الفصل الأول
١
نعمى في هذه الدنيا عن الحقائق الملموسة؛ إما لمنفعة نرجوها، وإما لتقاليد ورثناها، وإما لعقيدة انتحلناها، وإما إرضاءً لنزعات نفسية، خسيسة أو رفيعة، ولكن نعمى على أي حال عن إدراك الحقائق على روعتها وبيانها، ويستعصي علينا أن نرضي الشهوات والعقل معًا، وكثيرًا ما نقمع العقل لنسترسل مع الشهوات.
وقضية المرأة في الحياة الاجتماعية، من القضايا الكبرى التي احتكمت فيها شهوات الرجال، وصالت فيها نزعاتهم، وعموا فيها أو تعاموا عن الاعتراف بحقائق هي من البيان والظهور بحيث لا تحتمل مراء أو استرابة.
ومضى الكثيرون متعامين عن الحق الواضح الجلي، قائلين بأن قضية المرأة قضية محلولة، وأن الزمن القديم قد وضع لها القواعد وفصل الأصول وأتم الفروع، مؤتمين في ذلك بنظريات وأقوال أبلاها الزمن وناء عليها الدهر، فأصبحت مهلهلة فضفاضة بادية العورات، ولكنهم يحاولون ستر عوراتها بالثرثرة الفارغة كقولهم: «المرأة للبيت» وقولهم: «الرجل قوام على المرأة» وقولهم كما قالوا من قبل: «المرأة ليس لها نفس»، من غير أن ينظروا برهة واحدة وراء ظهورهم؛ ليروا ذلك الفارق البعيد، والصدع الكبير الذي يفصل بين زماننا والزمان الذي راجت فيه مثل هذه الآراء، ومن غير أن يدركوا شيئًا من فواصل الزمن والتطور التي تفصل بين المرأة في القرن العشرين بعد الميلاد، والمرأة في القرن العشرين قبل ذلك الميلاد.
كأنما الزمن لا يدور، وكأنما الأرض لا تلف حول الشمس، وكأنما تطور الأشياء، عضويًّا ومعنويًّا، ليس له من أثر في الحياة، وكأنما العقل لا يستكشف والنزعات لا تسمو وتكرم، والفكر لا ينظر ولا يتأمل، والنفوس لا تتبدل ولا تتغير، والعلم لا يغزو الاجتماع، والاختراع لا يرفق من متاعب العيش أو يرفع من مطامع الناس في دنياهم.
نعود إلى الوراء، ونمعن في الارتداد إلى أساطير القرون الأولى، ونرتمي في أحضان النزعات النفسية والآراء المسفة التي غزت عقول أوائلنا وأرضت مشاعرهم وهم يقطنون الكهوف والمغاور، ويسرحون كالسوائم في الحرجات والأدغال، كل هذا لنعمى على الحقائق الواقعة والوقائع الماثلة، ولنرضي فينا شهوة أو نتمسك بتقليد درجنا عليه أو رأي نستعز به أو نعرة تدوي في أدمغتنا دوي الرعد، لنخفت صوت الحق وننكر تطور الأشياء.
ما ظهرت هذه الأشياء واستقوت واستشرت في شيء من أشياء الحياة الاجتماعية ظهورها في قضية المرأة، وبضعة قضايا أخرى؛ منها: انتشار الأديان العظمى، وبزوغ عصر الديمقراطية الحديثة، والانقلاب الاقتصادي الذي نعيش في ظل موحياته.
على أن هذه النزعات العجيبة قد يعسر عليها الآن أن يكون لها نفس التأثير الذي كان لها في العصور الأولى، بعد أن غزا العلم العالم، ورفع الحواجز والحدود بين الأمم، وبعد أن تحرك القلم فسالت حركته على الصحف وبفضل المطابع، وسخرت الموجات الأثيرية لنشر النور في أرجاء هذا السيار الصغير؛ ذلك بأن هذه الدنيا بفضل العلم، قد درجت نحو الوحدة والعالمية، وأخذت تخلع عنها لباس العزلة والأسر، يدرج العالم الآن بمختلف شعوبه وألوانه نحو الوحدة التامة، لا في السياسة، ولكن في الميول والمشارب والمشاركة في ما كشف العلم من بركات، وما صنع الاختراع من تطريات، وأن العالم ليسير في سبيل هذه الوحدة برغم ما تظهر فيه من رجعية بعض الأحيان، مثلها مثل الغريق الذي يطفو حينًا، ويطغى عليه الموج حينًا، ثم ما يلبث أن تبتلعه الأعماق، وإن السياسة التي انفردت حتى الآن بتصريف حالات العالم واحتكمت في مستقبل الشعوب والجماعات، لتشعر اليوم بأن نزعة الوحدة العالمية قد قطعت شوطًا كبيرًا أخذ يوجهها شيئًا ما، وسوف لا نلبث غير قليل حتى نرى أن هذه الوحدة قد استعلت على سياسة العزلة التي لا يزال السياسيون حتى اليوم يأتمون بهديها، وإنهم في الواقع لفي ظلام.
