زوينة
١
تنبهت إلى اقتراب الطائرة من مَسقط، حين أُضِيئَت اللوحة في أعلى: «التدخين ممنوع … اربط الحزام.» بَدت من نافذة الطائرة أضواء الشوارع والدوارات وشعلات البترول. أعددتُ نفسي للجو الخانق، والرطوبة العالية، والصَّهد اللافح. قال الشيخ حمود النبهاني: أنت تستطيع دخول البلد بأية كمية من النُّقود أو الذهب أو البضائع، لكنك لا تستطيع أن تدخل بالخمر، ولا المخدِّرات، ولا الأفكار المتقدِّمة. إذا علَّم الضابط على حقيبتك بالطباشيرة، فإن من حقِّك مغادَرة المطار إلى داخل المدينة.
علا السُّلَّم الآلي في اقترابه من الطائرة. ثم انفتح الباب.
•••
كنتُ قد أنهيت إعداد حقيبتي، لكنني ظللتُ داخل الحجرة، أَتردَّد في الخروج إلى الصالة، ومواجهة الحديث مع أمي.
أضافت أمي إلى ندائها وصخب إخوتي نقرات بإصبعها على الباب: نمت؟
– أبدًا … أُعِد الحقيبة!
– سفرك لإعارة وليس للهجرة.
وسَرتْ في صوتها ارتعاشة واضحة: خذ ما تحتاجه بالفعل!
انخرطَتْ عفاف الصغيرة في بكاء مفاجئ. بكت بانفعال كما لم أَرَها من قبل. قالت من بين شهيقها ودموعها: لا تسافر!
اغتصبتُ ابتسامةً صامتة، ونظرتُ إليها، فزاد بكاؤها. علا نشيجها، وضربت الأرض بقدميها. كان إخوتي يرقُبون المشهد في هدوء منفعل، انعكست تأثيراته في ارتعاشات الأعين والشفاه. ظلَّت أمي على جمودها وصمتها. بدت بلا حيلة، فهي تكتفي بنظرات مُوزَّعة لا تثبت على شيء. لم تنطق شفتاها بكلمات وداع، ولا بكلمات واضحة أو مُدغَمة، وإن لاحظتُ التماع الدَّمع في عينيها، وتشاغل أبي بالتطلُّع إلى ما لم أَتبَيَّنه عَبْر النافذة.
•••
نسيتُ — في ارتباكي — ربْط الحزام، فنبَّهتْني المُضِيفة ذات السحنة الأوروبية. أذكر كل ما حدث ليلة السفر، لكنني ظللتُ لا أصدق أنها مضَت. لا أذكر كيف انتهَت اللحظات القاسية. كدتُ أفقد سيطرتي على نفسي. لاحظ أبي، فخشي — ربما — أن أعدل عن السفر.
قال: للطائرة موعد … ولن تنتظرك!
كيف استطعتُ تَحمُّل ما حدث؟!
توقَّفَت العجلات، وفُتحت الأبواب. غَرقتُ في بحر من العرق اللزج. أوسعت خطواتي، وأنا أمضي من سُلَّم الطائرة إلى صالة الاستقبال، على كتفي حقيبة جلدية سوداء صغيرة، ويطل من جيب الجاكت العلوي جواز السفر وتذكرة الطائرة وبطاقة التطعيم الصفراء.
•••
بعد أن وقفتُ في طابور من لابسي الدِّشداشة، نبهني الواقف ورائي: هذا الكاونتر للمواطنين.
وأشار إلى طابور آخَر من لابسي البدلة والجلباب: طابورك هناك.
عاودني الإحساس بأني لم أَعُد في القاهرة، وأني ابتعدتُ عنها إلى مدينة أخرى، بلد آخر، يستقبلني ضيفًا، وافدًا، موظفًا عند كفيل.
•••
لاحظَتْ حيرتي: ألم تحصل على حقائبك؟
وأنا أومئ برأسي: حقيبة واحدة … ها هي.
– لماذا تقف هكذا إذن؟
– أنتظر سيارة العمل.
– هل تعرفها؟
– يأتي بها صديق يعرفني.
– أين تعمل؟
بدَا السؤال مفاجئًا، ومربكًا:
– شركة صحار للمقاولات.
استدركتُ وأنا أبحث عن بطاقة الشركة: أنا صحفي … سأصدر جريدة تُموِّلها الشركة.
– في رويْ؟
أخرجتُ البطاقة من جيب الجاكت. أعدت قراءتها: نعم … هي في رويْ.
– عربة الشركة في طريقها إلى هناك … تعالَ معنا.
فاجأني التَّصرُّف. فتاة تحدثني، وتدعوني إلى ركوب سيارة، بمفردها أو مع آخَرين. كنتُ قد قدمت بِتصوُّر مُجتمَع الرجال، والخناجر، والدشاديش، والجبال، والقلاع، والعادات القديمة، والتقاليد …
تأمَّلتُ قامتها الضئيلة، المتناسقة، وملامحها المنمنمة، والبسمة التي كأنها ألصقتها بشفتيها.
كانت ترتدي زِي المضيفات، ووضعَت على صدرها شارة طيران الخليج:
– مُضِيفة؟
– عملي في العلاقات العامة.
مضَت ناحية السيارة، ربما لتجاوز تَردُّدي.
أسلمتُ عَيني للمدينة التي أراها للمرة الأولى: الجبال، والخلاء، والمباني القليلة المتناثرة، وجو إبريل الأقرب للحرارة، والسماء الخالية من السحب …
داخَلني إحساس أني تركت تاريخي في القاهرة. أبدأ في هذا المكان تاريخًا جديدًا. خلَّفتُ أبي، وأمي، وإخوتي، وأصدقائي، وزملاء العمل، والذكريات الصغيرة …
كيف أجد طرف الخيط في حياتي الجديدة؟
٢
فيما عدا الجريدة الحكومية، فإن بقية الصحف كانت تَعرِف المُحرِّر الواحد. يقيم في مبنى الجريدة. يُعِد موادَّها، يرسلها، أو يحملها إلى بيروت أو الكويت لتُطبَع هناك. بدَا المبنى — في ضوء ذلك — لا بأس به.
قال الشيخ النبهاني: لم يمضِ ثلاثة أيام على وصولك إلى مسقط … من دلَّك على هذا البيت؟
– مُضِيفة في طيران الخليج … أوصلتني في سيارة الشركة إلى رويْ.
لما وضَع أصابعه خلف أذنه، واستعاد كلماتي، خمَّنتُ أنه لا يسمع جيدًا. أعدتُ ما قلتُ بصوت مرتفع.
قال: دون سابق معرفة؟
– دون سابق معرفة.
ثم وأنا أتحسَّس الكلمات: أشفقَتْ على حيرتي … فصحبتني في سيارة الشركة … حين كلَّمتُها عن عملي، نصحَتْ بالمبنى، وأعطتني رقم التليفون.
رمَقَني بنظرة متسائلة: قالت لك إنها عُمانية؟ مسقطية؟
وأردف لإيماءة رأسي: لعلَّها زنجبارية … عُرِف التَّحرُّر عن الزنجباريات.
هششتُ بظاهر كفِّي ذبابة ألحَّ طنينها حول رأسي، وقلتُ لأجاوز الارتباك: هذا كل شيء.
قال وهو يمضي إلى خارج البيت: إذا أردتَ سيارة لأي شيء … اتِّصل بالتليفون أبعث لك السيارة مع السائق!
السفر عالَم يصعب تخمين ملامحه. عندما بدأتُ في إعداد حقيبتي، تصوَّرتُ نفسي في شقة مثل شقتي المُطلَّة على ميدان المساحة. قال لي الشيخ النبهاني: إن غالبية بيوت مسقط على النَّسق العُماني، فتَشوَّش تَصوُّري. استدعى ما لم يهبه شكلًا محددًا.
خاب ظني في شركة صحار للمقاولات، مثلما خاب ظني في الجريدة. في الشركة — مثلما في الجريدة — موظَّف واحد، هو المُقابل لي. شاب أردني في حوالي الثلاثين. قدَّم نفسه: المهندس عدنان الطراونة. تبادَلْنا كلمات مُجامَلة، ثم اجتذبتني دوَّامة العمل في الجريدة، فلا نلتقي — إلا مُصادفة — في سوق رويْ، يبادلني التحية بهزَّة من رأسه، ويمضي.
كان الشيخ النبهاني يقترب من السِّتِّين. يرتدي الدِّشداشة الفضفاضة، والكمة المُزَركَشة الضيقة، يبدو من تحتها تداخُل السواد بالبياض في رأسه. وربما وضَع البُشت ذا الأطراف المُذهَّبة فوق الدِّشداشة، قماش أسود، خفيف، أقرب إلى الشَّاش، تبين الدِّشداشة من تحته. يحرص — مثل كل العُمانيين — على الخِنجر الفضي في حزام من خيوط الفضة حول الخصر، و«الفريخة» المدلاة أعلى الدِّشداشة من جانب العنق، يُضَمِّخُها بالعطور والطِّيب، ويتَشمَّمها بين فترة وأخرى. وفي يده — معظم الأوقات — مِسواك يجري به على أسنانه. إذا أسدل «البُشت» على الدِّشداشة، خمَّنتُ أنه في طريقه إلى مقابلة مسئول.
كان على الفِطْرة في كلماته وتَصرُّفاته. تَنطق شفتاه بما يبدو أنه أراد قوله بالفعل، لا يضيف ولا يحذف، ولا يلجأ إلى التزويق. يَتذكَّر أيامًا، لم تكن مسقط تُعرَف فيها الكهرباء، ولا الطائرات، ولا الإذاعة أو التليفزيون. لا شيء، إلا الصحو على أذان الفجر، والعمل داخل أسوار المدينة وخارجها، ثم العودة على دقَّات النوبة بقلعة الميراني.
لم يكن لديه أفكار مسبقة، وتزاوج في مشاعره طيبة واضحة وطابع مادي، يَتبدَّى إذا تَحدَّثتَ في الأمور المادية، فعيناه يغشاهما حَوَل حقيقي، تتنافَر حدَقتا العينين، ويغلب البياض، ويعروه ارتباك واضح.
عدتُ إلى الرواية التي كنتُ بدأتُ كتابتها في القاهرة. الصفحات قليلة، والشخصيات تعاني الشحوب، والأحداث تختلط بلا انسجام.
•••
مسقط حلم سخيف. سِجن أسواره جبال، جبال صخرية، مُصمَتة. ليس ثمة ما تبدأ منه، أو تنتهي إليه. تمتص أشعة الشمس، أشعة أنثوية، خصبة، تعكسها على الحياة — بكل صورها — فيرين همود هو أقرب إلى الموت. وتغيب الشمس، فتنفث الجبال مخزونها الصَّهدي في تواصُل قاسٍ، مُؤلِم. قال لي الشيخ النبهاني: تسمية مسقط؛ لأنها تَسقُط بين الجبال. أشعر أني واحد من الذين سَقطوا بين جبال مسقط.
المبنى مُستَلْقٍ في حضن الجبل. على النظام العُماني. ساحة تُرابية، واسعة، مكشوفة، يحيط بها سُور مرتفع من الحجر الأبيض. باب الواجهة يطل على شارع الحمرية، دائمًا مُغلَق. أسندت عليه ألواح من الخشب وصناديق وأجولة فارغة. يقابله اتصال حلقات الجبال، يَعلُوها أكواخ من الصفيح، ورجال اكتفوا بارتداء الوزار، وماعز أتحيَّر لوقفتها على أظلافها فوق الصخور.
الباب الجانبي يطل على بيت مماثل، عرفتُ أن الفتاة تسكن فيه. البيتان في حضن الجبل. جبل صخري مرتفع، تفصل بينهما طريق قصيرة، تَغطَّت أرضية صخورها بذرات متراكمة من الرمال. كأنه زقاق خلا إلا من السكان، أسرتها — لاحظت طفلًا صغيرًا دائم اللعب في الساحة الداخلية لبيتها، وأبًا في حوالي الخامسة والستين، أمَّا الأم فقد التفَّتْ بعباءة، غابت فيها ملامحها.
أعود من جَولات سريعة في وزارة الإعلام بالقرم، أو الوزارات المُتبقِّية في مسقط القديمة. أدخل من الباب الجانبي. أَدُس المفتاح. أدفع الباب. تطالعني الوحدة في البيت المُستلقِي في حضن الجبل. الساحة الترابية. على الشمال الباب الرئيسي المُغلق، وعلى اليسار حُجرتان منفصلتان، يعلو بهما عن الساحة الرملية رصيف من البلاط المُتداخل. جعلتُ الأولى مكتبًا، والثانية — الأقرب إلى المطبخ والحمام — للنوم. يعتقدون أن الجانَّ تسكن دورات المياه، فهي لا بُدَّ أن تكون بعيدة عن حجرات النوم.
الشمس تنعكس حرارة قاسية في الأرض والجدران والأشياء الساكنة والمتحركة، وفي الرائحة الخانقة، المتصاعدة في الجو. رائحة غريبة، تُذكِّرُك بالموت. وتطل النافذة على الساحة الترابية، والأسوار التي تحيط بها، كأنها سجن حقيقي، معزول عن العالم الخارجي. دنيا بعيدة، جزيرة معزولة، لا صلة لها بآفاق المياه المترامية من حولها.
تبينتُ أن القاهرة قد ازدادت بُعدًا. إنها هناك، حيث لا أستطيع أن أصل إليها إلا بالتَّخيُّل. الغربة من حولي قاسية. حتى الهواء، بدَا لي غير الهواء الذي كنتُ أتنفسه في القاهرة. يختلف في حرارته الساكنة، عن الهواء الذي أَلفتُه. كنت أضغط على زر المروحة في مكتبي بالجريدة، فتحرك الهواء لطيفًا، لكن المروحة — في خلاء الجبال — فاجأتني بهواء ساخن، ثقيل، والتَّنفُّس أمارسه بصعوبة.
في اليوم الأول، دارت المروحة بالهواء الساخن، الساكن، تخللته رطوبة ثقيلة، خانقة … أوقفتُها. أفتح النافذة في القاهرة، فتحمل نسائم تُلطِّف سخونة الجو. المروحة الدائرة من فوقي تلطمني بسخونة حارقة. بدَا لي احتمال الحَر الساكن أيسر من تلقِّي الهواء الناري بدوران المروحة. فتحت الباب، فالتفَّ جسمي بالعرق والرطوبة اللزجة، وأحسستُ باختناق.
الشمس اللاهبة تفرض سطوتها على النهار، تحيل كل شيء إلى وعاء خرافي يشوي مَن فيه بلسع النار. الحرارة لا ترتطم بسطح الأرض فقط. تتسلل إلى الباطن، تقتحمه، تدفع الكائنات التحتية للخروج إلى السطح، ربما تبحث عن مكان لم تبلغه حرارة الشمس.
الشمس هي العطش والجفاف والتشقق، وهي المَلل، والتكاسل، والنوم، وبطء الحركة. حتى الكلمات تخرج من الأفواه متثائبة. يَشغلني — إذا وقفتُ تحت الدُّش — أن ينزل الماء ساخنًا لتسلط حرارة الشمس على «التَّنْكر»، أو أن ينفد الماء قبل أن أنهي الاستحمام.
هذه أول مرة أحيا فيها بمفردي. ليس أمامي ولا حولي ما أتطلع إليه. الأبواب — حتى أبواب الدكاكين — مُغلَقة، أو مواربة، والحياة يرين عليها بَلادة. لا شيء إلا الصمت، والشمس، والصخور، والبيوت ذات الطراز العُماني، الساكنة.
اعتدتُ الانفراد والوحدة. أشعر بأني منفصل عن كل ما حولي، عن هذا المكان بجباله وحرارته اللافحة وحشراته التي بلا عَدد ودَشاديشه. لم يَعُد للناس ولا الشوارع والبيوت ملامح مُحدَّدة. تداخلَت الملامح، وتَشابكت. ثَمَّة مسافة تفصل بيني وبين كل من ألتقي بهم. لا أرضية مُشترَكة نقف فوقها، لا صلة لي حتى بالمصادر التي ألجأ إليها في تغطية موضوعات الجريدة. تنتهي صلتي بها عندما أغادر الوزارة أو المؤسَّسة. لا أتَذكَّر المسئول إلا إذا دفعني العمل للعودة إليه … تثقل عليَّ الوحدة، فأتشاغل بالقراءة. أحاول التركيز بإعادة القراءة. أدير مؤشر الراديو إلى آخره. ربما يقضي فقدان التركيز على الصخب في داخلي. ثم أدرك أن النوم هو أفضل الوسائل للتغلب على ما أعانيه.
