إننا نختنق … نختنق
الساعة الثالثة بعد الظهر، نقطة التلاقي بين شارع الجلاء الذي توجد به الأهرام وبين شارع ٢٦ يوليو نقطة عبثية تمامًا، وكأنها منتزعة من فيلم تسجيلي عن يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، أو بالمعنى المعاصر يوم يفر راكب الدراجة من راكب الموتوسيكل من السائر هائمًا على وجهه من ديناصورات النقل الكبيرة و«التريللات» الساحبة وراءها مركبة لا تقل عنها ضخامة من عربات السوزوكي والتويوتا ورمسيس وعربات الأوتوبيس والعربات الخاصة، وأبدًا لا يتوقف المرور في الاتجاهَين معًا، والشاطر هو الذي «يدخل» على الثاني، وقيادة السيارات بالدراع وبأعلى «سارينة» وبالخبط في الجنب أو في الاكصدامات، ويا ويل العابر على قدمَيه أو راكب الدراجة؛ فحياته ممكن لو لم يستعمل كل بهلوانيته وسرعته، لو كان مريضًا أو كبير السن، لو كانت سيدة بدينة، ممكن أن ترتفع إلى بارئها في لحظة، والغريب أنه لم تقع حادثة دموية واحدة في هذا التقاطع طوال السنوات العشر التي أستعمله فيها عائدًا إلى منزلي، وليس هذا بالطبع لحسن إدارة عسكري المرور المسكين القادم لتوِّه من التجنيد الإجباري، وإنما لأننا نحن القاهريين قد علمتنا سنوات التدفق السكاني والازدحام غير البشري أنماطًا كثيرة للسلوك البهلواني والاتكالية والضرب عرض الحائط بمخاطر عبور الشوارع والميادين، ناهيك عن القدرة على النفاذ بين عربتَيْ نقل مخيفتَين أو عربتَيْ أوتوبيس تكادان تتلاصقان بحمولتَيْهما البشرية الضخمة، المهم أني لا أكتب هذا انتقادًا لحركة المرور في هذا التقاطع؛ فقد كان مفروضًا أن تحل من زمن كبير، وكان مفروضًا أن يكون أول نفق تحت الأرض يُنشأ في مصر أن يُنشأ في ميدان الإسعاف ويشمل بالتالي تقاطع الجلاء مع ٢٦ يوليو؛ فتلك المساحة، أو اللامساحة، هي أكثف حركة مرور في القاهرة كلها.
ولكن بما أن القاهرة الجديدة كلها قد نشأت عشوائية بلا أي استعانة بعلم تخطيط المدن، وهو من أهلم العلوم الهندسية وموجود في كلياتنا، ولكن كل خريجيه بلا استثناء يهاجرون إلى البلاد التي تخطط مدنها فعلًا، لدرجة أني قابلت مرة ثلاثة مهندسين حاملين للدكتوراه في تخطيط المدن يعملون في مدينة بوسطن الأمريكية، واحدة من أجمل مدن العالم تخطيطًا! بينما قاهرتهم في مجاعة شديدة لهذا النوع من المهندسين، ولكن شئوننا البلدية والقروية لم تكن تحفل بالتخطيط، وحين انتقل الأمر إلى محافظة القاهرة وإلى رؤساء الأحياء فسدت الأمور أكثر وأكثر، ولولا أن قيَّض الله أخيرًا للقاهرة محافظًا واسع الأفق والتفكير، عارفًا وقادرًا على عمله بلا أي كلل أو تقاعس هو اللواء يوسف صبري أبو طالب، وبدأ يذيقنا بلمساته معنى أن تكون المدينة مخططة، وأن يكون لكل حي حديقته، ولم يبقَ إلا أن يعود لكل شارع أرصفته ولكل عمارة أمكنة انتظارها.
أقول لا أكتب هذا انتقادًا لحركة المرور في تقاطع الجلاء-٢٦ يوليو، ولكني أكتبه للمنظر الذي رأيته وشممته واختنقت به، ولا أزال أفعل كل يوم الساعة الثالثة كما سبق وقلت، وحركة المرور على أشدها، موظفون عائدون راكبين وراجلين وأوتوبيسات سردينية المحتوى هرقلية الحجم والجثير وعربات نقل … إلى آخره. كنت واقفًا في إشارة المرور، احترامًا للإشارة التي لا يريد أحد أن يحترمها، أحاول أن أرى من خلال زجاج السيارة إن كانت الإشارة فتحت أم لا تزال حمراء، وفجأة تبينت أن هناك ما يشبه العاصفة الرملية أو الترابية بالكاد أستطيع أن أرى من خلالها، وفتحت زجاج السيارة لأرى المنظر على حقيقته، وكم روعني ما رأيت، فلا يوجد ماسورة عادم لعربة أوتوبيس أو نقل أو ميكروباص أو تاكسي قديم إلا وهي تنفث نافورة أفقية من الدخان نتيجة اختلاط كيروسينها بزيتها أو بديزلها، دخان دخان دخان، لا يملأ الجو فقط، ولكنه يخنق التنفس، ويثير مع التراب الكثير الذي يحفل به الشارع سحبًا متجمعة متضاربة منتشرة إلى الجوانب وإلى أعلى واصلة إلى كل حلق وفتحة عين.