٢
بمثل هذه العقلية نعالج الآن قضية المرأة، وقد نسينا إلى جانب هذا بعض الحقائق الجلية، كانت المرأة المصرية محجبة فأسفرت، وكانت جاهلة فأخذت تتعلم، وكانت فاقدة الإرادة فتحركت إرادتها، وكانت محرومة فأصبحت ممتعة، وكانت أمة فأصبحت سيدة، وكان محقرة فانتزعت لنفسها الاحترام، وكانت آلة مسيرة فأصبحت عاملة وصانعة ومحترفة وذات مهنة، وكانت بعيدة عن حياة المجتمع فأخذت تزاحم الرجل بالمنكب والذراع، وكانت بعيدة عن ميادين الحياة فمضت تغزو تلك الميادين بلباقة الفنان وأريحية المدره المنطيق.
يقول الرجعيون: إن ذلك الذي أصابت المرأة من أشياء الحياة إنما كان وبالًا على أخلاقها وفضائلها، وإنما هم يقيسون الأخلاق والفضائل بمقاييسهم القديمة البالية، ويزنونها بمعاييرهم التي هلهلها الزمن، ثم إنهم لا يدركون أن المرأة تقدمت، وأنهم هم الذين ما زالوا واقفين؛ وإن دار بهم فلك الأرض.
أما الكلام في أخلاق المرأة وفضائلها وما أثر في هذه الأشياء تقدمها وغزوها لميادين الحياة، فأمر سوف نعود إليه بعدُ؛ لأن الكلام فيه يحتاج إلى مقدمات تاريخية تنتزع حقائقها من ماضينا القريب، ولكن نكتفي الآن بأن نقرر الواقع الذي لا ينكره ذو عقل في أن المرأة دلفت إلى الحياة، وأنها فكت عنها آسار القرون الأولى، فهل تهدم كيان الاجتماع، وهل تصدع ركن الحياة، وهل استقوت الرذيلة وفاض مدها واستخفت الفضيلة وارتد جزرها؟! أم أنها أصبحت شريكًا حرًّا ذا أثر في الوجود، وأنها أصبحت أربى لأولادها وأعطف على زوجها وأرتب لبيتها، وأنها أضحت أنقى سريرة وألين قيادًا، وأنها لزمت الصراحة وتركت اللؤم والمكر، وأنها تستقبل الحياة كما يستقبلها الأحياء الأحرار، لا كما كانت تستقبلها وهي السجينة بغير ذنب، المجرمة بغير جريرة، المتهمة في عفتها وأخلاقها، وإن كانت مثال الطهر وعنوان العفاف؟!!!
إن الذين يقومون اليوم في وجه النهضة النسوية في مصر إنما يبكون زمنًا غبر ودهرًا عبر، يبكون زمن الحجاب والدادات والأغوات (الخصيان)، زمن الستائر على النوافذ والأبواب، زمن التسري واتخاذ الحظيات بالعشرات وبالمئين، زمن الفسق والفجور تحت ستار الفضيلة والأخلاق، زمن التعطل والبلادة والجهل، زمن الانحلال الأخلاقي والتدهور الفكري، زمن الجمود والظلامية.
