الفصل الثالث
١
كان من الضروري أن تؤدي التغيرات التي ترتبت على ذيوع التعليم، والظروف التي أحاطت بالمرأة ومستوى الأخلاق الذي سمت إليه، تلك الظواهر التي كانت نتاجًا للروح التي سيطرت على القرن التاسع عشر، إلى أن تتحرك عواطف المرأة فتأخذ حياتها سمتًا جديدًا، وأن تزيد عنايتها بالأمور السياسية، ولا شك في أنه قد مرت عهود قبل القرن التاسع عشر، نبت فيها ميل نحو السياسة عند المرأة، بل إن أهمية السياسة عندها في ذلك الوقت قد بلغت من الأثر في نفسيتها مبلغًا عظيمًا، ولقد وصف الكاتب الإنجليزي المعروف مستر «أديسون» تلك الانقسامات الحزبية التي تولتها روح من العنف والشدة قلما يتصور قدره، والتي وقعت في أواخر عهد الملكة «آن»، لقد كان من شأن تلك الانقسامات أن تنشق الجمعية النسوية شيعًا وفرقًا، ولم يشهد تاريخ الإنجليز عهدًا تأثرت فيه ماجريات الأحوال السياسية بمثل ما تأثرت إذ ذاك بما تركت جهود المرأة فيها من طابع ثابت بالتفافهن من حول العرش، والدفاع عن وجهة نظرهن دفاع النمرات، وإذا تتبع الإنسان مجرى التاريخ بعد ذلك العهد، فلن يفوته أن يرمق بعين الإكبار نساء من المبرزات الضاربات أرقى المثل لجميع الناس، مثل جيورجيانا دوڤة ديڤونشر، أو مسز كرو أو مسز ماكولي أو اللادي چيرسي أو اللادي هولند أو مس مارتينو، غير أن السياسة عند المرأة في أواخر القرن التاسع عشر قد اتسع أفقها اتساعًا عظيمًا، بل إن طابعها قد اختلف عما كان عليه من قبل، فنشأ بذلك مشكلات نسوية، يزيد اتصالها بالسياسة أو يقل، وبرزت في أفق الحياة الإنجليزية.
٢
إن جميع هذه الحالات تظهرنا على حقيقة واقعة في جميع المجتمعات الإنسانية، فليس من الطبيعي أن يمضي نصف الأمة في سبيل من الرقي والاستنارة يكسبه فرصة أعلى في الحياة على النصف الآخر من غير أن يتطلع النصف المعطل عن الرقي إلى العمل على اللحاق بنظيره، على أن مثل هذه الظاهرات هي في الواقع ضرورية ومحتومة بقدر ما هي طبيعية، فإن للحالات النفسية في ذلك أثرها، ونزعة الإنسان في الحياة، هي عند الرجل كما هي عند المرأة، في مستوى واحد من حيث التأثير في رسم الاتجاهات التي تسير فيها كل جماعة من الجماعات.
وليس من شك في أن الذين يقولون: إن المرأة قد خلقت للبيت، لا يفطنون عادةً إلى أن الرجل قد خلق أول ما خلق زوجًا لا فردًا، أي أنه لا بد من أن يعيش في أسرة، ثم في عائلة، ثم في عشيرة، ثم في شعب أو أمة، وإن من أوجب الأشياء لضمان حياة هذه المجتمعات على اختلاف ضروبها أن يتساوى النصيفان؛ المرأة والرجل، في تحمل المسئوليات والاستمتاع بتطريات الحياة، وأن يسايرا معًا مقتضى ما تتطلب الحياة من ضرورات لتتم صورة التكافل الاجتماعي بين الزوجين في كل نواحي الحياة، فإذا تخلفت المرأة عن الرجل في ميدان من ميادين الحياة، سواء أكان ذلك الميدان عقليًّا أو إنتاجيًّا، كان ذلك من أخص ما يفسد رابطة التكافل التي هي العقدة الأساسية في كل مجتمع إنساني.
إن الذين يذهبون مذهب أن المرأة لم تخلق إلا للبيت لا يستطيعون أن يفسروا ذلك القول إلا مأسورين بفكرة أن المرأة ليس لها أن تلاحق الرجل في ميادين الحياة، وماذا يكون شأن أولئك الذين يردون المرأة هذا المرد السحيق لو أنهم علموا أن المرأة ينبغي لها لكي تكون عضوًا صالحًا في مجتمع ديمقراطي، أن تستقل فكرًا وعملًا ونزعةً، وأن تشعر بأنها مخلوق له حق كل المخلوقات في الحياة بمتنوع صورها، ولها أن تعمل وتكسب عيشها وأن تستقل بكل مرافق حياتها، وإن مجتمعًا لا تسود فيه هذه الصورة العالية من الحياة، لَمجتمعٌ فاسد من أصوله، عاجز عن الرقي، بالغ منتهى ما يصل إليه الانحلال في أبشع صوره.
٣
حدث أيضًا أن تعاظمت عند المرأة؛ طوعًا لموجة التقدم ووفقًا لسير الارتقاء الاجتماعي، نزعة الاستقلال، فكان من الطبيعي أن لا تتعامى عن التشريعات المجحفة والتفضيل الشائن الذي نصت عليه القوانين الإنجليزية، ورفعت به منزلة الرجل على المرأة درجات كبيرة، وأثقلتها بقيود وقيدتها بحرمانات أبهظتها وأذلتها، ومن الأمثلة على ذلك أنه حتى العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، كان من حقوق الزوج القانونية، مهما كان في ذلك الزوج من سوء الخلق وحدة الطبع وإسفاف النزعات، أن يحول بين زوجه مهما كانت ورعة تقية صالحة، وبين الاتصال بأولادها، وكان من حقه المطلق الذي لا يناقش ولا يمارى فيه أن ينتزع منها أولادها، وهي ما تزال حية ترزق، وأن يعهد بهم إلى محظية أو خليلة، وظل الحال في إنجلترا على ذلك حتى سنة ١٨٣٩؛ إذ صدر قانون حضانة الأولاد؛ فجعل للمرأة حق الحضانة إلى سن السابعة، ثم أباح لها الاتصال بهم بعد ذلك، ما لم تكن قد سافحت وثبت عليها السفاح، وصدر بعد ذلك قانون في سنة ١٨٧٣ جعل للمحاكم الحق في ظروف معينة أن تحكم للمرأة بحضانة أولادها حتى يبلغوا السادسة عشرة من عمرهم، ولكن فيما عدا هذين الاستثناءين، وما لم تتدخل المحاكم، وذلك في بعض ظروف شاذة ونادرة، كانت ولاية الأب على أولاده شاملة كاملة، بل قد لا نبالغ إذا قلنا: إنها كانت مطلقة قريبة من الاستبداد المطلق.
