الفصل الثامن
أسباب ونتائج
١
العصر الذي نعيش فيه عصر تقوم حضارته على الاقتصاد، ومعنى هذا أن أساس الحياة الحرة فيه أصبح اقتصاديًّا صرفًا، على العكس مما كان في العصور الأولى، فإن أساس الحياة إذ ذاك كان قائمًا على القوة العسكرية، واليوم تقوم القوة العسكرية على القوة الاقتصادية، وعليهما تقوم الحياة الحرة، فالأمة التي تضعف اقتصادياتها تضعف قوتها العسكرية، فيصيبها الكلال وتقع فريسة لمطامع الدول الأخرى التي اكتملت قوتها اقتصاديًّا وعسكريًّا.
نقدم بهذا لنقول: إن الحياة الاجتماعية انقلبت آيتها، فلئن قامت الحياة الاجتماعية قديمًا على قوة العضلات والجرأة والبطولة المستندة إلى السيف والحربة والمزراق، وكانت جميعًا من خصائص الرجل، فإنها تقوم اليوم على قوة الآلة، لا آلة الحرب وحدها، بل آلة المصنع، كما أنها إلى جانب المصنع تقوم أساسًا على قوة العلم الذي يؤسس المصنع ويخترع الآلة ويوجه سياسة العمل، والأمم الحديثة إنما تعتمد في تشييد ذلك كله على ما نسميه هنا — «قوة الحشد» — ونقصد به حشد جميع قوى الأمة ثم توزيعها على المرافق العامة توزيعًا يتوخى فيه التوجيه نحو الغايات التي تتطلبها الظروف أو تدعو إليها السياسة التي توجه فيها خطى الأمة.
هذا الانقلاب الكبير القائم أساسًا على طريق حشد القوى، لم نؤمن نحن المصريين بعد بمقدار ما له من أثر في تكييف حالات المجتمع، وما يترتب عليه من تبدل في مثاليات الأمة، وما يصدر عنه من ارتقاء في أخلاقها؛ ذلك بأن حشد القوى الكاملة للأمة يشعرها دائمًا بأن بين طبقاتها تكافلًا يحتم على كل فرد من الأفراد أن يقوم بالواجب المفروض عليه لخير المجموع كله.
جرت ألمانيا في العهد النازي على هذه الطريقة، كما جرت عليها إيطاليا في العهد الفاشي، وتجري عليها الآن روسيا في عصر ما بعد الحرب، وتنافسها في ذلك أمم الغرب، فالأمم قائمة اليوم بحشد جميع قواها؛ لكي تفوز إذا جد الجد وحزب الأمر في معمعة التناحر على البقاء، على أن التناحر على البقاء لم يصبح في عالم الإنسان كما كان في عالم الحيوان تناحر فرد وفرد، بل أصبح تناحر جمعية وجمعية، بل تعدى ذلك إلى تناحر جماعات من الأمم إزاء جماعات أخرى، وهي صورة من التناحر الحيوي يفوز فيها الذين يكملون بالحشد الصناعي والعلمي والإنتاجي، قوتهم الاقتصادية والمادية.
هذه الحال تتطلب من كل أمة أن توقظ في أفرادها؛ رجالًا ونساءً، روح التكافل حتى يشعروا بالمسئوليات الملقاة على عواتقهم، ويشاركوا، كل بمقدار استطاعته، في الإنتاج بأقصى حدود الإمكان، مع الاقتصاد في النفقة في حدود ما يتطلب ذلك الإنتاج، وما نقصد بالاقتصاد في النفقة إلا نفقة الجهد ونفقة المادة.