ذلك الزمن الذي احتال فيه الرجال على كل شيء في الحياة المدنية، احتالوا على القانون وعلى الشرائع وعلى وصايا الدين، ونزلوا بجميع ذلك إلى حيث أسفت نزعاتهم العجيبة، وإلى حيث ارتضت شهواتهم، فما فكروا في أن للحياة والمدنية قوانينَ، وأن للقلب شرائعَ، وأن للأرواح دينًا، إلا بقدر ما يتخذون من هذه الأشياء جميعًا ألاعيب وألهيات، وما كانت القوانين والشرائع والأديان إلا وسائل لانتزاع الإنسان من أحضان الجهالة والفقر والفساد، فإذا أهملت القوانين وأطرحت الشرائع ونسيت وصايا الأديان، فأي شيء يبقى من هذه الحياة إلا ذلك المجتمع الذي يريد أن يردنا إليه الرجعيون؟!
٣
خرجنا من نهضتنا الحديثة مزودين بوراثات وتقاليد ترتد إلى أبعد العصور، ترتد إلى مصر القديمة وزمن اليونان والرومان، ثم العصر العربي، ثم العصر العثماني، خرجنا من ذلك الزمن الطويل بلون من ألوان الحياة هي عجيبة من عجائب الزمن، بل إنك لو تخيلت تلك الوراثات كائنًا حيًّا، لكان هولة من هول الأساطير.
كانت المرأة في العصر المصري القديم ملكة تربعت على العرش، وزوجة قدست إرادتها واحترمت أمومتها، بل كان لها في السياسة ضلع كبير إذا كانت من الطبقة العليا، وكانت حرة شاركت الرجل في البيت والحقل، ورفعت بسواعدها المستوى الاجتماعي للأمة على قدر ما سمح لها في ذلك الزمن البعيد، وجاء زمن اليونان، أو كما ينبغي أن نسميه «العصر المقدوني» إذا أردنا أن ننسب ذلك العصر إلى الأسرة التي ملكت مصر بعد الإسكندر، فكان طابعه مخالفًا للطابع المصري من حيث المركز الذي شغلته المرأة في الحياة المدنية، فلم يذكر تاريخ تلك البلاد امرأة واحدة تربعت على عرش أو كان لها في الاجتماع أثر، اللهم إلا أريطي ابنة أرسطبس الفيلسوف التي حملت مشعل الحكمة عن أبيها وسلمته إلى الأخلاف، وهيپاشيا ابنة أﭘولونيوس التي نشأت وترعرعت وماتت ضحية التعصب النصراني في الإسكندرية، وعقب على ذلك الزمن الروماني وقد دخلت مصر في حوزة روما في عصر بدأ فيه انحدارها، وإن كانت عظمة يوليوس قيصر وأغسطوس قيصر، قد حجبت عوامل الفساد التي دبت في جسم روما فترة من الزمن، وقد ظلت مصر في حوزة الرومان سبعة قرون شهدت فيها الفساد يدب في أخلاق الرجل والمرأة، حتى إن كثيرًا من نساء الأباطرة كن خليعات، وحتى إن الرجال ختموهن بالأقفال؛ لشدة ما استهانت المرأة الرومانية بعفتها، وجاء العصر العربي، وفيه رفعت المرأة إلى مكانة لم تسمُ إليها من قبل؛ فاعترف لها بحق الحياة والملك والإرث، وعينت لها الشريعة مركزًا اجتماعيًّا لحظ فيه أن المرأة كائن بشري حي على قدر ما سمحت بذلك ظروف الزمان والمكان، وأنها ليست سلعة تباع وتشترى، غير أن وراثة العرب القديمة ظلت بالرغم من الشريعة الجديدة تؤثر أثرها في مركز المرأة؛ فسلم الرجل لها بكل ما نصت عليه الشريعة من الحقوق المادية، وحرمها من كل حق معنوي، فأسرها في البيوت والقصور، ورصد لها العيون الرقباء، وحرمها من التعليم، وتزوج من أربعة — مع تحريم ذلك في معتقدي — وتسرَّى بالكثير من الجواري والإماء، واتخذ من المرأة ألهية تلهى بها، بل أنزلها إلى حيث أصبحت تسلية وقت الفراغ، وما العصر العثماني إلا صورة من العصر العربي، زيد إليه أن السادة الجدد لم يكن لهم لغة ذات آداب تغلغلت في حياة الفرد، وفي حياة المجموع شأن العرب، فنزلت مكانة المرأة عندهم عما كانت عند العرب درجات؛ ذلك بأن الأدب من شأنه أن يرقق العواطف، ويثير أمجاد النفس، ويوحي بالجمال وحب الجمال على اختلاف صوره؛ مادية ومعنوية، ولقد كان لهذا عند العرب أثر شمل المرأة فيما شمل من أشياء الحياة الاجتماعية.
