة ليتل.
قلت له: إني لا أرى سببًا يدعو للقلق. ولكن بيتر جون كان عنيدًا، ثم أخبرني بما أقلقني بشدة.
فقد قال: «فكرت في أنه يجدر بي فعل شيء ما، فطلبت من السيد سبروت — وهو راعٍ شاب في مزرعة نيثر ليفر ويعيش في مكان قريب جدًّا من قرية هانجينجشو — أن يحاول، عندما يعود إلى منزله، اكتشاف إذا ما حضر السيد هاركوس إلى القرية من قبل. هل تعلم بمَ أخبرني؟ أخبرني بأنه كان هناك لمدة ثلاثة أيام، وأنه أقام مع الآنسة نيوبيجينج في مكتب البريد. وقال إنه طاف بالكثير من المزارع، وإنه اشترى ثورًا قصير القرون من مزرعة وينديوايز حصل على المركز الثاني في عرض هايلاند.»
كانت عبارة «مكتب البريد» هي مصدر قلقي. إنه أفضل مكان قد يختار المرء الإقامة به إذا ما كان ينوي إجراء تحقيقات خاصة. لم يكن ثمة نزل في قرية هانجينجشو، وكان مكتب البريد هو المركز الطبيعي للريف مترامي الأطراف. كما أن الآنسة نيوبيجينج، مديرة مكتب البريد، تشتهر بكونها عجوزًا ثرثارة، وأنها تعيش من أجل جمع الأخبار ونشرها.
قال بيتر جون: «فكرت في أنه من الأفضل أن أطلب من جوردي هاميلتون أن يذهب إلى هناك. (كانت هذه هي المرة الأولى من نوعها التي يتخلى فيها بيتر جون عن عادته بأن يطلق على الجميع لقب «سيد»، فقد كان من المستحيل أن يدعو جوردي بشيء عدا اسمه الأول.) فركب دراجته وانطلق بعد موعد احتساء الشاي. اعتقدت أنه الرجل الأنسب لهذه المهمة، فقد كان صديقًا مقربًا للآنسة نيوبيجينج.»
قلت: «أحسنت. أعطيك درجة جيدة في حسن التصرف حتى الآن. وسأتحدث إلى جوردي في الصباح.»
ارتديت ملابسي من أجل تناول العشاء دون أن يفارقني ذلك الشعور الطفيف بالقلق. وزاد شعوري بالقلق عندما جاء من يخبرني، أثناء احتساء القهوة، بأن جوردي هاميلتون يريد لقائي بصورة عاجلة. وجدته ينتظر في غرفة الأسلحة بوجه محمر كما لو أنه قاد دراجته بسرعة من قرية هانجينجشو في هذه الأمسية الحارة.
قال فور رؤيتي: «الأمر يخص ذلك الرجل هاركوس يا سيدي. بموجب تعليمات تلقيتها من السيد بيتر جون، توجهت إلى قرية هانجينجشو وتحدثت إلى الآنسة نيوبيجينج. كان سبروت يقول الحقيقة. لم يعد هاركوس يقيم معها، فقد رحل مع ليتل، منظم المزادات، في سيارته ومعه حقيبة سفره. ولكنه كان يقيم معها طوال الأيام الثلاثة الماضية، حسنًا يا سيدي، أنا لست مرتاحًا. لم يعجبني هذا الرجل، فهو ليس رجلًا نبيلًا وليس من العامة. والله وحده يعلم ما يدبره.»
واصل جوردي إخباري بتقريره بتلك الطريقة غير المترابطة التي طالما استخدمها جنود المشاة الاسكتلنديون. فقد وجد الآنسة نيوبيجينج بمفردها وتناول بعض الشاي معها في جلسة ودية. قال: «من المريع التحدث إلى تلك المرأة. إن لسانها حاد كالسيف.» كانت مديرة مكتب البريد شديدة الإعجاب بساكنها السابق، ووصفته بأنه «رجل أنيق ولطيف وغريب الأطوار.» وأنه نشأ في جالواي، ولكنه عاش لفترة طويلة في شمال إنجلترا، وأغلب عملائه يوجدون في كارلايل. كما أخبرها بأنه يريد التواصل مع المزارعين في هذه الأنحاء، وقال عنهم إنهم صفوة القبائل الحدودية. قالت الآنسة نيوبيجينج: «لطالما وضع نصب عينيه هذه المنطقة الريفية الجميلة والريفيين المهذبين الذين يعيشون فيها.» وكانت سعيدة بالإجابة عن أسئلته لأنه سينعش التجارة في المنطقة. وعندما سُئلت عما إذا كان يشعر بالفضول تجاه ليفرلو، أجابت بأنه كان كذلك بالفعل، مثلما يشعر الجميع بالفضول تجاه المنزل الكبير. بدا أنه يعرف الكثير عن اللورد كلانرويدن، كما أنه يقدره كثيرًا. «أخبرتُه أنه من المفترض أن يكون سُمُوُّه في المنزل، ولكن لم تقع عليه عيناي طوال أشهر. ولكني قلت له إن هذه هي طبيعته، فسموه يروح ويجيء مثل طيور الواق الأوروبية، رغم أني أفكر في بعض الأحيان أنه يجدر به أن يُولِي اهتمامًا أكبر بزوجته؛ فهي ليست حمولة جدًّا.» ولكن كانت الآنسة نيوبيجينج واثقة من أنها لم تذكر له أسماء القاطنين في منزل ليفرلو حاليًّا. وأضافت قائلةً: «ولكنه ربما قرأ أسماءَهم على الخطابات.»