صدمتني البداية: الألقاب التي تسبق الأسماء: حَضرة سُمُو السيد … حَضْرة صاحب السُّمُو … معالي … سعادة … حتى الأسماء كنت أعاني تهجيتها. واستقر في داخلي رقيب يُدرِك ما ينبغي — وما لا ينبغي — نَشْره.
قدوم الليل ألغى تَصوُّري بأن الجو سيكون ألطف. الكتل الصخرية تَمتص أشعة الشمس، أشعة أنثوية، خصبة، تعكسها على الأبدان والعقول، فيرين على الحياة — بكل صورها — هُمود، هو أقرب إلى الموت. تغيب الشمس، فتنفُث الجبال مَخزونها الصَّهدي في تواصل قاسٍ، مؤلم. المروحة الكهربائية ذات الطنين الرَّتيب تُحرِّك هواء ساخنًا. وثَمَّة أسراب الحشرات الطائرة: البعوض وهوام الليل تحوم حول الدائرة المُتوهِّجة للمبة الوحيدة المتدلية من السقف، أصوات كاللسع، أو بلا صوت، حول ضوء اللمبة. تحوَّلَت الحجرة إلى سحابات صغيرة من الحشرات، أنواع أعرفها ولا أعرفها، سوداء وبيضاء وملونة، تُشاغِل عيني، وتَطِنُّ حول أذني، وتعلو. تَرتطم باللمبة، وتسقط في أي مكان، تموت، أو تَتسلَّق الجدار لتحوم من جديد. وكنتُ أعاني قَرْص حشرات لا أراها.
السائق هندي. في حوالي الثلاثين. يرتدي فانلة بيضاء، وإن حال لونها بالاتساخ، ووزار من المكعَّبات المُلوَّنة، ويدس قدميه في شبشب بلاستيك. يتكلم العربية بصعوبة. اكتفيتُ بأن أذكر له أسماء الأماكن، وهو يهز رأسه بما يعني أنه فَهِم ما أعنيه. كان دائم المضغ لما لم أَتبيَّنْه. يُحيط أسنانه وشفتيه باللون الأحمر، ويَبصُق لعابًا أحمر. قال لي إن «البيتل» هو ما يمضغه. عادة هندية غابت عنه أسبابها.
مَرَّة وحيدة، غابت فيها السكينة عن ملامحه. كانت الساعة تومض في يده بين فترة وأخرى. أبديت مُلاحظتي، فغمغم بما لم أتَبيَّنْه، وسكَتَ.
أعدتُ الملاحَظة.
قال: إنها صورة الإله … تظهر كل ساعة.
بدَا هادئًا وجادًّا. لم تُجاوِز العلاقة بيني وبينه أني أركب السيارة، وأنه يقودها.
– ماذا تقصد؟!
– صورة الإله تتوسَّط الساعة، وهي تظهر لأتذكر واجب العبادة.
ومال بأعلى كتفه: الإله يحيا الآن في الولايات المتحدة، وإن انتشر المؤمنون به في الهند وخارجها … إنهم يَتذكَّرونه برؤية صورته فلا يرتكبون الخطيئة.
– وهل تنسون الإله إذا لم تظهر صورة الساعة؟
– سير!
اكتفى بالكلمة الإنجليزية، غاضِبة، مُتوتِّرة. اهتزَّت يده على المقود، وبدَا عليه انفعال، وزاد من سرعة السيارة.
حاولتُ أن أُصادق المدينة …
مشيتُ — بلا هدف — في شوارع رويْ ومطرح. بعد أن تعلو شمس الغروب أسطح البنايات. الحياة تنعدم تمامًا في الفترة من الظهر إلى العصر. لا أحد يستطيع السَّير على قدميه، تحت الشمس الحارقة. خليط من الأجناس واللغات والأزياء والسِّحَن، واللافتات المكتوبة بالعربية والإنجليزية والأُردِيَّة. الدِّشداشة تختلف عن التي يرتديها أبناء الخليج. الياقة وفتحة الصدر والإطار المُذهَّب الذي يحيط بالعنق، بالأكمام والشراشيب البيضاء، والملونة أحيانًا. يشم صاحبها ما نثر عليها من عطر. المسرة غطاء الرأس لموظفي الحكومة، الكمة للتجار، وللحياة في البيوت. تُدَسُّ القدمان في «نِعال» من الجلد أو البلاستيك. التَّمنطُق بالخنجر ضرورة للمناسبات الرسمية، يكتمل بالعصا الخيزران، تُطوِّح بها اليد، أو تُوضَع تحت الكتف. أتعرَّف على القادمين من زنجبار بما يرتدونه: البنطلون والقميص بدلًا من الدِّشداشة، والتَّحرُّر من غطاء الرأس، والنساء يَرتدين الملابس الفضفاضة، أو المُبهِجة المُزَركَشة. ثمة الساري الهندي، والبطن العارية، والنقطة الحمراء فوق الجبهة، والقلنسوة الهندية، ورائحة الزيت الملتصقة بأجساد الرجال، وشعور السيخ الطويلة، المُضفَّرة حول الوجه وتحت العمائم الكبيرة، والسودانيون بجلابيبهم البيضاء الفضفاضة والعمائم البيضاء، ولابسو البنطلونات والقمصان، وربما تَحوَّل المارة إلى خيالات، فتغيب ملامحهم. أكلتُ أطعمة لم أكن تَذوَّقتُها من قبل، أو بَصقتُ اللقمة الأولى. أجدتُ التَّفرقة بين أنواع الخبز ما بين شامي وإيراني وباكستاني. تختلف في أحجامها وطعمها، وحتى في رائحتها. عانيت — في البداية — فَهْم المفردات التي تتداخل في أحاديث العُمانيين، مُفردات آسيوية، لعلها من الهند أو الباكستان أو بلاد أخرى: سيدا … تيكا … تيكا نيه … متروس … أتشا … رفيق … سولفة … صدمتني المفردات، ثم فهمتُها في السياق، ثم تَفهَّمتُ معانيها، واستخدمتها باعتبارها مفردات طريفة، ثم لجأتُ إليها كضرورة لتوضيح ما أقول.
مسقط!
سألتُ عن التسمية.
قال لي الشيخ النبهاني: الجبال تحيط بالمدينة من الشمال والجنوب والغرب؛ ولأنها مدينة ساحلية، فإن الجبال تمتد إلى داخل البحر أيضًا على شكل فَكَّيْن صغيرين، جَدَّد عليهما البرتغاليون قلعتي الميراني والجلالي.
لستُ أذكر القائل بأن مسقط أشبه بجزيرة من الجبال، لكن الجبال — بالفعل — مَظهر رئيسي للجغرافية العُمانية. ألتقي بها أينما سِرتُ، على اليمين، وعلى اليسار، وأمامي، وورائي. كتبت في رسالة لأبي: أخشى أن أنظر إلى فوق فتطالعني الجبال! … ربما — لكثرتها — أتت الأسطورة بأن سليمان الحكيم كان يحبس الجان في الوديان الواقعة بين الجبال. نَحَت العُمانيون صخور الجبال في بعض الأماكن، ليشقوا الطرق، ويُشيِّدوا المباني. لم ينظروا إليها من الزاوية نفسها التي ينظر بها الغرباء.
سألتُ الولد القادم من صلالة — لم أكن زرتُها بعد: هل لديكم جبال مثل جبال مسقط؟
هتف مستنكرًا: جبالنا أضخم بكثير!
يرى الجبال مَبعثًا للقوة والاعتزاز.
لم أكره المدينة، ولم أحبها، وإن ألِفْتُ هز الرأس، وكلمة «ما قصّر» تقال في المجاملة، وكلمة «نو بربلم» في المواقف السهلة والصعبة، و«في أمان الله» عند انصرافي من أي مكان … والذقون الطويلة تحيط بالوجوه، و«المُصَر» تغطي الرءوس. تمنيت لو أني لم ألتقِ بناصف الغمري، ولم أقبل عرضه بالسفر إلى هنا، ولم أسافر.
لم أكن أُلبِّي الدعوات من أي نوع. العمل يَمتصُّ وقتي تمامًا، لا يبقى في نهاية اليوم إلا أن أذهب — مرهقًا — إلى النوم. السرير المرتفع بملاءته الزرقاء المُتَّسِخة، ووسادته التي حفر رأسي موضعًا فيها. أكتفي — لساعات — بالتمدد، أباعد بين قدميَّ. أغمض عينيَّ، أو أُحدِّق في سقف الحجرة، أو في سماع الراديو، أو أخلو إلى القراءة. أغيب في الصفحات. أنسى العالم كله. وإن ناوشني حنين إلى شيء غامض، لا أدرك طبيعته. تومض وجوه تحيا في ذاكرتي، أو تختفي. أضم الوحدة بين ذراعيَّ، وتغيب الأحلام — بالتعب — عن نومي العميق.
هل أظل في رحلة السفر حتى أوفِّر ثمن الشقة، أو أمدُّها — إن استطعت — حتى أدَّخِر لأعوام الزواج؟
أزمعتُ أن أُقلِّل من رسائلي إلى القاهرة، ومن مكالمات التليفون، فأعتاد الغربة.
٣
اقتحم النافذة المفتوحة صرصار جبلي طائر. التصق بالجدار لثوانٍ، ثم تَخبَّط في طيرانه نحو السقف والأركان. غالبتُ الخوف وأنا أتبع حركة الصرصار السريعة، المتقافزة. واصل الصرصار اندفاعه إلى خارج الحجرة، فأغلقتُ النافذة.
اعتدتُ البقاء وراء النافذة المطلة على الجبال والبيوت والشوارع الساكنة. أحرص، فتظل النافذة مُغلَقة، حتى لا تدخل الحشرات وهوام الليل. أكره سلاسل الجبال الصخرية، المُتلاصِقة، الجرداء، الصَّامتة، وأخافها. يتوالى ارتفاعها وانخفاضها في كل الاتجاهات إلى غير نهاية. تبدو جدرانًا هائلة. أتخيَّل سقوطها المفاجئ. يُحزنني المشهد الواحد للماعز الواقفة في أعلى، لا أعرف كيف أفلحَت في الصعود بأظلافها، ولا من أين تأكل. أُحدِّق في ظلمة الليل، أو سكون النهار، وأتنقل بين جُزر منفصلة. أحيا في هذا البيت الواسع، في هذه المدينة الجبلية. لا صديق، آخذ منه وأعطي له، أحكي ما يفد إلى ذهني. لا أخفي أي شيء. بدَت أيامي فارغة، وغير محتمَلة، وأيامي القادمة بلا ملامح، أو أن ملامحها شائهة. نزعتُ صورة لميدان الحسين، كنتُ علَّقتُها على الجدار. كنتُ أختنق — حين أنظر إليها — من الوحدة والعزلة. تضيق المسافة بين السقف والجدران، ثم تستطيل. يهبط السقف، وتضيق الجدران، تقترب، تلامسني، تنطبق عليَّ.
لم يكن حلم الثراء هو دافعي للسفر. وربما لو أني كنتُ قد عثرت على شقة، وأفلحت في تأثيثها، ما أعطيت انتباهي لقول ناصف الغمري: ألم تفكر في السفر؟
– إلى أين؟
– إلى الخارج طبعًا.
وفاجأني بالقول: تريد عقد عمل؟
قلت: أين؟
– سلطنة عُمان.
استعدتُ الاسم: سلطنة عُمان؟
كانت الصورة غامضة أو ضبابية.
حدثني عن الأعوام الأربعة التي أمضاها في السلطنة: الجبال المتلاصقة، تبدو البنايات والشوارع بينها بقعًا متناثرة في نسيج جبلي، ممتد ومتكامل. أحياء مسقط هي كل قطعة أرض أتيح للناس أن يُشيِّدوا فوقها المباني والمنشآت. الجبال صامتة، صخرية، جرداء، يغيب عنها ذلك «الكليشيه» المتداوَل: سلسلة من الجبال. تأتي من اللابداية، تنتهي في اللانهاية. تبث في النفس شعورًا أقرب إلى الرهبة، ذلك الشعور الذي يتملك المرء وهو يواجه المجهول.
استطرد وهو يعدل من وضع النظارة فوق أنفه: نَحَت العُمانيون الجبال، اقتطعوا الأرض بالمعاول والبلدوزرات والجرافات، أنشئُوا مدينة من بضع قُرًى، تناثرت في السهول الصغيرة، بين المئات من القمم الصخرية المتلاصقة.
وسرى في صوته انفعال: تَقبَل السياسة العُمانية أو ترفضها، لكن ظاهرة صُنْع الحياة في الجبل، تُذكِّرُني باقتطاع هولندا للأرض من مساحة البحر، وإن بدَا ما صنعه الهولنديون اجتهادًا بالقياس إلى اقتطاع الأرض من الكتل الصخرية.
قلت: أنا صحفي … ما شأني باقتطاع مساحة أرض من صخور الجبل؟
قال: ليست مسقط جبالًا وصخورًا فقط. هناك بشر طيبون وأسواق وشوارع ووسائل إعلام ودور سينما وبضائع من أحدث ما تنتجه أوروبا.
وأطلق ضحكة من أنفه: وهناك راتب يعينك على مُجاوزة أزْمَتك المادية.
كان الشاب — في الرواية التي بدأتُ في كتابتها — قد استجمع شجاعته، وصارح فتاته بحبه لها. استعصَت الكلمات بعد ذلك، فدسست الأوراق في درج المكتب.
هز إصبعه: لا تقل لا … أعرف ما تحاول إخفاءه من أحوالك.
بدَا السَّفَر هو الروشتة الوحيدة التي تكفل علاج مشكلاتي، وإن تَمنَّيتُ لو بقيت في القاهرة. أقنع براتب الجريدة. أتزوج أو لا أتزوج. أحيا مع أبويَّ وخالد وباسم وعفاف الصغيرة في البيت المطل على ميدان المساحة، وعلى النيل والشيراتون وتقاطعات الشوارع المزدحمة. أتم الرواية التي بدأت في كتابتها. أجدد اشتراك مكتبة معهد جوتة. أناقش أبي في أخبار التليفزيون. أذاكر لباسم دروس الثانوية العامة. أعود إلى اختياري الصباحي بالسَّير إلى مبنى الجريدة.
رفعت مها عينًا متسائلة: لماذا تسافر؟
– لكي نتزوج.
– هل السفر هو ما يجب أن يفعله كل المقدمين على الزواج؟
وداخلت صوتها ارتعاشة عصبية: أنت تعمل في وظيفة جيدة … وأنا أعمل أيضًا.
وأنا أعاني إحساسًا بالمحاصرة: ما نتقاضاه ننفقه قبل أن يحل الشهر الجديد.
واصطنعتُ ابتسامة مُتودِّدة: تأثيث البيت يحتاج إلى ميزانية لا نملكها!
حاولتُ أن أفعل شيئًا لأقترب من مها. أصبح الخطيب — فالزوج — الذي تريده. لكن نظراتها المتسللة إلى حيث تجلس أمها، جعلت من الإحباط هو الثمرة الوحيدة، المتاحة.
بدت الطريق مسدودة، ولم يعد بوسعي التراجع.
أدركتُ أن الحياة بين هذه الجبال مما يصعب عليَّ قبوله ولا أطيقه. بدَت لي القاهرة بعيدة، بعيدة، أول الدنيا، أو آخرها. كتبت رسالة إلى أمي. تحدثت عن شوقي إليها. قلت إني لن أستطيع أن أحيا في هذا المكان بمفردي. أعدت قراءة العبارة، فشطبتها. كتبت كلمات أخرى لا تطرح أسئلة ولا تخوفات.