عندما سقط الحكم العثماني كانت المرأة على ما صورت، وكان المجتمع المصري على ما وصفنا؛ حياة مادية صرفة، احتكمت فيها الشهوة والأنانية، وسادت فيها نزعات القسوة، وانتشر فيها الفساد والغي، وتعطل القانون وحلت محله الإرادات الفردية الاستبدادية، واحتيل على الشريعة بمختلف الطرق، ونزلت مكانة المرأة إلى الحضيض، حتى لقد روي أن بيت القاضي، وما يزال قائمًا بجدرانه حتى الآن، قد خصص فيه مكان ليباشر فيه الرجال تنفيذ حكم الطاعة عند صدوره إذا أراد؛ إذ فهم من كلمة «الطاعة» ذلك المعنى الذي تشمئز منه النفوس، ويشعر المرأة بأنها تلك السائمة المرذولة، ولا يزال هذا المعنى بعينه قائمًا في أذهان أولئك الذين يقولون: «خلقت المرأة للبيت»، وما يفهمون من معنى «البيت» إلا ذلك المعنى الذي فهم من «الطاعة» في بيت القاضي قديمًا.
حالة مات فيها الحب، واستخفى الجمال، وسترت الفضيلة وجهها خجلًا حتى لا يرى ممتقعًا يقطر منه الأسى والألم، وإذا كان شأن المرأة في ذلك الزمن قد نزل إلى هذا الدرك الأسفل من الحيوانية، فعلى أي شيء تبقى؟! على الحب، أم على العفة، أم على الفضائل؟! هنالك يستشري حب الانتقام وتنقلب كل الفضائل المعنوية رذائل مادية أساسها الخديعة واللؤم والتفريط، وما كان شأن القصور في ذلك الزمن بأعلى شأنًا من بيوت الفقراء في المدن وفي القرى.
٤
نصف للذين يقولون «المرأة للبيت» حال المرأة في القصر، وفي القرية قبل النهضة الأخيرة، وإبان الاحتلال البريطاني وبعده بفترة طويلة، وإن المعاصرين لأصدق من يصف.
عاشت المرأة في ذلك العصر إما في قصر منيف وإما في حظيرة شيدت من لبنات الطين، أما الأوساط، الذين هم لا إلى القصور ولا إلى الحظائر، فكانت بيوتهم صورة مصغرة من القصر، ساد فيها كل ما كان يسود القصور في ذلك الزمن من ستائر مسترخية على النوافذ، وأبواب موصدة على الحريم، وعيون رقباء تحصي على المرأة كل صغيرة وكبيرة، بل وكل حركة، وإن شئت فقل: كل خطرة، أو كلمة، أو إشارة؛ بريئة أو غير بريئة، بل أحيطت المرأة بالجواسيس والأرصاد، الذين كان لهم أو كان لهن في تلك القصور أو البيوت النفوذ الأعلى، والكلمة المسموعة، والإرادة النافذة.
أما الحظائر المشيدة من لبنات الطين فما تزال حتى الآن قائمة في القرى وفي كثير من أحياء المدن، إلى جانب العمائر الحديثة، فهي مشهد مألوف لأهل هذا الجيل، أما القصر والحريم فقد أصبحا حديثًا يروى، وإني لأروي على القارئ بعض ذلك الحديث:
كان القصر في ذلك الزمن حصنًا هو بقية من الأشياء التي أملتها العقلية الإقطاعية، كان في مصر كما كان في أوربا في العصر الإقطاعي، كتلة منفصلة عن النظام الاجتماعي السائد في خارج أسواره، كتلة لها قوانينها الخاصة وشرائعها الخاصة، بل لا أبالغ إذا قلت: إنها كانت دولة صغيرة في جوف دولة كبيرة، سيده حاكم مطلق التصرف في الأموال والرقاب، كلا؛ بل هو أمير لا تمتد إليه يد القانون، ولا يأبه إذا أراد بشريعة أو عادة.