يا إلهي، لكأنني في قاعة فرن فلاحي قد سُدَّت منافذها وأُغلق بابها، وقد امتلأت بدخان الحطب المندي.
ربما الذي دفعني للإحساس بذلك المشهد المهول الذي لا يمكن أن يحتمله أحد هو أنني كنت عائدًا لتوي، ليس من لندن أو باريس، وإنما من قلب أفريقيا، كينيا، وتنزانيا، والصومال، وأفريقيا بلاد أفقر منا بكثير، ومعظم شوارع ممباسا أو دار السلام ليست مرصوفة وإنما هي مسواة على حالها الترابي، ولكن ليس هناك تلوث بمثل هذه الكثافة الخانقة. أذكر أني كنت في نيروبي، وكنت في طريقي لاتحاد الكتاب الكينيين وكنت أستقل عربة تاكسي، وكان سائقي اسمه إيليا، وكان مسلمًا، ولما سألته عن هذه المعادلة الغريبة، قال لي: في عهد الاستعمار لم يكن يُسمح بدخول المدارس إلا للمسيحيين فقط؛ ولهذا كان كثير من المسلمين يسمون أولادهم بأسماء مسيحية، كاثوليكية في الغالب، ليمكنهم دخول المدارس، وأنه بعد جلاء الاستعمار بدأت كثرة من تلك العائلات في العودة إلى تسمية أبنائها بأسماء إسلامية.
لا أريد أن أطيل، فأثناء دردشتي مع السائق بدأت العصبية وكثير من الغضب يحفل بهما صوته، ثم نطقها وقال: هذا السائق الملعون، ونظرت فرأيت أمامنا سائق عربة نقل، وكانت العربة هي الوحيدة التي «يفوت» موتورها وينفث دخانًا نتيجة اختلاط الزيت بالبنزين داخل المحرك، تلفت حولي فإذا بنا نسير داخل غابة خضراء يانعة يقطعها هذا الطريق الرفيع، والغابة كما نعرف تولد الأكسجين، ومعظم كينيا وشرق أفريقيا غابات خضراء شاسعة، ومع هذا، ونظرًا لاحتمال زحف التصحر، من الصحراء، مع سنوات الجفاف الطويلة، فقد بدأت كينيا منذ ثلاث سنوات مشروعًا اسمه مشروع الشجرة؛ إذ يزرعون كل يوم مائة شجرة جديدة، داخل بلاد تحفل بغابات وغابات من الأشجار، كل هذا خوفًا على البلاد والمدن من تلوث الهواء.
وصل الغضب بإيليا أقصاه، وبدأ محاولات خطرة مستميتة لكي «يعدي» عربة النقل التي تنفث دخان الزيت وهو يصرخ: تلوث … تلوث …
هذا السائق البسيط يرعبه هذا التلوث، ويعرف معناه بالإنجليزية في بلاد لا تكاد تحفل بأية آثار للتلوث؟! المضحك أني عرفت من سفيرنا في كينيا الصديق محمود عثمان أن في كينيا بعثة لدراسة البيئة والتلوث يرأسها الدكتور مصطفى، واحد من أعظم خبراء البيئة والتلوث في العالم، وموفد هو والبعثة لدراسة التلوث في حديقة أفريقيا، كينيا.
أليس هذا ظلمًا يا إلهي ما بعده ظلم؟ يعني ننتج نحن الشعب المصري أكبر خبراء العالم في التلوث، وتحفل قاهرتنا الحبيبة بأعلى نسبة للتلوث في العالم إلى درجة أنها وصلت في بعض الأحياء، وبالطبع لا بُدَّ أنها كذلك في تقاطع ٢٦ يوليو مع الجلاء، وصلت إلى درجة ألف في المائة من الحد الأعلى للتسمم التلوثي.
