الفصل الثالث
١
لم تكن المرأة عند أكثر الشعوب قبل الإسلام شيئًا يذكر، كانت الملك الذي يتصرف فيه المالك كيف يشاء، تباع وتشترى وتورث مع ما يورث الحطام، لم يعترف بها بحياة خاصة، بل إن حياتها كانت بالتبعية لحياة الرجل، فلما جاء الإسلام رفعها وأيدها وأخذ بيدها، فاعتبرها نصف إنسان، فشهادة امرأتين بشهادة رجل، ونصيب الرجل في الميراث بنصيب امرأتين.
ولا شبهة مطلقًا في أن ذلك كان طفرة في العصر الذي نزلت فيه الشريعة الإسلامية، بل إننا لا نبالغ أنه كان أكثر من طفرة، لقد كان ثورة على الأوضاع الأولى، وانقلابًا لا نظير له في تاريخ البشر، وأي انقلاب يصيب العرف الجماعي أشد من ذلك الانقلاب الذي يجعل المرأة نصف إنسان، وكانت من قبل سلعة لا قيمة لها، سلعة حرمت كل معنى من معاني الوجود، الوجود الذي أضفته الطبيعة على الذوات العاقلة، ألم تحرم حق الحياة فوُئِدَت في الجاهلية؛ خشية الإملاق، وخشية العار؟!
كان الرجل في ذلك العصر هو الإنسان الكامل وحده لا شريك له، كما اعتقد الإنسان في العصور الوسطى أنه مركز الكون، وأنه الخلق المختار من الله، وأن العالم خلق من أجله، وأن جميع المخلوقات قد سخرت له؛ ولذلك وضعه الله في وسط الكون؛ لأنه أشرف ما خلق، وأنبل ما برأ، كذلك اعتقد الرجل أنه مركز الخلق البشري فهو الذي يملك كل شيء ومن أجله خلق كل شيء بما في ذلك المرأة، اعتقد أنه المحور الذي تدور من حوله الإنسانية، وأن الإنسان محور الكون، وأنه ليس بينه وبين الألوهية إلا خطوة قصيرة، ألم يدعِ أنه إله يعبد، وأنه القادر على كل شيء؟! ألم يرفع بصلفه بعض النساء إلى رتبة الألوهية كبرًا وعتوًّا؛ لأن الإله لا يجب أن يتخذ إلا إلهة صاحبة؟!!!
بهذه العقلية، وهي عقلية كانت طبيعية ومقبولة في تلك العصور، تحكَّم الرجل في الدولة والأسرة والمرأة، كان ذلك في عصر التكثير، أي تكثير الآلهة، وكان من الطبيعي أن الرجل الذي يرفع إلى رتبة الآلهة وفي مقدوره أن يرفع المرأة بعد أن يتأله إلى منزلة الإلهات، تلابسه في مثل هذه الحال عقلية هي عجيبة العجائب.
فلما جاء الإسلام وثبت من أصول التوحيد وعزز هذه العقيدة تعزيزًا لم يشهده تاريخ الناس من قبل، عطف إلى ناحية المرأة فاعتبرها نصف إنسان، وأضفى عليها من الكرامة والاحترام ذلك القدر الذي لا يزال حتى الآن موضع انبهار كل المشترعين؛ فقد جاء الإسلام بذلك الشرع في عصر أظلمت فيه جوانب النفس والعقل، وأسفت النزعات، واحتكمت الشهوات، وتسودت النزوات، فكان عليه أن يقضي على جميع ذلك، وأن يبشر بالشرع الجديد في أمة عرفت بالجاهلية؛ ليكون نبراسًا تستضيء به الأمم، وتأتم به الشعوب.
إن ما جاء به الإسلام من شرائع في المرأة، كان أبلغ ما يمكن أن تصل إليه الطفرة في عصر هذه صبغته، أما الذين يقولون بأن الإسلام لم يعطِ المرأة حقها الكامل فمخطئون؛ لأن الإسلام في الواقع قد أعطى المرأة أقصى ما يمكن أن تعطى، بل إنه تطرف في عطائها، مع اعتبار حاجات الزمان والمكان، ومؤثرات البيئة والعقلية.
