غياب السيد جلاس
كانت غرف الاستشارات الخاصة بالبروفيسور أوريون هود، الاختصاصي المرموق في علم الجريمة وعددٍ من الاضطرابات الأخلاقية، تُطل على الجبهة البحرية في سكاربرا عَبْر سلسلةٍ من النوافذ ذات الطابع الفرنسي الكبيرة والتي توفر إضاءة جيدة، والتي كان يظهر بحر الشمال منها كجدارٍ خارجي لا نهائي من الرخام الأزرق المُخضَرِّ. في مكان كهذا، كان للبحر شيءٌ من الرتابة التي تجدها في إفريزٍ أزرق مخضَرٍّ؛ إذ قد عمَّ الغُرفَ نفسها تناسُقٌ مريع لا يختلف عما كان البحر عليه من تناسُقٍ. ويجب ألَّا نفترض أنَّ غرف البروفيسور هود كانت تفتقر إلى الرفاهية أو حتى الشاعرية، بل كانت مثلُ هذه الأشياء هناك، في أماكنها، غير أنَّ المرء كان يشعر أنه لم يكن مسموحًا لها بأن تُوجد خارج أماكنها. كانت هناك الرفاهية؛ فعلى طاولةٍ مميزة، رُصَّت ثمانية أو عشرة صناديقَ من أفضل أنواع السيجار، لكنها رُتِّبت وَفق نظامٍ مُحدَّد بحيث يكون الأقوى منها هو الأقرب إلى الجدار دومًا، والأخف هو الأقرب إلى النافذة. وعلى طاولة الرفاهية هذه، وقَفَت أيضًا خزانة مشروباتٍ تحتوي على ثلاثة أنواعٍ من المشروبات الروحية، جميعها من أفخر أنواع الشراب، لكنَّ أصحاب الخيال الخصب كانوا يؤكدون أنَّ الويسكي والبراندي والرُّم بدا أنها كانت تُوجد دومًا في المستوى نفسه. وقد كانت الشاعرية هناك أيضًا؛ ففي الركن الأيسر من الغُرف، اصطفَّت مجموعةٌ كاملة من كتب الأدب الإنجليزي الكلاسيكي، مثلما اصطفَّت في الركن الأيمن العديدُ من الكتب الإنجليزية والأجنبية في علم وظائف الأعضاء. وإذا تَناوَل المرء أحد أعمال تشوسر أو شيلي من ذلك الترتيب، فإنَّ غيابه كان يزعج العقل، وكأنه فجوةٌ في أسنان أحدهم الأمامية. ولا يمكن للمرء أن يزعم أنَّ هذه الكتب لم تكن تُقرأ على الإطلاق؛ فقد كانت تُقرأ على الأرجح، غير أنَّ المرء كان يشعر كما لو أنها سُلسلت بأماكنها، مثل الأناجيل في الكنائس القديمة. كان الدكتور هود يتعامل مع مكتبته الخاصة كما لو كانت مكتبةً عامة. وإذا كان هذا الطابع العلمي الصارم غير الملموس قد غمر حتى الأَرفُف المُحمَّلة بالأشعار الغنائية والشعبية، والطاولاتِ المحمَّلة بالشراب والتبغ، فمن المُسلَّم به أنَّ قدْرًا أكبر من مثل هذه القداسة الغريبة كان يحمي الأَرفُف الأخرى في مكتبة هذا العالِم، وكذلك الطاولات الأخرى التي كانت تحمل أدواتِ الكيمياء أو الميكانيكا الهشة، بل الأشبه بأدواتٍ من عالم الخيال.
رتَّب الدكتور هود مجموعة غُرفه بحيث يحُدُّها — بلغة الجغرافيا التي يَدرُسها الأطفال — من الشرق بحر الشمال، ومن الغرب الصفوف المُتراصَّة لمكتبته الزاخرة بكُتب علم الاجتماع وعلم الجريمة. لقد كان يرتدي مخمل الرسَّامين، دون أن يكون له شيءٌ من تهاوُنهم. وكان شعره قد استشرى فيه اللون الرَّمادي، لكنه كان ينمو على نحوٍ غزير وصحي. وكان وجهه نحيفًا، لكنه كان متوردًا بالدم ومترقبًا. لقد كان كل شيء بشأنه وبشأن غرفته يدُل على الصرامة والاضطراب في الوقت ذاته، مثل ذلك البحر الشمالي العظيم، الذي بنى بيته بجواره (استنادًا إلى مبادئ الصحة العامة وحدها).
لمَّا كان القدَر في حالةٍ مزاجية غريبة، دفع الباب فاتحًا إياه وقدَّم إلى هذه الغرف الطويلة الصارمة المحاطة بالبحر؛ شخصًا ربما كان النقيض الصارخ لها ولصاحبها. واستجابةً لنداءٍ مقتضب من غير أن تنقصه اللياقة، فُتِح الباب إلى الداخل ودخل منه متثاقلًا إلى غرفته رجلٌ ذو جسدٍ ضئيل غير واضح الملامح، وهو الذي قد بدا أنه يجد صعوبة في حمل قُبَّعته ومِظلَّته، كما لو أنهما كانتا كتلةً كبيرة من المتاع. كانت المظلة عبارة عن حزمةٍ سوداء مُهلهَلة لم يعُد من الممكن إصلاحها، وكانت القبعة عريضة ومنحنية وسوداء، وكهنوتية، لكنها لم تكن من النوع الشائع في إنجلترا؛ لقد كان الرجل تجسيدًا لكلِّ ما هو بسيط وبائس.
نظر العالِم إلى القادم الجديد بدهشةٍ مكتومة، لا تختلف عما كان سيُبديه من دهشةٍ إن زحف إلى غرفته وحشٌ بحري ضخم لكن يبدو أنه غير مُؤذٍ. ونظَر القادم الجديد إلى العالِم بدماثةٍ مشرقة لكنها مُجهَدة، تلك التي تتسم بها خادمةٌ سمينة تمكَّنَت للتو من حشر نفسها في حافلةِ ركاب. إنه خليطٌ غني من الرضا الذاتي عن المكانة الاجتماعية والاضطراب الجسدي. سقطَت قُبعته على السجادة، وانزلقَت مِظلَّته الثقيلة بين ركبتَيه وقد صدر عنها صوت ارتطام. لحق بالأولى وتفادى الأخرى، لكنه تحدَّث في الوقت ذاته وعلى وجهه المستدير ابتسامةٌ صافية، وقال:
«اسمي براون. أرجو أن تعذرني. لقد أتيتُ بخصوص أمرِ آلِ ماكناب؛ فقد سمعتُ أنك كثيرًا ما تساعد الناس في حل مثل هذه المشكلات. وأرجو أن تعذرني إن كنتُ مخطئًا.»
