نحو الغرب
«أيًّا كان ما تفعله، اتَّجِه غربًا! اتَّجِه غربًا!»
- تعليمات الإبحار إلى كيب هورن.
على مدار سبعة أسابيع، كانت السفينة «ماري روجرز» تُبحر بين ٥٠ درجة جنوبًا في المحيط الأطلنطي و٥٠ درجة جنوبًا في المحيط الهادئ، وهذا معناه أنها ظلَّت تُحاول بقوةٍ طيلة سبعة أسابيع الدوران حول كيب هورن. لسبعة أيام واجهَت إما تحدِّياتٍ صعبة، وإما كانت على وشك التعرُّض لها، وذلك فيما عدا يومًا واحدًا، ثم أعقبَتْه ستة أيام من التحدِّيات القاسية التي استطاعت النجاة منها لاجئةً إلى ساحل تيرا ديل فويجو المهيب، فكادت ترسو في أثناء موجة مُضطربة أنهَتْ حالة الهدوء المُطلَق التي كانت قد حلَّت فجأةً. لسبعة أسابيع ظلَّت تُصارع أمواج كيب هورن العاتية، وفي المُقابل ضربتها الأمواج وحطَّمتها. كانت سفينة خشبية، وقد تسبَّب الضغط المُتواصل عليها في اتساع المسافات بين الألواح الخشبية، لذلك كان طاقم المناوبة يأخذ دورَه على مضخَّات تفريغ المياه بمُعدل مرتَين يوميًّا.
كانت السفينة «ماري روجرز» في حالة إجهاد، مثلما كانت حال طاقم السفينة، وكذلك القبطان الضخم الجثة دان كولن. ربما كان الأكثر إجهادًا بينهم جميعًا؛ إذ إن مسئولية إدارة ذلك الصراع تقع على عاتقه. كان ينام أغلب الوقت بزيِّ العمل، رغم أنه قلَّما كان ينام. كان لا يُفارق سطح السفينة ليلًا، فبدا كأنه شبحٌ ضخم قوي البِنية، ذو بشرة سمراء من أثر سفعات الشمس التي عمل تحتها طيلة ٣٠ عامًا في البحر، وكان مُشْعِرًا مثل إنسان الغاب. وفي المقابل، ثمة خاطرة بشأن العمل كانت لا تُفارقه، وهي الاتجاه بالسفينة إلى كيب هورن: «بصرف النظر عما تفعل، اتَّجِه غربًا! اتَّجِه غربًا!» صار ذلك هوسًا لدَيه. لم يكن يُفكر في شيءٍ آخر، باستثناء أنه كان في بعض الأحيان يلعن الحظ الذي أتى بعاصفةٍ عاتية.
«اتجه غربًا!» اتَّبع الخط الساحلي لكيب هورن، وأوقف السفينة عشرات المرات حينما صار موقع كيب هورن بالنسبة إلى السفينة على بُعد أميالٍ شرقًا نحو الشمال قليلًا أو شمالًا نحو الشمال الشرقي. وفي كل مرة، تُطيح بالقبطان الرياح الغربية إلى الوراء فيتَّجه شرقًا. واجه رياحًا عاصفة، واحدةً تلوَ الأخرى، فانجرف جنوبًا إلى دائرة عرض ٦٤ درجة داخل الكتل الجليدية الطافية في القطب الجنوبي، ونذر روحه الخالدة لقوى الظلام من أجل أن يتَّجِه قليلًا صوب الغرب، وأن تأتيه رياح تُغيِّر مساره. ثم اتجه شرقًا. حاول، في يأسٍ، أن يمرَّ عبر مضيق «لو مير». وفي منتصف الطريق، تحوَّلت الرياح إلى الشمال من الشمال الغربي، وانخفض مقياس الضغط إلى ٢٨٫٨٨، فاستدار وأبحر مع اتجاه العاصفة الإعصارية، وأفلتَ بِقَيد أُنملة قبل أن تصطدم السفينة «ماري روجرز» بالصخور السوداء ذات النتوءات الحادة. وكان قد توجَّه مرتَين غربًا نحو صخور «دييجو راميريز»، ونجا في إحدى المرتَين من بين عاصفتَين ثلجيَّتَين حينما أبصر حطام سفن على بُعد ربع ميل أمامه مباشرة.