غير أن خمسة عشر قرنًا من الزمان كافية في الواقع لأن تهيئ العقلية الإنسانية إلى خطوات أخرى في التشريع للمرأة، ولقد وضع الإسلام مبادئها الأولية، وأقر أسسها في قواعد عامة، هي في الواقع لب الإسلام وروحه؛ فإن الإسلام دين الفطرة أي دين التطور لا دين الجمود؛ لأن الفطرة من خصائصها أن تتطور وتتنشأ، ومن طبيعتها أن تتغير بتغير الزمن والوضع والحالات المحيطة بالجماعات، وإذن وجب أن ننظر في كل تشريع، وبخاصة ما اتصل من ذلك بالمرأة، هذه النظرة الواسعة الشاملة، نظرة أننا ينبغي أن نشرع لها مؤتمين بالمبادئ لا بالنصوص، إذا ما بدا في أفق التطور ما يدفعنا إلى ذلك؛ احتفاظًا بكيان الأمة وتكافلها الاجتماعي، ومن هذه الناحية لا أرى ما يمنع مطلقًا من أن ترفع المرأة إلى منزلة المساواة بالرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية: في الميراث وفي قبول الشهادة وفي العمل وفي الاستقلال الفكري والاقتصادي، وبالجملة في جميع الأشياء التي تكمل بها إنسانيتها، ذلك بأنها إنسان.
٢
نقدم بهذا لأن الكلام في طبيعة العصر الحديث يقتضيه؛ ولأن التطور الاجتماعي قد وصل حدًّا أصبح معه التفكير في أمر المرأة من هذه الزاوية ضروري بل طبيعي.
•••
موقفنا الآن من مشكلة المرأة، هو بعينه موقف غيرنا من الشعوب التي سبقتنا في المدنية الحديثة في القرن التاسع عشر، لقد بدأت هذه المشكلة تأخذ شكلًا بين الوضوح في أواسط القرن الفارط، ولكنها كانت قد أخذت تحتل مكانًا ساميًا في عقول المفكرين في نهاية القرن الثامن عشر.
غير أنه لا ينبغي لنا أن نغفل عن أن مشكلة المرأة عند غيرنا من أمم الشمال، كانت نتاجًا للتحول الاقتصادي الحديث، ولا شك في أننا مقبلون على عصر أشبه بالعصر الذي مرت به الأمم الأوروبية في أول نهضتها الصناعية، وفي بداية عصرها الإنتاجي.
لقد أخذنا نشعر جميعًا بأن من حولنا جلبة تسمى مشكلة المرأة، وبدأنا نتحسس أسباب هذه الجلبة ونبحث في نتائجها واحتمالاتها منذ ثلاثة عقود خلون من الزمان، ولكن إحساسنا بعظم المشكلة أخذ يزداد ويضخم بعد أن دلفنا في سبيل الأخذ بأسباب المدنية الإنتاجية التي سيكون للآلة والعامل فيها الشأن الأعظم، أستغفر الله: بل أقول: العامل والعاملة، والأجير والأجيرة.
لقد اتبع أكثر رجالنا وبخاصة في الريف، وهم في العادة أولئك الذين غلبت عليهم العواطف البدائية واحتكمت في مشاعرهم وعقولهم العادات القبلية الأولى، أهواءهم في توريث أولادهم من بعدهم، فجرى أكثرهم على أن يحتال على الشرائع حينًا، ويتسلح برخصها حينًا آخر في حرمان البنات من حقهم فيما يرثون عنه، فمنهم من تلك للبنات قسطًا من الثروة؛ ولكن مقترًا عليهن فيه، ومنهم من حرمهن حرمانًا كليًّا؛ معتديًا بذلك على الشرع والعرف والآداب العامة؛ ذلك إلى جانب ما كابد بنات الأسر — وبخاصة الرفيعة — من ضروب الحرمانات الأخرى، تلك الحرمانات التي كان أهونها حرمانهن من حقوقهن في الميراث، فإن البنت التي تحرم من الميراث بإرادة أبيها، تخرج إلى الحياة وهي تعلم أنها فقيرة معدمة، أما التي يختار الله أباها قبل أن يتصرف في ماله بالتي هي أسوأ، فترث عنه حقها الشرعي، ثم تحرم من الانتفاع به كل حياتها، وقد تموت قبل أن تشعر أن لها ملكًا شرعيًّا، يكون حرمانها أبلغ في الإيذاء من الحرمان الأول، لا سيما إذا علمنا أن الذي يحرمها من ذلك أشقاء أو أعمام أو أخوال يأنفون أن يكون لها ملك يرتع في بحبوحته أولاد رجل غريب، كأنما هؤلاء الأولاد قد أتى بهم الرجل الغريب من سوق البهائم، ولم يتكونوا في رحمها.
كان هذا الوضع مما يحتمل بعض الشيء في زمان نزلت فيه قيمة الثروة الزراعية، ولم يكن له في الحياة الاقتصادية هذه المنزلة التي نشهدها الآن، ولذلك نجد أن القانون قد حمى أولاد المتوفين قبل آبائهم، فأقر لهم حقهم في الميراث كما لو كانوا قد توفوا بعد المورث، وهذا ولا شك من الظواهر الجلية على أثر العامل الاقتصادي في الحياة الاجتماعية الحديثة، كما أني لا أظن أن رجلًا مثقفًا من أهل هذا الجيل يستطيع أن يقدم على ما فعل أبوه أو جده فيحرم بناته من ميراثه، إلا أن يكون قد فقد كل إحساس بالمسئولية.