بحلول هذا الوقت، كان قد التقط قبعته، وأخذ يضغط عليها بحركاتٍ متقطعة صغيرة، كما لو كان يضع كل شيءٍ في مكانه الصحيح.
أجاب العالِم بأسلوبٍ شديد البرود: «إنني لا أفهمك على الإطلاق. أخشى أن تكون قد أخطأتَ المنزل. أنا الدكتور هود، وعملي كله تقريبًا أدبي وتعليمي. صحيحٌ أنَّ الشرطة قد استشارتني في بعض الأحيان في بعض القضايا ذات الصعوبة والأهمية الخاصة، لكن …»
قاطعه الرجل الضئيل الذي يُدعى براون قائلًا: «حسنًا، إنَّه أمرٌ عظيم الأهمية. إنني أَعجَب أنَّ أمها لا تسمح بخطبتهما.» ثم مال بظهره على كرسيه متلألئًا بالعقلانية.
انعقَد حاجبا الدكتور هود إلى أسفلَ بتجهُّم، لكنَّ العينَين من تحتهما كانتا تلمعان بشيء، قد يكون التعجب أو الغضب، وقال: «ما زلتُ لا أفهمك بوضوح.»
ردَّ صاحب القُبعة الكهنوتية: «حسنًا، إنهما يريدان أن يتزوَّجا. ماجي ماكناب والشاب تودهانتر يريدان أن يتزوجا. ماذا قد يكون أكثرَ أهميةً من هذا؟»
إنَّ الانتصارات العلمية التي حققها العظيم أوريون هود قد حَرمَته من أشياءَ عديدة. قال أحدهم إنها حَرمَته من صحته، وقال آخر إنها حَرمَته من ربه، لكنها لم تسلب حسه العبثي منه تمامًا. وعند الاستجداء الأخير من جانب الكاهن الساذج، انطلقَت ضحكةٌ خافتة من داخله، ورمى نفسه على مقعدٍ بذراعَين، متمثلًا موقف الطبيب الاستشاري بطريقةٍ ساخرة.
تحدَّث بجدية وقال: «سيد براون، لقد مرت أربعة عشر عامًا ونصف منذ آخر مرة طُلب مني فيها حل مشكلةٍ شخصية، وكانت تلك المشكلة حينذاك هي محاولة تسميم الرئيس الفرنسي في المأدُبة المقامة للاحتفال بتنصيبِ عمدة لندن. أما الآن، فهي بحسب ما أفهم، مسألة تتعلق بما إذا كانت صديقة لك تُدعى ماجي خطيبةً مناسبة لصديقٍ لها يُدعى تودهانتر، أم لا. حسنًا يا سيد براون، إنني أتحلى بسعة الصدر، وسأتولى الأمر. سأعطي عائلة ماكناب أفضل نصيحةٍ لديَّ، وستكون نصيحةً بجودة النصيحة نفسها التي قدَّمتُها إلى الجمهورية الفرنسية وملك إنجلترا. كلا، بل ستكون أفضل؛ أفضل بمقدار أربعةَ عشر عامًا؛ فأنا ليس لديَّ شيءٌ آخر أفعله ظهيرة هذا اليوم. هيا أخبِرني بقصتك.»
شكره الكاهن الذي يُدعى براون بدفءٍ لا مراء فيه، لكنه كان ما يزال دفئًا به نوعٌ غريب من البساطة؛ فقد كان يشبه شكره لغريبٍ في إحدى غرف التدخين على جهده في تمرير أعواد الثقاب، أكثر مما كان يشبه شكره (الذي كان يُقدِّمه بالفعل) لقيِّم حديقةِ كيو جاردنز لذهابه معه إلى أحد الحقول للعثور على نبات البرسيم الرباعي الأوراق. وبعد شكره الصادق بلحظات، بدأ الرجل الضئيل في رواية قصته:
«لقد أخبرتكَ أنَّ اسمي براون؛ حسنًا، هذه هي الحقيقة، وأنا كاهن كنيسةٍ كاثوليكية صغيرة يمكنني أن أزعُم أنك قد رأيتَها خلف تلك الشوارع غير المنتظمة، حيث تنتهي المدينة باتجاه الشمال. وفي آخر هذه الشوارع وأشدِّها في عدم الانتظام، الذي يمتد بطول البحر كمصَدٍّ لأمواجه، تعيش واحدةٌ من رعيتي، وهي مخلصة للغاية لكنها حادَّة المزاج، وهي أرملةٌ تُدعى ماكناب. لديها ابنةٌ واحدة، وهي تُؤجِّر بعض الغُرف في منزلها. حسنًا، يمكنني القول إنه يُوجد الكثير مما يُقال فيما بينها وبين ابنتها، وكذلك فيما بينها وبين المستأجرين. في الوقت الحالي، ليس لديها سوى مُستأجرٍ واحد، وهو الشاب تودهانتر، غير أنه قد تسبَّب في قدر من المتاعب أكبر ما سبَّبه غيره من المستأجرين؛ ذلك أنه يرغب في الزواج بسيدة المنزل الشابة.»
سأل الدكتور هود بتندُّرٍ كبير وصامت: «وفيم ترغب سيدة المنزل الشابة؟»
صاح الأب براون بينما كان يعتدل في جلسته بنشاط: «ويحي، إنها تريد أن تتزوَّجه! تلك هي المشكلة المريعة.»
قال الدكتور هود: «إنها ولا شكَّ معضلةٌ شنيعة.»