يا لها من عاصفة! استند القبطان دان كولين إلى الثلاثين عامًا التي أمضاها في البحر كي يُثبت أنه لم تهبَّ عاصفة بتلك القوة من قبل. إذ أُوقِفت السفينة «ماري روجرز» في الوقت الذي قدم فيه شهادته، وما يؤكد ذلك هو أن السفينة مالت في غضون نصف ساعةٍ حتى وصلت إلى مستوى فتحات سطح السفينة. عُصِف بالشراع الرئيسي الثاني الجديد، وكذلك بشراع العواصف الجديد، كأنهما منديلان ورقيَّان؛ وانحلَّ قيد خمسة أشرعة، كانت مطوية ومُثبَّتة بإحكامٍ بحبلٍ مزدوج، وانتُزعت من عارضة الشراع. وقبل حلول الصباح، أُميلت السفينة مرتَين أُخرَيَين، وأُحدثت ثقوب في حوائل صد الأمواج بها؛ ليُخفف عن أسطحها ضغط مياه المحيط الذي يضغطها إلى أسفل.
كان القبطان دان كولين يَلْمح الشمس بمتوسط مرةٍ في الأسبوع. ذات مرة، سطعت الشمس لمدة ١٠ دقائق في منتصف النهار، ثم ما لبث أن هبَّت بعد ١٠ دقائق عاصفةٌ جديدة، فعَمَد كلا المناوِبَين إلى تقصير الشراع، وغشيت العتمةُ التي فرضتها العاصفة الثلجية العنيفة كل شيء. ولمدة أسبوعَين، لم يكن مع القبطان دان كولين أداة لتحديد خط الطول أو مِقياس للوقت. نادرًا ما كان يعرف موقعه بالتقريب، إلا عندما تكون الأرض في مرمى البصر؛ وحيث ظلَّت الشمس والنجوم مُختفيةً في السماء، وكانت الأجواء قاتمة بشدة إلى درجة أنه، حتى في أفضل الأحوال، لم يكن الأفق صافيًا لرصد ملاحظات دقيقة. واكتسى الكون بظلامٍ كئيب. كانت السحب غائمة؛ والبحار الشاسعة المُضطربة رمادية كئيبة، ولفَّ العالم ظلام دامس. وظلَّت السماء ملبَّدة بالغيوم الكثيفة؛ والبحار الشاسعة المُضطربة تزداد كآبةً؛ حتى طيور القطرس كان لونها رماديًّا، وحتى زخَّات الثلج لم تحتفظ بلونها الأبيض، إنما كانت رمادية تحت سُحب السماء الكئيبة.
كانت الحياة على متن السفينة «ماري روجرز» كئيبة سوداوية. كانت وجوه البحَّارة مائلة إلى الزُّرقة؛ فأصابتهم جروح من العمل في البحر وكذلك الدمامل، وبلغت معاناتهم أشدَّها. كانت هيئاتهم هزيلة. لمدة سبعة أسابيع، سواء في المقصورة الأمامية بالسفينة أو على سطح السفينة، لم يشعروا بإحساس أن يكون رداؤك جافًّا. كانوا قد نسوا معنى النوم خلال المناوبة، وكذلك في جميع المناوبات، «اجمعوا على سطح السفينة!» كانوا يقتنصون لحظاتٍ خاطفة من نومٍ لا راحة فيه، وكانوا ينامون بستراتٍ من المشمع مُتجهزين للاستدعاء الذي لم يكن يتوقف. كانوا في غاية الضعف والإرهاق إلى درجة أن العمل الذي قد يُنجزه طاقم مناوبة واحدة احتاج إلى طاقم مناوبتَين. ولهذا السبب، قضى كِلا الطاقمَين على سطح السفينة كثيرًا من الوقت. ولم يكن لرجلٍ واحدٍ أن يتهرَّب من أداء الواجب. فلا شيء أقل من كسرٍ في الساق قد يُمكِّن رجلًا من التوقُّف عن العمل؛ وكان على متن السفينة اثنان بهذه الحالة، ضربتهما وسحقَتْهما أمواج البحر التي تكسَّرت على متن السفينة.