تشرف إذا أقدمت على أحد هذه القصور — وكان أكثرها مقره القاهرة — على باب ضخم رصع خشبه بمسامير من حديد غليظ، فكان منظره يوحي إليك، ولو من طريق الوعي الباطن، بأنه شيء خارج على الطبع وعلى الضرورة، ويمتد من وراء ذلك الباب دهليز طويل مسقوف يسمى «السباط» وعند نهايته باب آخر يسمى في العادة «باب الخوخة»، هو الحد الفاصل بين دنيا الأحياء ودنيا الأموات، كان للأجنبي أن يدخل من الباب الأكبر ويقطع السباط إلى باب الخوخة؛ حيث يستقبله «الأغا» ليسأل عن شأنه، «والأغا» عند باب الخوخة حاكم بأمره مستبد برأيه، هو الحاكم الأعلى في هذه الدنيا الصغيرة بعد سيد القصر، لا الفتى من أولاد سيد القصر ولا الفتاة له أو لها حق الاقتراب من ذلك الباب السحري إلا بأمره، فإذا تجاوز الفتى سن العاشرة، وإذا وصلت الفتاة سن التاسعة؛ فقد يعطى للأول بعض حرية المرور من ذلك الباب، وأما الثانية فتدخل الحريم، وهنالك يوصد عليها باب آخر هو باب «الحريم».
ولا تقف سلطة الأغا أو الخصي عند حق التحكم في الفتيان والفتيات، بل إن سلطانه يشمل السيدات جميعًا بغير استثناء، أما الخدم والحشم والحاشية، فهو المتصرف فيها تصرف الحاكم المطلق الذي لا ترد له إرادة ولا ينقض له رأي.
وما ذلك الأغا أو الخصي؟ عبدٌ خطيف من أهل الجنوب احتزت مذاكيره؛ ليكون صاحب القصر به في مأمن نزوات نسائه!!! أية عقد نفسية تلك التي تقوم في ذلك المجتمع الصغير؟ خصي؛ لا هو رجل ولا هو امرأة؟ تعقدت نفسه ذلك التعقد المرهِق؛ إذ يرى من حوله رجالًا كاملي الرجولة، ونساءً كاملات الأنوثة، وهو في وسط ذلك كله كالغلطة الحائرة على لسان البشرية، أما ما تحدث تلك العقد النفسية التي تتولى مثل هذا الإنسان، فقلما يدركها الباحث إدراكًا حقًّا، ولكن ردها السريع، فقد ينقلب إما إلى تعسف في استعمال الرخص التي يجيزها له صاحب القصر، وإما إلى تستر دنيء على نسائه.
وقد أعلم من عجائز رَوَيْنَ لي وشَهِدْنَ ذلك العصر، أن الخصيان كثيرًا ما كانوا سعاة للبريد يحملون رسائل الحب والغرام الشفوية، أو يهيئون فرص الوصال بين محب مغرم ووالهة متعطشة إلى الحياة.
وما شأن المرأة في ذلك الحصن المنيع الذي يحرسه خصي هو دونها أرومة ومجدًا، بل إنه خادمها والمستبد بها في آن واحد؟! أية عقد نفسية تقوم في نفس المرأة في مثل هذه البيئة، وأية أحاسيس تتناوبها، وأية خيالات تساورها في الليل وفي النهار؟ ولا أظن أن مثل هذا قد ينتج خيرًا، ولقد كان نتائجه أحد أمرين: إما إفراط في التشهي قد ينقلب ثورة جامحة تبحث لها عن منافذ بين نساء القصر أنفسهن، أو استغراق في التعبد هو في حقيقته تعبير صارخ عن آلام نفسية حبيسة.
٥
ولم يكن أثر الدادة — ويقصد بها المربية — بأقل شأنًا من أثر الأغا أو الخصي، فلئن كان الثاني حارس الباب؛ فقد كانت الأولى منشئة النفس والخلق.
والدادة أَمَةٌ من أهل الجنوب، وكن يجلبن من أقاصي السودان؛ إما من كردوفان، أو من منابع النيل، يخطفهن نخاسون يتجرون بهن.
نساء من الأحراج والأدغال وليس عليهن من سيما المدينة إلا اللباس الخارجي، معدومات الثقافة، محرومات من العلم، شاهدهن على أنهن من بنات حواء انتصاب القامة لا أكثر ولا أقل، كل ما لديهن من علم أساطير الشياطين والجن, وخرافات العقائد الموروثة.
