رسالة من الجنادرية
لا أعتقد أن الإنسان منا يتحكم في حياته تمامًا، وفي الأسبوع الماضي فتحت موضوعًا مهمًّا — كان له صداه الغريب لدى القراء — وكان مفروضًا في مفكرتي لهذا الأسبوع أن أتابع الموضوع وأخبر القارئ بآخر ما توصلت إليه حياله، ولكن الأقدار كانت تخبئ لي شيئًا آخر؛ إذ كان الميعادان قد حلا معًا في وقت متقارب جدًّا، وكنت قد كتبت ووافقت منذ بضعة أشهر على حضور مهرجان الجنادرية الذي يُعقد في الرياض، وعلى الاشتراك في التحضير للمؤتمر الثقافي القومي الذي يُعقد في المغرب في أكتوبر القادم إن شاء الله، وبدأت التليفونات والاتصالات والتذاكر المعدة سلفًا، وكان لا بُدَّ أن أسافر وفعلًا قررت حضور الجنادرية أولًا ثم الطيران رأسًا إلى المغرب لحضور الاجتماع، ولكن طول الوقت كنت مشغولًا بقضية الطالب محمد حامد الحمامي ومشكلة فصله من معهد الفنادق في بورسعيد إثر محاولته تعليق صور للانتفاضة الفلسطينية، وها أنا ذا من الرياض أتابع الاتصال بمكتبي في الأهرام، وعلمت أن الدكتور فتحي سرور قد اتصل بي ووعد بالتحقيق السريع في القضية، ثم جاءتني مكالمة من اللواء زكي بدر وزير الداخلية، ولأن الاتصال لم يحدث، والمتصل كان مدير مكتبه؛ فلم أعرف بالضبط ماهية الرسالة، كل ما أعرفه أن لدى عودتي القريبة إن شاء الله سأتابع القضية معهما، لا لكي أطمئن على مصير الطالب محمد حامد الحمامي فقط، ولكن لكي نشترك جميعًا في وضع بروتوكول للنشاط السياسي المشروع الذي لا بُدَّ أن يقوم به الطلبة والشباب؛ فالعقل الحاكم الحديث يعتبر أن المظاهرات السياسية والمؤتمرات المنظمة وكافة الأنشطة النقابية والشعبية هي مصدر من مصادر القوة لديه، وأمامنا المثل في إسرائيل، تلك التي تلعب هذا الدور بمهارة شديدة، فهي تترك فيضان مظاهرات «السلام الآن» تهتف ضد الاحتلال الإسرائيلي للضفة ولغزة، في نفس الوقت الذي تفتح فيه القنابل والرشاشات على الشباب والفتيات العرب المتظاهرين، وسماح الحكومة الإسرائيلية لمظاهرات ونشاطات جماعات «السلام الآن» هو خير دعاية — من ناحية أخرى — لديمقراطية الحكومة الإسرائيلية تجاه مواطنيها الإسرائيليين فقط لكي تخفي بهذه الديمقراطية الفاشية التي تعامل بها المواطنين الفلسطينيين العرب.
إذن إلى الأسابيع القادمة إن شاء الله لكي نناقش هذا الموضوع بعمق أكثر وبفاعلية أرجو أن تكون أكثر، بحيث تؤدي إلى اتفاق على أسلوب لمعاملة النشاطات الشعبية التي قد يبدو بعضها مخالفًا لما تقوله الحكومة، ولكنه — وهذا هو الغريب — يتفق تمامًا مع التصريحات التي يدلي بها الرئيس حسني مبارك.
•••
والآن أنا أكتب لكم هذه الكلمة وأنا في مهرجان الجنادرية وهي منطقة صحراوية تبعد عن الرياض بحوالي خمسين كيلو مترًا، وهو مهرجان سنوي يقيمه «الحرس الوطني السعودي» للثقافة والفنون الشعبية، وقد يبدو الأمر محيرًا قليلًا؛ إذ إن الحرس الوطني نوع من الميليشيا العسكرية المكونة من أبناء جميع القبائل في المملكة العربية السعودية، وذلك حتى «يحرس» وحده شبه الجزيرة العربية. إن مسألة البترول والنقود السعودية الكثيرة والعلاقات المتحسنة قليلًا السيئة في معظم الأحيان قد منعتنا عن دراسة ما حدث ويحدث في الجزيرة العربية منذ الثلاثينيات وإلى الآن، في حين أن السعودية واحدة من أهم البلاد العربية، بل أهم بلاد العالم كله وعلاقتها بمصر علاقة أزلية مصيرية، كان الملك عبد العزيز ووالده الملك السابق منفيين في الكويت بعد صراع حول الحكم، ثم قرر الملك عبد العزيز أن يعود ويفتح الرياض، وفعل هذا بسبعة عشر مقاتلًا لا غير، ولأن الرجل كانت له رؤية تاريخية بعيدة؛ فقد أخذ على عاتقه مهمة القضاء على الوضع القبلي في الجزيرة العربية، والذي كانت تتحكم فيه قبائل وسلاطين ومحل حروب مستمرة حول المراعي، أنشأ الملك عبد العزيز جيشًا وحارب زعماء القبائل بلا هوادة، وبالقوة مرة والزواج مرة وبالسياسة مرة استطاع أن يوحد شبه الجزيرة العربية التي تصل مساحتها إلى ثلاثة أضعاف مساحة فرنسا، وأخيرًا تم له في النهاية الانتصار، وأصبحت شبه الجزيرة العربية مملكة واحدة، وأنجب الملك عبد العزيز أربعين ولدًا، كان اكبرهم الملك سعود الذي تولى الحكم من بعده ثم فيصل الذي اسْتُشهد في حادث غامض، ثم الملك خالد الذي تُوفي وتولى بعده الملك فهد.
