عبقرية المعارف
أعتقد أن الكتابة عن الأمراض عامةً، وعن أمراض الكاتب خاصةً، مادة غير محببة إلى القراء، ذلك أني أعتقد أن القارئ مثقل بالمشاكل، صحية كانت أو غير صحية، ويريد، إذا قرأ، أن يقرأ شيئًا آخر، ولكني هنا لن أتحدث عن مرض خاص أو عام، ولكني أتحدث عن ظاهرة مصرية أصبحت فعلًا مشكلة خطيرة من مشاكل شعبنا، ذلك هو الإهمال، والإهمال ليس مقصورًا على المرافق العامة، ونظافة الأمكنة والشوارع، ولكنه امتد حتى وصل إلى الإنسان منا ذاته، كثيرًا ما أتوه وأنا أحدق في أجسام المواطنين والمواطنات السائرين والسائرات في الشارع، وأكتشف أن أجسامنا كمواطنين قد ترهلت بطريقة مزعجة، ترهلًا لا يكاد يعادله إلا ترهل الملامح وعبوسها، وكأنها هي واقعة تحت تأثير وابل لا يرحم من رذاذ الاكتئاب والمشاغل والهم المقيم ليل نهار، وفي أشهر الصيف الأولى أحسست أني أترهل بطريقة مطردة حتى أصبحت ألهث لدى أي مجهود.
ولكني مثلي مثل أي مواطن آخر كنت أقول لنفسي إنه الكسل، واللامجهود، وكميات الطعام التي لا داعي لها. في الحقيقة كنت أؤجل التفكير في جسمي أو في صحتي باعتبار أن هناك أشياء أكثر أهمية بكثير، وهذا يُعتبر في العرف العلمي المتحضر جريمة لا تُغتفر، وبعد أيام من الإجازة بالخارج بدأ عقلي — كما يقولون — يروق، إجازة حقيقية لم أقرأ فيها جريدة أو كتابًا أو انشغلت بأي قضية على الإطلاق؛ فقد كان مخي مثخنًا بعد عام حافل من القتال بالقلم ضد القصور، وضد الغباء ولإيقاظ الوعي في أجهزة تريدنا أن نحيا كالسلامة، نأكل ونشرب ونتناسل وننام.
المهم، حين راق عقلي تذكرت أني لم أعمل فحصًا شاملًا لجسدي منذ أكثر من سبع سنوات، صحيح أن طبيبي الدكتور مجدي يعقوب الذي أجرى لي العملية منذ اثني عشر عامًا أوصاني بعمل فحص شامل كل ستة أشهر مرة، ولكن، بعد عام أو عامَين، وبطريقتنا غير الجميلة، أهملت كل شيء، وهكذا رفعت سماعة التليفون وطلبت مجدي يعقوب لتحديد موعد، تذكرتْ مُساعِدته حالتي وعمليتي، ولكنها اعتذرت أن الدكتور مجدي يعقوب مشغول تمامًا باكتشافاته الأخيرة في زراعة القلب والرئتَين وأنها تحيلني إلى طبيب زميله … في الحقيقة بعد هُنَيْهة من الضيق وخيبة الأمل؛ إذ المفروض أن من يعمل عملًا أو عملية ما أن يظل يتابع صاحبها مهما كانت مشاغله، بعد قليل عذرت السيدة وعذرت مجدي يعقوب ودعوت له في سرِّي أن يواصل نجاحاته، وأيضًا اعتذرت عن الذهاب إلى الذي لا أعرفه، وفجأة اكتشفت أن صديقي الدكتور ذهني فراج كان المساعد الأول لمجدي يعقوب في علميتي وأنه يعرف حالتي تمامًا، وطلبته فإذا بجهاز تسجيل يرد عليَّ قائلًا إنه في إجازة في إسبانيا وإنه سيحضر بعد أسبوع، وانتظرت على أحر من الجمر، وتنفست الصُّعَداء وأنا أطلبه فيرد هو عليَّ ويعطيني موعدًا بعد ساعة في عيادته في شارع هارلي الذي لا يستطيع أن يفتح فيه عيادة إلا من وصل إلى شأوٍ علمي خطير في الطب، وأصبح على الأقل في مرتبة «مستشار» طبي أو جراحي. في الحقيقة لا بُدَّ أن أعترف بشيء، نحن في كثير من الأحيان نجني على من نعرفهم شخصيًّا جناية بالغة؛ ولأن محمد ذهني فراج كان من شباب العائلة الأصغر فلم أكن أتصور أنه، وحده، يستطيع أن يكمل دراسته في إنجلترا، ويصبح واحدًا من أعظم جرَّاحي القلب وأطبائه في لندن، ومستشارًا لواحد من أعرق مستشفيات إنجلترا، مستشفى وستمينيستر التاريخي، كل هذا وأنا ما زلت أنظر إليه باعتباره ذهني فراج الطبيب الشاب حديث التخرج في رأيي، وإن كان قد مضى على تخرجه الآن أكثر من عشرين عامًا ووصل إلى كل ما وصل إليه.