تابع الكاهن حديثه: «إنَّ هذا الشاب، جيمس تودهانتر، رجلٌ مهذَّب للغاية بحسب ما أعرف، وفيما عدا هذا لا يعرف أحدٌ المزيد. إنه شابٌّ مشرق الوجه، يميل لون بشرته إلى اللون البني، وهو نشيط كقرد، وحليق كممثل، وخدومٌ ودود كأنه أحد أفراد الحاشية الملكية بالفطرة. يبدو أنَّه يمتلك الكثير من المال، لكنَّ أحدًا لا يعرف ما عمله؛ ولهذا، فإنَّ السيدة ماكناب (نظرًا لنزعتها التشاؤمية) على يقين تقريبًا من أنه شيءٌ مريع، وهي تعتقد أن هذا الشيء له علاقة بالديناميت على الأرجح. ولا بد أنَّ هذا الديناميت من نوعٍ هادئ عديم الصوت؛ إذ إنَّ الشاب المسكين يبقى منعزلًا في غرفته لعدة ساعات في اليوم ويدرُس شيئًا خلف بابها المغلق. وهو يقول إنَّ انعزاله مؤقَّتٌ وله سببه، وهو يَعِد بشرحه قبل الزفاف؛ هذا هو كلُّ ما يعرفه أي شخص على وجه اليقين، أمَّا السيدة ماكناب، فسوف تخبرك بأشياءَ أكثر هي متأكدة منها. إنك تدري كيف تنمو الحكايات كالعشب على رقعةٍ من الغموض كهذه. ثَمَّةَ حكاياتٌ عن صوتَين يتحدثان في الغرفة، رغم أنَّه كان يتضح دائمًا أن تودهانتر يمكث وحيدًا بالغرفة كلما فُتح الباب عليه. وثَمَّةَ حكايات عن رجلٍ غامض طويل يرتدي قُبعةً حريرية، ظهر ذات مرة من ضباب البحر، ويبدو أنه قد خرج من البحر، وراح يخطو بخفة عَبْر الحقول الرملية ثم عَبْر الحديقة الخلفية الصغيرة عند الغسَق، إلى أن سُمِع وهو يتحدث إلى المستأجر عند نافذته المفتوحة. وقد بدا أنَّ الحديث قد انتهى بشجار، وحطَّم تودهانتر نافذته بعنف، وذاب الرجل ذو القبعة الطويلة في ضباب البحر مرةً أخرى. إنَّ هذه القصة ترويها عائلةٌ هي الأكثر غموضًا وإلغازًا، غير أنني أعتقد حقًّا أنَّ السيدة ماكناب تُفضِّل قصتها الأصلية، وهي أنَّ ذلك الرجل الآخر (أو أيًّا ما كان) يزحف خارجًا كل ليلة من الصندوق الكبير في الركن، والذي يبقى مغلقًا طوال النهار. أعتقد أنك تدرك الآن كيف أنَّ باب تودهانتر المغلق هذا يُعامل على أنه بوابة جميع الخيالات والمسوخ الموجودة في كتاب «ألف ليلة وليلة». غير أنه لا يزال لدينا هذا الشاب الصغير في سترته الأنيقة السوداء، دقيقًا وبريئًا كساعة الردهة. إنه يدفع إيجاره بانتظامٍ شديد، ويمتنع عن تناوُل الخمور تمامًا، وهو عطوف بلا كلل مع الأطفال الأصغر سنًّا، ويستطيع أن يُسلِّيَهم ليومٍ بأكمله، والأمر الأخير والأهم من ذلك كله، هو أنه قد كسب ودَّ الابنة، وهي مستعدة للذهاب معه إلى الكنيسة غدًا.»
إنَّ رجلًا يهتم بشغفٍ بنظرياتٍ كبيرة دائمًا ما يروق له أن يُطبِّقها على أي أمرٍ بسيط. ونظرًا للبساطة التي لمسها الاختصاصي العظيم في الكاهن، فقد أخذ يتحدث إليه بنبرةٍ متعالية، وبالَغ في ذلك. وقد استقر مستريحًا في مقعده ذي الذراعَين، وبدأ في التحدُّث بنبرة محاضِر غائب الذهن قليلًا:
«حتى في أي شيءٍ بسيط، يظل من الأفضل أن ننظر أولًا إلى النزعات الأساسية في الطبيعة؛ فربما لا تموت زهرةٌ معيَّنة في بداية الشتاء، لكنَّ الزهور تموت. وربما لا يبلِّل المدُّ حصاةً معينة، لكنَّ المد آتٍ. إنَّ العين العلمية ترى التاريخ الإنساني بأكمله سلسلةً من الحركات الجمعية، مثل أحداث الدمار والهجرة؛ مثل مذبحة الذباب في الشتاء أو عودة الطيور في الربيع. والحقيقة الأساسية في التاريخ بأكمله هي العِرق. العِرق ينتج الدين، العرق ينتج الحروب القانونية والأخلاقية. ما من قضيةٍ أقوى من قضية ذلك العرق المتوحش الساذج الهالك الذي ندعوه عمومًا باسم «السلت»، والذي ينتمي إليه أصدقاؤك من عائلة ماكناب. إنهم ضئيلون وداكنو البشرة، وينحدرون من ذلك الأصل الحالم المنساق، ويقبلون التفسيرات الخرافية لأي حادث بسهولة، مثلما يقبلون (واعذرني في القول) التفسيرات الخرافية لجميع الأشياء التي تُمثِّلها أنت وكنيستك؛ فليس من الغريب أن يُضفي هؤلاء الناس — مع أنين البحر من خلفهم وطنين الكنيسة من أمامهم — سماتٍ خيالية على ما هو مجرد أحداثٍ عادية على الأرجح. وأنت، وفقًا لمسئولياتك الأبرشية المحدودة، لا ترى سوى هذه السيدة ماكناب تحديدًا، وهي مرتعبة من هذه الحكاية المحدَّدة عن وجود صوتَين ورجلٍ طويل يخرج من البحر. أمَّا الرجل الذي يتمتع بالخيال العلمي، فيرى الأمر كما لو كانت عشائر ماكناب بأكملها منتشرة في جميع أنحاء العالم، في أكثر شكلٍ موحَّد اعتيادي لها، متشابهة تمامًا كقبيلة من الطيور. إنه يرى آلافًا من السيدة ماكناب في آلاف البيوت، يُسقِطن تلك القَطرة الضئيلة من العِلة في أقداحِ شايِ أصدقائهم، وهو يرى …»
قبل أن يتمكن العالِم من إنهاء جملته، أتى من الخارج صوتُ نداءٍ آخر وأكثر عجلة. كان لشخص يرتدي تنورةً يصدر منها حفيف، وقد دلف هذا الشخص إلى الردهة على عجل، فانفتح الباب وظهرت فتاة، ترتدي ثيابًا جيدة، لكنها مضطربة الحال ووجهها أحمر من الهرولة. كان لها شعرٌ أشقر هبَّت عليه رياح البحر، وكانت ستصبح فائقة الجمال لو أنَّ عظمتَي خدَّيها لم تكونا، على الشكل الاسكتلندي، أكثر بروزًا وأوضح لونًا. وقد جاء اعتذارها مقتضبًا وكأنه أمر.