ولقد شعرت الأمم بما يحفزهم إلى العمل على حشد القوى، منذ أن بدأ الانقلاب الإنتاجي الحديث؛ إذ أخذت كل أمة تحشد من القوة ما يضمن لها التفوق في معركة التنافس التجاري، ثم شعرت بعد قليل أن الفوز في معركة التنافس التجاري يتطلب منها الفوز في معركة الدفاع والهجوم والتسوُّد في ميادين القوة العسكرية، ولقد بلغت هذه الحال قمتها العليا في الحربين الأخيرتين؛ إذ بان جليًّا أن الأمة التي تكمل حشودها تكون فرصتها في الفوز أكبر وانتصارها أضمن، ومن ثَمَّتْ؛ حتى الآن نرى العالم كله وقد أخذت أممه تحشد من قواها الإنتاجية والمادية، ما تتوخى به الفوز في المعركة المقبلة، وإنها لمعركة واقعة لا محالة.
لقد حشدت ألمانيا وإيطاليا قواهما، والآن تحشد روسيا قواها، وتعبئ أمم الغرب جميع مواردها، حشدت ألمانيا وإيطاليا كل القوى التي يمكن أن تستمد في عضلات الرجل والمرأة، واليوم تحشد روسيا وأمم الغرب كل قواها الحيوية بلا تفريق بين مصادرها، كل هذا لأن الأمم تشعر بأن أي تفريط في حشد هذه القوى سيكون له أثر سيئ في فوزها في المعركة المقبلة، ومن هنا كان الافتنان في تنظيم الإنتاج بسنوات خمس أو سنوات عشر، ومن هنا كان الاهتمام بدور العلم والمعاهد العالية، ومن هنا كان البذل في سبيل الاختراع والاستكشاف.
٢
في عالم مثل هذا العالم الذي وصفنا، وفي معركة تحشد فيها كل قوى الأمم التي من حولنا، وفي وسط الجلبة العالية التي تدعو الأمم إلى الأخذ بجميع أسباب الإنتاج، يحاول البعض منا؛ إرضاءً لنزعات طيبة أو غير طيبة، ولكنها على أي حال نزعات رجعية، أن يفككوا قوى الأمة ويردوا نصف الأحياء منا قعيدات في البيوت، مفضلين حياة الحريم كما فهم في عصر المماليك وغيره من العصور، على حياة الجهد والعمل والإنتاج، ويعملون مقتنعين ولكن على أساس خاطئ، بأن أمة محمد بخير، وأن لا ضرورة تحفزنا إلى حشد القوى على الصورة التي يتبعها غيرنا من الأمم، كأننا في عالم غير العالم الذي تتناحر فيه هذه الأمم، وكأننا لسنا قاب قوسين أو أدنى من ميدان المعمعة العالمية.
إن الأسباب التي تحملنا على الدفاع عن حقوق المرأة في الحرية والعمل والمساواة في الحقوق المدنية والسياسية، إنما هي أسباب لا تتعلق بحالنا الاجتماعي وحدها، بل تتعلق أيضًا بما يجري في هذا العالم من أحداث الاجتماع والسياسة؛ تلك الأحداث التي تلفنا لفًّا وتسوقنا سوقًا نحو الهدف المخبوء في صدر المستقبل؛ ذلك الهدف الذي إن جهلناه، فلسنا نجهل أننا نعيش في عالم أساس الحياة فيه قوة المصنع وقوة الاقتصاد، وعلى الجملة قوة الحشد التي تخرج من المصنع مصنعًا كامل النفع، وتقيم الاقتصاد على أساس من القدرة الذاتية للأمة.
نساق في هذا السبيل رغم إرادتنا وحتف أنوفنا، هذا إذا أردنا الحياة الكريمة، أما إذا أردنا الموت، فمن ذا الذي سوف يأسف لأن أمة تدعى الأمة المصرية قد ارتد أفرادها عبيدًا لغيرها من الأمم؟!
هذه حقائق واقعة لا ينبغي أن يعمى عليها بمثل الخطابيات التي يسوقها فئة ممن لا يدركون من أحوال هذا العالم إلا قدر ما تشغل أحذيتهم من كرة الأرض.