ولا بُدَّ أن بلاد نبينا العربي محظوظة حقًّا، فمنها خرجت رسالة الإسلام تعيد الإيمان إلى قلوب كفرت وتمنح الحق للمؤمنين أصحاب الديانات السماوية الأخرى أن يحيوا في سلام تحت ظلال الدولة الإسلامية الكبرى، التي فتحها العرب وامتدت من الأندلس إلى أزبكستان إلى الهند والصين وأفريقيا.
أقول محظوظة لأن البترول بدأ يظهر في السعودية في أوائل الثلاثينيات، ولو لم يكن الملك عبد العزيز قد «وحد» شبه الجزيرة كلها في دولة واحدة، لو لم يكن هذا قد حدث وظهر البترول في عهد الانقسامات والقبائل لكانت المملكة العربية السعودية اليوم عشرات من الإمارات الصغيرة المتنافرة المتنازعة، فاكتشاف البترول إذن بعد قيام الدولة جعل العائد لا يضيع في منازعات وحروب صغيرة، إنما تسلمته الدولة السعودية الجديدة وأصبح لها شأنها الكبير الآن.
بقيت مسألة الحرس الوطني والثقافة؛ فالحرس الوطني أُنشئ من كل أبناء القبائل ليحافظ على «الأمن» الداخلي، وهو جهة مستقلة تمامًا لا علاقة لها بالجيش الذي يحافظ على الأمن الخارجي، ولا بوزارة الداخلية التي تقوم بأعمال أي وزارة داخلية في أي بلد آخر.
أما أن يتبنى الحرس الوطني الثقافة ورعايتها في المملكة، ولأنها بدت لي غريبة أن يقوم تنظيم عسكري بالإشراف على الثقافة؛ فإن الشيخ عبد العزيز التويجري مساعد رئيس الحرس الوطني الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس الوزراء؛ إذ الملك فهد هو رئيس الوزراء، ذكر لي الشيخ عبد العزيز أن مهمة الحرس الوطني أكبر من مجرد المحافظة على الأمن؛ فهو المسئول عن المحافظة على التراث العربي في شبه الجزيرة، وعلى ربط الحاضر بالماضي باستمرار بحيث لا ينشأ جيل مترف تمامًا من السعوديين لا يعرفون شيئًا من واقعهم في الماضي القريب؛ ولهذا جاءت فكرة إقامة مهرجان الجنادرية، والمهرجان يرأسه الأمير عبد الله الذي يحب الموسيقى وله صلات كثيرة بمعظم الموسيقيين في العالم العربي، في الحقيقة أن يوم أمس يوم الافتتاح كان حدثًا فعلًا، فأن تتبنى المملكة العربية السعودية فكرة إقامة مهرجان عن العلاقة بين الموروث الشعبي والإبداع الفني والفكري شيء يكاد يصل إلى المعجزة، فكلمة شعبي نفسها كانت لا تُذْكَر قبلًا في المملكة، وأن تعترف المملكة ﺑ «الإبداع» الفني والفكري شيء خطير يكاد يكون انقلابًا في التفكير، وأن يُدعى إلى حضور هذا المهرجان والاشتراك في الندوات والمناقشات كتاب من أمثالنا وشعراء، كانوا موضوعين في القائمة السوداء ومحظورًا عليهم دخول المملكة؛ فهو علامة أن المملكة تتطور بخطوات واسعة إلى الأمام، ليس فقط في الإنشاءات الخرافية والطرق ووسائل الاتصالات والمواصلات، وإنما أيضًا في «التفكير»، مع الحفاظ على التقاليد العربية الراسخة، وكنت جالسًا لمشاهدة المهرجان قريبًا من جلسة خادم الحرمين وولي العهد الأمير عبد الله، وكان مذهلًا تمامًا أن أرى الأمير بدر واقفًا بغير عباءة رهن إشارة الملك وولي العهد مع أنه أخوهما، بل في حفل العشاء الذي تلا هذا المهرجان الشعبي ظل الأمير جالسًا خلف أخيه الملك مباشرةً دون أن يسمح لنفسه أن يشارك في تناول العشاء، الحقيقة أعجبتني هذه الطريقة العظيمة في الولاء بين أطراف