تحدثت قائلة: «أعتذر عن مقاطعتك يا سيدي، غير أنه كان عليَّ أن أتبع الأب براون في الحال؛ فهي مسألة حياة أو موت.»
بدأ الأب براون في النهوض على قدمَيه ببعض الارتباك، وقال: «ماذا حدث يا ماجي؟»
أجابته الفتاة وهي لا تزال تتنفس بصعوبة من العجلة: «لقد قُتل جيمس؛ هذا كل ما أستطيع أن أتبينه. لقد كان السيد جلاس ذاك معه مرةً أخرى، وقد سمعتُهما يتحدثان بوضوحٍ كافٍ من خلال الباب. الصوتان مختلفان؛ جيمس صوته خفيض مع بعض التمتمة، أمَّا الصوت الآخر، فقد كان عاليًا ومرتعدًا.»
ردَّد الكاهن في شيءٍ من الحَيْرة: «السيد جلاس ذاك؟»
أجابت الفتاة بنفادِ صبرٍ عظيم: «إنني أعرف أنَّ اسمه جلاس. لقد سمعتُه عبر الباب. لقد كانا يتشاجران، بشأن النقود على ما أعتقد؛ فقد سمعت جيمس يقول مرارًا: «هذا صحيح، سيد جلاس» أو «كلا، سيد جلاس» ثُم «اثنان أو ثلاثة، سيد جلاس.» لكننا نتحدث كثيرًا، ولا بد أن تأتي معي فورًا؛ فربما لا يزال هناك وقت.»
سأل الدكتور هود الذي كان يتفرَّس في الفتاة باهتمامٍ واضح: «وقتٌ لماذا؟ ما الذي يستدعي هذه العجلة بخصوص السيد جلاس والمشكلات المتعلقة بنقوده؟»
أجابت الفتاة بإيجاز: «لقد حاولتُ كسر الباب ولم أستطع، ثُم جريتُ إلى الفِناء الخلفي، وتمكَّنتُ من التسلُّق حتى وصلتُ إلى حافة نافذة الغرفة. كانت الرؤية ضبابيةً تمامًا وبدا المكان فارغًا، لكنني أُقسم أنني قد رأيتُ جيمس يستلقي مُكوَّمًا في ركن، كما لو كان مخدَّرًا أو مخنوقًا.»
تحدَّث الأب براون وهو يجمع قُبعته ومِظلَّته الشاردتَين وينهض: «إنَّ هذا خطيرٌ للغاية. لقد كنتُ في واقع الأمر أعرض قضيتكِ على هذا السيد المبجَّل، وكان رأيه …»
تحدَّث العالِم بجدية: «لقد تغيَّر رأيي بدرجةٍ كبيرة. إنني لا أعتقد أنَّ هذه الفتاة تتسم بالكثير من الصفات السلتية مثلما كنت أفترِض. ولأنه ليس لديَّ من شيءٍ آخر أفعله، فسوف أرتدي قُبعتي وأنطلق معكما إلى المدينة.»
في غضونِ بِضعِ دقائق، كان الثلاثة يقتربون من المؤخرة المُوحشة للشارع الذي يقطن فيه آل ماكناب: الفتاةُ ذات الخطوة الحازمة اللاهثة كخطوة متسلِّقي الجبال، واختصاصيُّ علم الجريمة بمشيته المُتسكِّعة (التي لم تكن تخلو من خفَّةٍ كخِفَّة الفهد)، والكاهنُ في هرولته الحماسية التي كانت تخلو تمامًا من أي سمةٍ مميزة. ومظهر هذه الحافة من المدينة لم يكن يخلو تمامًا من تبريرٍ فيما يتصل بملاحظات العالِم عن الأجواء والبيئات المنعزلة. تناثَرتِ المنازل وأخذَت تتباعَد أكثر فأكثر في خطٍّ متعرِّج على امتداد شاطئ البحر، وشارفت فترة ما بعد الظهيرة على الانتهاء وأتى غسَق شبه متوهِّج قبل أوانه، واكتسى البحر بلونٍ أُرجواني داكن وتمتَم منذرًا بالسوء. في الحديقة الخلفية المهملة بمنزل آل ماكناب، التي كانت تمتد حتى الرمال، وقفَت شجرتان سوداوان قاحلتان، مثل يدَي شيطانٍ مرفوعتَين في دهشة، وبينما كانت السيدة ماكناب تجري في الشارع كي تلتقي بهم، وقد مدَّت يدَيها النحيفتَين بالطريقة نفسها وبقي وجهها الحادُّ في الظل؛ فقد كانت هي نفسها تشبه الشيطان بعض الشيء. واستجاب العالِم والكاهن باستجابةٍ ضعيفة لإعادتها الصارخة للقصة التي روَتها ابنتُها، مع المزيد من التفاصيل المزعجة التي أضافتها، وكذلك توعُّدها بالانتقام من السيد جلاس لارتكابه جريمة القتل، ومن السيد تودهانتر لكونه المقتول، أو من الأخير لأنه قد جرؤ على أن يرغب بالزواج من ابنتها، ثم لم يعش ليفعل ذلك. مرُّوا من الممر الضيِّق الموجود أمام المنزل، إلى أن وصلوا إلى باب غرفة المستأجِر في الخلف، وهناك، ببراعةِ محققٍ قديم، دفع الدكتور هود بكتفه لَوحَ الباب، فاتحًا إياه بعنف.