كان الجميع قد استقبلوا قرار السفر بالصمت. المناقشات ومحاولات الإقناع بلا معنى، أمام الحائط المسدود. حتى المبلغ الذي كان يضيفه أبي إلى راتبي، أول كل شهر. همس — بعد خروجه إلى المعاش — أنه يجب ألا أتوقَّع غير راتب الجريدة، واغتصب ابتسامة: معاشنا نحن الأربعة أقل من راتبك في الجريدة!
يبدو السؤال بلا إجابة: كيف كانت الحياة هنا بلا مُكيِّفات؟ كيف كان الناس يعيشون داخل البيوت، ويُمارِسون أعمالهم، ويقصرون مواصلاتهم على الدواب؟
حدستُ أن الشعور بالاطمئنان سيظل حلمًا بعيدًا، أملًا ورديًّا، إن ظللتُ وحدي في هذه المدينة القاسية.
لن أستطيع الحياة بمفردي. في بالي مها، ومُحرِّرُو الجريدة، والدَّمعة الملتمعة في عين أمي إن تَذكَّرتُ ما يثير الشجن، وبائع الصحف في ناصية ميدان الدقي، ونداء بائع الفول يتصاعد إلى النافذة كل صباح، وصياح الأولاد لاعبي الكرة في الشارع الخَلفي، وموقف الأوتوبيسات في ميدان رمسيس … مَشاهد تبقى في الذِّهن لحظات، أو تُومض لتتلاشى.
لو قَدمَت مها معي، هل كانت حياتي تصبح أكثر يُسرًا؟!
٤
تنبَّهتُ على صرير الباب الخارجي. ترامى وَقْع الأقدام على الأرض الرملية المتداخلة بالحصوات الصغيرة.
بدَا في حوالي الخامسة والعشرين. له قبول احتواني منذ اللحظة الأولى. قامة طويلة أميل إلى النحافة، وبشرة سمراء أقرب إلى السواد، ووجه طويل، نحيل، وحاجبان كثيفان، وعينان واسعتان، بريئتان، كعيني طفل، وأنف مستقيم، وشفتان تنفرجان عن أسنان لامعة، وشارب رفيع تهدَّل طرفاه على جانبي فمه، وذقن حليقة، وإن أهمل في نهايتها خصلة شعر صغيرة. يرتدي جاكت من التويد الرمادي فوق دِشداشة رائقة البياض، وفي يده عصا قصيرة، سوداء، ربط نهايتها بمعصمه بحزام جلدي.
– خميس المناعي … ضابط من شرطة عُمان السلطانية.
اللهجة ودود طَيِّبة. لكثرة ما استمعتُ عن الرقابة والمراقبة والتَّنصُّت والملاحَقة والاعتقال بالشُّبهات، تحدَّدتْ صورة رجال الشرطة في إطار لا تجاوزه. أجسامهم الضئيلة، وأصواتهم الهامسة، وتأدُّبهم المُتكلَّف، ترجح عليها لغة الإشارات والملاحَظات والتحذيرات، وحكايات سجن الرسيل التي تَفوق ما كانت عليه الحياة في سجن الجلالي. قال لي مستشار السفارة المصرية بهجت حسان: أنت ترى السجن من بعيد فتحسبه قصرًا فخمًا، لكنه — في الداخل — ينتمي إلى أبشع سجون العصور الوسطى … أقل أنواع التعذيب أن السجين لا يفتح فمه منذ يدخله حتى يتركه!
لم أُرحِّب بالزائر، وإن حرصتُ أن تعكس ملامحي ترحيبًا لا أبطنه.
دفع لي بورقة مكتوب عليها بالآلة الكاتبة: خبر نريد نشره.
تأمَّلتُ الورقة: هذا إعلان وليس خبرًا.
– ما الفرق؟
– الإعلان مدفوع الأجر.
هز رأسه دلالة الرفض: لا سلطة لي بذلك …
– إذن سأنشره كخبر … وإن كنتُ سأبدِّل صياغته قليلًا.
– المهم ألَّا يَتبدَّل المعنى.
وتَوتَّر صوته بانفعال صادق: العمال المُتسلِّلون بلا أوراق … مشكلة … نخشى أن تستفحل.
أشار السائق الهندي وهو يميل بالسيارة إلى طريق السلطان قابوس. ألفتُ استطالته، وتفرُّعَه إلى أحياء وشوارع جانبية، وامتداده إلى المطار، أو — من الناحية المقابلة — إلى مسقط القديمة.
– أنظر!
كانت سيارة الشرطة قد اتَّجهَت بمؤخرتها ناحية باب الخروج في سينما عُمان بلازا. شَكَّل جنود الشرطة حاجزًا في المسافة بين السيارة والباب، وراحوا يدفعون الخارجين إلى داخل السيارة.
•••
كنتُ أراها وأنا أمضي إلى البيت عَبْر الحارة الترابية القصيرة، الضيقة.
– كيف حالك؟
– الحمد لله.
– ما أحوال العمل؟
– الحمد لله.
تفتح الباب، أو تستدعيها نداءات من داخل البيت. أدخل من الباب الجانبي، إلى داخل البيت الذي يضم السكن والجريدة. وكنتُ أُجاوِز باب البيت إلى المكتب. يترامى صوت ضربات الأم بالمهباش، وهي تطحن البُن في هون النحاس. تَعدَّدت رؤيتي للأم في مَسيرها داخل فناء البيت. ترتدي ملابس لا تكاد تُبدِّلها. ما يشبه القميص ينسدل إلى ما فوق الركبتين، ومن تحته سروال عريض، ينتهي عند كاحلي القدمين، وتلف رأسها بعصابة سوداء، وتَدسُّ قدميها في شبشب من البلاستيك. ربما ألمح زوينة تُطعِم العجوز وهو جالس على كرسي في الساحة الترابية داخل البيت. تَدسُّ لُقيمات الخبز فيما لا أتبينه من طبق، فيلتقطه بفمه. ابتسم لوقفة الولد الصغير وراء الباب، يمد عنقه ونظراته في دخولي البيت وخروجي منه. أُخمِّن من نظرته المتسائلة، الباسمة، أنه يستمع إلى كلام عَنِّي من زوينة لأبويها.
لاحظتُ أن أنفها هو منطقة التَّشابه بينها وبين أبيها، أنف دقيق، مُنمنم، وربما أخذَت لون بشرته القمحي. شغلني أن أتعرف إلى أسرتها. أزورها، أرى البيت من الداخل، وأجلس إلى والديها وأخيها الصغير.
الناس في الناحية المقابلة — أعلى الجبل — مُنغلقون على أنفسهم، لا يميلون إلى التواصل. يَكتفُون بالتطلُّع إلى حياتي داخل البيت ذي السور، نظرات صامتة، خالية من التعبير. إذا هبطوا من الجبل إلى الحمرية ساروا مُطرِقين، لا يتلفتون إلى ما حولهم، ولا يجتذبهم صوت. لا يُعْنَون بالنظر داخل الباب المفتوح، ولا بإلقاء السلام، إن كنت واقفًا بالقرب من الباب. حتى السِّحَن بدَتْ لي — في الأيام الأولى — متشابهة. ربما للذقن المرسَلة، المُخضَّبة، والدِّشداشة، والمسرة التي تلفُّ الرأس وأعلى الجبهة.
كان الصمت — من حولي — يثير شعوري بالوحدة. تداخلني وحشة. أميل إلى الانفراد، لكنني لا أطيق العزلة. كل ما حولي كان يفرض العزلة. يضايقني حصار الجدران الأربعة. لا أحد أكلمه، ويكلمني. آخذ منه وأعطي له. لا أحد يفهمني. أَتوق لأنْ أحادث إنسانًا. لكن: متى؟ وأين؟ وكيف؟ … صخور الجبال تعيد — في الليل — ما اختزَنتْه من الشمس طيلة النهار. ولا أحد في الخلاء المحيط بي.
هذه الصخور المدبَّبة، القاسية، الملتهبة، تُناصبني العداء. بدَت لي وجوه بشر، أرسم ملامحهم من التكوينات الصخرية، وأبادلهم نظرات العداء.
واتتني رغبة، فنفذتها. صحت باسمي. جاءني صدَى الصوت بعد اصطدامه بالجبال الصخرية والهدوء.
أحسستُ أن الدنيا تضيق بي، تحاصرني، وأني وحيد.
•••
يضيء المستطيل الصغير في المواجهة: اربطوا أحزمة المقاعد … أطفئوا السجاير. أحيط الحزام حول جسدي، وأطمئن إلى إغلاق القفل المعدني. أتهيأ لتلقي الارتجافة العنيفة، الأخيرة، قبل أن تلامس عجلات الطائرة أرض المطار. يصفق الركاب؛ لوصولهم إلى الوطن، أو فرحًا بالحياة! ثم تتوقف الطائرة تمامًا، وتظل الأبواب مُغلَقة. أُنصِت إلى حركة اقتراب السُّلَّم من الباب. أحرص أن أكون في مقدمة النازلين بمجرَّد فتح الباب المستطيل. أطل من النافذة المطلة على ميدان المساحة، كأني أتوقَّع تغيُّرًا في صورة الحياة التي كنت أحياها. ليس إلى الأفضل، أو إلى الأسوأ، لكنه مجرَّد تغيُّر. مَشاهد اختفت. حلَّت — بدلًا منها — مشاهد أخرى. تُوجِّه أمي أسئلة؛ لأنها تتكرَّر في كل عودة لي إلى القاهرة، فقد اعتدتها: كيف تَقضي يومك؟ من يطبخ طعامك؟ هل تتغطَّى جيدًا؟ هل تطول إقامتك في مسقط. أجيب بعبارات مقتضبة، أو مدغمة، أو أومئ بما يطمئنها. أتأمَّل ملامح أبي ونحن نتكلم. يجيب عن أسئلتي، ولا يسأل. يلوذ بالصمت. لاحظت — مرة — أن مساحة الصَّلَع زادت في مقدمة رأسه. انفراجة شفتيه تبين عن فَقْد السِّنَّتين الأماميتين.
فاجأتني ملاحظة أبي: أنت تأتي بحقائب، وتسافر بدونها.
ثم وهو ينحي وجهه عن اتجاه نظراتي: لماذا لا تأخذ الحقائب نفسها وتعود بها، ولو فارغة؟
لم أَعُد أذكر عدد الحقائب التي اشتريتها من أسواق مطرح ورويْ والسيب. أخلو إليها ليلة السفر، أُرتِّب ما اقتنيته بعيني أمي وأبي وإخوتي، ما أتصور أنهم يريدونه، ولا يجدونه في القاهرة.
ومها، مها: هل تذكرني؟
قلت: أخشى أن يُسيء رجال الجمارك في مطار السيب معنى الحقائب الفارغة.
اغتصب ضحكة: أثق أنه لا يغيب عنهم مرض الشراء الذي يعانيه المصريون.
أُفضِّل العودة إلى القاهرة في غير إجازة الصيف. تضايقني المساحة في المطار التي تخصص للمصريين. يُضاعفون أوزان الأمتعة، يُفاصِلون، يُساومون، يوافق موظف شركة الطيران — في النهاية — على زيادة لا يطلبها المُغادرون من جنسيات أخرى.
الزمن يتضاعف حين وصولي إلى مسقط. خمس ساعات هي المسافة بين القاهرة ومسقط، لكن الزمن يباعد بيني وبين القاهرة. تبدو بعيدة في الزمان بُعدها في المكان. أضواء مسقط تبدو تحت جناح الطائرة الضخم. نقاط مجتمعة أو متفرِّقة، متناثرة وسط ظلام حالِك. أعرف أنه موضع الجبال التي تتخللها الطُّرق والأبنية. صوت في ميكروفون الطائرة يكرر التنبيه إلى ربط الأحزمة وإطفاء السجاير. تسري موسيقا راقصة، هادئة. لم تَعُد مفردات المطار تَستلفتُ نظري، ولم أعد أتأملها: الساحة الواسعة، المختنقة — في أغلب الأيام — بالحرارة اللاهبة، والرطوبة. نوافذ بُرج المُراقبة. صالة الوصول. الحَجر الصِّحي. الجوازات. رجال الشرطة بِزِيِّهم الأزرق وأجسادهم الضئيلة.
نقف بسياراتنا أمام مبنى المطار قبل وصول الطائرة بساعتين. نستقبل، أو نُودِّع، أو نمارس الفعلين. نَتناثر — مجموعات — وقوفًا، أو نجلس على الرصيف المقابل. الطائرات تأتي بوافدين جُدد، بصداقات جديدة، وتطير بأصدقاء إلى مُدنهم وقُراهم، حيث لا يعودون. يعدون باستمرار الصداقة والرسائل والمكالمات التليفونية. يَتبادلون العناوين. العائدون من القاهرة يحملون رسائل وأخبارًا وصحفًا جديدة. أحرص فأنا أول من يقرأ الصحف. إذا انتظرتُ حتى يقرأها أصدقائي قبلي، قرأتُها ممزقة. أحن — وأنا أقلب الصفحات — إلى زملائي في الجريدة. حتى هؤلاء الذين اقتصرَت علاقتي بهم على إيماءة الرأس بالتحية، أو الكلمات العابرة. ربما تتأخَّر الطائرة، فتطول وقْفَتُنا. نزجي الملل في أحاديث بلا آفاق، وتأكيد المعرفة، والتذكر، وإطلاق النِّكات، ومناقشة أسعار الريال والدولار، وأحوال الجو. يحل علينا التعب، فنجلس على حافة الرصيف المقابل. لا نستطيع التَّصرف نفسه في مصر. نهمل أوضاعنا الوظيفية والاجتماعية. الغُربة تُسوِّي بيننا. يضيف إليها انتظار الصديق المشتَرَك. لا تَكلُّف ولا ألقاب، وعفوية الكلمات لا يَحدُّها قَيْد. يعلو صوت الميكروفون: أرجو الانتباه. يتقاطر القادمون من الباب الذي يفتح ويغلق. تحاول نظراتنا أن تتطلع إلى ما وراء انفراجة الباب التي ما تلبث أن تغلق. تتوالى الأسئلة. ربما ضاق بها البعض أو دُهِشُوا لسذاجتها. أريد أن أعرف كل شيء، حتى أحوال الجو ونتائج مباريات الكرة وبرامج التليفزيون وما تنشره الصحف.
تباعدت رسائلي إلى القاهرة. لا جديد أراه أو أسمعه، فأتحدث عنه.
الملل!
مَلَل بَليد. تحدَّثتُ عن الوحدة، والغربة، والشمس، والجبال، والحشرات، وانشغالي القاتل في جريدة أُحرِّرها بمفردي، ثم لم أَعُد أجد ما أكتبه. اكتفيتُ بالرَّد على الرسائل التي تصلني من القاهرة.
– هل تريد شيئًا؟
التفتُّ ناحية الصوت. سلَّمتُ على خميس المناعي.
قلتُ لمجرد أن أتكلم: أُلاحِظ وجود كلاب بوليسية في المطار.
قال: إنها للطائرات القادمة من الهند أو باكستان … تأتي العمالة من هناك بالمخدرات.
صرنا صديقين. هو الوحيد من زائري الجريدة الذي يدفع الباب، وأتَبيَّن خطواته التي أُخمِّن وقْعَها.
تَعرَّفتُ مما يرويه إليَّ ما لم أكن أعرفه عن الحياة في مسقط ومُدن الداخل: التاريخ، والمعتقَدات، والعادات والتقاليد. حتى طقوس الزواج، والموت تعرفتُ إليها مما كان يرويه.
أعاد السؤال: تُودِّع أم تَستقبلُ؟
– أنتظر صديقًا.
وسألتُ في لهجة مُشارِكة: وأنت؟
– أُوَدِّع هؤلاء الملاعين.
وأشار إلى ثلاثة رجال وثلاث سيدات. كانوا يجلسون في الزاوية اليُمنى بصالة الانتظار. يرفعون أعينا قلقة، تابع — دون تَنبُّه — حركة المطار … وأطفأ السيجارة في طفَّاية مجاوِرة بضغطة من طرف إصبعه: تَسفير الأجانب مهمتي الأولى هذه الأيام.
قلت: زملاؤك في الشرطة؟
– كل مُوظَّفي الشُّرطة عُمانيون.
وتحسس طرف شاربه، وغمز بعينه: ضُبط الأزواج يَتبادلون الزَّوجات، فتقرر تسفيرهم.