كان من بين الرجال الهزيلي الهيئة جورج دوريتي. فكان المسافر الوحيد على متن السفينة، وكان صديقًا لصاحب السفينة، فقد اختار أن يقوم برحلةٍ بحرية للاستشفاء. لكن السبعة أسابيع التي مرَّ بها عند كيب هورن لم تُحسِّن صحته. فكان يلهث وتنقطِع أنفاسه وهو في فراشه على مدار الليالي الطويلة المُضطربة؛ وعندما كان يجلس على سطح السفينة، كان يتدثَّر بطبقاتٍ من الملابس ليشعُر بالدفء، فبات أشبَهَ بمتجرٍ مُتنقلٍ للملابس القديمة. في منتصف النهار، بينما يتناول طعامه على المائدة في عتمةٍ حالكة، رغم انبعاث الضوء الدائم من المصابيح المُتأرجحة، بدا شاحبًا مثل الرجل الأشد مرضًا وحزنًا. ولم يكن للنظر عبر المائدة إلى القبطان دان كولين أي تأثير مُبهج عليه. كان القبطان كولين يمضغ طعامه ويتجهَّم ويظل صامتًا. كان عابسًا في وجه الحظ، ومع كل قضمةٍ كان لا يكف عن الخوض في الخاطرة الوحيدة التي تسيطر على كيانه وهي «اتجه غربًا». كان رجلًا فظًّا ضخم البِنية، كثير الشعر، ولم يكن منظره محفزًا لشهية الآخرين. كان يتطلع إلى جورج دوريتي باعتباره رجلًا مشئومًا، وكان يُخبره بذلك في كل مرة عند تناول الطعام، ويحوِّل نظرته المتجهمة من الحظ إلى جورج دوريتي ثم يُعيد الكرَّة من جديد.
لم يساهم معاون القبطان هو الآخر في تحسين شهية دوريتي الضعيفة. ذلك المعاون هو جوشوا هيجينز، كان بحكم الوظيفة بحارًا ذا قوة، لكن قُدرته لم تؤهِّله إلا لمهمة إعداد الطعام، كان شخصًا مزكومًا رخو البِنية، مُتحجر القلب وأنانيًّا وجبانًا وبلا شخصية، ويخشى على حياته من دان كولين، ويهوى التنمُّر على البحارة الذين كانوا يعرفون أن فوق المعاون ثَمَّ القبطان كولين، الآمر الناهي، المُحفِّز الرادع، فهو تجسيد لزمرةٍ من القباطنة المُستبدين. في ذلك الطقس المُضطرب الذي عصف بالقطب الجنوبي للأرض، لم يعُد جوشوا هيجينز يغتسِل. فكان وجهه القذر عادةً ما يسلُب من جورج دوريتي ما تبقى من شهيته القليلة التي تمكَّن من استجماعها. عادةً كان سيسترعي هذا التقصير في نظافته انتباه القبطان كولين ويُثير انتقاده، لكن في الوقت الحالي كان عقل الأخير منشغلًا بالتوجُّه صوب الغرب، متجاهلًا الأمور الأخرى كافة التي لا تساهم في بلوغ غايته. فسواء كان وجه المعاون نظيفًا أم قذرًا، لم يكن لذلك تأثيرٌ في التوجه نحو الغرب. في وقتٍ لاحق، عندما وصل إلى ٥٠ درجة جنوبًا في المحيط الهادئ، غسل جوشوا هيجينز وجهه فجأة. في تلك الأثناء، على المائدة، وقتما تناوب ضوء الشفق الخافت مع ضوء المصباح في أثناء تزويد المصابيح بالوقود، كان جورج دوريتي جالسًا بين رجلَين، أحدهما عدواني والآخر مخادع، فتساءل لماذا خلقهما الله. أما المعاون الثاني، ماثيو تيرنر، فكان بحارًا حقيقيًّا ورجلًا موثوقًا، لكن جورج دوريتي لم يجد عزاءً في رفقته، لأنه كان يأكل بمفرده بعدما يفرغون هم من تناول الطعام.