وأنكى من ذلك كله وأمعن في النيل من كرامة المرأة مهما كانت فاضلة، أنه حتى بعد موت الأب، لا تنتقل حضانة الأولاد إليها؛ فقد كان من حقه أن يهملها ويوصي بحضانة أولاده إلى غيرها، من غير أن يبين لذلك عن سبب، ومن غير أن يرجع إليها في أي شيء من ذلك، وحتى إذا مات ولم يوصِ بشيء يتعلق بحضانة أولاده، فإن من حق أقرب أهله من العصب أن يستعمل نفس الحق الذي لم يشأ الأب المتوفى أن يستعمله في وصيته ويقصي الأم عن أولادها، والأولاد عن أمهم، فهل كان شيء أشد من هذا بغيًا ونزولًا بالمرأة إلى الدرك الأسفل من الحطة والمهانة؟!
لم يبلغ الإنجليز المبلغ الذي وصله الإسلام من حيث حق المرأة في حضانة أولادها إلا سنة ١٨٨٦؛ إذ صدر قانون جعل لها الحق الطبيعي في حضانة أولادها بعد موت زوجها، أما سلطة الرجل حال حياته فلم يمسسها هذا القانون، ولا تعرض لها بشيء؛ بل احتفظ له بحق أن يضم إليها ويشرك معها من يشاء ويجعل له على الأولاد نفس الولاية التي لها بعد موته، ولكن أقل ما في ذلك التشريع من التخفيف عن أثقال الأمهات أن اعترف للزوجة بحق الحضانة، ولم يكن يعترف لها بشيء من ذلك قبل.
٤
ولم يكن مركز المرأة في إنجلترا من حيث إن لها حق الملك، بأفضل من حيث هي أم؛ فقد قيدت ملكية المرأة للعقار والمنقول بقيود شديدة قاسية، أثرت في مركزها الاجتماعي، كما أثرت في نفسيتها وفي مزاجها تأثيرًا عنيفًا قاسيًا، فقبل سنة ١٨٥٧ كان من حق الرجل أن يهجر زوجه، وأن يتركها بغير ما يقيتها أو يقيم حياتها هي وأولادها منه، وكان من حقه فوق ذلك أن يعود إليها بمحض اختياره ويستولي على كل مملوكاتها بالغة ما بلغت قيمتها، وأن يبيع من ذلك ما يشاء بالثمن الذي يشاء، ثم له بعد ذلك أن يهجرها وينبذها، ثم يعيد عليها الكرة كما فعل أولًا فيجردها من جميع ما تملك، ثم يهجرها مرارًا وتكرارًا على نفس الصورة وبذات الأسلوب، وليس لها من قانون يحميها أو شريعة تقتص لها.
وظل الأمر على ذلك حتى سنة ١٨٥٧؛ إذ دخلت مادة في القانون الذي أنشأ محاكم الطلاق حمت لأول مرة في تاريخ إنجلترا مملوكات المرأة المهجورة، وصدر قانون آخر في سنة ١٨٨٦ قرر لها حق الارتداد على زوجها بما يتصرف فيه من أموالها إذا هجرها، وتلك حماية ناقصة؛ بل حماية صورية؛ لأنه فيما عدا حالة الهجران وحدها؛ فقد ظل للزوج الحق المطلق في التصرف في مملوكات زوجه وفي كل ما تكسب أو تربح أو ترث، وعلى الجملة في جميع ما يتناول حق الملك من الأشياء.
من الحق أن القانون كان يجبره على أن ينفق عليها ويقيم حياتها، ولكن ذلك الأمر كان من الهين أن ينزل في حالات كثيرة إلى سد الرمق وستر العورة؛ فضلًا عن أن ذلك الوضع قد أحدث حالة اجتماعية خطيرة في أواخر القرن التاسع عشر في إنجلترا وفي غيرها من الممالك التي سنت شرائع تشبه شرائع الإنجليز؛ فقد عاش الأزواج عالة على الزوجات المثريات، وناموا مستظلين بالبطالة والكسل في حمى القانون والشريعة، متصرفين في ما يملكن بمحض إرادتهم وعلى غير إرادتهن، منفقين أموالهن في الدساكر الليلية، وفي أحضان المومسات، كل هذا بحماية من القانون، وإجازة من شرائع تلك البلاد.
وبعد جهاد ممض شديد امتزجت فيه المضحكات بالمبكيات، واشتبكت فيه قوى الشر مع قوى الخير في عراك تواصلت مواقعه في أثناء الليل وفي أثناء النهار، سن قانون في سنة ١٨٧٠ جعل للمرأة الحق المطلق في إدارة ما تملك من عروض الدنيا، وكف الرجل عن شيء من ذلك العبث الذي لم يكن له من سبب إلا أنه هو الذي شرع لنفسه وللمرأة، فوضع من الشرائع ما أرضى خيالاته التي وجهها في الأكثر ما فيه من نزوات التسلط، وشهوات الخسة والدناءة، وسفالات الأنانية الكريهة.
على أن هذا القانون لم يكن إلا قانونًا حسن الصورة سيئ المخبر؛ فإنه خلف ملكية المرأة — ما عدا استثناءات لا قيمة لها — غير محمية ولا مستندة إلى حق تشريعي ظاهر؛ فقد سكت القانون وقطع لسانه عن النص على شيء يجعل للزوجة ملكًا متحيزًا ينقل إلى الذهن معنى الملك على ما نفهمه الآن، فلم يكن لها من حق أن تقاضي غيرها أو يقاضيها غيرها، ولم يكن لها الحق في أن تتعاقد بغير إرادة زوجها وإجازته قانونًا، والملك الشخصي الذي يوصى لها به بعد الزواج إذا تجاوز مئتي جنيه أصبح الزائد من حقه المطلق، وبالرغم من أن القانون قد قرر أن لها حق الملك وأن الرجل قد كف عن سلطان التصرف في ملكها من غير إجازتها، فإن له حال حياته الحق المطلق الذي لا يحد بحد ولا يتقيد بقيد في التصرف في غلة ذلك الملك كيف يشاء.