السِّحَن تَشي بأوروبية الجنسية. شَطَر الرِّجال شعر رءوسهم إلى نصفين مِثْل عُرْف الديك، وزجَّجُوا الحواجب، وكَحَّلوا الأعين، وتناثَر في السواعد وَشْم أخضر بصُلبان وأسماك وقلوب. وترتدي امرأتان فستانين مُتبايِنِي التصميم واللون، وإن كشفَا عن أعلى الصَّدر والظهر، وانتهَيَا إلى ما فوق الركبتين، بينما ارتدتِ الثالثة بلوزة حمراء، التصقَت بصدرها، وبنطلون جينز، التصق بفخذيها وساقيها. وثمة أقراط تتدلي من آذان الجميع وأنوفهم، واصطبغت شعورهم باللون الأخضر.
حدستُ التَّوتُّر ينطق في عيونهم، وهم يَترقَّبون النداء: أرجو الانتباه!
قال خميس المناعي: مجتمعنا يَتغيَّر … المقارَنة صعبة بينه وبين أيام سعيد بن تيمور.
وفي لهجة مُهوِّنة: في أيام التَّحوُّلات تنشأ هذه الظواهر الغريبة.
٥
مسقط لا تعرف السَّهَر.
أُجري بعد الغروب ما يفوتني من لقاءات في الصباح. أقف أمام البيت قبل الثامنة. تصطف السيارات بحذاء الرصيف. تَقِلُّ الحركة بعد صلاة المغرب، ثم تموت — أو تكاد — بعد صلاة العشاء. أمضي ناحية المطار القديم. أُبطِئ السير. أتَّجِه إلى سينما عُمان بلازا، فالطريق الرئيسي إلى كورنيش مطرح. أقف أمام الرصيف الحجري. أتطلع إلى امتداد الأفق. أتابع — بلا اهتمام — البواخر الراسية في ميناء قابوس، والبلانسات، والفلايك، والحاويات، والصيادين، والطيور المُحوِّمة فوق المياه، والأسماك المتقافزة. أعود إلى الحمرية بعد الثامنة بدقائق. يبدو المكان أمام الرصيف خالِيًا من السيارات تمامًا. أَغلقَتِ الدكاكين والمكاتب أبوابها، وهدأتْ حركة السَّير، وتوالى انطفاء الأنوار في النوافذ المُغلقة. يعمق الصمت هدير المُكيِّفات، وصفارات البواخر في خليج عُمان.
حتى المغرب، تبدو الشوارع خالية من المارَّة. فيما عدا السيارات المُغلَقة، المكيفة الهواء، لا أثر للحياة. يعلو الإيقاع بالتدريج. تبلغ الحياة ذروتها إلى ما بعد العشاء. ثم تخلو الشوارع إلا من الوافدين. يحرص العُمانيون أن يغلقوا أبواب البيوت أول الليل. نوبة قلعة الميراني كانت تخلي الشوارع من البشر تمامًا. لا يسير إلا مَن يحمل الفانوس، ولا يسير إنسان بعد أن ينتصف الليل.
بدأتُ في الأيام التالية لموافقتي على السفر. في تَصوُّر المكان الذي ربما أقيم فيه. بدَا لي شقة علوية تطل على المدى. الصحراء باتساعها وغموضها المثير. الناس قليلون، يرتدون الدِّشداشة والعقال كما أرى أهل الخليج في الصور.
انشغل شوقي كمال بتدليك موضع لدغة في عنقه: أنت إذا أردت أن تحتفظ بالطعام وضعته في الثلاجة، فإذا طالته الشمس — لفترة طويلة — لم يعد صالحًا.
– أرى أنك لا تريد أن تفارق الشمس.
قال في استسلام: حياتي هنا مثل الساقية … لا نهاية لدورانها.
قلتُ: لأنك تصرف كل فلوسك.
كنتُ أزوره في الشقة التي يعمل ويقيم فيها. حارة خلفية بالوالجة. على المكتب الخشبي المستطيل أمامه كُتُب وصُحف وأوراق وأقلام وطَفَّاية سجاير وسخان كهربائي وكولمان وزجاجة خمر، وأسراب الحشرات تتزايد أعلى الحجرة، تُشكِّل ما يشبه الغمامات الصغيرة. وثَمَّة صوت مُولِّد كهربائي يترامى من مكان قريب.
لم تكن المجلة تشغل شوقي كمال. مُجرَّد قص ولصق. لكنه — في زياراتي المتباعدة — كان يطلب أن أتشاغل بقراءة كتاب من مكتبته — رف عليه مجموعة من الكتب — لينهي كِتابة رسائل إلى القاهرة. يكتب على أوراق نوتة صغيرة. يعيد قراءة الرسالة. ربما حذف كلمة، أو أضاف عبارة، ثم يدسُّها في المظروف. على مكتبه دائمًا رزمة من المظاريف.
– ما أخبارك؟
أشعر — حين يَتَّجِه بالسؤال — أنه قد أنهى كتابة رسائله.
يرتشف كمية من الزجاجة، ويعيدها إلى مكانها. في حوالي الخامسة والثلاثين. يبدو وجهه النحيل، الأبنوسِي البشرة، ساكن الملامح، وإن شابَ بياضَ عينيه صُفرةٌ واضحة. يضغط على الحروف الأخيرة في كلماته ليؤكِّد المعنى، أو لعيب في النطق.
أزعجني التعبير حين قاله الطبيب في مستشفى النهضة: التصاق في البطن. كان شوقي يواصِل الكلام واحتساء الخمر. تتباطأ نبرة صوته، ويغلب عليها التَّعثُّر. أدرك أنه يدخل النَّفق المُفضي إلى هناك، وأنه — شيئًا فشيئًا — ليس هنا. أَسكتُ، وأتظاهر بالإنصات إلى ما لا أفهمه، أو أمضي. انتترتُ للصرخة المفاجئة. أحاط بطنه بساعديه، وعلَتْ صرخاته كالعواء. غلبَنِي الإشفاق، وربما الخوف. تَصوَّرتُ أنه يموت. حملتُه في تاكسي إلى مستشفى النهضة. شخَّص الطبيب الحالة من رائحة الخمر وساعديه المُطوِّقَين لبطنه وصرخاته.
التصاق في البطن؟! … ألنْ يأكل — بعد ذلك — أو يشرب؟ هل أصيبت البطن بالشلل أو ما أشبه؟ هل يموت؟
داخلني اطمئنان بطلَب الطبيب أن أُخلِي الحجرة، ليعالجه. لو أنه يعاني ما اتَّجَه ذهني إليه، لأدخله حجرة العمليات.
كتبتُ لأبي بما حدث.
قال أبي في رسالة مُحذِّرَة: لا تَدعْه ينقل إليك اكتئابه!
قلَّلتُ — فيما بعد — من زياراتي المتباعدة لشوقي كمال.
– يُحزنني أن الأيام التي أقتل فيها نفسي لن يبقى منها ما يساوي.
غالبتُ التردد: لماذا لا تعود إلى القاهرة؟
– أحتاج إلى الريالات العُمانية.
أطلقتُ لجام جرأتي: أنت تنفقها على الخمر.
– يتبقى ما أستطيع أن أحوله إلى القاهرة.
ثم وهو ينفث دخان السيجارة في عصبية واضحة: هل لا بد — لكي أحيا في ظروف مادية جيدة — أن أترك مصر؟
فوَّت الملاحظة: وصحتك؟
– بمب!
– ومستقبلك؟
– أنا صحفي في القاهرة أو في مسقط.
ضربتُ ما لم أتبينه بكفِّي: تبسيط للمشكلة أثق أنك لا تقتنع به.
استطردتُ في صوت منفعل: هل تُساوي صُحف القاهرة بما نفعله هنا؟
ثم هزمني التأثر: عشتُ في الخليج ثمانية أشهر … أصارحك بأن شعوري بالغربة لم يَتغيَّر!
حاولتُ أن أخلق لنفسي عالَمًا خاصًّا من القراءات، وسماع الراديو، والانغماس في العمل، واستدعاء ما خلفته في القاهرة.
٦
كان أول انطباع لي — حين رأيتها — أني سألتقي بها ثانية، وستكون لي بها صلة، وإن لم أفكر كيف يُتاح لي اللقاء. لم أعد أنتظر تحيتها، فأرد عليها بإيماءة، أو بكلمات مقتضبة.
فاجأتني النَّقرات الخافتة، المُتلاحقة، على الباب الخارجي.
– هل عندك وعاء كبير؟
أطلتُ النظر إليها، أتأكَّد من فهمي لما طلبَتْ: لماذا؟
– نَذْر لشفاء أبي.
واتسعَت ابتسامتها: نحن زنجباريون … هذه عادتنا.
– هذه عادة معظم المسلمين.
وضع القدر الهائل على كومات الحطب، وقَف وراءه هندي عاري الصدر، ويغطِّي أسفل جسمه بوزار. تعلو المغرفة — هائلة أيضًا — في يده بقطع اللحم الغارقة في الشوربة. يضعها في الحلل المتلاصقة بتجاوُر الأيدي الممدودة.
أَلِفتُ نقرات إصبعها على الباب الخشبي. نقرات ضعيفة متوالية، وإن تناهت إلى حجرتي الداخلية خلل السكون المحيط. نتناقش، ونَتَّفِق، ونختلف، وإن ظلَّت وقفتُنا أمام باب الجريدة الخارجي.
كنتُ مدفوعًا إليها بالوحدة التي أعانيها. بدَا لي — أحيانًا — أنها تبحث عن المغامَرة، علاقة فرضَتْها الجيرة، وإن ظل ما يَشدُّني إليها صبيانية جميلة في كلماتها وتصرُّفاتها، في ومضة الشقاوة في عينيها اللوزتين، الواسعتين، وفي تَهدُّل الشَّعر على الجبهة، وتطايره إذا هبَّتْ نسمة هواء. العفوية تُنطِقها. لا تَتعمَّد اختيار كلماتها، ولا تلحظ إن أحدثَت الكلمات ما تريده من المعنى أو التأثير. ذلك ما يَهبُه السياق، تواصل الكلمات. حتى حقيبة يدها، كانت تفتحها بطفولة واضحة.
أعرف أن المجتمَع يصعب عليه أن يأذَن لشاب وفتاة بإقامة علاقة على مَرأى منه. النساء وراء الجدران المصمتة، والرجال في الشوارع والدكاكين والشركات والسيارات. الاستثناء يؤكد الظاهرة. هي تزورني لأني غريب. قد يروي المُواطن ما يحدث دون أن يتدبَّر النتائج. أما الغريب فإنه يواجه ما لا يخطر على البال.
أزمعتُ أن تحيا العلاقة في السِّر.
قلتُ: لو لم نَلتقِ ربما عُدت إلى القاهرة، أو اعتبرتُ نفسي ميتًا في مسقط!
دخلت بيتي للمرة الأولى.
لاحظتُ أنها تتعامل مع الجميع — في ساحة المطار — بثقة، وبلا حرج. أي نوع من الفتيات هي؟
تَصوَّرتُ — في لحظة كالومضة — أنها مُتحرِّرة من سطوة أهلها. لا سلطة لأحد عليها، فهي المسئولة عن نفسها. اجتذبتني بساطتها منذ التقينا للمرة الأولى، منذ رأيتها في صالة مطار السيب، مفاجأتُها لي بالكلام، دعوتها لأرافقها إلى وسط المدينة، زياراتها المتكررة.
لم ألتقِ بها في الزِّي العُماني: اللحاف ذو الألوان الصارخة، فهي ترتدي يونيفورم مضيفات طيران الخليج، تاييرًا بُنيًّا وبلوزة بيضاء. أو تُبدِّل الجونلات والبلوزات. وتحيط رأسها بإيشارب بُنِّي من الحرير، أو تُعرِّيه. أعرف ما ترتديه بتبدُّل الألوان. وكانت تكتفي تحت الإيشارب بعقص شعرها في هيئة الكعكة وراء رأسها.
قلت: لم أكن أعرف شيئًا قبل أن ألتقي بك عن المضيفات الأرضيات.
قالت: مُعظَم المضيفات يَعمَلْن على الأرض.
لاحظتُ اختلاف الزِّي واللهجة والتَّصرُّفات في العُمانيين القادمين من زنجبار. الميل إلى التَّحرُّر وعدم الكلفة. لم تُحدِّثْني عن طبيعة الحياة في زنجبار، وإن خمَّنتُ أنها كانت تختلف عن الحياة في مسقط. كانت ملامح الحياة العُمانية تغيب تمامًا حين تَضمُّنا حجرة المكتب المفتوحة على الساحة الترابية الساكنة. تُطعِّم تعبيراتها بكلمات إنجليزية، خمَّنت أنها تُعوِّض بها صعوبة النطق بالعربية. اللهجة ليستْ عُمانِيَّة تمامًا. تُداخِلُها لكنة لم أفلح في تحديدها. تَصوَّرتُ تأثُّرها بالحياة في زنجبار، ثم تَبيَّنتُ في كلماتها مفردات تطالبني بمساعدتها على استكمال سياق الكلمات.
ارتبكت لرؤيتها وهي تنظر إلى الجَورب الممزَّق، ثم وهي تجلس على الكرسي المقابل، وتمد ساقها، وتنزع الجورب، وتجلس حافية.
أزمعتُ أن أغازلها بجرأة.
الباب موارب، لماذا لا أفتحه؟ … أجاوز لحظة التَّردُّد والخوف.
وهَبتْني من التلميحات والإيماءات ما يشجعني على ملامسة قطر الندى.
مِلتُ عليها، أحتضنُها، وأحاول أن أُقبِّلها. لم أقرر ذلك، ولا تدبَّرتُ نتائجه. بدَا الأمر عفويًّا، كأنه وليد ذاته، وليد اللحظة، غير موصول بما سبق، ولا بما بَعدُ.
دفعَتنِي في صدري بآخر ما عندها. أربكني تَغيُّرها: الوجه الطفولي الجميل حَوَّره الغضب. تَبدَّلت الملامح، واحمر الأنف والأذنان، وتَسارعَت الأنفاس، والتمعَت العينان بالدمع.
عدتُ إلى ما كنت كتبتُه في روايتي التي لم أتمها.
لاحظت أن البطل شغلَتْه اللحظة، فأهمل توقُّعات المستقبل. أزمعتُ أن أضيف إلى الشخصية بما يبين عن باعث الأزمة والتصرفات.
•••
لم تَعُد تُسلِّم، ولا أُسلِّم.
العلاقة التي لم تبدأ، انتهتْ. بدَا لي أن شخصًا آخر هو الذي أقدم على ما فعلتُ، هو الذي حاصَرها في حجرة المكتب، واحتضنها، وحاول تقبيلها.
أحسستُ أن نفسي قد تَبعثرَت، وأن كل ما حولي يحاصرني، ويخنقني: الشمس، الجبال، الصمت السادر، الوجوه المتطلعة، الساكنة. عاوَدني الإحساس بالفراغ المُوحش. عدتُ إلى عزلتي الموحشة. السكون الخامد في بيت الجريدة، والجبال، والوجه المقابل المُقلِق، وجولاتي السريعة — برفقة السائق الهندي — للبحث عن مواد الجريدة، وزيارات الشيخ النبهاني وأصدقائي، المتباعِدة. انغمستُ في العمل والوحدة. يبدو الناس — من حولي — أشباحًا، والأصوات أصداء غير واضحة.
كنتُ أغمض عينَيَّ، تستعيدان الملامح الطفولية، والعينين الواسعتين، والشعر المهوش حول الوجه. أعاود النظر من مكاني في المكتب — عَبْر الباب الذي فتحته عن آخره — أتوقَّع دخولها البيت، أو خروجها منه. هل تلتفتُ ناحية الباب المفتوح؟ هل ينعكس اهتمامها في تصرفات موحية؟ أطيل الوقوف في الحجرة. أحاول تَذكُّر ما قد أكون نسيتُه.
مرة وحيدة التقَت عيناي بعينيها. كنتُ أعالج المفتاح لما فتحَتْ باب بيتها وتهيَّأتْ للخروج. كانت ترتدي فستانًا من الأورجاندَا الزئبقية، بكُمَّيْن طويلين، وشَّتْه الدانتيلا في المِعْصَمين وفتحة الصدر.