صبيحة يوم السبت، ٢٤ يوليو، استيقظ جورج دوريتي بنشاطٍ وهِمة. وعلى سطح السفينة، وجد أنها تُبحر مع اتجاه ريحٍ عاصفة قادمة من الجنوب الشرقي. لم يكن قد بُسط سوى الأشرعة السفلية والشراع الأمامي. كان هذا أقصى ما يمكن للسفينة أن تتحمَّله، ومع ذلك جرت بسرعة ١٤ عقدة، حسبما أخبره السيد تيرنر بصوتٍ عالٍ في أُذنه عندما صعد إلى السطح. كانت الرياح تدفعها غربًا. وكانت أخيرًا ستَّتجه حول كيب هورن، لكن إذا استمرت الرياح. بدا السيد تيرنر سعيدًا. شارفت المعاناة على الانتهاء. لكن القبطان كولين لم يبدُ سعيدًا. وعبس في وجه دوريتي في أثناء مروره. لم يرِد القبطان كولين أن يعرفَ الحظُّ عن سعادته بهذه الرياح. كان لديه تصور أن الحظ ماكرٌ، وكان يعتقد في قرارة نفسه أن الحظ إذا عرف أن الرياح مرغوب فيها، فسوف يُوقِفها وسيُرسل ريحًا أشد قوة من الغرب. لذا أراد أن يَستبِق الحظ في هدوء، ويواري فرحته خلف عبوسه ولعناته التي يُغمغم بها، وبذلك يخدع الحظ؛ لأنه كان الشيء الوحيد في الكون الذي يخشاه دان كولين.
طوال نهار السبت وليله، كانت السفينة «ماري روجرز» تجري مسرعةً نحو الغرب. وكانت تسجل باستمرار سرعة ١٤ عقدة، وبذلك، ستكون مع حلول صباح الأحد قد قطعت مسافة ٣٥٠ ميلًا. إذا استمرت الرياح، فإنها ستدور حول كيب هورن. أما إذا سكنت، وجاءت رياح أشد قوة من أي جهة بين الجنوب الغربي والشمال، ستُدفَع السفينة إلى الخلف، ولن تُصبح أفضل مما كانت عليه قبل سبعة أسابيع. وفي صباح الأحد، كانت الرياح آخِذةً في السكون. وانخفضت أمواج البحر الشاسع وأصبح هادئًا. كان طاقما المناوبتَين على سطح السفينة يبسطان شراعًا بعد الآخر بأسرع ما يمكن للسفينة أن تتحمَّله. في تلك اللحظة استعرض القبطان كولين نفسه بجرأة أمام الحظ، وهو يُدخن سيجارًا كبيرًا، ويبتسِم بانتشاء، كما لو كانت الرياح الساكنة أسعدته، في حين أنه كان في قرارة نفسه يثور غضبًا من الحظ لأنه أسكن هذه الرياح المُبشِّرة. «اتجه غربًا!» هكذا سيتَّجِه لو أن الحظ تركه وشأنه. وتعهَّد سرًّا بأن يَنذُر نفسه مرة ثانية لقوى الظلام، إذا سمحت له بالاتجاه غربًا. نذر حياته بكل تلك السهولة لأنه لم يكن يؤمِن بقوى الظلام. لم يكن يؤمن فعليًّا إلا بالله، على الرغم من أنه لم يكن يعرف ذلك. كان يظن أن الإله ملك الظلام. كان القبطان كولين عبدًا للشيطان، لكنه كان يدعو الشيطان باسمٍ آخر، هذا كل ما هنالك.