أما الذين يقولون بأن المرأة قد خلقت للبيت فإنما هم يريدون أن يرتدُّوا بالمرأة المسلمة إلى هذه الحال عينها، إن لم يكن بنص القانون فبالحيلة حينًا، وبالتحايل حينًا آخر، لتصبح المرأة وما تملك متاعًا للرجل، بئس للظالمين بدلًا.
٥
من عجائب الأوضاع الإنسانية أن أمة لم تضرب بسهم كبير في مدارج الرقي المدني مثل روسيا في القرن التاسع عشر، ظل حق ملكية النساء فيها مقررًا محترمًا منذ أبعد أزمان التاريخ، بل إن هذا الحق كان ثابتًا كاملًا لا يؤثر فيه مختلف الحالات التي تتعاقب على حياة المرأة فهي قبل الزواج وبعده مطلقة التصرف فيما تملك، ولا يؤثر الزواج في ملكيتها بصورة من الصور، وفيما بين سنة ١٨٤٨ و١٨٦٠ شرعت الولايات المتحدة عدة تشريعات ثبتت حق ملكية المرأة وجعلته قائمًا على أساس صريح من القانون.
أما في القارة الأوربية؛ فقد اختلفت التشريعات اختلافًا كبيرًا باختلاف الأمم والدول، ففي بعض الممالك الأوربية، وعند اقتراب القرن التاسع عشر من نهايته، كانت حقوق الملك للمرأة أرقى بعض الشيء أو كانت مساوية لحقوقها في إنجلترا قبل سنة ١٨٥٧، ولو أنه كان من الممكن بشروط خاصة في عقود الزواج، أن تتحسن شيئًا ما.
في بداية القرن العشرين وقبل نهاية القرن التاسع عشر اتجه التشريع إلى ناحية العمل على استقلال المرأة بما تملك من حطام الدنيا، ومساواتها بالرجل من حيث ذلك، أما معاملة المرأة، متزوجة كانت أو غير متزوجة، معاملة القاصر أو السفيه الذي لا حق له في أن يتصرف في ماله أو أن يتعاقد إلا بإرادة وصي أو قيم فأمر ظل قائمًا في الشرائع الإسكنديناوية حتى الربع الأخير من القرن التاسع عشر حيث أُلغي، كما أن آثار ذلك النظام قد ظلت واضحة في تشريعات سويسرا حتى سنة ١٨٧٤، وفي الدنمرك إلى سنة ١٨٨٠، وصدر في النرويج تشريع (سنة ١٨٨٨) حمى ملكية المرأة المتزوجة، أما القانون الإيطالي من وجهة حماية ملكية المرأة المتزوجة، فأرقى بكثير من القانون الفرنسي، ولو أن القانون الإيطالي قد استمد من القانون الفرنسي أصلًا، كما أن القانون المدني الألماني الذي عدل في أواخر القرن التاسع عشر قد اتجه نفس المتجه الذي ائتم به المشرعون الإيطاليون، ومما يغتبط له حقًّا أن هذا الاتجاه النبيل قد ساد شرائع جميع الأمم المتمدينة في العقود الأولى من القرن العشرين.
٦
أما الإرث بلا وصية فقد ظل في إنجلترا موضعًا لبعض العسف وتفضيل الرجل على المرأة، فإذا مات رجل بغير وصية، ذهب نصف ما يملك لزوجته إذا لم يكن له ولد، والنصف الآخر لورثته من العصب، أما إذا توفيت الزوجة ولم تترك وصية، ذهب جميع مالها للزوج، وفي سنة ١٨٩٠ سن قانون نص على أنه إذا مات رجل بلا وصية، ذهب جميع ما يملك إلى الزوجة إذا كان ملكه كله لا يتجاوز خمسمئة جنيه، أما إذا جاوز ذلك، فإنها تأخذ خمسمئة جنيه علاوة على نصيبها الأصلي منه.
وكذلك في محاكم الطلاق، فإن المرأة لا تساوي الرجل في الحقوق، فإنه في الوقت الذي يستطيع فيه الرجل أن يحصل على الطلاق إذا ثبت عليها الزنا، فإن على الزوجة أن تثبت إلى جانب الزنا من ناحية الرجل نزوعه إلى القسوة أو الهجران أو غير ذلك من الخبائث، حتى تمنح أجازة الطلاق، كان هذا شأن الرجل والمرأة إزاء حق الطلاق قبيل نهاية القرن التاسع عشر في إنجلترا، ولكن في سنة ١٨٧٨ سن قانون عدل بقانون آخر صدر في سنة ١٨٩٥ جعل من حق النساء الفقيرات طلب الانفصال عن أزواجهن إذا ارتكب الرجل شيئًا من أعمال القسوة والتعذيب أو الضرب أو إذا ثبت أنه ترك أطفاله بغير ما يقيتهم اختيارًا، وجعل للمرأة حق الوصاية على أولادها إلى سن السادسة عشر، وأجبر الرجل على أن يعطي لهم نفقة أسبوعية طوال هذه المدة.
•••
وما كان لمفكر اجتماعي أن ينظر في هذه الحالات إلا ويعتقد أن النساء الإنجليزيات كن على حق في أن يجأرن بالشكوى من التشريع في بلادهن، وإنه لحق أن الزيجات التي يتكافأ فيها الطرفان، قد تقل فيها أسباب الشعور بعدم المساواة، وأن متاعب الحياة فيها تكاد تكون غير محسوسة، ولكن وظيفة القانون الأساسية إنما تنحصر في حماية الضعفاء من سوء استعمال ما يكسب الأقوياء من حق إن شرعًا وإن عرفًا.