حوَّلتُ عينَيَّ — في اللحظة التالية — إلى الناحية المقابِلة، ربما لأنها أقدمَت على التَّصرُّف نفسه.
لم أتصوَّر أن تلك كانت نهاية العلاقة. هي غيمة شابَت صفو السماء، ومضَتْ. أثق أنها ستكلمني، وسأكلمها. البيت أمام البيت، والمُصادفة تَفرض اللقاء … صباح الخير … صباح الخير. لم أُلحَّ، فقد اعترفتُ بخطئي، ولعلَّها تستعيد ما حدث، فتعذر.
•••
طالعني في الباب المفتوح شابان يرتديان «يونيفورم» شركة الطيران. دلَلتُهما على البيت. خرجَت للقائهما وأنا واقف على الباب أنتظر انصرافهما.
قالت: أشكركَ.
سلَّمتْ عليَّ بعد ذلك. وتحدَّثْنا.
لم يَبدُ في وقفتها ارتباك، ولا ما يَشي بأنها امتنعَتْ عن لقائي ومُبادلتي الكلام، وإن لاحظتُ أنها تبذل جهدًا كي تظل العفوية في وقفتها وملامحها وكلماتها وعينيها الواسعتين. لم تُشِر إلى ما حدث، ولا عاد في سلوكها معي أثر للغضب ولا للضيق، لكن الحائط غير المرئي فصل بيني وبينها، لا أفكر — ولا أستطيع — في أن أخترقه. تَصرُّف مجهول النتيجة، وربما تَخرُج من حياتي ثانية فلا تعود.
•••
عادت الطرقات الخافتة.
ضايقني — في الأيام الأولى — غياب ما اعتدْتُه من عفوية في الكلام والتصرفات. ثمة مسافة نشأتْ بينها وبيني. ضاقت — بتوالي زياراتها — حتى تلاشتْ، وإن ظل الفاصل غير المرئي قائمًا.
بدَت هادئة وودودة، كما لو أن كل شيء مثلما كان عليه في الأيام السابقة.
كلما اقتربتُ منها، تبدَّتْ لي جوانب البراءة فيها. لم تُغادر سجيتها: تروي ما تَتذكَّره من أحداث يومها، ما رأَتْه، واستمعَتْ إليه، وقرأَتْه، تتأمَّل في ملامحي وَقْع أسئلتها المفاجئة. ربما تَستدعي نكتة أو حكاية قديمة. تعكس الجدران أصداء ضحكتها المكتومة. إذا ضحكَتْ تألَّقتْ عيناها بالمَرح، مرح طفولي صاخب، تتداخل فيه الألوان والأصوات. يتسلل داخلي شعور بالاطمئنان والسكينة.
كانت تفعل كل شيء: تَستعيد النظام الغائب في الأوراق والكُتب. ربما أمسكَتْ بمنفضة من خيوط بلاستيكية، وأزالت ما علق على المكتب والكراسي من أتربة، تَبثُّها — مع الصهد — الجبال المحيطة بنا. تَلمُّ الملابس المُتَّسخة من فوق الشماعة والمكتب، ومن الأرض، تطويها، وتنصحني بإرسالها إلى المغسلة في رويْ. تُرتِّب القمصان والبدل الثلاث في الدولاب. تغسل الأطباق والأكواب والفناجين. تجففها. تصفها في مواضعها على الأرفف. تأخذ كرسيًّا من المكتب إلى المطبخ. تصعد عليه. تشب على أطراف أصابعها. تأخذ الحَلَّة من فوق الرف العلوي. أبتعد إلى الساحة الترابية حتى لا أتأمل وقفتها، وحتى لا تلحظ نظراتي، فتذهب — مثلما ذهبت من قبل — ولا تعود. لم تكن تترك لي فرصة مُجاوَزة الحدود التي وضعَتْها. هي التي حدَّدت إطار علاقتنا، وهي التي تملك مجاوزته. لم أَعُد أتطلع إلا لمجرَّد أن ألتقي بها. أخشى لو أني أقدمتُ على ما لا تتوقعه أن أفقدها ثانية، ونهائيًّا.
تربَّعَت — حافية القدمين — على «الفوتيه» الجلدي المُواجه للمكتب. لاحظَت اعتزامي تَرْك ما بيدي من قصاصات ألصقها على أوراق الماكيت.
– لا تترك مكانك … سأكلمك هكذا.
لم تُحاول، ولا حاولتُ أنا، التلميح، أن تنتقل من حجرة المكتب إلى الحجرة الثانية. لا أترك حجرة المكتب. إذا لم يكن تُناوُلي وجبات الطعام في مطعم برويْ، أكتفي بمعلَّبات من السوبر ماركت في «الولجة».
واصلتُ لصق القصاصات، وإن اتَّجهتْ نظرتي إليها.
– هل عندكم ضيوف؟
– لا.
– رأيتُ سيدة تُغطي جسدها كله.
ضحكَتْ: إنها أمي … كانت ترتدي البوي بوي.
أعدتُ القول: البوي بوي؟!
– منديل أسود خيط بملاءة سوداء تغطي الجسد كله … ترتديه الزنجباريات.
وعلا صوتها بالتَّذكُّر: أنتَ مُسافر إلى الكويت غدًا.
استدرتُ. واجهتها: صحيح … كيف عرفتِ؟
– نسيتَ أني مُضِيفة أرضية؟
– صحيح … يومان أطبع فيهما الجريدة وأعود.
تألَّقَت الدهشة الطفولية في عينيها: تطبعون جريدتكم في الكويت؟
– لا يوجد في مسقط حتى الآن إلا المطبعة الحكومية.
استطردتُ في ابتسامة مشجعة: هل تريدين شيئًا من هناك؟
– إذا استطعت.
ثم وهي تهز إصبعها: سأدفع لك.
ومَسَّدَت رأسها بعفوية: حذاء من الجلد الإيطالي … مفتوح.
شوَّحت بيدي في تهوين: بسيطة.
ونظرت — بتلقائية — نحو قدميها. كانت ترتدي حذاء بُنيًّا متقاطع السيور، له كعب قصير، تطل منه أصابع صغيرة مطلية بالمانيكير.
– المقاس؟
– ثمانية وثلاثون.
– سيكون أول ما أبحث عنه.
ثم وأنا أستحثها بهزة من رأسي: هل تريدين شيئًا آخر؟
مطَّت بوزها دلالة النفي.
لاحظتْ أني ضربتُ حشرة بأوراق مطوية في يدي. قالت: هذه أرواح موتانا تتقمص الفراشات!
تأمَّلتُها: وجهٌ خالٍ من الأصباغ والألوان، وشعرها الأسود القصير المهوش حول وجهها. لم تكن تستخدم أدوات التجميل ولا مُزيلات الشعر. فلا كريمات، ولا إزالة لشعر وجهها أو ذراعيها أو ساقيها. حتى الزغب الأصفر فوق فمها، تهمله.
ناوشني السؤال لحظات: هل تَصْدُر تصرُّفاتها عن ثقة في النَّفس، أو أن تَوقُّع تصرفاتي لم يَعُد يقلقها؟
لحظات، ثم أهملتُ السؤال، ونسيتُه.
ما أعرفه عنها قليل، لكن حضورها السخي كان قد ملأ حياتي. أشرقَت بوجودها داخل نفسي، أَودعتُها ذاكرتي. أغمض عيني عليها حين أنام، وأفتح عيني على استعادة ملامحها في الصباح. يظل في داخلي الإحساس بأنها معي، تقف، وتجلس، وتتحرك، وتتكلم، وتعيد ترتيب الأشياء. أحيا ملامحها الطفولية وابتسامتها، والضحكة المميزة. حتى طريقة ارتشافها الشاي من الكوب، أستعيدها. لا أتصور أني أستطيع أن أبتعد عنها، أو أنساها. إذا تخلَّفَت — أكثر من يومين — عن زيارتي، يداخلني شعور بالانقباض والوحشة. ثَمَّة شيء ينقصني. يغيب عن حياتي. وفي اللحظة التي يتناهى صرير الباب، وهي تَتَّجِه إلى بيتها، يعروني شعور بأني أصبحت أقل ارتياحًا مما كنتُ عليه، وأني أعود إلى وحدة صامتة، قاسية.
انفتحَت أمامي أبواب عالَم جديد، يتألَّق بالرُّؤى والظلال والأنغام العلوية.
٧
الظهر …
كان ظِل الصخور قد تلاشَى. واختفَت الظلال في الساحة الواسعة، الخالية من الأشجار والجدران. لم يَعُد إلا أشعة الشمس العفية، الحارة، القاسية. المروحة المتدلية من السقف، عاجزة عن تحريك الهواء، أو أنها تحرك هواء ساخنًا. استعدتُ قول زوينة: أبي يتَّقي الحر بالنوم فوق السطح على مرتبة يغمرها بالماء.
كنتُ منهمكًا في مراجَعة مُسوَّدات الجريدة، وإن قَيَّدَت الحرارة اللاهبة، الحرية التي أريد أن أتصرَّف بها. أحس بالاختناق، وبالتوتر والبلادة. لم يَعُد في داخلي إلا الشعور بالوحدة.
قلتُ لنظرة الأستاذ عبد العال المشفقة، في وقفته على باب الجريدة: هذا الجو يدفعني إلى الاعتراف بجريمة قتل لم أرتكبها!
كان عبد العال يُعاني عرجًا خفيفًا. لاحظتُ أن له قدمًا مُتورِّمة. لم أسأله عن طبيعة مرضه. مع أنه كان يكبرني بسنوات، فإنه فاجأني — ذات مساء — بالقول: أنا أستريح للفضفضة معكَ … أعتبركَ مثل أبي.
ضايقني التعبير. لم أكن أشعر بالارتياح معه، ولا مع أي إنسان.
جلس لصق باب الحجرة، مُستروِحًا — ربما — نسمة هواء.
فاجأني بالقول: ما رأيُك في الموت؟
ترددت في الإجابة، ثم أعدتُ القول: الموت؟!
ورمقتُه بنظرة فاترة: لم أفكِّر في هذا الموضوع.
أبدى دهشته: لماذا؟ … حتى نُوح صاحِب المئات من الأعوام لم يُخلَّد.
ثم وهو يوسط الفراغ بيده: لا أحد يُخَلَّد.
قلتُ: أعرف أني سأموت … لكنني أترك هذا الموضوع لوقته.
قال: أَلا تلحظ أن الموت قد يكون الحل لمشكلات كثيرة.
– لم أصادف حتى الآن مشكلة من هذا النوع.
أردفتُ في نبرة مهونة: أنا أفكر في الموت من قَبيل العِبْرة … لكنني أرفض أن يسيطر على حياتي.
– أعرف أصدقاء تَمنَّوا الموت فرارًا من ظروف قاسية!
وتهدَّج صوته بالانفعال: عمومًا … أنا أعتبر الحياة مجرَّد محطة.
وأردف في انفعاله: لو أن الإنسان أدرك النهاية ربما لا يفعل الخطأ!
ومال بأعلى كتفه ناحيتي: أنت لا تهتم بالموت لأنك شاب … أليس كذلك؟
– بالعكس … أنا أعرف أن الموت لا يُفرِّق بين شابٍّ وشيخ.
– هذا صحيح … لكنكَ تُظهِر الضِّيق إذا تكلمتُ عن الموت.
– ليس إلى درجة الضيق … لكننا يجب أن نعيش أيضًا.
– نحن نحيا، ثم نموت.
وأغمض عينيه، وتَنهَّد بعمق كمن يستعيد تنفسه: ما دامت الرحلة بدأتْ دون إرادتنا، فمن الأوفق اختصارها.
حدست أن الرجل يلامس — بزيارتي — تعزيز إحساسه بالحياة، وتَناسِي فكرة الموت، لكنه لا يتحدث إلا عن الموت. كأنه قد مات، ويحيا ليتحدث عن الموت.
– تنصح بالانتحار؟!
– لا أنصح بشيء … أنا عجوز يُخرِّف.
واجهته بالقول: يا أستاذ عبد العال … ماذا يضايقك؟
وهو يتهيأ للقيام: هل يحتاج الكلام في الموت إلى سبب؟!
بدَا أنه يريد الفضفضة، يُنفِّس عن حصار يعانيه. يُحدِّثني عن الموت، يتوقعه، وإن تمنَّى أن يفاجئه. لا يدري بمجيئه. ينام، فلا يصحو. يأخذ شهيقًا، فلا يلحقه بالزفير. جِئنا إلى الحياة بإرادة الله، ونخرج منها بإرادته. المهم ألَّا يواجه ما حفظه — لكثرة ترديده — من سكرات الموت. وكان يرفض — تنفيذًا لأوامر الطبيب — تناول أي طعام أو شراب بين الوجبات. بدَا حذره الشديد من أخطار السِّمنة مناقضًا لتفكيره الدائم في الموت.
لاحظتُ تَلفُّته فيما حوله.
قلت: لم أَنْتِه من قراءة الصحف.
كنتُ أُقْبِل على صحف القاهرة، أُفِيد من موادها لجريدتي. ألْتَهِمُها، فلا أترك حرفًا. حتى صفحة الوفيات التي لم يكن يشغلني — وأنا في مصر — مجرَّد التطلُّع إليها، كنتُ أتعرف إلى القرابات والنَّسَب والعبارات التي يُناجي بها الأحياء موتاهم.
قلتُ بالتَّذكُّر: كنتُ أَحلم بجريدة تَستكْتِب أسماء مهمة … وتُباع في كل المدن العربية.
قال: هذا ما سيحدث بإذن الله.
قلتُ: أنا أبدأ من الصفر.
ونقرتُ بإصبعي على طرف المكتب: بالإضافة إلى مسئوليتي في التخلُّص من السمعة السيئة للصحافة المحلية.
وهززتُ رأسي: معظم الصحف تَصْدُر في أوقات متباعدة. وتعتمد جميعها على القص واللصق.
وتلون صوتي بحزن: كنت أفضل لو بدأت في ظروف مختلفة … لكن هذا ما حدث.
وضغطتُ على الكلمات: قدمتُ للعمل في جريدة تَصْدُر عن مؤسَّسة مقاولات.
وأشرتُ إلى ما حولي: هذه هي.
قلت للشيخ النبهاني: ألاحظ أنك تعرف الكويت جيدًا.
قال الشيخ: عملتُ أعوامًا في بلدية الكويت.
ووشَّى صوته بتأثره: الحنين إلى مسقط أكلني، فقَررتُ العودة.
رَوَى لي عن عودة الآلاف من العُمانيين. سافروا إلى مدن الخليج ومدن شرق أفريقيا. عادوا لمجرَّد إنهاء أعوام الغربة. ليس في أذهانهم مهن ولا وظائف مُحدَّدة. شغلتهم العودة في ذاتها. مجرَّد أن يعودوا إلى حيث وُلدوا وأمضوا أعوامًا من حياتهم. حين سافروا بعيدًا عن مسقط كانوا يُدرِكون أن السفر بلا عودة. يستطيع المرء أن يسافر، لكن عليه أن يبقى حيث رحل. من يريد الحياة في السَّلطنة لا يتركها، ولو للدراسة أو العلاج.
قال عبد العال: لا بُدَّ أن تتدرب هنا على أُلفة كل شيء.
ثم وهو ينتزع ضحكة: ربما تُوجد لافتة شركة مقاولات على دكان يبيع البقالة والأحذية وما لا يخطر على البال!
وعض شفته السفلى، وأفلتها: هذه مُجرَّد تسميات!
لاحَظ الدِّشداشة المُعلَّقة على مسمار في الحائط. اشتريتُها من سوق الظلام بمطرح. تعلَّمتُ من الشيخ النبهاني كيف أَفكُّ أزرارها، وكيف أُعطِّر الشرشابة. تَصوَّرتُ أني أنزل بها إلى الطريق. لكنني اعتبرتُها منامة، فلم ألبسها خارج حجرة النوم. تَوقُّعي للطَّرَقات الخافتة، كان يدفعني إلى نَزعِها، وارتداء البنطلون والقميص.
قال: إن ارتداء هذا الشيء ينعكس على تفكير الإنسان.
– هناك من يرتدون الزِّي الأوروبي وأفكارهم متخلفة.