في منتصف النهار، بعد أن قُرع الجرس ثماني مرات، أمر القبطان كولين بنصب الشراع الملكي. صعد الرجال إلى أعلى بسرعة أكبر مما كانوا عليها في الأسابيع الماضية. لم يكن السبب وراء خفَّة حركتهم هو تقدُّمهم نحو الغرب فحسب، إنما كان السبب أن الشمس السخية كانت تسدل أشعتها وتمنح الدفء لأجسادهم المُتيبسة. كان يقف في مؤخرة السفينة بالقرب من القبطان كولين، جورج دوريتي الذي كان متدثرًا بملابس أقل من المعتاد، مُستمتعًا بالدفء الباعث على الامتنان وهو يراقب المشهد. وبسرعةٍ وعلى نحوٍ مفاجئ وقعت حادثة. سُمِعت صرخة قادمة من عارضة الشراع الملكي الأمامي: «سقط الرجل من السفينة!» شخصٌ ما ألقى طوق النجاة من جانب السفينة، وفي اللحظة نفسها، جاء صوت المعاون الثاني من الخلف، بلهجةٍ آمرة وحاسمة:
«أدِر عجلة القيادة لديك إلى آخِرها!»
لم يُحرك الرجل على عجلة القيادة بَرمَقًا واحدًا. فكان مُدركًا للموقف أفضل منه؛ إذ إن القبطان دان كولين كان يقف بجانبه. أراد المعاون الثاني أن يُحرك برمقًا، حتى تتحرك العجلة بأكملها وتندفع إلى أسفل إلى آخرها من أجل إنقاذ زميله الذي يغرق في البحر. نظر الرجل إلى القبطان دان كولين، لكن دان كولين لم يُعطِه أي إشارة.
صرخ المعاون الثاني، وهو يندفع نحو مؤخرة السفينة: «إلى أسفل! إلى أسفل حتى آخرها!»
لكنه توقَّف عن الاندفاع وإصدار الأوامر، ووقف ثابتًا عندما رأى دان كولين بجانب عجلة القيادة. أما دان كولين فكان يُدخن سيجاره ولم يقل شيئًا. وشُوهد أحد البحَّارة يتجه مسرعًا إلى الخلف. فكان قد أمسك بطوق النجاة وتشبَّث بها. ولم يتفوَّه أحدٌ بكلمة. ولم تصدر حركةٌ عن أيٍّ منهم. تشبَّث الرجال على متن السفينة بعارضة الشراع الملكي وراقبوا بوجوه مذعورة. وظلَّت السفينة «ماري روجرز» تسرع في إبحارها وتتجه نحو الغرب. مرَّت دقيقة طويلة من الصمت.
سأل القبطان كولين: «من ذا الذي غرق!»
أجاب البحار على عجلة القيادة بحماس: «إنه موبس يا سيدي.»
اعتلى موبس موجةً في مؤخرة السفينة، واختفى في لحظةٍ في المُنخفض. كانت موجة عالية، لكنها لم تكن جارفة. كان في مقدور قارب صغير أن يصمد بسهولةٍ في مثل هذا البحر، وفي مثل هذا البحر يمكن للسفينة «ماري روجرز» أن تتوقَّف من دون عناء. لكنها لم تستطع أن تتوقَّف وتُغيِّر مسارها ثم تتَّجِه غربًا في الوقت نفسه.
لأول مرة في حياته كلها، يرى جورج دوريتي مأساة حقيقية عن الحياة والموت، مأساة صغيرة لكن فيها دناءة، حيث كانت كفَّتا الميزان تتأرجحان بين بحَّارٍ غير معروف يُدعى موبس والرجوع بضعة أميال من خط الطول. في البداية كان قد شاهد ذلك البحَّار في الخلف، لكنه الآن يُراقب دان كولين الضخم ذا الشعر الأسود الغزير، المُتحكم الأول والأخير في حياة الناس وموتهم، وهو يدخن سيجاره.