٣
أما عهدنا بتعليم البنات فقريب، ولا شك في أننا أخذنا نفكر بجد في تعليمهن قبيل الثورة المصرية في سنة ١٩١٩.
كانت سيداتنا إلى ذلك العهد محجبات غير سافرات، وكنَّ في حالة تشبه الأسر، اللهم إلا القرويات اللواتي كنَّ بحكم حياتهن محتاجات إلى العمل في الحقول وارتياد الأسواق، ولا مرية في أن هذا الوضع قد عاق تعليم البنت، ووقف حائلًا دون تثقيفها، فالسيدات المحجبات من الأسر الكبيرة كُنَّ يأنفن أن تخرج البنت إلى المدرسة وإن رغبن في تعليمها، والقرويات السافرات كن لا يدركن معنى للتعليم.
شاع قبل ذلك ضرب من تعليم البنت كان أسوأ من الجهل نتائجَ، وأنكى منه في شحن العقل بشتى التوافه والخرافات، كان أصحاب البيوت الكبيرة، وهي بيوت ورثت نظامها وتقاليدها في الغالب من بيوت الأمراء المماليك، يفضلون أن تعرف البنت القراءة والكتابة، فيعهدوا بهن إلى الشيوخ الذين يتلون القرآن في البيوت ليعلموهن «العلم»، وكان هؤلاء الشيوخ يُختارون في سن الكهولة أو الشيخوخة، ولا يعرفون من شئون الدنيا شيئًا إلا فك الخط وصم القرآن، أما معلوماتهم العامة فلا تتعدى لفيفًا من الخرافات والأساطير تلقوها عن شيوخ سبقوهم إلى جنات النعيم، فكانت البنت، وهي في عنفوان أنوثتها واستعدادها لتقبل الحياة باسمة فينانة، تنشأ غارقة في ثلج المشيب والخرافات، وإن ذلك لمن أعظم ما ينتهي بالحياة إلى العقد النفسية التي يصعب على الإنسان مهما قويت إرادته أن يتخلص من آثارها، فما بالك إذا نشأت في نفسية بنت ضعيفة لا تعرف من الحياة إلا أبواب القصر المغلقة والخصيان والجواري السود من متوحشات أهل الجنوب الأقصى والحبشة والكونغو، والشيخ المخرف الذي كان الناس يعتقدون أنه وسيلتهم إلى الله … أو إلى جهنم، فإن منهم من كان إلى جهنم أقرب شيء.
أما طريقة الانتقال من تلك الحال إلى ما نراه اليوم من تهافت البنت على التعليم، وتهافت أهل البنت على تعليمها، فقد كانت بخطوات بطيئة ثم تسارعت، فإن إخواننا المصريين من غير المسلمين، كانوا أول من توجه إلى تعليم البنت في المدارس الأجنبية، فظهر في المجتمع منهن زهرات أخذ عبيرها يفوح حتى عم أريجه، ولقد أخذ أهل البيوت الكبرى من المسلمين يقدمون على تعليم البنت في المدارس الأجنبية وفي مدرسة أو مدرستين أنشئتا بعد الاحتلال البريطاني، وكانت المدرسة السنية واحدة منهما.
وكان التعليم حتى ذلك الطور زخرفًا من زخارف الحياة، لا سلاحًا تتسلح به البنت؛ لتكافح به في الحياة، فإن فكرة كفاح المرأة لم تقم في الأذهان إلا منذ عهد قريب جدًّا، أي منذ أن دخلت البنت مدرسة الطب، ثم الجامعة بكلياتها الشتيتة.
يقولون: إن المرأة لم تطالب بحقها في الحياة الاقتصادية والسياسية، ويتخذون ذلك حجة عليها، ولا أدري لماذا تطالب والزمن يسابقها إلى الارتقاء، ويدفع بها دفعًا إلى حياة العمل والكفاح، وتلك حال البنت منذ نصف قرن، وهذا حالها اليوم؛ لقد انتقلت من سجينة في القصر أو البيت إلى منصة القضاء، وإلى حجرة الجراحة، وإلى حانوت البيع، وإلى المؤسسة التجارية، وبالجملة خرجت إلى الحياة بعد الموت، واستشمت نسيم الحرية بعد الاستعباد، وتفتحت أمامها أبواب الدنيا، ولماذا تستصرخ وهي التي سجلت أعظم انتصار شهدته مصر، بل شهده الشرق كله في نصف قرن؟! ومن كانت هذه حالها أيكثر علينا أن نعترف بأن لها حقًّا يقال له الحق السياسي؟!
