أحفادك يا طه
لم يكن تجوالي طويلًا ولا متعبًا، ولكني كنت ألهث وقلبي يخفق بفرحة، نادرًا، نادرًا، ما تنتابني، شباب شباب، أولاد وبنات، محجبات وسافرات ومنقبات، أطفال بالآلاف، شيوخ، أساتذة جامعة، وأشباه حفاة، عرب بمقالات وخواجات، ألوف البشر تموج، تتوه تلتقي وتفترق وتعود إلى اللقاء، الجو رغم الشتاء دافئ، والعاصفة الرملية الترابية أخفاها جمال الازدحام، أجمل ازدحام؛ فلا تدافع فيه ولا حدة ولا خناقة ولا كلمة غضب، العالم فقط هو صوت الضحكات، والمجاميع من الطلاب، والعائلات … كل هذا في معرض، يا الله، للكتاب، للثقافة، لعيد الكلمة. قاهرتي العزيزة، الآن أحبك كما لا يمكن أن يكون قد أحب قيس ليلى، يا حبيبتي العزيزة، يا قاهرتي وعاصمتي وملجئي وانتمائي ومثواي، تعودين إلى نفسك فتعودين أيضًا، تعودين إليَّ أنا كفرد حتى …
هذا هو المعرض العشرون للكتاب، في لمحة خاطفة لمعت في ذاكرتي صورة أول معرض كما أُقيم لأول مرة في أرض المعارض القديمة بالجزيرة في يناير عام ٦٨، وافتتحه رئيس الوزراء حينذاك، أو افتتحه وزير لست أذكره، وكما رأيته، في اليوم التالي، الناس مجموعات قليلة متناثرة في أرض المعرض الصغيرة، تمامًا بالقياس تمامًا إلى أرض المعرض الحالي، مجموعات قليلة تبدو وكأنها تتجمع لتحتمي من برد خفي وقشعريرة الغربة؛ إذ كانوا فعلًا قد تجمعوا على غربة بعد هزيمة ٦٧. في العام التالي لها مباشرة، ومظاهرات الطلبة، وتمزق الصدر المصري بآلام الذبحة العسكرية التي أخذته على خوانة، بمجموعات المثقفين والمتعلمين القليلة، التي قدمت وكأنما لتحيي الذكرى السنوية لعاصمة الفكر والإبداع التي كانت، مذهولين لا يعرفون العدو من الصديق، مهزومين لا يعرفون من هزمهم أهي إسرائيل أم المناط بهم هزيمة إسرائيل؟ جو كئيب كأيام أمشير ومحاولة للتشبث بالثقافة والكتاب بعدما، تقريبًا، ضاع كل شيء ومعه أيضًا الثقافة والكتاب.
ولكن ما أمامي الآن هو القاهرة، القاهرة، القاهرة التي رفعت الرأس المنكس ووقفت وانضبطت وحاربت وانتصرت وقاومت سرقة الانتصار، القاهرة ٨٨، القاهرة في معرض للقاهريين، والقاهريون في معرض لقاهرتهم الجديدة، أخذوا عشرين عامًا ليعيدوها ويصنعوها ولكنهم صنعوها، وكأنما من جديد أنشأوها، وكأنما بسواعدهم واقتصادهم المحدود والمقاطعة، الاتهامات وسيول النسل المتزايد والازدحامات واختناقات وقفزات الأسعار المريبة، أوقفوها ومن مريلة روضة الأطفال الممزقة، علموها، وألبسوها، وفي العشرين ها هي في فستان الزفاف.