ولم يكن في القانون الإنجليزي ناحية ظهر فيها تمكن الأغنياء من الانتفاع بالقانون دون الفقراء، مما كان في شرائع الطلاق، فقد ظل أمر الطلاق أطول الأزمان ممكنًا لأولئك الذين يستطيعون تحمل النفقات الباهظة التي يتطلبها استصدار إذن خاص من البرلمان، والمحاكم الخاصة التي كان من شأنها النظر فيما ينزل بالنساء من عسف وجور ورد تلك المظالم عنهن، كانت في غير متناول الفقيرات؛ لكثرة نفقاتها، وعجزهن عنه أدائها، ومع هذا فإنه في البيوت التي خيم عليها الفقر وهددها الخراب حتى لقد خرج من نوافذها الحب والعطف والإنسانية؛ حيث يسود الإدمان على الخمر وترتع الرذيلة وتعصف النزوات بكل معاني الرحمة، كانت ترتكب تلك الخطايا التي إن تناولها القانون بما يحقق المساواة أو جزء منها؛ فقد يحول الفقر دون أن يصلت القانون سيفه على رءوس البغاة المعتدين.
٧
إن عناية المرأة وازدياد الرغبة عندها في الاشتغال بالأمور السياسية، كان في أكثر الأمر نتاجًا لما أحست من تفضيل الجنس الآخر عليها أمام القانون وفي المعاملات، وأطعمها في أن تنغمر في لجج السياسة ما أنست من قدرة على رفع تلك المظالم التشريعية التي حاقت بها من قبل، فمضت تعمل بجهد وفراهة نادرين على أن تنال حق التصويت في الانتخابات العامة، وقد بدأت حركتها تشتد وتقوى في بداية القرن العشرين.
لقد كان للحركة السياسية النسوية في إنجلترا أسباب من التقاليد ومن العرف ومن القانون، ولكن نزعتها إلى العمل على نيل حق التمثيل النيابي إنما يرجع في أكثر الأمر إلى عبقري من عباقرة الإنجليز هو الفيلسوف «جون ستيوارت مل»، بدأ «ستيوارت مل» حركته بأن قدم إلى مجلس العموم مشروعًا ملحقًا بقانون الإصلاح؛ ليقرر المجلس للنساء حق التمثيل النيابي في سنة ١٨٦٧، ودافع عن مشروعه دفاعًا مجيدًا برسالة نشرها وبين فيها كيف تستعبد المرأة، وكيف تنتهك حرمتها، وعقب على ذلك ببضعة رسائل أخرى تناول فيها هذا الموضوع من جميع جهاته، ولقد قويت تلك الحركة من بعد ذلك؛ إذ أيدتها ظروف جعلت الرأي العام الإنجليزي أميل إلى التسليم بحقوق المرأة النيابية، حتى انتهى الأمر بأن أعطيت حق التصويت في نواح قريبة جدًّا من مجال السياسة الصرفة، ففي قانون إصلاح البلديات الذي صدر في سنة ١٨٦٩ منحت المرأة حق الانتخاب في جميع الانتخابات البلدية، وفي سنة ١٨٧٠ أعطين حق التصويت في انتخاب أعضاء مجالس التعليم، وفي سنة ١٨٨٨ أعطين حق التصويت في انتخاب أعضاء مجالس الأقاليم، أما قانون ١٨٩٤، ذلك القانون الذي حور في إنجلترا كل نظام الحكم المحلي ووسع توسعة كبيرة في نظامه التمثيلي؛ فقد محي كل أثر لتفضيل جنس على الآخر في مسائل الانتخاب.
كانت هذه البداية بمثابة تمهيد لأن تشترك المرأة في انتخاب أعضاء مجلس البرلمان، فإن اشتراكها في المعارك الانتخابية الصغرى، وتمرسها بخوض بعض المعارك كان فيها الكثير من التنابز والمجاهدة ودرس المشكلات المحلية وتكوين الرأي فيما يضر وفيما ينفع، كل ذلك كان مدرسة عليا أخذت فيها مدارك الإنجليزيات تتضح وتستقر على صورة ديمقراطية صحيحة أصبح لها فيما بعد أثر بعيد في توجيه سياسة الإمبراطورية، حتى لقد أصبح لها الحق بعد سنة ١٨٩٤ أن تعطي صوتها في انتخابات مجالس الإبرشيات، ومجالس الأقاليم، ومجالس التعليم، وانتخاب القيمين والأوصياء على الفقراء والمعوزين، ولقد أصبح لها في جميع ما ذكرنا حق أن تَنتخِب وأن تُنتخَب، فتتقدم ناخبة وتتقدم منتخبة، ولقد نجح كثيرات منهن في نيل عضويات كثيرة في هذه المجالس، كما أن بعضهن قد استطعن أن يدرن معارك الانتخاب بقوة ومهارة أتعبت كثيرًا من مبرزي الرجال، وكثير من هذه المعارك قد خاضتها المرأة على قواعد حزبية أو قواعد سياسية، كما أن كثيرًا من الضرائب التي فرضت على الشعب الإنجليزي قد أقرتها مجالس اشترك النساء في انتخاب أعضائها أو كن عضوات بها، وإذن لم يبقَ بعد سنة ١٨٩٤ أمام المرأة الإنجليزية إلا خطوة قصيرة لتصبح من مقومات الحكم الأعلى لتلك البلاد بنيل حق الانتخاب لمجلس البرلمان، ولكن بقي أمامها معركة حامية الوطيس، كان من الضروري أن تخوض غمارها.
٨
من الأسباب التي أقيمت للحيلولة بين المرأة والحقوق التمثيلية أسبابٌ؛ بعضها مضحك، وبعضها مناف للعقل، من الأسباب المضحكة مثلًا ذلك القول الذي يلجأ إليه اليوم بعض المصريين ممن يزاولون مهنة الرجعية؛ إذ يبنون كل حجتهم على أن المرأة أم؛ وينبغي أن تكون للبيت؛ وللبيت وحده، ومن الأسباب المنافية للعقل بل وللطبيعة قول البعض بأن المرأة أخضع لشهواتها وانفعالاتها من الرجل، كأن هؤلاء القائلين بهذا القول لم يدركوا بعض الحق الذي أظهرنا عليه التاريخ فيروا إلى أي درك من الإسفاف والفساد بلغت نزوات الرجال، وإلى أية مهواة سقطت فضائل الإنسان وضحِّي بها؛ إرضاءً لشهواتهم الخسيسة، ونزواتهم، وأطماعهم، وخبائثهم الجلي.