والحقيقة أن مقابلتي معه كانت عاصفة؛ فقد قال لي بصريح العبارة إني أنتحر وإنني بالحالة التي كنت فيها معرَّض للموت فجأة؛ ذلك أنه وجد في جسدي كمية من المياه الزائدة تعادل أكثر من ثمانية لترات؛ ونتيجة لهذا فهناك ارتباك في دق القلب … إلخ، كل ما كنت خائفًا منه … حتى لقد قلت لنفسي إنه يحاول إخافتي ليس إلا.
ووصف لي دواءً مدرًّا للبول اسمه في مصر لازيكس، فقلت له إنني أتناوله بانتظام، قال: ومع هذا هو علاجك مع دواء آخر.
وكانت المفاجأة.
بعد ثمان وأربعين ساعة فقط من تناول اللازيكس الإنجليزي اختفت تمامًا آثار المياه الزائدة، وعاد تنفُّسي طبيعيًّا، وعدت أسير لمسافة ميلَين وثلاثة أميال بمنتهى البساطة، مما دعاني للتوقف طويلًا عند الدواء المصري، فإما أن الجرعة المكتوبة عليه ليست مضبوطة، وإما أن المادة الفعالة فيه قديمة أو فقدت فاعليتها، وإما أن المعامل الأوروبية تُطوِّر من أدويتها باستمرار، وهو شيء لا يحدث للأسف عندنا، إلا أننا غالبًا ما نكتفي باستيراد المادة الفعالة التي درجنا عليها. ليس هذا بأي حال من الأحوال طعنًا في الدواء المصري؛ فإني أشهد وإني ومعي الملايين نُعالج من هذا الدواء الرخيص جدًّا بالقياس إلى أثمانه في السوق العالمية، ولكن ما أطلبه، وما أعتقد أن لي الحق فيه، هو أن يقوم مركز الدواء المصري، وهو هيئة علمية محترمة قامت لتعاير الجرعات الموجودة في كل دواء وتقارنها بالجرعات المكتوبة عليه، وتقيس مقدار فاعلية العناصر الواردة فيه، وتفعل هذا مرة كل ستة أشهر على الأقل، وأنا لم أعد أسمع عن هذا المركز، ولا عن نشاطه، وتُفاجأ كل حين بواقعة عن تقصيره، وآخر المفاجآت كانت في نوع من القطرة أن بها نوعًا غريبًا من الفطريات. رجائي من الزميل الكبير الدكتور محمد راغب دويدار أن يعيدا لهذا المركز مكانته وسيطرته. إنني أعرف تمامًا أنه لا يوجد غش في الدواء، ولكن الإهمال قد يكون له عواقب أخطر، وشركات الأدوية عندنا كلها — تقريبًا — قطاع عام، ومسألة التدقيق الشديد في صناعة كالأدوية مسألة حياة أو موت. وبالمناسبة أرجو ألا أتلقى من الشركات والمؤسسات الدوائية ردودًا إنشائية طويلة؛ فنحن حين ننقد إحدى صناعاتنا، وهي هنا أهم الصناعات، لا نتوخى تشويهًا أو تشهيرًا، وإنما في الحقيقة وفي هذا المقام بالذات، نتوخى صحة الشعب، الذي لا يعرف من أسرار تركيب الدواء كثيرًا أو قليلًا، ولا حل إلا بإحياء دور الرقابة على الدواء وإحياء حقها في مصادرة أو إعدام أي دواء لا يطابق المواصفات، ومحاسبة المسئولين عن ذلك.