أبيض أبيض ذلك اليوم، عبوس الناس في الشوارع الذي كان يدعوني أنا الآخر للعبوس والاكتئاب انقشع، الناس فرحانة وكأنهم أطفال، والأطفال مجانين بالمسرح، وأمهاتهم معتزات أنهن بصحبتهم إلى معرض الكتاب، وأجنحة كتب الأطفال والكمبيوتر، ويرفع أب ابنه ذا السنوات الخمس ليصافحني ويقول لنا هذا فلان يا ولد، وأفرح بالولد، وفي فرحة طفولية أقبله وأعطيه كتابًا وكأنما سيقرؤه؛ فعُمْلة الحب اليوم هي الكتاب، سقط الدولار، والدينار والجنيه وساد الكتاب، وبجنون زاد سعره، ولكنه لا يزال مطلوبًا ومرغوبًا وجميلًا جدًّا والله، هذه الصفوف والأجنحة ودور النشر المتنافسة، عمك الحاج مدبولي بجلبابه واقف وسط مملكته أو بالأصح حديقته الحافلة بالفكر والفن والأغلفة من كل مكان في العالم، تحس أن اليوم يومه والعيد عيده، وأتذكر قولًا قيمًا قاله مرة في برنامج تليفزيوني واستعجبت يومها للقول إذ قال وهو يفسر مهنة بيع الكتب ونشرها: الكتاب حب، صدقت يا حاج، فها أنا ذا أرى بعيني أن الحب أيضًا كُتُب.
يا أستاذنا طه حسين الذي قلت في أعوام عجاف: أخشى أن تكون القاهرة قد فقدت دورها كعاصمة للثقافة، ألا تحس في مرقدك العظيم القريب بدبيب الآلاف والآلاف من القراء والكتاب والمتعلمين والمثقفين وأبناء وبنات وأمهات الشعب، الزاحفين إلى معرض الكتاب من كل مكان: من القاهرة وعمان والرياض وبغداد وجنيف وتونس والمغرب واليمن والإمارات وعواصم أوروبا؟ ألا تحس بجبال الكتب القادمة من كل أنحاء الدنيا قد ثبتت أرض معرضنا وأصبحت رواسي وأثقالًا تجعلني أجرؤ وأقول لك: لقد عدنا يا طه حسين والعود أحمد، لقد عدنا إلى طه حسين وعاد إلينا طه حسين ومئات معه. ألست فرحًا بأحفادك الكُتاب الشبان وكتبهم تُعرض وتُترجم وتُدرس وملامحهم ثابتة الوثوق أمام الكاميرات والميكروفونات وجماهير الندوات الحاشدة؟ عدنا وعادت القاهرة ليست عاصمة فقط، ولكن عادت عيدًا للثقافة والشعراء وللكلمة والرمز الذي يجمع أمة العرب ويستأمنونه على كل أمجادهم: على كل أبي علائهم، كل متنبيهم، على قرطبيهم وبخاريهم، وحتى على المقدس مصحفهم وأناجيلهم، على كل ألوان فنونهم وكمبيوتراتهم وأدب أطفالهم، موسيقاهم ورقصهم، مسرحهم ورباباتهم. سبحان الله العلي العظيم، الازدحام الذي لا أطيقه في شوارعنا أكاد أضمه إلى صدري هنا، أحس إحساسًا جسديًّا أن الكتابة مهمة جدًّا، وأنها في خير، وأن القراءة في خير أكثر. أحس بشباب وطالما ظلمناهم واتهمناهم بقلة الاطلاع عارفين ومطلعين ومنتجين، حتى المذيعة الشابة التي نقلت إلى الملايين وقائع المعرض، أُحِسُّ فيها بتليفزيوننا جديدًا يتحدث لغة جديدة ليست بباروكة ولا فستان سهرة، وإنما هي جيل جديد فصيح كنت شغوفًا أن أعرف اسمها وعرفته: راوية راشد زوجة كاتب شاب موهوب اسمه — وتذكر يا أستاذنا اسمه — محمد المنسي قنديل كتب قصة عظيمة اسمها «بيع نفس بشرية». أحفادك أحفادك يا طه، مئات أحفادك، امتداداتك: عبد الحكيم قاسم، وجمال الغيطاني، ومجيد طوبيا، وإبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، ويوسف القعيد، وعبد الفتاح رزق، وصالح مرسي، وفريدة النقاش، وصلاح عيسى، ومحمد روميش، وبهاء طاهر، وسعيد الكفراوي، ويوسف أبو رية، واعتدال عثمان، وعبد الله الطوخي، وإبراهيم أبو سنة، ومحمد عفيفي مطر، وسناء البيسي، وسناء فتح الله، وشمس الدين، والمخزنجي، ومحمود الورداني، ومحمد الجمل، وسعيد سالم، وإبراهيم عبد المجيد، ومحمد السيد محمد، وسيد حجاب، ويسري الجندي، وأحمد هاشم الشريف، ونادية عابد، ومفيد فوزي، وماجدة الجندي، وزينب صادق، ونوال السعداوي، ومحمود عبد الوهاب، وسحر خليفة، وأليفة رفعت، ومنى حلمي، وأحمد الشيخ، وفهمي حسين أبو عوف، وقنديل، ونهاد صليحة، ووجدي حافظ، وصالح إبراهيم، ومأمون غريب، ومحمد سلماوي، ومحمد عبد القدوس، وعبد العزيز حمودة، ومحمد عناني، وسيزا قاسم، ولطيفة الزيات، وجلال السيد، وبهجت عثمان، وخيري شلبي، وجلال العشري، ومحمد جلال، وفتحية العسال، وإقبال بركة، ورءوف توفيق.