قيل في أوربا: إن كفاية المرأة على وجه العموم أدنى من كفاية الرجل، وقيل: إنه لم يخلق بعدُ امرأةٌ دانت شكسبير أو هندل أو رفائيل، ومن ذا الذي قال بأن مثل هذه الكفايات الفذة العالية شرط واجب في كل من يعطى حق التصويت أو حق التمثيل النيابي؟ ومن ذا الذي استطاع أن يثبت أن المرأة في مختلف العصور لم تظهر من الكفايات ما كان ذا أثر بالغ في الحياة السياسية؟
إن الدور الذي سمح للمرأة أن تقوم به في الحياة العامة قد اختلفت منازله باختلاف العصور، ففي اليونان القديمة وعند الرومان أقصيت المرأة ونُحِّيَتْ عن كل ما يتصل بالحياة السياسية العامة، أقصاها عن ذلك الميدان أمران: القانون، والفكرة العامة؛ أي الرأي العام، وجرداها من كل حق سياسي، فإن من السقطات الشنيعة التي عدها الرومانيون على «اليوجابالوس»، بل إن أبرز سقطة عدوها عليه على كثرة ما له من سقطات ومفارقات، هو تعيين والدته عضوًا في مجلس السينات، فلما قتل ذلك الإمبراطور قتلت معه، واتخذ بعد ذلك كل احتياط تشريعي ممكن للحيلولة دون تمثيل ما اعتقد الرومانيون أنه من أعظم مآسي تاريخهم، ولا يدلك على مقدار ما شعر به الرومانيون من انتهاك لحرماتهم من جراء ما ارتكب إمبراطورهم هذا، قدر ما يدلك أنهم وهبوه بعد قتله إلى آلهة الجحيم؛ آلهة النار السفلى، وظل الأمر في هذه الإمبراطورية على ذلك حتى انتقل مقرها إلى بوزنطيه في الشرق، فحكمت المرأة واحتكمت في مصالح تلك الإمبراطورية العظمى.
ولكن الأمر كان على عكس ذلك في غير إغريقية وروما؛ إذ كان دور المرأة في السياسة عظيمًا بالغ الأثر، فهنالك تلمع أسماء سميراميس وأرتميسيا وزينوبيا وديپورا ويوائيقية وبرنيقية ابنة بطليموس الأول وكليوبطرا، أما الصورة التي صور بها المؤرخ تاقيطوس النساء الجرمانيات وما كان لهن من أثر في السلم والحرب، فصورة فذة ولا مراء، وكفى أن نعرف أن الجرمانيات كن شوكة في جنب الإمبراطورية الرومانية طوال ذلك الزمن الذي اشتد فيه الكفاح بين قبائل جرمانيا وإمبراطورية روما.
أما ملكات مصر القديمة فكفى بهن مثلًا، وأما ما تركن من أثر في قيادة أكبر المدنيات القديمة وأعظمها أثرًا في ترقية النوع البشري، فذلك ما ينبغي أن يكتب في صفحة الخلد بحروف من نور، ولم تنزل المرأة عن مكانتها التي كسبتها في مصر القديمة بعفتها وقوة خلقها حتى اليوم، فإن الملكات ووصيات الملك اللائي يذكرهن التاريخ الحديث قد رفعن ذلك المشعل الذي كانت ملكات مصر أول من حملنه في تاريخ الإنسان، وإن قليلًا من ملوك أوربا الحديثة من لهم الحق في أن يرتفعوا إلى مكانة إيزابلا الإسبانية أو كاترين الروسية أو ماريا تريزا النمسوية، وإن أطول ملكين مرا بإنجلترا كانا ملك الملكة إليزابيث، والملكة فكتوريا؛ فلم يمر بالإنجليز عهود كانت أكثر من عهديهما رخاءً وديمقراطيةً وأصالةً وتمكنًا في الأصول والفروع.
وكذلك الحال إذا رجعت إلى فرنسا؛ فقد يذكر تاريخ تلك البلاد ما لا يقل عن أربع وعشرين وصية من وصيات الملك، حملن فرنسا على أكتافهن الرقيقة في أعصف أيام تاريخها، ومن الأسف أن فرنسا قد أصابتها النكسة في زمن الجمعية التأسيسية إبان ثورتها الكبرى؛ فمنعت تلك الجمعية المرأة من أن تكون وصية على الملك، وقصرت ذلك الحق على الرجال وحدهم، ومن ذا الذي ينكر أن ذلك كان انتكاسًا فرنسيًّا؟
٩
أما من حيث القدرة الإدارية فلا شك مطلقًا في أن المرأة تفخر بمنزلة لا تدانى؛ فمن ذا الذي يستطيع أن ينتقص هذه القدرة إذا نظر فيما كان لها من أثر في تأسيس المذاهب الدينية في القرون المظلمة، ولا ننسى أيضًا ما أظهر الديرانيات والراهبات من مقدرة فذة في تدبير شئون الأديرة، أو ما أبدي من حسن الإدارة والفراهة التنظيمية في العصور الأكثر جدة، نساء قمن بتأسيس البيوتات الكبيرة كما أنشأن أو أدرن الأعمال الإنتاجية أو الصناعية العظيمة أو معاهد البر، ولقد كان أثر المرأة بارزًا محسوسًا في جميع البلدان التي نجح فيها إقامة هذه المعاهد فحسنت في كلها إدارتها، وأدت بفضلها رسالتها على أكمل وجه.
ولا يدلك على شيء عن مقدار ما كان لتيك السيدات من منزلة واحترام، مثل ما يدلك ما خلف الفنان المصور رامبراندت وأتباعه من لوحات خالدة مثلوا فيها سيدات الدانمرك اللواتي قمن وصيات على معاهد البر في تلك البلاد، وفي إنجلترا الحديثة ضرب المثل بما كان للمرأة من قدرة وحسن تدبير في إدارة بيوت الفقراء والمستشفيات والسجون والمدارس وفي غير ذلك من المؤسسات الاجتماعية التي لا تحصى عدًّا، وإن الأثر الذي خلفته في تلك البلاد لأثر خالد حتى ليخجل أي إنسان ألم بشيء من تاريخ إنجلترا الاجتماعي أن يماري فيه أو ينتقصه، وكم من ثروة بددها الرجال بالإهمال والإسراف قد استرد بفضل عناية المرأة وحسن قيامها على العمل واستمساكها بفضائل الأخلاق والعزم والحزم والقدرة الفائقة، وفي أية ناحية من نواحي مجتمع كبير تقع على مثل تلك الفراهة الفذة التي أظهرها نساء الطبقة المتوسطة في فرنسا، تلك الفراهة التي نوه بها أفراد من الكتاب وعباقرة من رجال الاجتماع.