٣
إن السبب الأعظم في جميع ذلك، بل وفي جميع ما نشعر به من قلق اجتماعي ونقص في معاهدنا وأنظمتنا، أننا لم نؤمن بعدُ بالعلم، وزدنا إلى عدم إيماننا بالعلم كارثة أخرى أنكى وأدهى، هي أننا لم نحرر عقولنا، فعلقنا مصالحنا المادية على ارتجالات رجال السياسة ورجال الأحزاب، وأنفنا أن نواجه الحقائق وأن نواقع الأمور كما هي كائنة؛ خضوعًا لتقاليد ورثناها، وما نزال نستمسك بها بعد أن أبلاها الزمن وأبلتها الأحداث، وبعد أن خلفها تطور الإنسان أخلاقًا بالية، وأشتاتًا متنافرة.
لقد نظرنا في مشكلة المرأة كما نظرنا في غيرها من المشاكل محكمين عواطفنا منساقين بمشاعرنا خاضعين لتقاليد الأزمان الماضية؛ تلك التقاليد التي إن طبعنا عليها أولادنا ونساءنا بؤنا بهم إلى ظلمة الجهالة، وارتددنا بهم إلى أساطير الأولين.
فكم من معارك قلمية طار غبارها! وكم من مواقع فكرية خيضت غمراتها! وكم أنفقنا من الزمن ومن الجهد، في سبيل إقرار أمور هي من البيان والوضوح بحيث لا تحتاج إلى دليل يقام أو برهان يدلى به! ولقد أذكر أن فئة أهل الرجعية قد كابرت ومارت ونادت بالويل والثبور وعظائم الأمور، عندما أنشئت الجامعة وأريد أن يكون التعليم فيها مختلطًا بين الفتيان والفتيات، وكانت حجتهم الكبرى أن هذا الاختلاط مفسد للخلق، داع إلى الفسق والبغي؛ ذلك في حين أن الفتى والفتاة يلتقيان في الشارع، وفي الترام، وفي قطار سكة الحديد، وفي المتجر، وفي الشارع والحديقة والمطعم والمسهر والمسرح والسينما، كأنما التقاء الفتى بالفتاة في حرم الجامعة وحده هو الذي سوف يسقط الأخلاق ويحل رابطة الفضيلة، ولكنها التقاليد، تقاليد أن المرأة نصف إنسان، وأنها مباءة الرذائل الخلقية ومستكن الفسق والفجور، هي التي تملي على بعض العقليات ما تملي من تلك المتناقضات الشاذة العجيبة تقاليد أن الرجل وحده هو الكائن ذو الفضيلة في هذا الوجود، وأن المرأة هي الكائن ذو الرذيلة، تقاليد الحريم وما إلى الحريم من ترهات العقيدة والجمود؛ تلك الترهات التي كانت السبب الأكبر في أن نتخلف عن ركب الحضارة، كما كانت السبب في أن نستذل ونستعبد، تتوالى علينا الخطوب والكوارث ويتوارثنا الغزاة والفاتحون، ونحن وقوف نشهد تقلب الدول وتوالي الأحداث، وأفواهنا مفغورة يسيل منها لعاب البله والبلادة والحمق.
فإذا ما أخذت عضلاتنا تكتمل، وقوتنا تتهيأ، وإذا ما أخذنا نلبس ثوب القوة والعافية؛ وإذا ما أخذنا نضرب في سبيل الرجولة والحرية والديمقراطية، رفعت التقاليد رأسها لتقول لنا: إلى الوراء أيها التقدميون!!! وليتهم يذكرون كلمة «التقدم» أو كلمة «الارتقاء»! وإنما هم ينعتون كل مصلح تحررت أفكاره وأدرك سير الزمن، بأنه من المنافقين، إن لم يقولوا: إنه مرتد أثيم، متخذين في ذلك أسلحة هم أنفسهم يعلمون أنها أسلحة كليلة لا تقطع في محز الأشياء.