بالمزيد من التحقيق، اكتشف جوردي أن هاركوس كان ما أطلقت عليه مديرة مكتب البريد «رجل مفيد» في المنزل. فقد كان يساعدها يوميًّا في تصنيف البريد، الوارد والصادر. دائمًا ما كان يلقي النكات على الأول. فكان يقول: «هذه رسالة من المصرف إلى صاندهوب. ربما تتحدث عن الأموال التي سحبها على المكشوف لشراء تلك الحيوانات من كيلسو. وثمة طرد لسُمُوِّها. إنه أكبر من الطرد الذي قد أحصل عليه بعد صفقة مبيعات كبيرة. ولكني أرى اسمَي سيدتَين، الليدي كلانرويدن والليدي هاناي. ثمة الكثير من الألقاب في منطقة نهر ليفر.»
أثارت هذه الكلمات اهتمام جوردي. فسألها عما إذا كان هاركوس مهتمًّا بالخطابات الصادرة. أجابته الآنسة نيوبيجينج: «لقد فعل، تذكرت الآن. كنت أقول له ألا حاجة إلى تصنيف جميع الخطابات الصادرة إلى ليفركيرك. ولكنه كان رجلًا دقيقًا، وكان يملك الكثير من وقت الفراغ، فكان يصنفها في مجموعات كما لو كان يلعب ببطاقات اللعب. وكان يقول: «هذه موجهة إلى إمبرو»، «وهذه إلى غرب البلاد، وهذه الكومة موجهة إلى إنجلترا.» وكان مهتمًّا بشكل خاص بالخطابات الإنجليزية، الواردة مثله من كارلايل.»
وانصرف جوردي، بعدما حصل منها على ما يريد من معلومات، وبعدما بادلها المجاملات. وهو الآن جالس معي قاطبًا حاجبَيه الكَثَّين. وقال: «لقد أخبرتني يا سيدي ألا أفوت شيئًا مهما كان تافهًا، وثمة احتمالية لحدوث أمر مريب هنا. لم يكن هاركوس مهتمًّا بالخطابات التي يرسلها القاطنون في هذا المنزل، بل كان مهتمًّا جدًّا بالأسماء التي يرسل إليها القاطنون هنا الخطابات.»
لقد أصاب كبد الحقيقة، وظننت في البداية أن هذه الملاحظة ليست مهمة. وبعدما انصرف جوردي، تذكرت فجأةً أنه على الرغم من وجودنا في ملاذ آمن، فإن جماعتنا ليست كاملة. كان ثمة شخص واحد متغيب. ليس ساندي؛ فهو قادر على الاعتناء بنفسه جيدًا. بل ابنة هارالدسن، أنَّا.
انطلقت أبحث عن هارالدسن، ولكني اكتشفت أنه خرج مع بيتر جون لصيد أسماك السلمون من بحيرة المنتزه. لم يعودا إلى المنزل حتى قبل السابعة بقليل، وتأملتُ — أثناء دخولهما الردهة من الخارج حيث كانت السماء مضاءة بذلك اللون الأرجواني الذي يميز الليل في ليفرلو خلال الأيام الأولى من شهر يوليو — التحولَ الإعجازي الذي أحدثته الأسابيع القليلة الماضية في مظهر هارالدسن. فقد أصبح يرفع رأسه وينظر في عينيك مباشرة، ويسير كرجل حر. عندما ذهبت إليه كان يضحك كصبي لا يشغله شيء من مظهر بيتر جون عندما ارتدى سراويل تخويض ساندي القصير. وفكرت أن الخطر المحدق بنا يكمن في هذه الثقة المُستعادة.