وبعد: فمن ذا الذي ينكر أن تلك الكفايات العليا التي امتازت بها المرأة في جميع ما ذكرنا من نواحي الحياة في أوربا، لم تكن ذات أثر بالغ في الحياة العامة؟
وما من شك من أننا في مصر الآن نجتاز نفس ذلك الطور الذي نبذ فيه أهل أوربا فضيلة الاعتراف بالحق، وراحوا ينظرون في مثل الحقائق التي ذكرنا نظرة من يعتقد أنها سطحية أو منافية للعقل؛ ذلك بأنهم أنكروا أن الكفايات العقلية والخلقية ذات قيمة ما في التصويت الانتخابي وفي التمثيل العام، في حين أنهم قد أضفوا ذلك الحق على فئات من الأغبياء والبلهاء والجهلاء والمسرفين وأهل الفراغ، بل إنهم سبقونا بقرن كامل في العمل على تقوية الأحزاب بأفراد من أهل النفوذ والعصبية، وأهملوا أهل العلم والكفاية والاستقلال في الرأي والصراحة في القول، وما ذلك إلا لأن الحكومات التي لم يكمل فيها الاستقرار الديمقراطي إنما تعتمد على النواب الآليين، وتكره الذين يعقلون أو يفهمون، ولعل هذه الظاهرة عامة في جميع الحكومات على اختلاف ألوانها وعلى تفاوت درجاتها مهما كان أمر استقرارها التمثيلي، بل أضيف إلى ذلك أن ممثلي الأمة في حكومة ضعيفة رخوة القوام مائعة الكيان، إنما هم صورة من الحكومة التي تعتمد عليهم في الفوز بأغلبية في مجالس التمثيل تضمن لهم كراسي الحكم.
١٠
سبب آخر من الأسباب التي يركن إليها أولئك الذين ينكرون على المرأة حق أن يكون لها صوت في السياسة، ينبغي لنا أن نتكلم فيه بإيجاز؛ لأنه على ما أعتقد، ليس من الأسباب الواهية التي لا ينبغي أن يؤبه لها؛ ذلك قولهم: إن المرأة أقل من الرجل قوة بدنية، وإنها لا تدافع عن الوطن في معامع الحرب، وقد يكون في ذلك شيء من الحق لو أن الأمر لم يقف عند الحالة الراهنة بين الرجل والمرأة، وساوت القوانين والشرائع مساواة تامة بين الجنسين في جميع الحقوق على اختلاف ضروبها وتباين حالاتها، كان يصح أن يكون لهذا الكلام بعض الوزن إذا فرضنا أن أصحاب الحق في التصويت من الجنسين سوف ينقسمون فريقين متعاديين: النساء فريق، والرجال فريق آخر، ومن ذا الذي في مستطاعه أن يقضي بأن الشرائع ينبغي أن تحرم النساء المسنات والرجال المسنين من الحقوق المدنية كافة؛ لأنهم أصبحوا عاجزين عن القيام بواجبات الحرب؛ أي الخدمات العسكرية؟!
وحتى لو فرضنا أن الاشتراك في الحرب شرط ضروري في من يكون لهم حق التصويت، فإن هذا الفرض لا ينهض دليلًا على حرمان النساء من حق الانتخاب وحق التمثيل، فإن النساء، شأنهن في ذلك شأن الرجال، يتحملن من أعباء الضرائب التي تفرض في كل حرب نصيبًا غير منقوص ولا مزيد عما يتحمل الرجال، وبالرغم من أنهن لا يحملن من أعباء الحرب ما حمل الجرمانيات اللواتي وصفهن «تاقيطوس» أو ما حمل الإرلنديات في القرن السابع إذ كن يصاحبن أزواجهن في ميادين الحرب، فإنهن قد اضطلعن في كل حرب حديثة بنصيب ذي قيمة كبيرة، فهل من المفكرين أو غير المفكرين نزق أحمق يستطيع أن يقول: إن ما قام به جاويش في ميادين الحرب كان أثمن قيمة وأعلى قدرًا مما قامت به «فلورانس نيتا نجيل» في حرب القرم، أو «مس كاڤل» في الحرب العالمية الأولى، هما ومن كان معهما من المتطوعات؟ وليس المثل الذي ضربه هاتان بأكرم من المثل الذي ضربه النساء في حرب أمريكا الأهلية؛ إذ قمن بتأسيس «البعثة الصحية» التي خففت الكثير من ويلات الميدان، وكان عملهن المثل الأول الذي انتحاه فيما بعد كل أمم الأرض، وما جمعيات الصليب الأحمر غير أثر من آثارهن!!!
وما كانت الحرب غير واجب من واجبات كثيرة تفرضها الحياة القومية، وليس هنالك من سبب حقيقي يحملنا على أن نربط بين ذلك الواجب وحق التصويت، وإذا كانت الحروب في البلاد الديمقراطية لا تعلن إلا بإرادة نواب الأمة، فلماذا لا يكون للمرأة رأي في ذلك إذا كان من الضروري أن تحمل عبء الحرب مع الرجال.
قيل بأن الصوت الانتخابي إنما يمثل القوة، كما يمثل ورق النقد معدن الذهب، وإنه من أخطر الأشياء في حياة أمة من الأمم أن تفصل الشرائع بين قوة التصويت والقوة الطبيعية هذا ليقال: إن الرجل هو صاحب القوة العضلية، فهو إذن صاحب الحق المطلق في التصويت، وإن هذا لدليل فيه نقص؛ لأن المرأة لم تقاوم في عهد من عهود التاريخ أي تشريع دعاها إلى التضحية في سبيل الواجب القومي بما في ذلك أعباء الحرب، ولم تأنف أن تسرف في إنهاك قواها العضلية إذا دعيت إلى أداء واجب، وإنها لتؤدي كما أدت خلال كل العصور واجبات لم تنقصها الحاجة إلى استعمال القوة العضلية، ففي الحقل وفي المعمل وفي البيت لا تضن المرأة بعضلاتها، كما أنها لا تضن بأعصابها وجميع ما أضفت عليها الطبيعة من مواهب الحياة.