– ربما … لكن المستحيل أن تظل ترتدي الدِّشداشة، وتأمل في أن تجاوز تفكير البيئة!
قلت: أُلاحظ أن المجتمع العُماني كأنه يقتصر على الذكور.
رَفَّت على شفتيه ابتسامة غامضة: المرأة غير موجودة في هذه المجتمَعات، أو أنها داخل البيوت!
والْتمعَت عيناه بوميض التذكر: الشرطة أخذتْ زميلًا لنا من على باب عُمان بلازا … امتنعنا عن إلقاء الدروس حتى أفرجوا عنه.
تَكررتْ رؤيتي لسيارة الشرطة تضع مُؤخِّرَتها أمام باب السينما، تَلقَف كل المُغادرِين لسينما عُمان بلازا. جميعهم من الوافدين؛ هنود، وباكستانيون، ولبنانيون، وبنغاليون، ومصريون، وفلبينيون، وجنسيات أخرى. يَخضعون للتصنيف في مركز الشرطة بالوطية. يظل في مسقط مَن دخل عن طريق المطار، ويعود إلى بلاده مَن قدم من مراكز الحدود. يثق في قدرته على معرفة البلد الذي ينتسب إليه وافد يراه للمرة الأولى، ولا يتبادل معه حديثًا من أي نوع. لا يحدد بواعث التخمين. هي روح، أو صورة كلية، بلا تفصيلات مُحدَّدة.
قلت: إنهم يعتبرون الإضرابات خطيئة مثل الكفر.
– هل كُنَّا نترك زميلنا في الحبس؟
وأنا أُدير كوب الشاي في راحتي: الحمد لله أن الأمر انتهى على خير.
٨
سِرتُ في شارع رويْ إلى نهايته. ملتُ إلى ناحيته المقابِلة بالقرب من جامع السلطان قابوس. المبنى من طابقين. صعدت السُّلَّمات العشر إلى بوابته الخشبية. فتح لي الحارس العُماني. طالعتني ردهة واسعة، تحيط بها حجرات مفتوحة، ومغلقة. وثمة سُلَّم إلى اليسار، يصعد إلى الطابق الثاني، وطرقة مستطيلة، على جانبيها حجرات، وفي نهايتها نوافذ زجاجية عالية، تطل على الشارع الجانبي.
قال لي خميس المناعي: إذا لجأتَ إلى مركز الشئون الاجتماعية، فستجد الكثير من الموضوعات لجريدتك.
بدَا لي ما قرأتُه كأنه دُنيا السحر. دراسات أَعدَّها باحثون من مصر والعراق والسلطنة. المُوروث الذي لم يُبدِّل ثَباتَه توالي الأعوام: المعتقَدات والعادات والتقاليد والحكايات التي يصعب تصديقها. أذهلَتْني حكاية الزوجات تطول بأزواجهن أعوام الغربة في بلاد الخليج. يأتي الطَّيف في هدأة الليل، يُضاجِع المرأة، فتلد بعد تسعة أشهر. يَتكرَّر الحمل والولادة، ويبعث لها الزوج — في كل مرة — اسم المولود ونَفقَته السَّنوية. نقل جامع ببهلا إلى نزوى، عقابًا من الملائكة على مُمارَسة مُحرَّمة داخل الجامع. أعمال السحر التي تسخط الإنسان، وتُحيله حجرًا أو صخرة أو شكلًا شائهًا، أو تَمسخه إلى سَمَك. وثيقة عقد الزواج بين ذَكرَين. حُجرة الغلام المُتفرِّدة، المُطِلَّة على الشارع، في البيوت القديمة.
قلت لخميس المناعي: أُلاحظ أن المرأة العُمانية تَرقص أمام الرجال … ظاهرة خليجية نادرة.
قال: بالعكس … هذا ما يحدث في الإمارات والبحرين والكويت.
ثم تساءل كالمُتذكِّر: هل شاهدْتَ عرسًا عُمانيًّا؟
– شاهدت التليفزيون!
•••
ما كدتُ أدخل حجرة المكتب، حتى تناهى صوت طَرقات خفيفة على الباب الخارجي.
أصَختُ السمع، فعادَت الطَّرَقات واضحة.
كنتُ قد اعتدت سماع نقرات أصابعها على الباب الخارجي. تعلو بها إن لم أفطن إليها في مرات تالية. إذا دخلت حجرة المكتب طَوَّحَت حذاءها فوق الموكيت الأزرق. أستعِدُّ لزيارتها بتعمُّد الفوضى في حجرة المكتب. أتوقَّع أنها ستعيد ترتيب الكُتب والأوراق والأقلام. حتى الملابس التي تَعمَّدتُ إلقاءها في غير موضع، وأترك الأشياء مُهمَلة. أدرك أنها ستضعها في أماكنها على الشماعة، أو داخل الدولاب، تجري فيها بالترتيب أو النظافة. تملؤُني النَّشوة لمجرَّد أنها تُلامِس أشيائي: ثيابي، كُتبي، أوراقي، كوب الشاي. أتأمَّل أصابعها وهي تُلامِس ما يخصني. أتمنَّى — بيني وبين نفسي — لو أنها أَذنَت لي بتقبيل الأصابع المخروطة، الجميلة. أرجو ابتسامتها المُشفِقة لتأثيرات الوحدة التي أعانيها، وإن كنتُ أحرص على كَيِّ البنطلون والقميص، ونظافة الحذاء. حتى النظارة الطِّبِّية أجري عليها بقطعة قماش صغيرة.
أثق أنها ستأتي. تصل إلى بيتها. تظل إلى المساء، ثم تأتي. كنتُ أنشغل بانتقاء الكلمات التي سأقولها، وترتيبها. تختلط الكلمات — عند مجيئها — وتتشابك، أو أنسى ما أعددتُه تمامًا. أغمغم بكلمات لا أتدبرها جيدًا، وإن حاولتُ التعبير عن الترحيب. ثم حرصتُ ألا أُعِد الكلمات التي سأقولها. أترك للكلمات عفويتها، لا أتعمد اختيارها. أسأل وتجيب. تسأل وأجيب. نتناقش فيما يفرض نفسه، أقرب إلى الدردشة أو الثرثرة. نمضي إلى طُرق لا نختارها.
شَحَبتْ صورة مها، ذَوَت، تَلاشَت. لم يَعُد إلا صورة زوينة تلازمني. المَلامح الطفولية تَفرِض نَفسها، الإيماءات والتصرفات والبَسمة التي كأنما ألصقَتْها على شفتيها. أتصوَّر كلامًا بيني وبينها، أسئلة وأجوبة، وأخْذٌ وَردٌّ، ورواية ما صادفه كل منا في يومه.
سألتُ بعفوية: لماذا صَحِبتِني من المطار؟
قالت بسرعة كأنها تتوقَّع السؤال: بدوتَ مسكينًا وبلا حيلة.
قفزَت إلى ذهني — لا أدرى لماذا — صورة بطل روايتي التي لم أُتِمَّها. بدَا وحيدًا، ومحاصرًا. أزمعتُ أن أوفر وقتًا — وسط انشغالي — أستكمل فيه روايتي الناقصة.
لم أَعُد أقوم من مكاني وراء المكتب، عندما تدفع ضَلفة الباب الخارجي، وأتبَيَّن وَقْع قدميها فوق الساحة الترابية. تقول: سلام — من باب الحجرة — وهي تتبين — بنظرة متأملة — ما أفعله. تميل إلى المطبخ، فتأخُذ بعض ما تحتاجه من الأرفف. أُدرِك أنها تمضي إلى الناحية المقابلة من تَناهي صوتها: سلام، وصرير مواربتها لضلفة الباب.
كنتُ أُعزِّي نفسي — أمام شوقي كمال — بأنه رفيق غربة، رفيق سَفر. تصل علاقتنا إلى نهايتها عندما تهبط الطائرة في المطار.
قالت: لاحظتُ أن الباب ظل مغلقًا إلى ما بعد المغرب.
وأنا أتظاهر بترتيب الأوراق فوق المكتب: أمضيتُ اليوم كله في مركز الشئون الاجتماعية.
وتَنبَّهتُ لذبابة على أنفي. ذَبَبتُها بيدي، وأردفت: كَنز من المعلومات سأختار منه ما ترضى عنه الرقابة.
وداخلني إحساس بالمحاصرة: أخفقْتُ — حتى الآن — في كتابة تحقيق صحفي.
ومططتُ شفتي في ضيق: أصطدم بالفشل دائمًا.
– لماذا؟
تَحدَّثتُ عن جائزة التفوق التي صدر بها مرسوم سُلطاني. يحصل عليها من يحقق تفوقًا في مجالات الدراسة والبطولات الرياضية … أزمعتُ أن يكون المرسوم السُّلطاني مِحورًا لأول تحقيق تُقدِّمه الجريدة. صَحبني خميس المناعي إلى النادي الأهلي خارج مسقط القديمة. ساعدني المناعي في محاولة إقناعهم بأن يَتحدَّثوا عن رأيهم في المرسوم. لا بُد أن يكون — بالضرورة — رأيًا إيجابيًّا. لكنني اصطدمتُ بحائط الاعتذار: هذه سياسة، ولا شأن لنا بها!
قال خميس المناعي: لم يَنسَ العُمانيون نوبة الميراني، وأوامر السُّلطان سعيد التي حَرمَتْهم حتى من ارتداء الأحذية.
قلت: وكيف أصنع صحافة؟
– اتبع سياسة الخطوة خطوة.
– أخشى أن أظل مَحلَّك سر!
قالت زوينة: أنتَ رأيت أزقة مسقط القديمة؟
– طبعًا.
– هذه هي زنجبار … البيوت القديمة المتلاصقة، والشوارع القديمة، والدِّشداشة، والكمة، والقلاع … حتى الأبواب تُذكِّرك بأبواب مسقط.
مدَّت يدها بلفة صغيرة من الورق: خذ هذه.
دَهمَني ارتباك حين فاجأت نظرتي المتسللة. كنتُ أتأمَّل شُرودها فيما لا أتبينه.
– ماذا؟
– عشاء خفيف.
وأنا أربت صدري: تَعشَّيتُ.
– أخي سيف … سمع عم حَمَّود صاحب السوبر ماركت وهو يعتذر بعدم وجود ما طلبتَه.
غمرني إحساس بالنَّشوة أن أجد من يُعنَى بأمري. فطنتُ أني — ربما للمرة الأولى — أرنو إلى مَنبت النَّهدين. داهمني ارتباك، فأدرتُ وجهي إلى الناحية المقابلة.
أضافَت كالمتذكِّرة: كنتُ الابنة الوحيدة ثلاثة عشر عامًا … ثم جاء سيف … ولدَتْه أمي بعد عامين من قدومنا إلى مسقط.
واتَّسعَت ابتسامتها: قال أبي إنها غَلطة … وأعتبرها غلطة جميلة، فأنا أحبه!
ثم وهي تغمز بعينها: لعلهما أرادَا تأكيد انتمائهما إلى الوطن الجديد.
قلت: بدَا السوبر ماركت — هذه الليلة — شبه خالٍ.
وهي تضحك: رجال الفِرَق الوطنية نزلوا على المحال … قالوا: نحن خَدَم السلطان … وأخذوا ما وصلت إليه أيديهم ومضوا.
اعتدتُ رؤية الفِرَق الوطنية في شوارع رويْ ومطرح. عشرات من الرجال، عُراة الصدور. يرتدون الوزارات المُزَركَشة الألوان من الخصر إلى ما تحت الركبة. يحملون البنادق والسيوف الصغيرة والخناجر والعِصي. يُنشدون أغنيات، فَسَّرتُ غموض كلماتها بأنها من الشعر النبطي. قال لي الشيخ النبهاني: إنهم من الخارجين عن جبهة تحرير ظفار. أعلنوا استسلامهم، وتَحوَّلوا — بعفو السلطان وهِباته — إلى أهم المُساندين للحكم في ظفار، أو المنطقة الجنوبية.
كنتُ أتأمَّل جرأتها: الطَّرقات الخافتة، ودخولها البيت، ونَزْع حذائها، وتَنقُّلها بين حجرة المكتب والمطبخ والحمام. تبدو تَصرُّفاتها غريبة في مجتمع الرجال الذي تنتمي إليه، وإن لم يَعُد في وسعي أن أَتصوَّر عناقها. الحائط غير المرئي الذي تقف خلفه، يفصل بيننا، والبساطة التي تتحرك وتتكلم بها، تُلغي ما قد يثور في داخلي من تصورات. يداخلني اليأس حين أطيل النظر في عينيها، فتأتي الاستجابة كما في عين السمكة.
تَعثَّرتْ في وقفتها على السُّلَّم، وهي تجري بالمنفضة على الكُتب. احتضنتُ ساقيها بتلقائية. مالتْ على كتفي حتى نزلت إلى الأرض. غالبت الارتباك، وأنا أَلمحُ الحُمرة في خدِّها، وهي تميل بوجهها إلى الناحية المقابلة.
لم يكن بوسعي أن أُخَمِّن ماذا تخفي ابتسامتها الطفلة وعيناها الملتمعتان. لا أعرف ماذا يمور في داخلها. كانت رؤيتي لها تَتعدَّد في اللحظة الواحدة. تهبني شعورًا بالسهولة، فأتصورها ثمرة تلامس أطراف أصابعي. تحدثني في وُدٍّ طيب، فأبتسم لصور من قعداتي مع أمي وإخوتي، وتُومِض عيناها بما يصعب عليَّ فَهمُه أو تفسيره. أدرك أني أجلس إلى فتاة من مجتمع يمارس حياة غير التي أَلِفتُها. كنت أعود في اختلاط اللحظات، وتَشابكها، إلى الحِدَّة التي واجهَت بها خطأ فهمي. يهمُّني ألَّا تغيب ثانية، وربما ذهبَت فلا تعود. تعيد ترتيب ما أتعمد إفساده. تفاجئني بالسؤال عن أشياء تخصُّني، ولا أتصور أنها لاحظتها: الكلمات الناقصة في ورقة فوق المكتب، الكتاب الذي طويتُ آخر صفحة قرأتُها فيه، إيصال مغسلة الثياب، تأخُّر المطبعة في طباعة الجريدة. تفاجئني بأسئلة عمَّا أتصوره بلا قيمة وتافهًا. يبدو عليها التأثُّر وهي تُنصت إلى ملاحظاتي. تخلع حذاءها. تتربع على الكنبة قُبالة المكتب. تضع ذقنها في يدها، أو تداعب بيدها أصابع قدميها، وتتكلَّم. تُشرِق وتَغرب. تسأل، أو تُنصِت. تُقاطِع أجوبتي. تُعبِّر بملامح وجهها وحركات يديها. ربما وقفَت على رأسي وأنا أكتبُ، أو أُخطِّط، صفحات الجريدة، أو ألصق الأعمدة والصور. يلامس ذراعها يدي. صارحَتْني باستيائها من النَّظرة المتعالية التي يُواجهها بها العُمانيون من مواليد الوطن الأم، كأنها الاستهانة أو الاحتقار. نحن أتينا من زنجبار، فنحن زنوج، والزنوج — لا أدري سِرَّ هذه النظرة — جنس أدنى!
فاجأني تَغيُّر سحنتها لمَّا أشرتُ إلى ظاهرة الخدم الآسيويين:
– أنت تُلمِّح إلى ما يعيب.
– أتكلَّم عن ظاهرة سلبية.
– الخدم مَوجودون في كل الدنيا … لماذا يتحولون هنا إلى ظاهرة سلبية؟!
رحتُ أتأمل الوجه الملائكي، والملامح الطفولية، والعينين الواسعتين، البريئتين. تَمنَّيتُ لو أني احتضنْتُها، ودسستُ رأسها في صدري. أهمس، وأصرخ، بأنها الواحة التي ظللتني في هجير شمس مسقط.
أزمعتُ أن يكون ذلك كذلك. لا أقرأ ما بين السطور، ولا أحاول فتح الحجرة الواحدة والأربعين، ولا أُجهِد نَفْسي في التَّطلُّع إلى ما وراء الأفق.