كل هذا ونحن نتنفس التلوث ونبتلع الذرات الخانقة، وتمتلئ رئتنا بعادم النقل والأتوبيس، والمرور لا يفتش أبدًا على العادم، يكفيه البوية ورقم الشاسيه والموتور، ويتم الكشف على المركبة، بينما العادم يُترك ليَضخ في شوارعنا وصدورنا ملايين الأمتار المكعبة من الزيت العادم، ناهيك عن التراب وبقية ما تثيره الرياح من قاذورات، كل هذا وثمة مؤتمر للبيئة، مؤتمر عظيم مهول أسفت تمامًا أنني لم أتابعه بنفسي شخصيًّا، انعقد خلال بضعة الأسابيع الماضية لدراسة التلوث البيئي في مصر، وتلوث مياه النيل، والتلوث الصوتي الناتج عن استعمال الميكروفونات وبقية الضجات الصادرة من الشارع المصري بطريقة لا يمكن أن تحتملها أي أذن بشرية، وإذا احتملَتْها فلا بُدَّ أن تصيب العقل الذي يسمعها بالصمم أحيانًا، وبارتباك الوظائف وبالانعدام التام للقدرة على التركيز أو إنجاز النشاطات العقلية الواجب القيام بها.
لهذا أنت ترى المواطن في شارع القاهرة ثائرًا يلهث من قلة الأوكسجين، تائه الوجهة والتركيز من ضجة الأصوات والميكروفونات، سريعًا ما يصيبه الكلل والتعب، نافد الصبر، بطيء الحركة، مصابًا بما أسميته «التولة» غالبًا ما ينتهي أمره إلى كلفتة عمله، أو الانهيار جلوسًا على قهوة، أو أمام مكتب وارم القلب والعقل يلهث بلا تعب ويعرق بلا أي مجهود، ويقصر عمره ويزداد وزنه من قلة الحركة والنشاط؛ فهو يعيش في جهنم مليئة بالتلوث، والدخان، والغبار، والضجة الخرافية تحاصره ولا حفنة من هواء نقي، أو هدوء، يستطيع معها أن يلتقط أنفاسه أو أنفاس عقله، ويعود كائنًا بشريًّا يصلح بما يصلح له أي كائن بشري في أي مكان آخر من العالم.
لقد أصبحت الحياة في قاهرتنا الحبيبة مع كل ما تحفل به من تلوث في الجو وفي الماء وفي الأصوات، أصبحت معجزة العالم الثامنة لا بد، فإني لأكتب هذا وأتساءل: كيف بالله ما زلنا نحيا؟
وأعقبه بتساؤل آخر موجه إلى حكومتنا: كيف تحكمين الناس والبلاد وهي تحفل بهذا الكم من التلوث؟
لماذا الطب مقدس؟
حسن جدًّا بادرتْ بفعله نقابة أطباء القاهرة والنقابة العامة للأطباء من إحالة الدكتور أحمد شفيق إلى مجلس تأديب لخروجه على المادة الثامنة من آداب مزاولة مهنة الطب؛ ذلك أن مهنة الطب لها وضعها الخاص بين مختلف المهن التي يزاولها الإنسان؛ فالطبيب ليس مجرد مهني آخر يزاول مهنة أخرى كالهندسة أو التدريس، الطبيب مهنته صيانة روح وجسد الإنسان، وأنت حين تذهب للطبيب تُسلم نفسك تمامًا له، بحيث تؤمن تمامًا بما يقول، وتستسلم لمبضعه إذا شاء أن يُجري لك عملية جراحية، ممكن في أثنائها أن يصنع بجسدك ما يشاء. كذلك إذا ذهبت إلى طبيب نفسي، أنت تُدلي له بكل الأسرار التي لا تستطيع أن تدلي بها لأخيك أو لصديقك أو إلى أعز الناس وأقربهم منك؛ إذ أنت تعتبره الأمين أمانة عظمى على كل هذه الأسرار؛ ولذلك فكل المهن من قديم الزمان كان ممكنًا أن تزاولها بمجرد الحصول على مؤهلاتها ما عدا الطب، فلا بُدَّ أن يُقسِم قَسَم أبو قراط أبو الطب في مزاولة عمله بمنتهى الأمانة والمسئولية والصدق والمحافظة على مريضه والعمل بكل ما يملك على شفائه. قسم أبو قراط هذا شيء رمزي محض يرمز إلى جعل الطبيب الشاب يحس بأهمية وخطورة المهنة التي سيبدأ في مزاولتها، بل يحس تجاهها بنوع من القداسة والتبجيل. وأذكر ونحن في المدارس الابتدائية أنه كان مقررًا علينا في كتاب المحفوظات قطعة تتحدث عن الطبيب ما زلت أذكر إلى الآن منها هذه الفقرات: رعاك الله يا رسول الرحمة، ومنقذ المرضى، وملجأ الملهوف؛ إن يدك التي تطيب المريض ليست كأيدينا، ومشرطك الذي يعالجه ليس مبضعًا، وإنما هو إصبع ملاك حارس يجتث العِلة … إلخ.