دخن القبطان دان كولين دقيقةً أخرى طويلة صامتة. ثم أزال السيجار من فمه. نظر عاليًا إلى صواري السفينة «ماري روجرز»، وعلى الجانب الآخر على البحر.
صرخ قائلًا: «اسحبوا حبل الشراع الملكي!»
بعد ١٥ دقيقة، جلسوا في الغرفة عند المائدة والطعام أمامهم. على أحد جانبَي جورج دوريتي جلس دان كولين العدواني، في حين جلس المعاون المخادع — جوشوا هيجينز — على الجانب الآخر. لم يتكلم أحد. وعلى سطح السفينة، كان الرجال يسحبون حِبال الأشرعة السماوية. كان في إمكان جورج دوريتي أن يسمع صرخاتهم، بينما ثمة مشهد مُلِح يطارده لرجلٍ اسمه موبس، حي وبصحة جيدة، يتشبَّث بطوق النجاة على بُعد ميل في الخلف في ذلك المحيط الموحش. ألقى نظرة على القبطان كولين، وشعر باشمئزاز؛ إذ إن القبطان كان يتلذَّذ بتناول طعامه، بل كاد يلتهِمه.
قال دوريتي: «أيها القبطان كولين، إن هذه السفينة تحت قيادتك، وليس من حقي أن أُعلق الآن على ما تفعله. لكني أودُّ أن أخبرك بشيءٍ واحد. هناك آخرة، وسيكون مثواك فيها الجحيم.»
لم تظهر أي أمارات عبوس على القبطان كولين. بل شَابَ صوتَه إحساسٌ بالندم حينما قال: «الرياح كانت هوجاء نشطة. لذا كان إنقاذ الرجل أمرًا مستحيلًا.»
صرخ دوريتي بغضب: «لقد سقط من صارية الشراع الملَكي، وأنت حينها كنتَ تبسط تلك الأشرعة. وبعد ١٥ دقيقة كنت تبسط الأشرعة السماوية.»
قال القبطان كولين، متوجهًا إلى المعاون: «كانت الرياح هوجاء، ألم تكن كذلك يا سيد هيجينز؟»
فأجاب المعاون قائلًا: «لو كنتَ رجعتَ بالسفينة إليه، كنتَ ستُرخي حبال الأشرعة والصواري. لقد أصبتَ فيما فعلتَ أيها القبطان كولين. لم يكن أمام الرجل أي احتمالٍ لينجو.»
لم يُجِب جورج دوريتي، ولم يتكلَّم أحد حتى انتهاء الطعام. بعد ذلك، كان الطعام يُحضر إلى دوريتي في غرفته الخاصة. لم يعُد القبطان كولين يتجهَّم في وجهه، لكنهما لم يعودا يتحدَّثان، وظلَّت السفينة ماري روجرز تُبحر سريعًا شمالًا نحو دوائر عرضٍ أكثر دفئًا. في نهاية الأسبوع، حاصر دان كولين دوريتي على سطح السفينة.
سأل دان كولين صراحة: «ماذا ستفعل عندما نصل إلى فريسكو؟»
أجاب دوريتي بهدوء: «سأُصدر مذكرة لإلقاء القبض عليك. وسأتهمك بالقتل، وإني واثقٌ بأني سآراك تُعدَم شنقًا.»
سخر القبطان كولين وهو ينصرف، فقال: «أنت واثق بنفسك بشدة.»