المهم أني، بنفس الجرعات، ونفس المادة شُفيت من هذا الماء الزائد، ولكن ما دور ذهني فراج في هذا؟
دوره أن بعض أطباء القلب الذين كشفوا عليَّ سواء في أمريكا أو اليابان قد شخصوا الأمر باعتبار أن العيب في القلب، تشخيص ذهني فراج كان أن العيب ليس في القلب وإنما في الماء الزائد الموجود بالجسم، إذا طُرد عاد الجسم إلى حجمه الطبيعي وعاد القلب إلى طبيعته، وقد تبدو تلك القضية من البساطة بحيث لا تستدعي أي عبقرية، ولكنها ليست كذلك؛ إذ معنى أن العيب في عضلة القلب أن لا حل في يد الطبيب أو المريض، بينما بالتشخيص الثاني الحل في يد الطبيب والمريض.
شكرًا لنابغة من نوابغ مصر الشابة، وآسف تمامًا لبيئاتنا الطاردة التي تقدم مواهبنا إلى حضارات أخرى على أطباق من الفضة.
إن أثمن ما في ذلك الشعب هو شبابه، وحين يقرأ الإنسان عن مشاكل الخريجين، وتعيين الخريجين والبطالة المقنعة يحس بأن هناك شيئًا خطأ، وأننا مقصرون في حق اكتشاف وتشغيل ورعاية أجيال لو أُتيحت لها الفرصة كاملة لجعلت من مصر جنة الله في أرضه، لماذا يا إلهي لا نعقد مؤتمرًا علميًّا جادًّا جدَّا ومصغرًا جدًّا ومحددة مهمته تمامًا: بحث الثروة البشرية المصرية المهدرة وفتح الطرق المسدودة أمام استغلالها وتنميتها؟!
مولد القاهرة الكبرى
محافظتنا القاهرة والجيزة أو باختصار القاهرة الكبرى في عيد أو في مولد، وهو مولد، لحسن الحظ، أصحابه حاضرون … فأنا أسكن في الجيزة وأعمل في القاهرة، والجيزة مشغولة تمامًا بمهرجان عايدة تحت سفح الهرم، والقاهرة مشغولة تمامًا بمهرجان مترو الإنفاق تحت سطح الأرض وفوق سطح الأرض.