توالت الأسئلة: هل أحبها بالفعل؟ أو أن ما أحسه نحوها مُجرَّد رغبة تريد البوح؟ هل الشعور بالوحدة هو الذي أملى الإحساس بأنها تحبني، وأني أحبها؟ هل تشغل في حياتي موضع مها؟ وهل تنتهي علاقتي بها بعودة علاقتي بمها إلى ما كانت عليه؟
لم أَصِل إلى أجوبة محدَّدة، وإن أيقنت أن هذه الفتاة السمراء، الطفلة الملامح والتصرفات، هي فتاتي التي أحبها. أتأهَّب للنوم. أغمض عيني على صورتها. تطالعني في رؤى مُتغيِّرة حتى أصحو. هي أول من أفتح عينَيَّ عليه.
أفكر في أن أشغل نفسي بأمي وأبي وإخوتي ومها، وما خلفته من عمل في القاهرة. ما تلبث الصور التي استدعيتها أن تَذوِي، تتلاشَى. تحل — بدلًا منها — صورة زوينة، تَتحرَّك، تتكلم، تضحك، تسأل، تملأ مساحة الذهن فلا يملأها سواها.
كانت المناقَشات تستغرقنا، لا تترك فرصة كي يبوح أحدُنا بمشاعره نحو الآخَر. ألمح نظرات عينيها. أُخمِّن ما تحملانه، وكنت أفر بعيني منهما. صِرتُ على ثقة أن الطريق مسدودة. شيء في ملامحها البريئة يَصدُّني عن التقدم في خطوة غير محسوبة. تَشوَّش إحساسي بالوحدة. لم يَعُد بمثل القسوة التي آلمتني كثيرًا، لكنني ظللتُ وحيدًا.
لحظات الوحدة كثيرة، ومتواصلة، لكنني لا أشعر بالعُزلة. لا أشعر بالوحدة التي أحياها. ترافقني صورة زوينة وتعبيراتها وإيماءاتها وتصرفاتها العفوية. ربما أكتشفُ البسمة تطفر على شَفتَيَّ بالموقف الذي أستعيده.
هذه هي واحتي الظليلة. لا صلة لها بما أحياه في القاهرة أو مسقط. لا صلة لها بشخصيات أعرفها، أو ألتقي بها.
أنا لا أتصور الحياة بدونها.
٩
– الأستاذ بهجت حسان.
تعرَّف الحارس إلى ملامحي. فتح الباب الموارب. قبل أن يَعبُر السائق دوار الخوير، طلبتُ أن يميل إلى مبنى السفارة المصرية. تأمَّلتُ الأوراق والصور التي سلَّمها لي عبد الحميد سعيد وكيل وزارة الإعلام: رجال يرتدون الدِّشداشة والمسرة، لا يَفترِقون عمَّن ألتقي بهم في أسواق رويْ ومطرح وشوارع المدينة. حتى النظرات تَشي بطيبة واضحة. وضعتُ الأوراق في تابلوه السيارة، ونزلت.
– انشر هذه الصور في الصفحة الأولى من جريدتك.
أضاف عبد الحميد للتساؤل في عيني: اكتبْ بما يعني أنهم مُتمرِّدون في ظفار سَلَّموا أنفسهم لقوات السُّلطان.
– ألا توجد معلومات؟
– أيُّ معلوماتٍ تُعَد أسرارًا عسكرية.
ونفض دخان سيجارته على طقطوقة أمامه، وقال: يكفي أن تشير إلى أنهم مُتمرِّدون سَلَّموا أنفسهم!
كنتُ في حاجة إلى أصدقاء. إلى من ينصت إليَّ، وأستمع إليه. كان أغلب وقته في مبنى السفارة. وكان سكنه في داخل أسوار المبنى. أتردَّد عليه في مبنى السفارة، فأجد فيه من أناقشه. يضايقني — بعد أن أشاهد فيلمًا في سينما ستار، أو عُمان بلازا، أو أقرأ كتابًا، أو أتابع برنامجًا في التليفزيون — أني لم أكن أجد مَن أُحدِّثه فيما شاهدته أو قرأته. من يبادلني الملاحظات والتعليقات، ويُبدي الإعجاب أو الرفض. الفراغ بلا آفاق. أدركتُ كم أنا وحيد. لا أتصور أن أحدًا يعاني الوحدة مثلما أعاني. وكنتُ أعطيه أذني، فيتكلم ويتكلم. أكتفي بالإنصات. ربما تظاهرتُ أني أُنصتُ. أهرب من الحنين والوحدة والملل في حكاياته التي لا تنتهي.
كان يُقلِّب الملفات فوق مكتبه. أسماء وعناوين وبيانات وأرقام. يرافق التقليب نبرة ساخطة، تعيب اتسام سفر المصريين للعمل في الخليج بالعشوائية. تَشوَّشَت الظاهرة، فغابت صورة المستقبل. يسافر الباحث عن فرصة العمل لأربع سنوات. تطيب له الإقامة، فتتواصل السنوات.
– إنهم يضيفون إلى أنفسهم فُرَص الآخرين، يستولون عليها!
ويشي صوته بضيق: تَضخَّمَت مشكلات المصريين في مسقط، فكاد عملي يقتصر على المهام الاجتماعية!
ثم وهو يتطلع — من النافذة — إلى الصحراء الممتدة: السفارة الآن صالة ترانزيت!
حكى لي عن وكيل الوزارة المصري المُعار للسلطنة. مهمته جَمْع التُّراث الشعبي من الموسيقا والأغنيات. لكن الراتب الضخم دفَعَه إلى محاوَلة البقاء في السلطنة، فهو يعزف على العود في أثناء تناوُل وزير الإعلام عشاءه مع ضيوفه، وقاطَع مذيع التليفزيون حين رحَّب به في عُمان وطنه الثاني قائلًا: أرجوك … إنها وطني الأول!
قال بهجت حسان: الظروف الاقتصادية لا شأن لها بمأساة الرجل … إنها مأساة النفوس الضعيفة.
ونفث تنهيدة: أمس … طلبتُ من رئيس بعثة المُدرِّسين المصريين أن يُغادر مكتبي … وصفَ وظيفته بأنها الإشراف على ثلاثة آلاف كَلْب … يقصد ثلاثة آلاف مُدرِّس!
وكز على أسنانه: يريد الحصول على إعجاب العُمانيين بشتم أبناء بلده.
وأعاد تصفح الجريدة: أنت لا تتحدث في السياسة، لكنك تكتبُ فيها.
قلت: أكتب في السياسة الخارجية والعربية، ولا شأن لي بالسياسة المحلية.
واجهني بنظرة دهشة: هذه جريدة عُمانية.
ثم وهو يعقد ساعديه على صدره: فكرَّتُ في أن أُزوِّدك ببعض التحليلات السياسية … لكنني أشفقتُ على قُرَّاء جريدتك.
ووشت لهجتُه بملل: أثق أنهم لا يريدون سوى الأخبار الصغيرة والطريفة، وإن أمكن فالصور الملونة.
لاحظتُ أنه يُداوِم النظر إلى مرآة مُعلَّقة على الجدار بجانب المكتب. يتأمَّل ملامحه، ويتأكد من استواء شاربه. أَمْيَل إلى البدانة. تطل الطيبة من عينيه الساجيتين، فيبدو — أحيانًا — كالنائم، وحاجباه الكثيفان متصلان من أعلى الأنف. وتصرفاته، وعباراته، أَمْيَل إلى البطء.
قلت: الألوان مَطلب مستحيل في ضوء الظروف الحالية.
– جريدتك ينقصها الصورة.
أضاف لنظرتي المتسائلة: الصورة — كما تعلم — عنصر مهم في المادة الصحفية.
وهز سبابته: المُثقَّفون هنا لن يقرءوا جريدتك … عندهم الصحف العربية والأجنبية.
قلت: أعترف أنه تعوزني الإمكانيات.
قال بلهجة مُحرِّضة: قص والصق … افعل مثل الآخَرِين.
– هذا ما أفعله أحيانًا.
استطردتُ متذكرًا: قص الصور وليس الموضوعات.
ظهرت الخيبة في وجهه: ألا يُوجد لديك أرشيف صور.
قلت: ولا أرشيف معلومات.
وجاهدتُ كي أكتم ما يمور في نفسي من ضيق: لا يوجد أي شيء لصنع جريدة … إلا جهاز راديو قديم.
– وكيف تتصرف؟
ضاحكًا: بالبركة.
واستطردت موضحًا: أَستعين بكتابات أصدقاء من القاهرة … وأنقل من الراديو … وأخترع!
مصمص شفتيه: مشكلة أن تُصْدِر إعلام القرن العشرين في مجتمعات القرون الوسطى.
تحدث الشيخ حمود النبهاني عن مشروعات للتوسُّع في شركة صحار للمقاولات. صدر القرار بإزالة بيته المُطل على مقابر المثاعيب، والمُفْضي إلى قصر العلم. أظهر الفرحة للتعويض المادي الذي سيحصل عليه: يتيح لي بيتًا جديدًا في القرم، وفائضًا أنفقه على توسعة الشركة.
كنتُ قد زرت بيته: درجات من الأسمنت، تُفضي إلى فناء بلا سقف، إلى اليمين — بجوار الباب — حجرة يستقبل فيها زُوَّاره، ثمة كنبَتان مُلتصقتان في زاويتي الحجرة، يقابلهما جهاز تليفزيون، وعلى الأرض سجَّاد وشِلَت، وهسيس المروحة الكهربائية أعلى السقف. في نهاية الفناء المبلط بناية صغيرة من طابقين أغلق بابها الخارجي، ولا تبين نوافذها العلوية المفتوحة عمَّا بالداخل، حدستُ أنها لإقامة أسرة الشيخ، وإلى اليمين دورة مياه. فاجأني — لما استأذنت في استخدامها — باقترابها من دورات المياه في بيوت القرية المصرية.
– هل يمكن دَعْم الجريدة وتوزيعها خارج السلطنة؟
في استغراب: نحن نُوزِّع خارج البلاد فعلًا.
– ما أعرفه أنها لا تباع في القاهرة ولا بيروت ولا بغداد … ولا العواصم العربية الأخرى.
– إنها تصل إلى حيث شركات الإعلان في دبي.
ثم في حسم: هذا يكفي!
فاجأني بهجت حسان بالقول: أُعاني مشكلة سخيفة.
وحَدَجَني بنظرة طويلة كأنه يتأمَّل وقع كلامه.
– المدام ترفض ما أَحلَّه الله.
أضاف للدهشة في عيني: ترى أننا قد أنجبنا الأولاد، فلا حاجة بنا إلى الجنس.
اكتفيتُ بالمتابعة والصمت: يكلمها عن الجنس. هو مثل الطعام والنوم، وما يحتاجه الإنسان من ضروريات. تهز رأسها، وتقلب شفتها السفلى، وتَسكتُ، لا تُعلِّق بملاحظة ولا تُبدي استجابة.
قلتُ لمجرَّد أن أقول شيئًا: تُذكِّرني بدراسة في مركز الشئون الاجتماعية، أشارتْ إلى طلب عُماني في بركاء من خبراء المركز أن يقنعوا زوجته بتلبية طلباته.
انتزع ضحكة: لعل الرجل يَطلُب ما يؤذي مشاعر زوجته … أما أنا … الحمد لله!
وسكت.
•••
فَضضتُ الرسالة بيد مرتعشة. أعرف صاحبة الخط. هل أملاها الذِّهن، أو أنها نقلتْ ما أمْلَتْه أمها؟
ذكَّرتْنِي الكلمات بما تَعمَّدتُ إهماله. تناسيته، فنسيته.
قالت الأم: مها لن تترك مصر.
– لن نَقضي سوى عامين … نُرتِّب حياتنا ونعود.
دون أن تُجاوِز هدوءها: مها تنتظرك.
– ما قيمة الزواج إذن؟
هل وجدَتْ فيَّ مجرَّد زوج، أو أنها تحبني؟ إذا كانت تحبني بالفعل، فلماذا هذا الموقف الساكن الذي يصعب أن أفسره؟ لماذا لا ترفض، تَتمرَّد، تصرخ، تملي إرادتها؟ لو أنها كانت تحبني حقًّا لأصرت على حبها، على اختيارها!
هل ما يقوله عبد العال صحيح؟ هل كل الرسائل تُفتَح في الأيام الأولى لإقامة الوافد؟ وكيف تفطن الرقابة إلى أن الرسالة لوافد قديم أو حديث عَهْد بالإقامة؟ … لكن الرجل ألح في التحذير، وأن كل ما يرسله الوافد، أو يَتلقَّاه، لا بد أن تتأمله عين مدققة.
– أنا لا أتحدَّث إلا عن أحوالي الشخصية … وهو ما تنقله الرسائل القادمة من القاهرة.
– فليكن هذا حرصك … ولو لبضعة أشهر قادمة.
هززتُ رأسي بالموافَقة، وإن ظللت غير مصدِّق لملاحظاته. وتيقَّنْت من عدم تصديقي — فيما بعد — حين اتَّسعَت مصادري وعلاقاتي بِحُكم العمل، فالرقيب لا يفض إلا الرسالة التي يشك فيها. وإذا فضَّها، فإنه يلصق عليها ورقة تفيد بما فعله.
– هل الأوضاع مُقيَّدة إلى هذا الحد؟
– وأكثر.
ورفع عينيه في تثاقل: إنهم يا دوب تخلصوا من الثورة في ظفار، ويضعون حسابًا لكل الاحتمالات.
١٠
لم يعد لي مواعيد نوم محددة، إنما هي أوقات متقطعة، أُسْلِم فيها عينَيَّ للنوم. أستعيد — في انشغالي بإعداد الجريدة — ملامحها، نبرات صوتها، تصرفاتها وإيماءاتها. أتخيل مواقف وحوارات بيني وبينها. بمجرَّد أن يلمس رأسي المخدة، يُسْلِمني الإرهاق إلى نوم ثقيل.
أفرش على السرير ملاءة وحيدة، فلا غطاء لجسدي. إذا أقبل الشتاء ربما تغطيت بملاءة ثانية. لا بطاطين، ولا ألحفة، إنما هي ملاءة رقيقة من القطن.
أصحو فأقوم إلى العمل، لا أتدبَّر ما إذا كنت أحتاج إلى استكمال نومي. ربما تَبيَّنتُ — وأنا أبدِّل ملابسي في الصباح — أن السرير على حاله، لم أقربه؛ لأني قضيت الليل في إعداد مواد عدد قادِم. هَمِّي أن أدخل الحجرة الملاصقة. أتأمَّل الفراغ الذي جسَّده تكرار النوم في الموضع نفسه على السرير. أُلقي بجسمي المُتعَب فوق السرير. يحل عليَّ تَعبُ يوم كامل من القراءة والكتابة ونَقْل نشرات الإذاعة والتَّنقُّل بين الوزارات بحثًا عن الأخبار. أتصور أني سأروح في النوم يومًا كاملًا، أو يومين. أشرد في تمدُّدي حتى يغيبني النوم. لا أتحرك حتى أصحو. أتكاسل عن تغيير الملاءة. أرتدي الملابس الصيفية وحدها. البنطلون دائمًا. يعلوه قميص، أو فانلة قطنية، وربما فانلة «مونتجوت» يقبل على شرائها معظم الوافدين.
قال شوقي كمال: لا تحبكها.
واتَّجَه ناحيتي بملامح مستغربة: نحن لم نأت إلى هنا للسياحة. حتى السياحة ممنوعة.
ثم وهو يطرقع بإصبعيه: جئنا فقط لصداقة الريال العُماني!
شوقي كمال سبقني في الوصول إلى مسقط. عاصر البدايات. ملأ استمارة الدخول إلى مسقط، في مَطار تَحدُّه البراميل الفارغة، الشوارع الترابية والبنايات ذات النسق العُماني، الحمار وسيلة مُواصَلات شبه وحيدة، انعدام وسائل الإعلام، لا صحف ولا إذاعة ولا تليفزيون. تابَع ما حدث خطوة خطوة. حتى القصة القصيرة كتبها صحفي مصري، وإن أطلق على الأماكن والشخصيات تسميات عربية.