وكلمتي القصيرة تلك لو استطردت لما وسعت ربع الكائن في الحديقة الزاهرة. كبرت الحديقة يا أستاذنا جدًّا، أشجار كافورها استطالت ووصلت عنان السماء، ويَسْمِينُها لا نظير له؛ فرائحته مصرية عربية أصيلة، وكأنما بذوره قد اشْتُقَّتْ من عطور جدتي القديمة الزاعقة. لقد زرت قبل أسبوعين مصانع سلاحنا وخرجت وكتبت مبهورًا، واليوم وأنا أرى إبداع قواتنا الكتابية يدق قلبي دقة عنيفة فَرْحةً ليتوقف بعدها ويقول فجأة: والله والله لن نهزم أبدًا، والله والله لن نموت أبدًا، ولن ندع الفساد والنصب الثقافي والعلمي أبدًا. حتمًا سيتوقف وسيتوقف كل الهاربين والمتهربين والمهربين الكذابين والأفاقين والعابثين الذين يعيثون في الأرض فسادًا، فإذا كنا نصنع السلام ونبدع مثل هذه الكلمة، وغدًا بإذن الله لا يدخل فمنا سوى خبزنا من أرضنا، خبزنا الحلال من أرضنا الحلال، فسَنَسحق — ولو كأطفال الضفة وغزة، بالحجارة وبالكلمة وبطيبتنا وبصدقنا — أعداءنا وكل قنابلهم الذرية والهيدروجينية وأكاذيبهم وادعاءاتهم وبطشهم الجبان ووجودهم الرعديد.
نم مستريحًا يا طه حسين؛ فلقد ساهمت في صنع كل هذا حين أطلقتها وقلتها: التعليم كالماء والهواء، كان لا بُدَّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يصيح فيه أحد تلاميذك قائلًا: أهمية أن نتثقف يا ناس، وكان لا بُدَّ أن يأتي اليوم العيد الذي يمضي صائحًا قائلًا: والثقافة أيضًا لا بُدَّ أن تكون كالتعليم كالماء كالهواء، كالخبز، حتى كالخبز المدعوم والخبز الآلي، لا بُدَّ أن يدعم، فخبزنا الثقافي عيبه أنه أصبح غاليًا تمامًا يا أستاذنا، والله يرحم أيامكم الحلوة حين كان الكتاب ككيلو اللحم بخمسة قروش.