وكان فتيات القصور مقسورات على أن يتلقين عن أولياء كل ما يتزودون به من علم وأدب وأخلاق، فإذا امتد أفق صاحب القصر، واستطالت خيالاته، واتسعت آفاقه عهد بفتاته إلى شيخ من حفاظ القرآن يعلمها كيف ترسم اسمها، ويلقنها الألفباء، ويحفظها بعض آيات من القرآن، فإذا بلغت الثامنة أو التاسعة؛ فقد بلغت سن الشك، الشك في عفافها وصونها وأخلاقها، فتحبس بين جدران القصر، ولا ترى نور الدنيا إلا إذا انتهبته خلسًا ومن وراء حجاب،
ولقد حدث مرارًا أن بعضًا من أولياء المربيات، وبالحري الإماء المستعبدات، قد أصبحن سيدات في تلك القصور، أو كبيرات الحريم؛ إذ كان يتزوج من إحداهن رب القصر إذا مرض بمرض يطول أمده؛ اعتقادًا بأن حرارة نساء الجنوب تخرج من الجسم أربعين داء إلا داء واحد، قد يكون هو القاضي على حياته الثمينة، فتصبح هي وأولادها منه ورثة لذلك القصر، وتلك الثروة الطائلة التي يخلفها.
كانت المرأة بين الأغا والدادة فريسة العقد النفسية من ناحية، وفريسة الجهل والخرافات وسوء الطبع من ناحية أخرى، ولعمرك كيف تنشأ فتاة في مثل هذه البيئة وتسلم أخلاقها من العطب، أو يكون لها من تجارب الحياة ومعترك العيش ما يرفع خيالاتها إلى مستوى المثل العالية والآداب الرفيعة.
تلك هي الصورة التي يتخيلها أولئك الذين يقولون: إن المرأة خلقت للبيت، وذلك هو المثل أو القالب الذي يريدون أن تصب فيه المرأة الحديثة في منتصف القرن العشرين، يريدونها مخلوقًا مترهل الجسم، فاتر النزعات، ميت الأحاسيس، مقموع العقل، خائر النفس، مكبوت العواطف، يريدونها غسالة، وطاهية، ومرضعة، وكناسة، وحاملة قمامة من بيوت حضراتهم.
يريدونها حيوانًا لا يختلف عن بقية عالم الحيوان إلا أنها ذات رجلين بدلًا من أن تكون ذات أربع، ويريدونها «حريمًا» بالمعنى الذي عرف في أواسط القرن التاسع عشر في مصر وفي غير مصر من بلاد الشرق.
٦
حقيقة واقعة أن المرأة في ذلك العصر لم تكن إنسانًا بالمعنى الذي نفهمه من كلمة الإنسانية، كانت سائمة تمرح في سجن واسع الجنبات مع جملة من مثيلاتها كلهن ملك ليمين رجل واحد هو سيد القصر، كان مثلهن كمثل الحيوان: هذا يسمن للذبح، وتلك ترفه للمتعة الحيوانية والشهوات الجسمية الدنيا، لم يكن للمرأة في تلك القصور إلا هذه الوظيفة الواهية: تأكل وتشرب وتلبس وتنام الليل وقطعًا من النهار؛ لتكون متعة للرجل.
قيل بأن قصر يلدز الذي سكنه عبد الحميد في تركيا القديمة كان يحوي قطعانًا من الإماء البيض والسود، ورعلانًا من الخصيان، وعليه يقاس بقية القصور في تركيا ومصر والشام والعراق وفارس والهند، نساء لا هن زوجات ولا هن محررات، يلدن أولادًا لا حق لهم في الحياة ولا أمل لهم في الدنيا، فإذا مات صاحب القصر تفرقن أيدي سبأ، ورحن يلتمسن سيدًا غيره يكن له سراري أو حظيات، فإذا بلغ بإحداهن الكبر انقلبت مستجدية تستندي الأكف ما لم يعطف عليها بعض المحظوظات من أترابها؛ فيأوينها، ثم يوارينها التراب إذا حدثَ بها حدثُ الموت.