انفتح الباب على مشهدِ كارثةٍ صامتة. لا يمكن لأي شخص يرى الغرفة، أن يشُك ولو للحظةٍ أنها كانت مسرحًا لاشتباك عنيف بين شخصَين أو ربما أكثر. كانت أوراق اللعب متناثرةً على الطاولة ومبعثرةً على الأرض، كما لو أنَّ اللعبة قد قوطِعت. ووقفت كأسان جاهزتان لصب النبيذ على طاولة جانبية، لكنَّ كأسًا ثالثةً قد استقرت على السجَّاد بعد أن تحطَّمت مُخلفةً كومة من الكريستال. وعلى بعد أقدامٍ قليلة منها، كان يُوجد ما بدا كسكينٍ طويل أو سيفٍ قصير، ذاك الذي كان مستقيمًا لكنَّ مقبضه مزخرفٌ ومزركش، وقد ظهرت على نصله غير الحاد لمحةٌ رمادية من النافذة الموحشة الموجودة بالخلف، التي ظهرت فيها الشجرتان السوداوان على خلفية البحر الرمادي. وباتجاه الركن المقابل من الغرفة، كانت تتدحرج قبعةٌ رجالية طويلة وحريرية، وكأنها قد خُلِعت عن رأس صاحبها للتو، حتى إنَّ المرء يكاد ينظر ويراها وهي لا تزال تتدحرج. ومن خلفها في الركن، كان السيد جيمس تودهانتر مُلقًى، مرميًّا كجِوَالٍ من البطاطس، ومتصلبًا كشريط السكك الحديدية، بوشاحٍ على فمه، وستٌّ من عُقد الحبل أو سبع قد لُفَّت حول مِرفقَيه وكاحلَيه. وكانت عيناه البنيِّتان حيتَين وتتحركان بانتباه.
توقَّف الدكتور أوريون هود للحظة على ممسحة الأرجل، واستوعب مشهد العنف الصامت بأكمله، ثم خطا بخفَّة على السجَّادة، ورفَع القُبعة الحريرية الطويلة عن الأرض ووضعها بجدية على رأس تودهانتر الذي كان لا يزال موثقًا. وقد كانت كبيرةً عليه للغاية حتى إنها كادت تنزلِق إلى كتفيه.
تحدَّث العالِم وهو يتراجع بها ويُحدِّق في داخلها بعدسة جيب: «هذه قبعة السيد جلاس. كيف نُفسِّر غياب السيد جلاس مع وجود قبعته؟ إن السيد جلاس ليس مهملًا في ملابسه؛ فهذه القُبعة من طراز أنيق، وهي تُنظَّف وتُلمَّع بانتظام، بالرغم من أنها ليست جديدة للغاية. أعتقد أنه عجوزٌ متأنق.»
صاحت الآنسة ماكناب: «يا إلهي! ألن تحلُّوا وثاق الرجل أولًا؟»
تابع العالِم: «أنا أقول «عجوز» عن قصدٍ لا عن يقين، وربما تبدو حجتي في ذلك بعيدة بعض الشيء. يتساقط شعر البشر بدرجاتٍ متفاوتة، لكنه يتساقط بدرجةٍ طفيفة في معظم الأحوال تقريبًا. وباستخدام العدسة، أستطيع رؤية الشعرات الصغيرة في القُبعة التي كان يرتديها شخصٌ منذ فترةٍ قصيرة، لكن تلك القُبعة لا تحتوي على أيِّ شعَرات، مما يقودني إلى تخمين أنه أصلع. والآن حين ننظر إلى هذا مع الصوت النكِد العالي النبرة الذي وصفَته الآنسة ماكناب بوضوحٍ شديد (صبرًا، يا سيدتي العزيزة، صبرًا)؛ حين نأخذ النبرة الشائعة في الغضب المصاحب للخَرَف مع هذا الرأس الأصلع، فأعتقد أننا قد نستدلُّ على تقدُّمه بعض الشيء في السن. بالرغم من ذلك، فقد كان قويًّا على الأرجح، وطويلًا على نحوٍ شبه مؤكَّد. ويمكنني أن أستند بعض الشيء إلى القصة السابقة عن ظهوره عند النافذة في الاستدلال على كونه رجلًا طويلًا يرتدي قُبعةً حريرية، لكنني أعتقد أنَّ لديَّ دليلًا أكثر دقة. لقد تحطَّمت كأس النبيذ هذه في المكان بأكمله، لكنَّ إحدى شظاياها تستقر على الركيزة العليا بجوارِ رفِّ الموقد، ولم يكن لمثل هذه الشظية أن تقع هناك إنْ تحطَّمتِ الكأس في يد رجلٍ قصير نسبيًّا مثل السيد تودهانتر.»
قال الأب براون: «بالمناسبة، أليس من الأفضل أن نحُل وثاق السيد تودهانتر؟»
تابع الاختصاصي حديثه: «إنَّ ما نستنتجه من كئوس الشراب لا ينتهي عند هذا الحد، بل يمكنني أن أقول في الوقت ذاته إنَّ السيد جلاس هذا كان أصلعَ أو عصبي المزاج بسبب إسرافه في تناول الشراب لا بسبب تقدُّم العمر؛ فالسيد تودهانتر كما أشرتَ من قبل، رجلٌ مقتصد، بل هو ممتنع عن الشراب تمامًا؛ فكئوس النبيذ وأوراق اللعب هذه ليست من الأشياء المعتادة بالنسبة إليه، وإنما وُضِعت لأجل رفيقٍ مُحدَّد بعينه. ويمكننا في الواقع أن نذهب إلى ما هو أبعدُ من ذلك. ربما يمتلك السيد تودهانتر أدواتِ تقديم النبيذ هذه وربما لا يمتلكها، غير أنه ما من دليلٍ على أنه يمتلك أيَّ قدْرٍ من النبيذ. إذن، فما الذي كانت ستحتوي عليه هذه الكئوس؟ سأقترح على الفور أنها كانت ستحتوي على بعض البراندي أو الويسكي، ربما من نوعٍ فاخر، من زجاجة في جيب السيد جلاس. وهكذا، تتكون لنا صورةٌ واضحة بعض الشيء عن الرجل، أو عن نمطه على الأقل: طويل، كبير السن، متأنق، لكنه عصبي بعض الشيء، وهو مولَع ولا شك بلعب الورق والشراب القوي، وربما يكون مولعًا بهما للغاية. إنَّ السيد جلاس ليس بالرجل المجهول في المجتمع.»