هؤلاء الشبان ولحاهم السمحة
قال لي صديق: أتحب أن ترى شيئًا جديدًا في مصر؟ قلت: يا ريت، قال: تعال معي. وذهبت معه إلى المعادي، ولم أسأله عما سيريني؛ فقد أحببت له أن يفاجئني كما أحسست من ابتسامته الغامضة، ذهبنا إلى المعادي ولفننا قليلًا في شوارعها الجميلة وانتهينا إلى محل يشبه المصنع أو مصنع يشبه المحل، وهبطنا من سيارة صديقي الفاخرة، فهو رجل من أصحاب الثروات الحلال، ودخلنا المكان نظيفًا وأنيقًا بطريقة غير عادية، وكأنه حجرة عمليات معقمة، وتطلعت فوجدت وكأن محتوياته معرض للموبيليات أو للتجارة الأجنبية، والبائعون لا يقفون عند المعروضات، ولكن كل منهم أمامه كمبيوتر ومقعد يجلس عليه الزبون، ونحن لا نزال واقفين سألته: ما هي الحكاية؟ قال: عندي بنت ستتزوج عقبال عندك. وأحسست بخيبة الأمل قليلًا، فما الجديد في بنت تتزوج ويأتي أبوها الثري لينتقي لها مطبخًا أنيقًا أو موبيليا فاخرة، حيا صديقي أحد الموظفين وكانت له لحية شابة سوداء مهذبة تمامًا، وعلى وجهه سيماء الأدب الجم والانضباط والجدية، فلم يسرف في تحيتنا، سلمنا عليه وجلسنا ثم تركَنا قليلًا، فانتهزت الفرصة وسألت صديقي: ما هي الحكاية؟ قال: هذا مصنع للموبيليات أقامه هؤلاء الشبان بأحدث الطرق العلمية، وأنا قادم الآن لاختيار نوع المطبخ. قلت له: إذن قم بنا نتفرج. قال: سنتفرج دون أن نقوم. وكان الموظف قد عاد بورقة فيها أرقام ضربها على حروف الكمبيوتر، وانتظر قليلًا وضرب حروفًا أخرى ثم أدار الكمبيوتر ناحيتنا وبعد ثوان قليلة ظهر لنا مسقط رأسي وأفقي لمطبخ كامل على شاشة الكومبيوتر، مطبخ كان له نظير خشبي حقيقي معروض أمامنا فقلت لصديقي: وما الداعي للكمبيوتر إذن؟ قال: لأن المقاسات مختلفة والفتحات في شقة ابنتي والأجهزة مختلفة. وبدأت أهتم أكثر، تأمل صديقي الرسم الإلكتروني ثم قال: إن ابنتي تفضل وضع الثلاجة هنا، وماكينة غسيل الأطباق تحت الحوض. أومأ الموظف الذي بدأت أدرك أنه مهندس شاب برأسه، ونقر على الكمبيوتر بضع مرات وانتظر وانتظرنا بعد ثوان. كان الرسم الجديد قد هبط على الشاشة من أعلى إلى أسفل، ورأينا أمامنا المطبخ محورًا كما طلب الصديق الذي ظل يتأمله طويلًا، ثم اكتشف شيئًا قد نسيه فذكره للمهندس الشاب، فأعاد المهندس العملية وببضع نقرات وانتظار أقل ظهرت صورة المطبخ كما يريدها الصديق تمامًا، قال: هذا هو بالضبط ما نريده كم سيتكلف؟ وبكلتا يديه راح المهندس يدق على زراير الكومبيوتر، وإذا بقائمة تظهر على الشاشة موضحًا بها تفاصيل أسعار كل مكون من المكونات، وفي النهاية مجموع التكاليف، كان الرقم عاليًا هذا صحيح، ولكن المهندس شرح الموقف قائلًا: إن مصنعنا يعمل للتصدير إلى سويسرا وغيرها من بلدان أوروبا؛ فوقتنا كامل تمامًا وتلك هي تكاليفنا بالضبط. وحاول صديقي كعادتنا أن يخفض في الثمن، أو يجعله كما يقولون بالإنجليزية رقمًا دائريًّا، أي يرفع كسور الآلاف، ولكن المهندس الشاب هز رأسه بكل أدب ورقة وجدية قائلًا: هذه هي أسعارنا لا نستطيع تخفيضها قرشًا واحدًا. وكان واضحًا لا فائدة فاستسلم صديقي وقال: ومتى التسليم؟ ضرب المهندس الزراير وقال: يوم كذا شهر كذا من الساعة الثانية إلى الرابعة بعد الظهر.
ودعونا من القصة فما أكتبها فالمصنع في الحقيقة يملكه مهندس شاب من المؤمنين بالتيار الإسلامي الجديد، وكذلك كل العاملين لديه، لهم ذقون وساعة صلاة العصر كان كل منهم يذهب ليصلي ليذهب بعده زميله وهكذا، والمصنع مزود بأحدث التكنولوجيا في صناعة الأثاث، وكل حساباته الهندسية والمالية والزمنية يقوم بها الكومبيوتر، وكما علمت فإن آلات النجارة نفسها فيها كمبيوتر يقوم بكل العمل، والشبان الذين يعملون فيه نشيطين مؤدبين صامتين أغلب الوقت، وكأنك في مسجد، وكان العمل عبادة، وأدبهم وطريقتهم في المعاملة تفوق الوصف وانضباطهم يفوق الحد، وثقافتهم ودرايتهم واسعة ودقيقة تمامًا.