يسود في مثل هذا المجتمع نقائض خلقية خسيسة؛ ذلك بأن استعداد المرأة ينقلب مسرحًا لرذائل قد يمكن أن تنقلب مع الحرية والعلم فضائل رفيعة؛ فالمرأة التي لا هم لها في هذه الحياة إلا أن ترضي شهوات الرجل، ولها في إرضاء هذه الشهوات منافسات رسميات، كيف تنصرف أحاسيسها إلى ما هو فاضل أو رفيع من أشياء هذه الحياة، امرأة تعرف وتوقن بأن حياتها ومستقبلها وقف على أن تفتنَّ في إرضاء رجل يشاركها في العمل على الاستئثار به عديد من النساء الأخريات؛ لكل منهن نفس هذه الفكرة، ويتجه كل همهن إلى العمل على أن يكنَّ إليه أقرب، وإلى قلبه أحب، ولإرضاء شهواته أطوع.
مثل هذه البيئة تموِّت في المرأة كل المعاني السامية، ويتعطل الفكر عن الامتداد إلى تلك الآفاق التي خلق الفكر ليمتد إليها، وكذلك تموت في الرجل كل صفات الرجولية العالية، يموت فيها الأدب ويموت فيه العقل، وترفع الخسة والشهوة رأسها الأقرن كأنها أفعى ناقعة السم.
رجل وامرأة: تتوقف حياة هذه على إرضاء شهوة ذاك، وتنصرف حياة ذاك إلى الافتنان بالمتعة بمفاتن هذه، أكانت حياتنا السابقة شيئًا غير هذا؟ وهل ينصرف المعنى المخبوء وراء قول القائلين: «خلقت المرأة للبيت» إلى أبعد من هذا كثيرًا؟!
٧
في بعض تلك القصور لم يكن للمرأة مهما سمت مكانتها شرف الأكل على مائدة السيد الكبير! فإذا تفضل وآكلها تركت المائدة خاوية البطن؛ لأنه من سمو الأدب أن تجوع من أن تأكل في حضرته إلا ما يسد الرمق؛ إمعانًا في إظهار الخضوع والانكسار والذلة، كيف لا وهي ملك يمينه، فإن كانت من أولاد الأحرار؛ فقد انتقل إلى زوجها كل حقوق الأب والأم والولد، وأصبحت كأنها ملك يمينه، وكيف تستطيع الفرار من ذلك السجن؟ وكيف تستطيع أن تلجأ إلى قانون أو شرع؛ وذلك أمر من المنكرات الفاحشة في ذلك الزمن؟! فإن نساء الطبقة العالية، طبقة القصور، قد أفهمن أن القانون والشرع كلاهما لغو أمام إرادة الزوج، أما اللجوء إليهما؛ دفعًا لظلم، أو إقرارًا لحق، فتلك كبيرة الكبائر، وطامة الطامات، أتمثل الأسيرة المستعبدة أمام قاض، وتدلف إلى محكمة، وتدلي بحجة أو تقيم برهانًا؟ إذن لقد فسد الخلق، وماتت الفضيلة، وقبرت العفة، وهتك العرض، واستبيح الخدر!
أليس هذا ما تريدون للمرأة أيها القائلون: إن المرأة خلقت للبيت؟! وماذا تعنون بكلمة البيت؛ ذلك القدس الذي اتخذتموه كلمة حق أردتم بها باطلًا؟! وما هي الحدود التي تقيمونها لهذا الكلام الذي له خبئ؟! إنما يعسر على هؤلاء أن ينفكوا عما ورثوا من بالي التقاليد والعقائد والأفكار.
•••
لم تكن ساكنة الحظيرة بأسعد حالًا من ساكنة القصر.
كانت في الأغلب واحدة من أربع نساء يعشن في حظيرة واحدة يخيم عليهن الذل والفقر والانكسار، كان السراري والحظيات من نصيب أصحاب القصور، وكان التزوج من أكثر من واحدة من نصيب أصحاب الحظائر، غير أن ساكنة الحظيرة لم تكن سجينة، كانت تمرح على الخلجان والترع، وتستمتع بضوء الشمس ونسيم الأصائل والأسحار، ولكنها كانت إلى جانب هذا المرأة الجاهلة المستذلة، هي دابة الحمل التي تشارك الدواب عملهم اليومي.