٤
إذا كانت الغاية من كل نظام سياسي حر، هو الحصول على مصوتين مستقلين في الرأي، فلا شك مطلقًا في أن للمرأة المتعلمة حقًّا لا ينكر في أن يكون لها نصيب من إقامة دعائم ذلك النظام!!!
ولا مشاحة في أنه من أكبر الظلم أن نفتح للمرأة معاهد التعليم والثقافة، ونصلها بالمعرفة العامة، ونجعلها تتصل بالعالم من طريق الإذاعة والصحف، ثم ننكر عليها ذلك الحق الذي نضفيه على ملايين من الرجال لا يعرفون من الدنيا إلا الدائرة الضيقة التي يعيشون فيها، وهم على جهل تام بكل ما يؤهل بهم لأن يكونوا مصوتين مستقلين في الرأي، أو ذوي رأي على الإطلاق، إننا بهذا الوضع الغريب إنما نضعف من نظامنا النيابي، وننكر على الديمقراطية أنها تعمل للمساواة لا للتفاضل، إننا بذلك نفهم الديمقراطية فهمًا عكسيًّا، وما السبب في ذلك إلا تقليدًا جرينا عليه، تقليد أن المرأة نصف إنسان، ولكنا من حيث حق الانتخاب والتمثيل لم نسمح لها بذلك الشرف الذي أضفاه عليها ذلك التقليد، فلم نجعل صوت امرأتين بصوت رجل واحد، ولم نجعل نائبتين مقام نائب واحد.
ولعمري كيف يستقيم الأمر، وكيف نكون أمناء في تفكيرنا إذا نحن لم نعترف بأن الرجل المتعلم مساوٍ للمرأة المتعلمة من حيث إنه مادة غير صالحة للتصويت في الانتخابات العامة، وإذا نحن لم نعترف بأن الرجل المتعلم مساو للمرأة المتعلمة في ذلك؟! أما إذا كان الجهل مانعًا من مباشرة هذا الحق السياسي، إذن فلننكره على المرأة والرجل، إذا تساويا في الجهل، وإذا كان التعلم رخصة لمباشرة هذا الحق، إذن فلنضفه عليهما معًا إذا تساويا في درجة خاصة من العلم.
ولكننا لا نفعل ذلك، نفكر نحن الرجال بمنطق مصالحنا ونزواتنا وخيلائنا، فنعطي الجاهل حق الانتخاب وننكره على الجاهلة، مع تساويهما في أنهما مادة غير صالحة، ومع اعتقادنا أن أكثر الناخبين غير مستقلِّين في الرأي، ومع هذا يخجلون شيئًا ما.
قليلًا ما تعرف حمرة الخجل وجوه الكثير من رجالنا، ولأن الكثيرين منا يأنفون من أن تعلو جباههم حمرة الخجل، لا نود أن ندخل ذلك العنصر الذي سوف يعرفنا ما هي حمرة الخجل في تكويننا السياسي.
وليست هذه البلاد مستعمرة للرجال تدار بمحض إرادتهم، وتوزن أقدارها بمقتضى أهوائهم، وليس نساء هذه البلاد رقيقات مستعبدات، ولسن إماء اشتريناهن بالمال، بل هن محررات بحكم الطبع وحكم القانون، هن كائنات كاملات الحرية، كاملات الإنسانية، كاملات الحقوق، أما أن نقول عكس ذلك، ثم ندعي أننا شعب ديمقراطي حر يعيش في أرض حرة، فإن ذلك يكون أبعد شيء عن منطق الواقع.
إن الذين ينكرون على المرأة حقوقها السياسية، لا يصدرون فيما يقولون عن اقتناع أو رأي صحيح، وإنما هم ينزعون هذه النزعة دفاعًا عن مصالح خاصة يحاولون الاستئثار بها؛ فهم يمنعون عنصر المرأة عن الدخول في معترك السياسة، ويحاربون هذا النظام بأظافرهم وأسنانهم؛ لأن هذا العنصر إذا دخل ميدان السياسة فسوف يكون أداة تقلم من أظافرهم، وتمنعهم عن القضم بأسنانهم، إنهم ينكرون هذا الحق على المرأة؛ لأنهم سوف يخجلون، ولقد أصبح الخجل مرضًا حادًّا في بيئاتنا السياسية، نطلب منه الفرار، أصبحنا نشعر أننا بالفرار من الخجل أحق منا بالفرار من سم الأساود، والدين الفادح، والحريق المخوف، والداء العياء.