١١
وقيل بشيء من المرارة والحزن العميق: إن جملة ما في المرأة من خلقيات سوف ينتابه انقلاب كبير إذا سمح بأن يكون لها حق التصويت في الحياة العامة، وليس في معركة تحرير المرأة على تشعب أطرافها واتساع نواحيها من موضوع استأثر بعناية الكتَّاب والمفكرين أكثر مما استأثر موضوع الخلق النسوي وتأثره بالانغمار في الحياة الصاخبة التي ندعوها حياة الرأي العام.
أما من حيث التزاحم على إبداء الرأي في الانتخاب فمشكلة حلت باتباع طريقة الصندوق الانتخابي، فليس من شيء أسهل على إنسان رجل كان أو امرأة من أن يدخل حجرة هادئة، ثم يمسك ورقة يكتب فيها اسم شخص آخر، ثم يلقي بها في صندوق أمامه، أمر لا يأخذ من وقت الإنسان أكثر من خمس دقائق كل خمس سنوات!!!
ومن ذا الذي يقول بأن هذا العمل البسيط أو التفكير في تكوين رأي سياسي، هما من الأمور التي تدخل كثيرًا في تبديل الأفكار أو الأخلاق أو مقومات الحياة؟ والذين يتناولون هذه المسائل الهامة بالبحث يكتبون وهم متأثرون بفكرة خاصة هي أن كل من له حق الانتخاب العام أو التمثيل النيابي إنما يقضي كل برهة في حياته مهمومًا بذلك الأمر منغمسًا فيه مستغرقًا في بحثه، والفحص عن كل ما يتعلق به من أمور هذه الدنيا، وليس الأمر كذلك على إطلاق القول، وقيل بأن المرأة إنما خلقت للبيت، وإن كثيرًا من النساء وبخاصة ممن ينبغي أن يكون لهن حق الانتخاب والتمثيل وهن في العادة متعلمات مثقفات، لا يجدن في بيوتهن من المهام ما يقطعن به وقت الفراغ الطويل، فيبحثن عادةً عن عمل أو يتخذن لهن مهنة مفيدة، يزدن بها مركزهن الاجتماعي قيمةً ويستقوين بها على مجابهة هذه الحياة أو يستعن بها على طرد السأم والملل، وإنه لمن البيِّن أن الحياة البيتية الصرفة، المقصورة على مهام الحياة الأولية، لحياة تجد فيها المرأة من السأم ما يجد الرجل الممتهن من بواعث الملل في مهنته، وهل يوجد في هذا العالم كله من امرأة يستغرق البيت من حياتها أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، فلا تجد في هذا الزمن فترات يمكن أن تقضيها عاملة أو مفكرة أو منتجة؟ وهل توجد زوجة أو أم أو فتاة استغرق البيت كل ساعات حياتها, بحيث لا تستطيع أن تقطع منها جزءًا تنفقه في التفكير في مستقبل أمتها ومركز دولتها من العالم الحاف بها كما يفكر الرجل؟ وهل في أشياء هذه الحياة من شيء هو أبعد عن المنطق من الاعتقاد بأن مجموعة أصحاب الأصوات في أمة إنما هم فئة مختارة منتقاة، أكب أفرادها على درس السياسة والاجتماع، ومهروا في وزن حقائق المشكلات العالمية، وأن هذه المجموعة لن تكون إلا من الرجال دون النساء!!!
١٢
من الهين أن يدعي إنسان أنه من المكروه أن يكون للمرأة أية علاقة بالسياسة أو أن تنصرف إلى التفكير في الأمور السياسية، وأنه من مصلحتهن ومحافظة على مركزهن الطبيعي في المجتمع أن يظللن بعيدات عن الانغمار في هذا المعترك، كان هذا رأي الأغارقة في الزمن القديم، وما زال عليه كثير من أهل هذا الزمان، ولقد استعلى هذا الرأي في بريطانيا إلى أواخر القرن التاسع عشر، ولكن مما لا سبيل إلى إنكاره أن تطور الحالات الاجتماعية ونشوء فكرات جديدة في الآداب عامةً وخاصة، وتقدم العلوم والفنون، وسيادة نزعة الحرية على كل ما عداها من النزعات الإنسانية، عامة ذلك لم يجعل لهذا الرأي من وزن يقام في هذا العصر، ولقد مر على كل البلاد التي ضربت في المدنية الحديثة بسهم، دور من الانقلاب الفكري كانت فيه مشكلة المرأة الاجتماعية من أظهر ما عني به الساسة والمصلحون ورجال الدولة؛ ذلك بأن ما أصبح للمرأة من أثر في السياسة صار قويًّا يانع الأثر في جميع البلاد التي امحت فيها الأمية، وشارك فيها الفتيات الفتيان في التعليم الجامعي، وسما فيها الأدب والفن وذاع ما لهما من توجيه في الحياة العامة، وإذا نظرنا في الثورة المصرية خاصة، لما وجدنا من مظهر فيها كان أبلغ أثرًا من خروج المرأة المصرية إلى ميدان العمل والفكر.
•••
تعتلي المرأة الآن منابر الخطابة، وتحرر في الصحف، وتؤلف الكتب، وتفكر، وتؤيد حزبًا على حزب، وتنضم إلى فريق دون فريق، وتنحاز إلى رأي دون رأي، وبالرغم من أن المرأة في مصر لم يصبح لها حق الانتخاب أو التمثيل، فإن أثر المتعلمات قد أصبح ذا أثر محسوس في الحياة، وبخاصة في الأمور السياسية، وينبغي أن نعلم أن أثرها في السياسة كائن بالفعل، وإذن يكون إعطاؤهن حق الانتخاب، ليس ضروريًّا ليصبحن سياسيات؛ لأنهن أصبحن سياسيات بالفعل، ولا ننسى أن حرمانهن من هذا الحق قد يجعل اشتغالهن بالسياسة منصرفًا إلى ناحية الدعاية والتهييج الاجتماعي، بدلًا من أن يكون مثمرًا مجديًا إذا أضفى عليهن ذلك الحق — الذي ينادى بأنه الحق — كل مظهر من مظاهر التطور الذي سرنا فيه حتى الآن.