وحقيقة الواقع أن ذيوع عادة التزوج بأكثر من واحدة كانت حاجة اقتصادية، وكذلك الإقلاع عن هذه العادة في وقتنا الحاضر هي ضرورة اقتصادية، وإذن فلم يكن اختفاء هذه الظاهرة راجعًا إلى استعلاء في التصور، أو رقي في الفكر، أو استنارة في العقل، أو رقة في العاطفة.
فإن مصر وهي البلاد الزراعية منذ أن دار هذا السيار حول الشمس، قد احتاجت على مدار العصور إلى اليد العاملة؛ إذ كانت سعادتها ورفاهيتها متوقفة على الزراعة، والزراعة قبل الانقلاب الاقتصادي في أوائل القرن العشرين كانت قائمة على قوة العضلات تستغل أينما وجدت في الحيوان كما في الإنسان، فكانت أكثر أسر الريف رفاهية وسعادة هي أكثرها ثروة حيوانية وبشرية، لذلك عمد الرجال إلى التزوج بأكثر من واحدة؛ طلبًا للثروة والغنى عن طريق العمل العضلي، في الحقل وفي البيت، فلما وقع الانقلاب الاقتصادي وزاد التبادل التجاري بين مصر وأمم أوربا في أواخر القرن التاسع عشر، حلت القدرة الاقتصادية في الزراعة مكان القوة العضلية، وأصبح كبر الأسرات عبئًا بعد أن كان عونًا، واضطر الرجل أمام هذا الأمر أن يقلل من عدد الزوجات ومن عدد الأولاد؛ لأن ذلك أصبح مجلبة للثروة والرفاهية، كما أصبح عكسه مجلبة الفقر والتعاسة.
فلا يستنتجن أحد أن اختفاء هذه الخبيثة — خبيثة التزوج بأكثر من واحدة — قد كان عن تطور في الخلق أو العاطفة أو الفكر، بل كان تحولًا ضروريًّا اقتضاه انقلاب اقتصادي بالغ الأثر في حياة الأمة المصرية، وذلك عندي دليل قاطع على أن مركز المرأة الأدبي لم يسمُ في عقليتنا، وإن كانت ظواهر الأشياء تدل من هذه الناحية على شيء من ذلك، فإنما تكون دلالة بالواسطة لا دلالة مباشرة، أما السبب الكامن فانقلاب الحياة من الوضع البدائي في الريف إلى الوضع الاقتصادي الحديث.
وكذلك يكون الحال إذا نظرت إلى ظاهرة التسري في القصور؛ فإن هذه الظاهرة لم تمت إلا بموت الاتجار بالرقيق، والحق أننا لم نبذل في القضاء على هذه التجارة المرذولة أي جهد عملي أو فكري، بل جاءنا ذلك من غيرنا من الأمم وبخاصة بريطانيا التي قادت الحملة على تجارة الرقيق في القرن التاسع عشر حتى قضت عليها قضاءً كاملًا، وإن ذلك لَمجدٌ لبريطانيا خالدٌ على الدهر.
فلو أن الحالة الاقتصادية قد ارتدت إلى ما كانت عليه في أواخر القرن التاسع عشر لعادت ظاهرة التزوج بأكثر من واحدة تغزو الريف، ولو رجعت تجارة الرقيق لعاد التسري إلى ما كان عليه في القصور، ولا أعتقد أن هذه العادات قد ماتت آثارها بالفعل في نفس الرجال، وإنما هي اتخذت لباسًا آخر لا ضرورة إلى البحث فيه.
عامة ذا يدل على أن فكرتنا في المرأة لا تزال من الغرارة بحيث لا نستطيع أن نقول: إننا أدركناها إدراكًا يحيي في أنفسنا الشعور بأننا نعطل نصف الأمة عن التطلع إلى الحياة التي أضفتها الطبيعة على غير المرأة من الأحياء، بل على العكس من ذلك نعمل على أن نجعل نصف الأمة لغوًا في منطق الحياة، ونجاهد المرأة حتى تظل حبيسة بين الجدران التي أسرت فيها الأزمان الطوال، أما الواقع فإن المرأة قد أفلتت بالفعل من أسر الرجل؛ لتصبح له شريكة بالعمل وبالرأي وبالعاطفة، سنة التطور؛ ولن تجد لسنة التطور تبديلًا.