مرَّ الأسبوع الثاني، وفي صباح أحد الأيام، وُجِد جورج دوريتي واقفًا على دَرَج مخزن المعدات في آخر الجزء الأمامي من سطح مؤخرة السفينة الطويلة، وكان يلقي نظرته الأولى حول سطح السفينة. كانت السفينة «ماري روجرز» تُبحر بأقصى سرعتها مع اتجاه الريح العاتية. وكانت كل الأشرعة مرفوعة ومُتمدِّدة، بما في ذلك الأشرعة المُشدَّدة. تجوَّل القبطان كولين على سطح مؤخرة السفينة. لكنه كان يتجوَّل غير مُبالٍ، ويُلقي نظرة على الراكبين من طرف عينَيه. كان دوريتي ينظر في الاتجاه الآخر، ويقف بحيث بدا رأسه وكتفاه خارج الدرج، ولم يظهر سوى رأسه من الخلف. بنظرة سريعة، قيَّم القبطان كولين رافعة الشراع الرئيسي وموضع الرأس وقدَّر المسافة. ثم ألقى نظرةً نحوه. لم يكن يراه أحد. كان جوشوا هيجينز الذي كان يتجوَّل في مؤخرة السفينة ذهابًا وإيابًا، قد أدار ظهره لتوِّه، وكان سيذهب في الاتجاه الآخر. انحنى القبطان كولين فجأة وحلَّ حبل الشراع من وتدِه. فاندفعت بكرة الرفع الثقيلة في الهواء، وهشَّمت رأس دوريتي مثل قشرة بيض، ثم تأرجحت ذهابًا وإيابًا حيث كان الشراع يرفرف في الرياح. استدار جوشوا هيجينز حوله ليرى ما الذي حدث، فلقِيَ من القبطان كولين وابلًا من أفظع الشتائم.
تذمَّر المعاون في اللحظة الأولى لسكون الريح، فقال: «أنا الذي ربطت الحبل بنفسي، وربطته ربطةً إضافية لأتثبَّت. أتذكر ذلك بوضوح.»
ردَّ القبطان بغضبٍ: «ربطتَ؟» حتى يتَّعظ طاقم المناوبة الذي كان يُحاول جاهدًا أن يمسك بالشراع الطائر قبل أن يتمزق إربًا إربًا. «أنت لا تستطيع أن تربط رباط حذائك، أنت خادم عديم الفائدة. إذا كنت ربطتَ ذلك الحبل ربطةً إضافية، فلماذا لم يبقَ مربوطًا؟ هذا ما أريد أن أعرفه. لماذا لم يبقَ مربوطًا؟»
تذمَّر المعاون بكلامٍ مبهم.
فكانت الكلمة الأخيرة للقبطان كولين: «اخرس!»
بعد نصف ساعة، تفاجأ مثله مثل الجميع بجثة جورج دوريتي عند درج السفينة مُلقًى على الأرض. ثم في فترة ما بعد الظهر، تلاعب في السجل وهو مُخْتلٍ بنفسه داخل الغرفة.
فكتب:
«بحَّار عادي اسمه كارل برون، فقدَ حياته حينما انقلب من السفينة، من على عارضة الشراع الملكي الأمامي في أثناء عاصفة هوجاء. كانت السفينة تجري في ذلك الوقت، ومن أجل سلامة السفينة لم نجرؤ على الإبحار عكس اتجاه الرياح. ولا يمكن لقاربٍ أن يصمد في البحر الذي كان مضطربًا.»
وفي صفحةٍ أخرى، كتب:
«كنت قد حذَّرت السيد دوريتي كثيرًا من الخطر الذي يُعرِّض نفسه له بسبب استهتاره على سطح السفينة. قلت له، ذات مرة، إن رأسه سيتهشَّم في يومٍ من الأيام من بكرة الرفع. وكان سبب الحادث هو أنَّ حبل الشراع الرئيسي لم يكن مُحكَم الربط، ذاك أمر مؤسِفٌ للغاية؛ إذ إن السيد دوريتي كان عزيزًا علينا جميعًا.»
راجع القبطان دان كولين بإعجابٍ محاولته الأدبية في الكتابة، ثم جفَّف الحبر، وأغلق السجل. أشعل سيجارًا، وحدَّق إلى المشهد أمامه. شعر بأن السفينة «ماري روجرز» ترتفع، وتميل، ثم ترتفع بقوة، فعرف أنها كانت تبحر بسرعة تسع عُقد. ارتسمت ببطء ابتسامة رضا على وجهه الأسمر المُشعِر. وعلى أي حال، كان قد اتَّجه غربًا ونجح في خداع الحظ.