من أجل هذا تُحاط مهنة مزاولة الطب بكل الاحتياطات التي تمنع بعض الأطباء الشاذين — وليس كل الناس أسوياء — من استغلال جهل المريض أو عدم إدراكه حقيقة مرضه أو «النصب» عليه أو الاحتيال أو إساءة استعمال أسراره. وأذكر في هذا القبيل أحد «الزملاء» الأطباء، زمان، كان يعمل في قرية وكانت لديه ثلاجة تضيء إذا فتح بابها كالعادة، فكان يقول للمريض: تعالَ أعملك إشاعة. ويوقفه أمام الثلاجة فتضيء ثم يغلقه ويقول للمريض: خلاص، عملنا الإشاعة. ويتقاضى منه خمسة جنيهات إضافية مقابل تلك الإشاعة. وكثيرة هي أمثلة النصب والاحتيال، ولكن المهنة في مجموعها والأطباء في مجموعهم، وحسب خبرتي حتى كمريض، أناس يحتلون أعلى المقامات بالذمة والأمانة والانضباط.
ولهذا يُحاط أيضًا، استعمال أي عقار جديد، بضمانات شديدة الدقة خاضعة تمامًا للأصول العلمية؛ حتى لا تنقلب المسألة إلى فوضى ويصبح أي طبيب حرًّا في أن يجرب على مرضاه كل ما يخطر على باله من أدوية يخترعها أو يدعي أنها جديدة. لا بُدَّ من إقرار أي دواء جديد بواسطة الجهات العلمية المختصة، ثم بعد هذا ترخص وزارة الصحة باستعماله ويُعطى رقم ترخيص، وأي طبيب يستعمل عقارات أو كيماويات غير مرخص باستعمالها عقوبته السجن، وليس مجرد الإنذار أو التأديب.
أما أن يؤدي هذا إلى تثبيط همم الأطباء الذين يريدون أن يخترعوا أو يبتكروا فهذا قول ساذج تمامًا وغير صحيح بالمرة؛ فباب الاجتهاد والاختراع مفتوح على مصراعَيْه، ولكن، ومهم جدًّا كلمة ولكن هذه، هناك ضوابط علمية دقيقة موضوعة كلها لمصلحة المريض. إذن على الطبيب الذي يكتشف أو يخترع أن يتقدم إلى الجهة العلمية المختصة باكتشافه، ويطلب الإذن بالتجريب على الحيوانات، ومئات الجداول، ومتطلبات أخرى كثيرة تتأكد الجهة العلمية من فاعلية الدواء ومن تركيبه الكيمياوي ومن أضراره الجانبية أو عدم وجودها، ومن تعارضه مع أدوية أخرى أو عدم تعارضه. بعد هذا تأذن الجهة العلمية بالترخيص للطبيب باستعمال الدواء الجديد على المرضى — وأيضًا تحت إشراف علمي دقيق — حتى إذا نجحت التجارب على المرضى يُعتمد الدواء، ويُسمح بالنشر عنه في مؤتمرات الطب والدوريات العلمية ويُصرح لمعامل الأدوية بتصنيعه حينذاك فقط.
أما أن تواجه وسائل الإعلام، من خلف كل الجهات العلمية، بدواء جديد، فلو حدث ذلك في أي بلد في العالم لشُطب اسم الطبيب من قائمة المزاولين لمهنة الطب وقُدِّم للمحاكمة فورًا؛ فالمسائل ليست فوضى أبدًا، بل إن هناك في إنجلترا قواعد دقيقة لكتابة اللافتة التي تحمل اسم الطبيب بحيث لا يزيد عن العشرة سنتيمترات بأي حال، بل إن هناك مادة في قانون مزاولة المهنة في إنجلترا تمنع الجرائد والمجلات من نشر أي شكر للطبيب المعالج على صفحاتها، فإذا حدث وقبل الطبيب أن يُنشر شكره فإن اسمه يُشطب فورًا من النقابة أو بتعبير الإنجليز أنفسهم «أي يُكشط كشطًا» من قائمة الأطباء.
فما بالك بعقد المؤتمرات والظهور والسهرات في الإذاعة والتليفزيونات؟! إن عودة نقابة الأطباء إلى إحكام قبضتها على أخلاقيات مزاولة مهنة الطب في ظل الفوضى الأخلاقية والذممية التي تحيا فيها، لعمل عظيم وجاد وآنَ أوانه بعدما كاد أن يفلت الذمام.