صاحتِ الفتاة: «استمع إليَّ، إن لم تدَعْني أمُرُّ كي أحُل وثاقه، فسوف أجري إلى الخارج وأصرخ طلبًا للشرطة.»
تحدَّث الدكتور هود بجدية قائلًا: «لا أنصحكِ يا آنسة ماكناب أن تتعجلي باستدعاء الشرطة. أيها الأب براون، إنني أطلب منك بجدية أن تُهدِّئ رعيتك، لصالحهم لا لصالحي. حسنًا، لقد عرفنا بعض الشيء عن شكل السيد جلاس وصفاته، والآن، ما الحقائق الأساسية المعروفة عن السيد تودهانتر؟ إنها ثلاث صفاتٍ أساسية: مقتصد، وله شيء من الثروة، ويُخفي سرًّا. والآن، من الواضح بالطبع أنَّ لدينا الصفات الثلاث الأساسية لرجلٍ يخضع للابتزاز. ويتضح لنا بالدرجة نفسها أنَّ البهرجة المتلاشية للسيد جلاس وعاداته المسرفة وكذلك اهتياجه الشديد، لهي صفاتٌ جلية للرجل الذي يبتزُّه. إنَّ لدينا الشخصَين النموذجيَّين لقصةٍ مأساوية بشأن نقودٍ سرية؛ فعلى أحد الجانبَين، لدينا الرجل المحترم الذي يحيط به لغزٌ ما، وعلى الجانب الآخر، لدينا الانتهازي من منطقة وست إند بغرب لندن الذي اشتمَّ رائحة اللغز. وقد التقى هذان الرجلان هنا اليوم وتشاجرا باللكمات وبسلاحٍ ظاهر للعيان.»
سألتِ الفتاة بعناد: «هل ستنزع الحبال؟»
وضَع الدكتور هود القُبعة الحريرية بعناية على الطاولة الجانبية، وتقدَّم نحو الشخص المقيَّد، وراح يفحصه باهتمامٍ شديد، حتى إنه حركه قليلًا، وأداره نصف استدارة من كتفَيه، لكنه أجاب:
«كلا، أعتقد أنَّ هذه الحبال ستكون مناسبة للغاية إلى أن يأتي أصدقاؤك من الشرطة ويُحضِروا الأصفاد.»
رفع الأب براون، الذي كان ينظر بشرود إلى السجَّادة، وجهه المستدير قائلًا: «ماذا تعني؟»
تناول رجل العلم السيف الغريب الذي يُشبِه الخنجر من فوق السجادة وكان يفحصه باهتمامٍ شديد حين أجاب:
«لأنكم ترون السيد تودهانتر مقيدًا، أعتقد أنكم جميعًا وصلتم إلى استنتاجٍ مفاده أنَّ السيد جلاس قد قيَّده ثم هرب. وثَمَّةَ اعتراضاتٌ أربعة على هذا: أولًا، لمَ قد يترك رجلٌ متأنق مثل صديقنا جلاس قُبعته، إن كان قد غادر بإرادته الحرة؟» ثم تابع وهو يتحرك باتجاه النافذة: «ثانيًا، هذا هو المخرج الوحيد، وهو مُغلَق من الداخل. وثالثًا، يُوجد على حافة هذا النصل نقطةٌ صغيرة للغاية من الدم، لكن لا يُوجد جرح في جسد السيد تودهانتر. لقد أخذ السيد جلاس هذا الجرح معه، حيًّا كان أم ميتًا. وأضيفوا إلى كل هذا الاحتمال الأساسي؛ فمن المُرجَّح جدًّا أن يحاول الشخص الذي يتعرض للابتزاز قتل الشخص الذي يجثم على صدره، لا أن يحاول الشخص الذي يمارس الابتزاز قتل الإوَزَّة التي تبيض له بيضته الذهبية. وبهذا، أعتقد أنَّ لدينا تقريبًا قصةً مكتملة العناصر.»
تساءل الكاهن الذي ظلت عيناه متسعتَين بنظرة تشي بإعجابٍ عقيم: «لكن الحبال؟»
تحدث الخبير بنغمةٍ غريبة: «آه، الحبال؟ لقد كانت الآنسة ماكناب ترغب بشدة في معرفة السبب في أنني لم أفُكَّ قيد السيد تودهانتر من حباله. حسنًا، سوف أخبرها. إنني لم أفعل ذلك لأنَّ السيد تودهانتر يستطيع أن يفُك قيده منها في أي لحظة يشاء.»
صاح الجمع بنبراتٍ مختلفة من الدهشة: «ماذا؟»
ردَّد هود بهدوء: «لقد ألقيتُ نظرةً على عُقَد السيد تودهانتر جميعها، والواقع أنني أعرف بعض الشيء عن العُقد؛ فهي فرع من فروع علم الجريمة. وقد صنع كل عقدة منها بنفسه ويستطيع أن يفكها بنفسه أيضًا، وما من واحدة منها قد ربطها خصمٌ يحاول حقًّا تقييده. إنَّ أمر الحبال بأكمله خدعةٌ ماكرة لكي يجعلنا نظن بأنه ضحية الصراع بدلًا من الشقي جلاس، الذي قد تكون جثَّته مُخبأة في الحديقة أو محشورة في المدخنة.»
ساد صمتٌ كئيب؛ فقد بدأ الظلام يتسلَّل إلى الغرفة، وبدتْ أغصانُ أشجار الحديقة التي أتلفها البحر أكثر نحافةً وسوادًا من أي وقتٍ مضى، غير أنها قد بدت أقرب إلى النافذة. ويكاد المرء أن يتخيل أنها وحوش بحرية مثل الكراكن أو الحبار؛ حيواناتٌ مائية قد خَرجَت تتلوَّى من البحر لكي ترى نهاية هذه المأساة، رغم أن الرجل البشع ذا القُبعة الطويلة، الذي كان شيطان القصة وضحيتها، كان قد زحف ذات مرة خارجًا من البحر؛ فقد كان الهواء بأكمله مُحملًا بوباء الابتزاز، وهو أسوأ ما في البشر؛ فهو جريمة تخفي جريمة؛ ضمادةٌ سوداء على جرح أكثر سوادًا.