١٣
نظر في مشكلة المرأة من ناحية فلسفية، وإن شئت فقل من ناحية فوقيطبيعية.
نزع المفكرون في هذه الناحية إلى ما سمي الحقوق الطبيعة، ثم إلى سنن الطبيعة، التي وصفت حينًا بأنها فطرية شاملة ثابتة لا تتغير، وكل ما قام على هذه النواحي الفطرية من الأقوال والمبادئ، ينبغي أن ينبذ الآن ويطرح؛ فقد كان وليد حالات اصطناعية في المجتمع فات زمانها وانقلبت آيتها.
فإن القول بالحق الطبيعي الذي أيده «روسو» وتابعوه، وقام على أن كل رجل يملك بالطبع شطرًا من القوة السياسية، والقول بالسنة الطبيعية غير المبدلة من أن المرأة خلقت لتكون عالة على الرجل وأنها لا تصلح لأن يكون لها ضلع في الحكم، كلاهما لا يقوم على أساس من الصحة، بل إنهما من النظريات التي أملتها وراثة طويلة لتقاليد حالات اجتماعية جامدة، ظن خطأً أنها من أشياء الطبع، وأنها ليست من الافتعال في شيء.
قد يقال بشيء من الحق: إنه حيثما نقع على شيء من عدم المساواة السياسية أو المفارقات في الوضع الاجتماعي، فإن ذلك إنما يبرر في العادة بشيء من المنفعة تجنى من ورائه، فهل من الحق مثلًا أن يكون شراء بيت أو أي عقار آخر مبررًا لإعطاء الرجل حق الانتخابات ولا يكون مبررًا لإعطاء المرأة نفس هذا الحق، كما حدث في كثير من البلاد الديمقراطية، أم أن ذلك من المفارقات التي لا تقوم على أي أساس من المنطق أو الواقع؟
هل من الحق أن تكون المرأة القائمة على إدارة بيوت صناعية كبرى يستخدم فيها عمال، أو التي تملك عقارًا ينتفع به مستأجرون، تحرم من حق الانتخاب، ثم يضفي هذا الحق نفسه على عمالها ومستأجري أملاكها، كما حدث في إنجلترا إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكما هو حاصل في مصر اليوم؟
وهل يصح عقلًا ومنطقًا، كما حدث في بعض البلاد من قبل، أن المرأة المالكة لأطيان زراعية، والتي يحتشد من حولها قطيع من المنتفعين أو المستخدمين والعمال، تظل عطلًا من التمتع بأي حق سياسي، في حين أن أولئك الذي يعيشون بفضل ثروتها والذين هم في الواقع خدامها وعمالها، يكون لهم ذلك الحق دونها؟
هل يصح، كما صح في كثير من البلاد الأوروبية التي ربطت نظمها التمثيلية بين دفع الضرائب وحق التصويت والتمثيل وجعلت تلك الحال أساسًا أوليًّا من أسس الحرية، أن يحرم النساء المالكات من أن يكون لهن صوت في فرض الضرائب الحكومية التي يشاركن مشاركة فعلية في دفعها؟
١٤
- الأول: أن النساء لا يطالبن بذلك الحق؛ حق التصويت والتمثيل، ومن ثمة بحق الحرية السياسية.
- والثاني: بأنهن إذا نلن هذا الحق فإنهن سوف يستعملنه بطريقة تضر بمصالح الأمة.
قيل بمثل هذا في إنجلترا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا، وليس لنا أن نطنب في سرد الأدلة التي أقامها أصحاب هذا القول، والأدلة التي استند إليها معارضوهم؛ ذلك بأن الدليل المادي قد قام بالفعل، فأعطيت المرأة حقوقها السياسية في تلك البلاد وفي غيرها، ولم ينتج عن ذلك أي ضرر بمصالح تلك الأمم من جراء ذلك، بل إني أعتقد أن التوازن الاجتماعي قد أصبح بذلك أكثر استقرارًا، والآداب السياسية قد أضحت أرفع وأسمى مما كانت.
•••
إن الذين يقولون بأن المرأة عنصر فاسد في دنيا السياسية، إنما يتكلمون بعقلية أثرت فيها التقاليد الموروثة وأصابها جمود التواتر الزماني، وإنه لمن أعسر الأشياء على عقليات استأثرت بها نظامات أصبحت على مر الزمان لزامًا، ولبست ثوبًا من القداسة، أن ترى الحقائق الواقعة سافرة بينة؛ لأن غشاوة العقيدة الموروثة التي تعمي على هذه العقليات، تحجبها على أن ترى تلك الأشعة اللامعة التي ترسلها طبيعة المرأة في ظلمات المجتمع الإنساني، وتقف بها عند خرافة أن كل الفضائل وقف على الرجل، وأن كل الرذائل وقف على المرأة، كأن الطبيعة عند هؤلاء الجامدين قد فصلت في الأزل بين طبيعتين: إحداهما جعلت سكنًا للفضيلة وخص بها الرجل، وجعلت الأخرى سكنًا للرذيلة وخصت بها المرأة، وأن كل الحقوق المدنية والسياسية ينبغي أن تقوم على هذه الخرافة، والله يعلم في أي من الطبقتين تكمن أخس رذائل الأخلاق.
ولئن كانت الخرافات قد شيدت فيما مضى معابد الكلدان ومصر، فإنها قد شيدت في عالم الاجتماع صوامع للفكر حُبِسَ في أركانها الأربعة، وأسر في لبناتها المرصوصة، وعندي أن نكران حق المرأة السياسي في جميع العصور كان عنوانًا على طفولة العقل، أمعن من دلالة تلك المعابد التي شيدها الوهم في جميع المدنيات.
على المرأة وعلى الذين يؤيدون حقوقها السياسية أن يرفعوا الصوت مدويًا، ويرسلوا الصرخات مرعدة مبرقة، فإن في الحياة المصرية يلمع نجم جديد.