العائلة الواحدة، بل حتى حين عزمنا الشيخ عبد العزيز التويجري وهو فوق أنه نائب رئيس الحرس الوطني أرى أنه من أنبغ المواهب التي أنجبتها صحراء نجد على طول تاريخها، بدوي من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، وهو يكتب على السليقة، يجلس هائمًا هكذا ثم يملي وقد قرأت كتاب «رسائل ولدي» وكذلك كتابه الآخر والمهم تمامًا «رسائل إلى المتنبي»، ولأول مرة كان كاتبًا يأخذني من يدي ليطلعني على خفايا ودهاليز وعبقرية المتنبي، وهي ليست فقط رسائل للمتنبي، ولكنها عملية حوار عظيمة بين بدوي كاتب وبدوي شاعر، تكاد تتلمس فيها كيف تنطق صحراء نجد حكمة وتفانين وصورًا شعرية أخَّاذة، وفلسفة كليهما الأبي المتواضع أشد ما يكون تواضعًا واعتزازًا بالذات وبما تنطوي عليه من مزايا ومن خير.
أما كتاب عبد العزيز التويجري الأخير عن «حاطب ليل شجر» ذلك الذي كتب مقدمته الدكتور زكي نجيب محمود، فهو في رأيي تمثل قانتًا أضجره العيش الرضي وبات يحن إلى الحياة الصحراوية في بدايتها الأولى، والغريب أن هذا الحنين من القوة بحيث إن كل الصور الشعبية والفلسفية الواردة فيه مأخوذة عن حياة البادية وطقوسها وراعيها وحتى شياهها.
حين عزمنا الشيخ عبد العزيز على العشاء فُوجئت أن الذي يخدم علينا هم أبناؤه، إن الإنسان منا في مصر يكاد يقبل يد ابنه ليحضر مجرد حفل عشاء يقيمه لأصدقاء، فما بالك وهؤلاء لا يحضرون فقط، بل زيادة في الإعزاز والتكريم يتولون هم وليس أحدًا غيرهم، مهمة القيام على راحة الضيوف، مع أن أكبر أبناء الشيخ هو الشيخ عبد المحسن التويجري رئيس ديوان ولي العهد بنفسه يحضر لك الماء ويعزم علي ويعتني بكل ضيف عناية خاصة.
•••
في المهرجان أخذني الأمير بدر من يدي وتوجهنا معًا إلى حيث الملك فهد وولي العهد وبإعزاز صافحني خادم الحرمين وولي العهد، وكنت أتصوره سلامًا مجرد سلام، لكن الملك قال لي: نحن معتزون وممتنون للرئيس حسني مبارك على تصريحاته بمناسبة تهديدات شامير.
تهديدات شامير بضرب قواعد الصواريخ في المملكة، إن هذا الموقف ليس جديدًا عليَّ وعلى الرئيس حسني مبارك، فقد تعودنا منه الشهامة والرجولة حين يجد الجد.
قلت له: حبذا أن نسمع هذه الإشادة في القاهرة.
قال: أنا قادم إلى القاهرة إن شاء الله بعد العيد مباشرةً.
قلت: مرحبًا بك فالشوق مزدوج وكبير، أترككم الآن إذ أنا في الطريق إلى قاعة المناقشات في الجنادرية لمناقشة موضوع هام تمامًا هو التراث الشعبي وعلاقته بالقضية العربية الحديثة.
أترككم ومعي وفد مصري كبير يناهز الأربعين كاتبًا وشاعرًا وناقدًا ودارسًا، أكبر وفد إذ حجمه حجم كل الوفود العربية والأجنبية المجتمعين.
وكل الوفد محل حفاوة الداعين ورعايتهم، وبالذات الدكتور أحمد هيكل وزير الثقافة السابق والدكتور عبد الحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي، والدكتور عبد القادر القط، والشاعر فاروق شوشة، والناقد رجاء النقاش، والروائي الشاب صنع الله إبراهيم، ومعنا أيضًا الشاعر محمد الفيتوري، والقاص السوري زكريا تامر، والروائي السوداني الكبير الطيب صالح، ووزير الثقافة المغربي والكاتب د. عبد الكريم غلاب، عدد لا يُحصى من المبدعين والنقاد العرب.