٤
ينبغي لنا إذا ما أردنا أن نضرب بسهم في هذه الحياة الجديدة أن نتحرر، نتحرر من التقاليد، ومن الأفكار العتيقة التي أصابها الانحلال والفساد، نتحرر من الآثار التي ورثناها عن أزمان خالية، تلك التي إن صلحت لزمن فقد مضى زمانها، وإن أرضت في العصور الخوالي نفوسًا، وأرضت مشاعرَ ونزعاتٍ؛ فقد ماتت تلك النفوس والمشاعر والنزعات، وتبدلنا منها نفوسًا جديدة ونزعات ومشاعر تلائم روح العصر الذي نعيش فيه، وتتفق وسير الحضارة التي أخذت بخناقنا؛ بل وبخناق العالم أجمع، تلك الحضارة التي نحاول أن ننفلت من أقطارها؛ زورًا وتدليسًا على الحق وعلى الواقع.
على أن الصيحة كلما علت بتحرير الفكر، علت إلى جانبها صيحة بتقييده، وفي هذه المسألة بالذات لم نتعظ بما عالج غيرنا من الأمم في مثل ذلك؛ فإن التقاليد اللاهوتية التي عانت أوربا من آثارها ما عانت، والآراء والعقائد الفائلة التي أخضعت العقل والفكر لأثرها أكثر من عشرة قرون طوال في العصور المظلمة وفي العصور الوسطى، وردحًا طويلًا من العصر الحديث، قد شنت على الفكر الحر حربًا عوانًا طويلة الأمد، استعملت فيها أسلحة من أمضى ما يتسلح به ذوو السلطة الذين حاولوا أن يحافظوا على سلطانهم، لا لصالح الجماعة الإنسانية، وإنما لمجرد التسلط على الناس والاحتكام في إراداتهم وفي حرياتهم، هذه التقاليد التي استمدت سلطانها من الكنيسة التي استمدت سلطانها من الله، ما دخلت معركة من معارك الفكر ولا خاضت وقعة من وقعات العقل، إلا انهزمت فيها هزيمة منكرة ارتدت فيها على أعقابها؛ محاولة التوفيق؛ تأويلًا أو تحويرًا، بين حقائق العلم والاجتماع، وبين ما استمسكت به من آراء وأفكار ونقول ومسموعات، بعد أن قاومت العلوم العملية والنظرية، وحاولت أن تبلور المجتمع وتمنع عليه التطور والارتقاء، بل أرادت أن تعقد المجتمع على صورة بلورات جامدة، تمثل كل بلورة منها ناحية من نواحي الحياة، ولكن كل هذه الهزائم الكبيرة التي انتابت التقاليد اللاهوتية، لم تنتج إلا خيرًا للمجتمع وخيرًا للكنيسة؛ فضربت الجامعات الأوربية في مدارج التقدم والفلاح، وأقامت الكنيسة قواعدها على أسس جديدة توافق مقتضى الحالات التي جدت في الحياة؛ فقام ضرب من التكافؤ بين الفكر والمعتقد، ومع هذا الانقلاب البعيد الأثر، الرائع الصورة، لا تزال الكنيسة قائمة ثابتة ثبات الرواسي فلم تتزحزح ولم تَمِدْ بها الأرض، وتبدل الناس من الفضائل النظرية بفضائل عملية صرفة، وتحورت الأخلاق بحيث أصبحت أكثر مواءمة لما تتطلب حياة الناس من حرية.
ولم يكن انطلاق الفكر من أسر التقاليد اللاهوتية بالأمر المتعمل المفتعل افتعالًا، بل إنه كان ولا ريبة استجابة لمقتضى تطورات اختمرت في العقول والنفوس، فكان من المحتوم أن تخرج إلى حيز العمل، وكان لزامًا أن تسجل آثارها في جبين هذا العصر.
فإذا دافعنا عن قضية المرأة فإنما ندافع وملؤنا اليقين الثابت في ذلك، إنما ندافع عن قضية كملت مقدماتها، ولم يبقَ إلا أن تظهر نتائجها في عالم العمل والتطبيق، قضية أقامها الفكر الحر وحكم فيها العقل، وتجمعت في هذا الزمن جميع عناصرها التطورية، قضية فيها من العدل والحق ما يجعلها جديرة بأن تكون موضع عناية الأحرار في كل زمان ومكان.