تغضن فجأةً وَجهُ الكاهن الكاثوليكي الضئيل، الذي كان شائعًا عنه انفراج أساريره وبشاشته التي قد تصل أحيانًا إلى حد الهزل، وأخذ الفضول يعبث برأسه، ولم يكن ذلك الفضول العقيم النابع من جهله في البداية، وإنما هو ذلك الفضول الإبداعي الذي يحل حين تخطر للمرء بدايةُ فكرة. تحدَّث بأسلوبٍ واضح ومنزعج: «قلها مجددًا من فضلك. أتعني أن تودهانتر قيَّد نفسه بنفسه ويمكن أن يفك قيدَه بنفسه؟»
ردَّ العالِم: «هذا ما أعنيه.»
صاح براون فجأة: «بحق السماء! إنني أتساءل عما إن كان ذلك ممكنًا!»
هَرولَ عَبْر الغرفة وكأنه أرنب، وباندفاعٍ جديد بعض الشيء راح يُحدِّق في وجه الشخص المقيَّد المغطَّى نصفه، ثم استدار إلى الجمع بوجهه الذي لا يخلو من السذاجة، وصاح بانفعالٍ أكيد: «أجل، هو ذاك! ألا ترون ذلك في وجه الرجل؟ ويحي، انظروا إلى عينَيه!»
اتَّبَع كلٌّ من البروفيسور والفتاة اتجاه نظرته، وبالرغم من أنَّ الوشاح الأسود العريض كان يخفي النصف السفلي بأكمله تقريبًا من وجه تودهانتر، فقد رأوا أنَّه كان ثمَّة معاناةٌ وتَوتُّر في الجزء العلوي منه.
صاحت الفتاة منفعلة بقوة: «إنَّ عينَيه تبدوان غريبتَين بالفعل. يا لكم من قُساة! لا بد وأن هذا اللثام يؤلمه!»
ردَّ الدكتور هود: «لا أعتقد ذلك. إنَّ في عينيه بالتأكيد تعبيرًا غريبًا، لكنني أفسِّر هذه التجاعيد العرضية على أنها تُعبِّر عن ذلك الشذوذ النفسي الطفيف …»
صاح الأب براون: «هُراء! ألا ترى أنه يضحك؟»
ردَّ الدكتور هود مجفلًا: «يضحك! لمَ عساه أن يضحك؟»
أجاب المبجَّل براون مبررًا: «حسنًا، لأكون صريحًا معك، أعتقد أنه يضحك سخريةً منك. والواقع أنني أميلُ قليلًا إلى أن أضحك سخريةً من نفسي، بعد أن أدركتُ الأمر الآن.»
سأل هود بنبرةٍ تشي ببعض الحنَق: «أيُّ أمرٍ ذلك الذي أدركتَه الآن؟»
أجاب الكاهن: «أمر مهنة السيد تودهانتر.»
راح يتحرك في الغرفة وهو ينظر إلى شيءٍ تِلو الآخر بما بدا أنه تحديقٌ عقيم، ثم انخرط بعد ذلك في ضحكٍ عقيم أيضًا، وقد كان ذلك أمرًا مزعجًا للغاية لمن اضطروا إلى مشاهدته. ضحِك كثيرًا على القبعة، وضحِك بصخبٍ أكبر على الكأس المكسورة، أمَّا الدم الموجود على حافة السيف، فقد تسبَّب له في نوباتِ ضحكٍ هستيرية. ثم استدار بعد ذلك إلى الاختصاصي الغاضب.
صاح بحماس: «دكتور هود، إنك شاعرٌ عظيم! لقد خلقتَ من العدم كائنًا ليس له وجود. كم أن ذلك أشبه كثيرًا بالألوهية مما لو أنكَ كنت اتبعتَ الحقائق المجردة فحسب! فلا شك أنَّ الحقائق المجردة هي أبسط وأكثر هزْليةً مقارنةً بحقائقك.»
قال الدكتور هود بنبرةٍ لا تخلو من الغطرسة: «لا أعرف عما تتحدث؛ فجميع حقائقي مؤكدة وإن كانت غير كاملة بالطبع. يمكن أن نُفسِح المجال للحدْس (أو الشعر إن كنت تُفضِّل هذا المصطلح)، لكنَّ ذلك لتعذُّر التثبُّت من التفاصيل المتعلقة بالأمر؛ ففي غياب السيد جلاس …»
تحدَّث الكاهن الضئيل وهو يومئ برأسه بحماس: «مهلًا، مهلًا! تلك هي أول فكرةٍ يجب تصحيحها: غياب السيد جلاس. إنه غائب للغاية.» وأضاف متفكرًا: «إنني أعتقد أنه لم يُوجد مَن هو أكثر غيابًا من السيد جلاس.»
تساءل الاختصاصي: «أتقصد أنه غائب عن المدينة؟»
أجاب الأب براون: «أقصد أنه غائب من كلِّ مكان، غائب من «الطبيعة»، إن صح التعبير.»
تحدَّث الاختصاصي بابتسامة: «أتعني حقًّا أنَّ هذا الشخص غير موجود؟»
صَدرَت عن الكاهن إشارةٌ بالموافقة وقال: «يبدو هذا أمرًا مؤسفًا حقًّا.»
أطلق أوريون هود ضحكةً متهكمة وقال: «حسنًا، قبل أن ننتقل إلى الألف دليلٍ ودليل الآخرِين، فلنتناول الدليل الأول الذي وجدناه؛ الحقيقة الأولى التي وجدناها حين دخلنا إلى هذه الغرفة: إن لم يكن هناك شخصٌ يُدعى السيد جلاس، فقُبعة مَن هذه؟»
أجاب الأب براون: «إنها قُبعة السيد تودهانتر.»
صاح هود بنفادِ صبر: «لكنها لا تُناسب مقاس رأسه؛ فلا يمكن له أبدًا أن يرتديها!»
هز الأب براون رأسه برفقٍ لا يُوصف، وأجاب: «إنني لم أقل قطُّ إنه يستطيع ارتداءها، بل قلتُ إنها قُبعته. وإن كنتَ تُصر على وجود درجةٍ طفيفة من الاختلاف، فلنقل إنها قبعةٌ يملكها.»