لطالما حكى لي عن ابنته أنَّا. كانت تقيم في مدرسة داخلية معروفة للفتيات في نورثامبتونشير تُسمى بروتون آشيز، واسم عائلتها في المدرسة هو سميث، الاسم الذي أعطاه لنفسه عندما لجأ إلى إنجلترا. في البداية، كان يذهب لاصطحابها من المدرسة خلال العطلات، ويأخذها إلى منتجعات ساحلية نائية ذات سمعة حسنة. ولكن، مع تفاقم خوفه من الملاحقة، تخلى عن كل ذلك، ولم يذهب لرؤيتها لما يقارب عام كامل. ورتب مع واحدة من المعلِّمات، تعلقت بها ابنته، أن تصحبها إلى خارج المدرسة خلال العطلات على أن يتحمل هارالدسن تكاليف الرحلات الباهظة لكلتَيهما، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنه اتباعها لتعويض ابنته عن غيابه. لطالما كان شديد الحذر فيما يتعلق بالمراسلات، فلم يرسل إليها خطابًا بشكل مباشر أبدًا، بل كان يراسلها عن طريق مصرفه، ولم يغامر بأن يُظهِر وجهه في نطاق عشرين ميلًا من مدرسة بروتون آشيز.
حوَّلت دفة الحديث نحو الفتاة، مع مراعاة ألا أقلقه، فلم أكن أريد أن أفسد فترة نقاهته. تظاهرت بأن بيتر جون يود أن يرسل إليها خطابًا يخبرها فيه عن ليفرلو، وسألته عن كيفية تحقيق ذلك. أخبرني بأن ثمة ثلاثة مصارف للاختيار من بينها، وجميعها لديها التعليمات نفسها.
قلت: «إنها طريقة ملتفة، ولكن يجدر بي أن أقول لك إنك رجل حكيم. هل تلتزم بهذه التعليمات بحذافيرها؟»
«نعم. هكذا أفضل. لن تعلم أبدًا ما قد يحدث … ولتحري الصدق، لقد كسرت هذه القاعدة مرةً واحدة، ولا أنوي كسرها مرةً أخرى. كان هذا يوم الاثنين الماضي. كان عيد ميلاد أنَّا الثالث عشر بالأمس، واختلطت عليَّ التواريخ، فقد أصبحت منشغلًا جدًّا هنا لدرجة إهمالها. ولم أتحمل فكرة ألا تصل إليها أي رسالة مني في ذكرى يوم ميلادها، فأرسلت إليها خطابًا مباشرةً على عنوان مدرسة بروتون آشيز.» كان يبتسم محرجًا مما فعل، ونظر نحوي كما لو كان ينتظر توبيخًا. ثم قال: «لا أعتقد أن ضررًا قد حدث. فهذا المكان بعيد عن أي أحد.»
قلت: «لا بأس بذلك. لا تجعل الأمر يؤرقك، ولكني أعتقد أنه من الحكمة أن تلتزم بقاعدتك. فلنخلد إلى النوم الآن. يا إلهي، إنه منتصف الليل تقريبًا.»
ولكني لم أكن أرى أن الأمر لا بأس به على الإطلاق. إنه لحظ عَثِر أن يتخلى هارالدسن عن حرصه أثناء وجود ذلك الرجل الغامض هاركوس في المنطقة. أخبرت نفسي أن الرجل المذكور أعلاه ربما لم يشك في أمر خطاب مُرسل إلى الآنسة أنَّا سميث في عنوان في الريف الإنجليزي. ولكني لم أقع أبدًا في خطأ التقليل من قدر ذكاء مَن أواجههم. على أية حال، لم أكن لأترك شيئًا للصدفة. فأخرجت جوردي هاميلتون من غرفته أعلى الإسطبلات وأخبرته بأن نداء الواجب قد حان. ثم أرسلت خطابًا إلى ساندي في لندن أخبره فيه بكل ما حدث وجميع شكوكي تجاه هاركوس. وتركت له مهمة تقرير ما إذا كنا سنقدم على أيِّ خطوات لحماية الفتاة. أمرت جوردي بأن يتجه من فوره إلى ليفركيرك التي تبعد عن ليفرلو عشرين ميلًا، وأن يرسل الخطاب من هناك، وقد يلحق البريد المتجه إلى لندن — تقع ليفركيرك على الطريق الرئيسي المتجه جنوبًا — ويصل إلى ساندي مساء اليوم التالي.
ولكني لم أشعر بأن الخطاب يكفي. فكتبت برقية أيضًا إلى ساندي بشفرة بسيطة كنا نستخدمها في الماضي — وكانت برقية طويلة، فكان عليَّ أن أشرح الكيفية التي ربما حصل بها العدو على عنوان الفتاة. بعدما يرسل جوردي الخطاب، سيذهب لينام في فندق «ستيشن»، ثم يستيقظ مبكرًا ليرسل البرقية بمجرد أن يفتح مكتب البريد أبوابه. لم أكن أخشى حدوث أي تجسس في ليفركيرك، فقد كانت مدينة تجارية كبيرة ومزدحمة تحتوي على نصف دزينة من مكاتب البريد.
ثم ذهبت لأنام يرافقني قلقٌ لم أتمكن من إنكاره أمام نفسي. لقد تقوَّض السلام السعيد الذي عشته في ليفرلو. وشعرت بما شعر به ذلك الرجل من رواية «جزيرة الكنز» الذي أخبر بالبقعة السوداء.