وأحسست بفخر شديد.
أدركت لماذا كنت أغضب حين أقرأ وأرى وأسمع الجعجعة الميكروفونية باسم الدين الحنيف؟ أدركت لماذا كنت أعترض على أصحاب الآراء القائلة بضرورة العودة إلى حياة البادية ونبذ العلم والتكنولوجيا وربما اعتلاء الجمال وسيلة للمواصلات؟ كنت أغضب لأني أعرف ومتأكد ودارس أن الإسلام ليس هكذا أبدًا، وأن ذلك الدين الذي دفع العلوم والكشوف مئات السنين إلى الأمام لا يمكن أن يعطي ظهره للعلم وللتحضر وللتطور، كنت أغضب لأني أعلم أن الإسلام ليس دين التعصب الأعمى المدجج بالسلاح والرصاص القاتل لمن يتوهم أنهم معارضوه أو مخالفوه، وإنما هو دين الحجة والمنطق والعلم والموعظة الحسنة.
أحسست بفخر شديد.
هؤلاء الشبان مؤمنون مسلمون، ذلك الإسلام المفرح الهادف إلى إتقان كل شيء من أول التصرف في الطريق إلى العمل إلى العبادة، الإسلام القائل: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه.» بتفانيه يتقنه بالكمبيوتر يتقنه، باستيراد التكنولوجيا والعلوم تمهيدًا لإتقانها وتأصيلها حتى نستطيع بهذا أن نصدرها. هذا هو الإسلام في أعظم صوره، الإسلام في الكلمة العظيمة التي يتجاهلونها دائمًا: الدين المعاملة، العمل عبادة. لا غلظة في القول ولا شدة في المعاملة، ولا استغناء عن رضاء الناس بإرضاء المولى سبحانه وتعالي؛ فإرضاء الناس فيه إرضاء للمولى، هذا هو الإسلام، لا خزعبلات فيه، إسلام العلم والعمل والتقوى، إسلام الرجل والمرأة، الجاد السمع المؤدب المهذب المنضبط، هذا هو الإسلام الذي يدفع المسلمين إلى أمام وإلى تقدمٍ يجعلنا نتلفت ذات يوم لنطبق الحد، فنجد كل الناس قد صلحوا ولم يعد هناك آثم ينبغي أن يُطبَّق عليه الحد أو العقاب، الإسلام الذي يرقى بالنفوس ويسمو بالروح ويؤمن إيمانًا قاطعًا أن سلوك المسلم هو الذي يُحاسَب عليه، وهو الذي نراه منه وهو الذي يعاملنا به، وليس هو ما يقوله أو يجهر به أو يُعَذَّب به الناس في ميكروفونه، وقد أمرهم الله في كتابه أن يجعلوا الليل لباسًا وراحة للعقل والبدن.
لم أكن أريد أن أغادر هذا المكان الجميل الذي لم أعرف صاحبه ومديره من العامل فيه ولا الرئيس من المرءوس؛ فكل منصرف إلى عمله يجد فيه ويتقنه بوازع من ضمير حي وليس عن خوف من عقاب.
اللهم إذا كان التيار الإسلامي هكذا فأنا أول المنضمين.
فإذا شئتم حزبًا يبشر بهذا ويعمل به يخاطب العقل فينا وينهرنا عن الغوغائية فخذوني معكم.
وودعت الناس والمكان وأنا أقول لنفسي: سبحان الله! ما لهذا الدين العظيم يستحيل عند بعض الناس إلى وسيلة قهر وتعذيب واستعباد، في حين أنه في حقيقته، وعند المسلمين حقًّا وهو هكذا كما رأيت، عنوان للتحضر والرقي الأخلاقي والعلمي والمهني والإيمان العميق الذي لا يتباهى به أحد على أحد ولا يكفر به أحد.
رب ارزقنا بكثير من أمثال هؤلاء الشبان الملتحين في وقار العاملين في جدية العارفين ربهم عن ذكاء ووعي وحب وإيمان عميق.