سأله اختصاصي علم الجريمة بسخريةٍ خفيفة: «وأين هذه الدرجة الطفيفة من الاختلاف؟»
بأول حركةٍ له تشي بنفاد الصبر، صاح الرجل الوديع الضئيل: «سيدي الفاضل، إذا ذهبتَ إلى أقرب مَتجرٍ للقبعات، فسوف ترى أنَّ هناك فرقًا بين قُبعة الرجل والقبعاتِ التي يملكها.»
احتجَّ هود قائلًا: «لكنَّ صانع القُبعات يمكن أن يأتي بالنقود من مخزونه من القُبعات الجديدة. فما الذي قد يأتي به تودهانتر من هذه القبعة القديمة؟»
أجاب الأب براون على الفور: «أرانب.»
صاح الدكتور هود: «ماذا؟»
تحدَّث الرجل المبجَّل بسرعة: «أرانب، أشرطة، حلوى، أسماك ذهبية، لفَّات من الورق الملون. ألم تدرك الأمر كله حين اكتشفتَ الحبال الزائفة؟ إنه الأمر نفسه مع السيف؛ فما من خدش على جسد السيد تودهانتر مثلما تقول، وإنما بداخله خدش، إن كنت تفهم ما أقول.»
تساءلَتِ السيدة ماكناب بصرامة: «أتعني داخل ملابس السيد تودهانتر؟»
أجاب الأب براون: «لا أعني ملابس السيد تودهانتر، بل أعني داخل السيد تودهانتر.»
«حسنًا، ماذا تعني بحقِّ كلِّ هذا الجنون؟»
بدأ الأب براون يشرح بهدوء: «إنَّ السيد تودهانتر يتعلم ألعاب الحواة، وألعاب الخفة، والتحدث البطني، وخدع الحبل. وتعلُّم ألعاب الحُواة يُفسِّر وجود القُبعة، وهي لا تحتوي على أيِّ أثَرٍ للشعر، لا لأنَّ السيد جلاس الذي يعاني من الصلع المبكر هو الذي كان يرتديها، وإنما لأنه ما من أحدٍ قد ارتداها على الإطلاق. وألعاب الخفَّة تُفسِّر وجود الكئوس الثلاث، التي كان تودهانتر يستخدمها في أن يعلِّم نفسه كيف يرميها ثم يمسك بها بالتناوُب، ولمَّا كان لا يزال في مرحلة التدريب، فقد حطَّم كأسًا بسبب ارتطامها بالسقف. وتُفسِّر ألعاب الخفة أيضًا وجود السيف، الذي كان الفخر والواجب المهنيان يقتضيان من السيد تودهانتر أن يبتلعه. ومرةً أخرى، ولأنه لا يزال في مرحلة التدريب، فقد خدَش حلقَه بالسيف خدْشًا خفيفًا للغاية؛ ومن ثمَّ، فهو بداخله جرح، وأنا متأكد (من التعبير الذي يبدو على وجهه) من أنه ليس جرحًا خطيرًا. وقد كان يتدرب أيضًا على خدعة التحرُّر من الحبال مثل الأخوَين دافِنبورت، وقد كان على وشك أن يُحرِّر نفسه منها حين اندفعنا جميعًا إلى الغرفة. وأمَّا أوراق اللعب، فهي لأجل خُدع الأوراق ولا شك، وهي متناثرة على الأرض لأنه كان يتدرب للتو على إحدى هذه الخدَع، والتي تتمثل في جعل تلك الأوراق تطير في الهواء. وهو لم يُبقِ على حرفته سرًّا إلا لأنه كان عليه أن يبقي خدَعه سرًّا، مثل أيِّ حاوٍ آخر، لكنَّ حقيقة أنَّ متسكعًا كان يرتدي قُبعةً طويلة أَطلَّ من نافذته الخلفية ذات مرة، ودفعه هو بعيدًا عنها بحنَقٍ كبير، كانت كفيلة بأن تجعلنا جميعًا نحيد عن الصواب في تفسيرنا لما حدث، وأن تجعلنا نتخيل حياته بأكملها في ظلالِ طيف السيد جلاس ذي القُبعة الحريرية.»
سألت ماجي مُحدِّقةً: «لكن ماذا عن الصوتَين؟»
سألها الأب براون: «هل سمعتِ أحد المؤدين لخدعة التحدُّث البطني من قبل؟ ألا تعرفين أنهم يبدءون الحديث أولًا بصوتهم الطبيعي، ثم يُجيبون على أنفسهم بذلك الصوت العالي الحادِّ المُصطنَع الذي سَمعتِه؟»
سادت فترةٌ طويلة من الصمت، ونظر الدكتور هود إلى الرجل الضئيل الذي كان يتحدث وعلى وجهه ابتسامةٌ خبيثة يقظة، وقال: «إنك شخصٌ بارع للغاية ولا شك؛ فلم يكن لأحدٍ أن يُفسِّر الأمر بطريقةٍ أفضل من ذلك. غير أنه لا يزال لدينا جزءٌ لم تنجح في تفسيره، وهو اسمه، الذي قد سمعَته الآنسة ماكناب بوضوح، حين خاطَبه به السيد تودهانتر.»
سادت لحظةٌ من الصمت في الغرفة، ثم انفجر الجميع في الضحك في الوقت ذاته. وبينما كانوا يفعلون ذلك، أخذ الشخص الموجود في الركن يفك جميع حباله دون اكتراث، وتركها تسقط بمنتهى الثقة. بعد ذلك، راح يتقدم إلى منتصف الغرفة بانحناءة، وأخرج من جيبه إعلانًا كبيرًا مطبوعًا بالأزرق والأحمر، ذاك الذي كان يتحدث عن «زالادين»، الذي يُعَد أفضلَ حاوٍ، وبهلوانٍ، ومتحدثٍ بطني، وكنغرٍ بشري في العالم، والذي سيكون جاهزًا بمجموعةٍ جديدة تمامًا من الخدَع في «إمبايَر بافيلين» في سكاربرا، في الساعة الثامنة تمامًا من يوم الإثنين القادم.