وقد أهدانا الدكتور عبد الحميد حسن بمناسبة عايدة هدية رائعة الجمال هي ساعة زهور أقامتها «وكالة الأهرام للإعلان» «حاجة ببلاش كده»، وتصادف أني لم أرَ الساعة حين عدت من الإجازة، ولكني فُوجئت في الحادية عشرة مساءً ثم في الثانية عشرة بأجراس تدق في ميدان الجلاء القريب جدًّا من بيتي وأنا لا أعرف السبب، تُرى ما هذه الضجة الغريبة على ضجات الليل في حينا؟ أنا أعرف ضجات الليل عندنا تمامًا، فبعد انتهاء حركات المرور الرهيبة في شارع النيل وشارع لطفي حسونة يكون الموعد قد حان لكلب مجنون لا بُدَّ مصابًا بالسعار، بالمناسبة أين مكافحة الكلاب المسعورة في الجيزة؟ إذ يبدأ النباح بالضبط في الثانية من صباح كل يوم، وأستمع جيدًا لأعرف لماذا ينبح هذا الكلب المنكود، وأصيخ السمع، فلا ألمح نسمة أو حركة أو إنسانًا في الشارع، ومع ذلك يظل ينبح وينبح وكأنه ينادي غفاة البشر أن يهبوا لملء الكأس قبل أن يملأ كأس كف القدر، ولا يتوقف من النباح — شكرًا له — إلا عند طلوع الشمس، وقبل أذان الفجر بدقائق أسمع فرقعة «فسبا» مهولة الوقع وسط السكون التام، ولها عشر سنوات بالضبط وهي تفرقع في نفس الوقت تمامًا مع نهاية كل ليلة، حتى خمنت أنها لا بُدَّ تخص موزع اشتراكات الجرائد لشارعنا. أما تلك الدقات النحاسية فقد كانت غريبة تمامًا، وحين دقت دقتَين ونظرت في الساعة ووجدت أنها الثانية إلا دقيقة عرفت أن الدقات لساعة، ولكن أي ساعة لم أعرف إلا في الصباح حين لمحت السور المقام حول سرة الميدان، العقارب الحاملة للزهور.
وفي الصباح رجوت من الصديق الكبير الدكتور عبد الحميد حسن محافظ الجيزة أن يعقد مع سكان منطقة الجلاء اتفاقًا، أن تدق الساعة في النهار فقط وأن «تنام» دقاتها إلى الثامنة صباحًا، وكان الرجل كريمًا ومن الليلة التالية اختفت دقات الليل النحاسية، ولكن عواء الكلب ظل على انتظامه وكذلك فرقعات الفسبا والأمر لله من قبل ومن بعد.
أما محافظة القاهرة فكلما رأيت كم ونوع العمل الجاري في ميدان التحرير وشارع رمسيس وميدان رمسيس وقرأنا أن افتتاح مترو الأنفاق سيكون يوم ٢٧ سبتمبر ومعه انتهاء كل أعمال الأسفلت ورصف الميادين والشارع، تأكدت أنه من المستحيل أن ينتهي كل هذا العمل بعد أيام لا تزيد على أسبوع، وحدث أن جمعتني مناسبة اجتماعية قريبة مع اللواء يوسف صبري أبو طالب محافظ القاهرة، وحدثته في هذا وعن شكي في إمكانية تنفيذه، فأكد لي بما لا يدع مجالًا للشك أن كل الأعمال السطحية في الميدانَين والشارع ستنتهي فعلًا يوم ٢٧ وأن ما سيتبقى هو تشجير الشارع والميدانَين ذلك الذي سيأخذ وقتًا أطول.
ولو أن القائل كان هو المحافظ الذي أنشأ الحديقة الدولية الجميلة في موعد قياسي، وكثيرًا من الحدائق غيرها، إلا أنني من فرط عدم تأكدي، قلت له: أتقبل رهانًا على هذا يا سيادة المحافظ؟ قال: أقبل، ولم نتفق على قيمة الرهان أو نوعه.
ولكنه رهان أتمنى أن أخسره؛ فهو على الأقل سيثبت لي أنه بالإرادة الكفء وبالمدير الكفء ممكن أن نحل مشاكل كثيرة جدًّا متراكمة فوق بعضها من قديم الزمان إلى الآن.
وسيثبت لي شيئًا آخر، أننا، المصريين، كأحصنة السباق، لا تتبدى قدرتنا المخيفة على العمل والإنجاز إلا قرب النهاية، نهاية السباق أو نهاية الدراسة أو نهاية المشاريع، وإلا فما الذي كان يمنع أن يُنجز كثير من العمل الجاري إنجازه الآن أثناء التشطيبات الأخيرة لأول مترو أنفاق في آسيا وأفريقيا باستثناء اليابان.