عرفت من شوقي أن إصدار الجريدة نشاط تجاري يمارسه الشيخ النبهاني، إلى جانب الاستيراد والمقاولات. ينفق على الجريدة من دعم وزارة الإعلام واشتراكات الوزارات. تُوزَّع على الموظفين دون مقابل. تكاليف الجريدة أقل من قيمة الدعم، فهي — في حساب الشيخ النبهاني — صفقة رابحة.
قلت: سأزيد من توزيع الجريدة بإضافة موارد الإعلانات إلى دعم الدولة.
قال شوقي كمال في نبرة حاسمة: وَهْم أن تتطلع إلى إصدار جريدة حقيقية.
ولجأ إلى عينيه ويديه في التعبير عَمَّا يريد أن يقوله: لا تنس رغبة الرجل في المكانة الاجتماعية والوجاهة.
وغمز بعينه: هذا هو ما تحققه له ملكية الجريدة.
قلت: لكنه لا يتدخل في تحريرها.
استطردتُ موضحًا: يعني يضع خبرًا أو يحذف خبرًا.
رفع كتفيه في استخفاف: كفيلك لا شأن له إلا بما يحصل عليه من المكاسب المادية والاجتماعية.
قبل أن تبدأ طباعة الجريدة في مسقط، كان عملي يقتصر على إعداد المواد، وإرسالها — بالبريد السريع — إلى المطبعة في الكويت، ثم أنتظر — بعد أسبوع — وصول النسخ المطبوعة. امتد العمل ساعات اليوم كله. لا إمكانات حقيقية، والعمال يخطئون تسع مرات قبل أن ينفذوا تصوري في المرة العاشرة. هنود وباكستانيون عُيِّنوا لرواتبهم القليلة … مصريون تعامَلوا مع «التيبو» و«الروتوغرافور» فبدَءوا تَعلُّم الأوفست بافتراض الصواب والخطأ. كان يومي يمتد — أحيانًا — من السابعة صباح الأحد — اليوم السابق لصدور الجريدة — إلى منتصف نهار يوم الإصدار. أجُرُّ قدمي إلى السيارة وأنا أرجو غياب ما نَبَّهتُ إليه من أخطاء.
كان الإحباط يمضني.
قال شوقي كمال: نحن لم نأتِ لأداء رسالة، وإنما للحصول على نقود.
ثم وهو يطرقع إصبعيه: المهم أن نحصل على النقود … لا يهم الوسيلة، ولا معنى لأن تتعب نفسك فيما لا يستحق!
قلت: جئنا لإصدار صحف.
أشاح بيده: لن نُصدر «الأوبزرفر» … ولكن نشرات نسميها صحفًا.
وأنا أضغط على الكلمات: أُصِر أن أصدر صحيفة … جريدة!
– من حقك أن تحلم … ومن حقي أن أكون واقعيًّا.
وصرخ: هل تتصور أنك ستُصْدِر جريدة حقيقية بمفردك؟!
يقتحمني — في لحظات العمل الأخيرة — نوع من الهمود، يتسلل إلى جسمي فيسيطر على تصرفاتي. الحركات بطيئة، والكلمات متثاقلة، متعثرة، والعينان ساجيتان تغالبان النوم. ألجأ إلى القوة الثانية. قرأت عنها، فلجأت إليها. أغمض عينَيَّ، وأسلم جسمي لاسترخاء، دقيقتين أو ثلاثًا. تأتي القوة الثانية. أنهي بها إعداد المواد، وأرتمي على السرير لأعوض نفاد القوتين!
المعاناة الحقيقية في انقطاع التيار الكهربي. تصمت المُكيِّفات، وتحل سخونة لزجة، قاسية، يصعب معها التنفس.
تيقنت من أن شوقي كمال يعاني عدم الوفاق، حين حرَّك جريدة مطوية أمام وجهه، وقال في أسًى واضح: لو أن المقيمين في مصر يعلمون بما نعاني!
كان يظهر كراهيته لسلاسل الجبال المتلاصقة، ورائحة الكاري المنبعثة من أجساد الهنود، وتناول الأرز، وتقطيع الدجاج واللحم، بالأيدي، يسيل منها السمن أو الدهن، ترفع الأكمام حتى لا تتسخ، وتمتلئ الأشداق، ويتواصل الكلام، وليد اللحظة والتذكر. وكان دائم الحديث عن شوقه إلى قعدة المصطبة، والملوخية، والمحشي، والرز المعمر، والتمشي على شاطئ الرَّيَّاح، أو على الزراعية، والتردد على أماكن اللقاءات، والسهر في المدن البعيدة. يتخلل كلماته ما يستعصي على الفهم. هذا الحزن الذي يبلغ حد اليأس.
١١
هذه الفتاة، استأثرت باهتمامي كله. أبعدتني عن الشَّوق إلى القاهرة، وتَعَب العمل في مسقط. شَحَبت — في وجودها — كل الملامح التي كنتُ أراها في الآفاق من حولي.
كنتُ أغالب شعورًا بأني أنجذب إليها بما لا أستطيع مغالبته. قوة غريبة، غامضة، لا أدركها، ولا أفهم بواعثها. ألخص لها آخر كتاب قرأته. أناقشها في الأفكار التي يتناولها، أو أروي ما تستدعيه الذاكرة.
لم يكن يشغلني إلا لقاؤها، والجلوس إليها، وتبادُل الكلام. أُحدِّثها عن نفسي، وتحدثني عن نفسها. أُحدِّثها عن الجريدة وزحام القاهرة والبيت المطل على شارع المساحة، وتحدثني عن الحياة التي لم تتغير بالانتقال من زنجبار إلى مسقط. الشوارع الضيقة، والنوافذ التي تكفي القفزة للانتقال بينها، والمصاطب أمام الدكاكين، وضوء الشمس الغائب، والأرض الترابية، وأذان الصلوات الخمس.
بدت لي زنجبار — من كلامها — أجمل بلاد الدنيا. يتلون صوتها وهي تحدثني عن الغابات والسهول والجبال والبحر وأشجار القرنفل والنارجيل والمانجو، وغيرها من الأشجار الاستوائية. تتابع الطائر في تحليقه فوق الساحل: «هذا الطائر نفسه … كنت أراه على شاطئ البحر في زنجبار.» تستعيد في رؤيتها للأحياء والخلاء والقلاع والطوابي أسماء: ممباسة، سيوي، باتي، مالندي، كيبوندا، كيجيتشي، متوليني، أوشوكوني، ريو نيون، كيزيمباني، الجزيرة الخضراء، دونجا، لاموه، وأسماء مدن وقُرًى تَنقَّلتْ بينها. حتى صوت ارتطام الأمواج بصخور الشاطئ في الوادي الكبير، أو في مطرح، أو خلف فندق مسقط إنتر كونتيننتال، تستعيد به الصوت الذي اعتادت سماعه في اقترابها من شاطئ زنجبار. تقلب جوزة الهند في يدها: في زنجبار أكبر وأحلى … تغمض عينيها: أحب رائحة القرنفل؛ لأنه يذكرني بزنجبار … تعايشنا مع الأفارقة في زنجبار، ويتعايش معنا الآسيويون في عُمان … وقانَا الله شر المستقبل.
– ألم يكن في زنجبار آسيويون؟ ألم يرافقكم الهنود؟
وهي تنتزع ضحكة: حتى أوائل الهنود الذين استوطنوا زنجبار كانوا من الطوائف نفسها التي تعيش في مسقط والمدن العُمانية: البهرة من الشيعة، أو السُّنَّة الشافعية، والخوجة من الإسماعيلية الشيعة، أو السنة الشافعية، والهندوس.
وسوَّت الإيشارب حول رأسها: هذه هي الطوائف المهمة في زنجبار، وفي عُمان.
حدست أنها تتوقَّع مني كلامًا عن مها. سِرت في حقل الألغام، بما لا يُقوِّض زاوية في المثلث. وكنتُ إذا خلوتُ إلى نفسي، أستعيد الكلمات والإيماءات والتصرفات. أشرد، وأبتسم، وأتأمل، وأبدل، وأتصور ما يجب أن أقوله في لقائنا التالي.
تَصوَّرتُ أني أفهم ما يعتمل في نفسها من عاطفة نحوي. تَمنَّيتُ لو أنها أدركَت ما يعتمل في نفسي من عاطفة أنا أيضًا. أشعر أنها قريبة مني. وأنها تبادلني الشعور نفسه. بدَا كأننا نرضخ لقوة مسيطرة، لا قِبَل لأيٍّ منا على دفعها، أو الفرار منها. أرى حُبَّها في تلك الومضة التي كنتُ ألمحها — أحيانًا — في عينيها. تظهر في لحظة، وتختفي في اللحظة نفسها. أقرر أن أصارحها: أنا أحبك، وأعرف أنك تحبينني، فلماذا لا يصارح كل منا الآخَر بحبِّه؟ … أُهمِل رَد الفعل. هل تستجيب، أو أنها تبتعد، فلا تعود ثانية.
هل أحبها لأني ألوذ بها من الغربة؟ هل لأن الأم في بيت الفجالة قيدتني بما دفعني إلى طلب الخلاص؟ هل لأن البراءة والعفوية والنصيحة اجتذبتني إليها، فأحببتها؟
هذه الفتاة هي الوحيدة التي أحببتها، وهي الوحيدة التي أحبتني. أرى الحب في عينيها، ولا بُدَّ أنها رأت حبِّي لها في عيني. لم تقل لي: أحبك. لم أقل لها: أحبك. لو أنها اعترفت لي بحبها. لو أني صارحتها كم أحبك. أدركتُ أنه إما أن أصارحها، وأتوقع مصارحتها: أنا أحبك … وأنا أحبك، وإما أن ألوذ بالبيت ذي الأسوار، فلا نلتقي. أُرتِّب الكلمات. أتصور رد الفعل. ما أكاد أخلو إليها، وأحاول وضع الكلمات على فمي، حتى تَذوِي الكلمات، وتضيع. أستعيد الموقف القديم. غاب تدبُّر اللحظة التالية. أنظر إليها، وتنظر إليَّ. نكتفي بسكون اللحظة. لا يشغلني ما هو أبعد من ذلك.
لست أذكر مناسبة قولها: نحن نحيا في مجتمع له تقاليده.
ومضت الفرصة.
– أنتِ تختلطين بالرجال في العمل.
وهي تضغط على الحروف: في العمل!
وكسَتْ وجهها قناعًا من الجدية: أثق أنه يمكن أن تقوم صداقة بين فتاة وشاب.
وتعمَّدَت أن يكون صوتها باترًا، ربما لتنهي النقاش: شريطة أن يعرف كل منهما حدوده.
كانت الصالة الطويلة بفندق الخليج قد خَلَت إلا من شاب وفتاة ملامحهما أوروبية. أطلتُ الكلام فيما وفد إلى خاطري. مجرَّد أن أكلمها، وأظل بالقرب منها. أتأملها في صمت، أملأ عيني من ملامحها. يملؤني إحساس بأن العالم قد خلا من البشر، وأنه أصبح لنا وحدنا. أنا أحبها، وهي تحبني. أثق في ذلك جيدًا. تنقصنا المُكاشَفة وحدها. البوح والاعتراف والفضفضة. أنا أحبك. وأنا كذلك!
قلتُ، لأبدل الكلام: كل شيء هادئ هنا … فلماذا المهدئات؟
تبينتُ — في اللحظة التالية — أني لم أحسن التعبير.
لم يَبْدُ أنها تلحظ الحشرات الطائرة المُتحلِّقة حول اللمبة الوحيدة. أسلمَت نَفْسها لشرود ولحظات تَذكُّر، عُزلَتها عن كل ما حولها. لم يَعُد أمامي إلا أن أظل في جلستي، أنفض الحشرات إذا التصقَت بوجهي، وأصيخ السمع.
•••
كانت الليلة الشتوية في بدايتها يوم السبت ١١ يناير ١٩٦٤م حين حدث ما حدث. انطلقَت دَفقات الرصاص من موضع قريب. دسستُ نفسي في صدر أمي. أصاخت السمع وربَّتتْ رأسي: لعلهم يقتلون الكلاب!
تعالتْ أصوات إطلاق الرصاص، وتلاحقَتْ، وترامَتْ أصوات اصطفاق أبواب تتحطم، واستغاثات وصراخ. انتفضتُ على طَرقات هائلة، يشغلها تحطيم الباب لا مجرَّد الطَّرق عليه. أحنَتْ أمي جسدها بعفوية، ووضعَتْ رأسها بين يديها. ثم قَفزَت إلى ركن الحجرة وجريتُ وراءها. التقطَتْ أمي شالًا من على الشماعة إلى جانب باب الحجرة لفَّت به عنقها. تعالَتْ صرخة. ومدَّت يدها إلى مزلاج الباب.
تَدافَع العشرات من الجنود السود. بيدهم بنادق ومُسدَّسات وخناجر وعِصي، وعيونهم تلتمع ببريق اقتحمني بالخوف. أدركتُ — فيما بعد — أن ارتفاع أصواتهم إلى حد الصراخ، كان لِبَث الفزع، ودَفْعنا إلى الفرار.
انشغلوا بنهب كل ما في البيت، فأتاحوا لنا الفرار. تَعلَّقتُ برقبة أمي. خرجنا بملابس النوم، وحُفاة، والخوف يجري بأقدامنا ناحية البحر. ألقى الجميع ما حملوه من داخل البيوت وهم يتركونها.
لم أكن أفهم ما يحدث، وإن أدركتُ أن شيئًا فظيعًا يجري حولنا، وأن الفزع في عَينَي أمي وهي تجري بآخِر ما في قُوَّتها، لم أرَه من قبل. قبل أن تذوب أمي في المَوجات البشرية. آلاف من الناس أعرف بعضهم، ولا أعرف معظمهم، يجرون — بالفزع — ناحية الشاطئ. كان اتجاه الجميع نحو البحر. يخترقون الظلام إلا من ضوء شاحب يريقه القمر الذي لم يكتمل. لم يشغلهم الضرب بكعوب البنادق، ولا الجروح التي أحدثَتْها طعنات السكاكين، ولا الركلات واللطمات والقبضات. يضربون في كل اتجاه. الرصاص والفئوس والسكاكين والعصى الغليظة. اختفَت السيارات والدراجات. أخذها مَن فطنوا إلى ما يحدث في لحظاته الأولى. قذف شاب يرتدي الوزار بالسَّمكة التي عَلِقت في يده بدوبارة. وقف في طريق المَوجات يسأل، أو يحاول المُقاوَمة. اخترقَت الرصاصة رأسه، فسقط من طوله. وضع الجندي فُوَّهة البندقية في رأس المرأة. تظاهر بأنه سيطلق الرصاص، ثم شاط كتف المرأة بآخر ما عنده. سقطَت على ظهرها، ثم حاولت القيام، مدفوعة بالصخب. تعالى الصياح، والدعاء، وصرخات الاسترحام، واختلاط اللهجات، والتمتمة بآيات القرآن، والاستغاثات اليائسة. زَحفَت على ركبتيها، وقامَت. سقطَتْ، وقامَتْ. سقطَتْ، وقامَتْ. ارتمَت على كتف رجل تَستند عليه في اتجاهه نحو البحر. تتعالى أصوات الصرخات، وإطلاق الرصاص، والقنابل اليدوية، وطقطقة الأخشاب المحترقة، وسقوط أعواد الشجر. تقترب الأصوات في ابتعادنا عن المكان. حدست أنهم لا يندفعون وراءنا فقط، لكنهم يخرجون من وراء التلال والهضاب والبنايات والغابات والأشجار القريبة. أحكَموا الحصار، فما نستطيع تَعلُّمه هو النزول في البحر، أو التَّهيُّؤ لطلقات الرصاص. لم يكن أمام الجميع سوى البحر، أو الموت.
أثارت الأقدام الحافية، الملهوفة، الرمال في الوجوه، تَعثَّرت في الكلاب والقطط، تساير الفارِّين في اتجاههم نحو البحر. أسلموا أنفسهم للجري. يطلقون الصيحات، ويسقطون. من يقع يتحامل على نفسه، يسارع بالوقوف والجري، فلا تدوسه الأقدام. يلحقهم القادمون من وراء، ويواصلون الجري. رعود الرصاص والانفجارات تتوالى، عالية، متشابكة، لا يبين مصدرها. اختلطَت الأجسام والصرخات، والصيحات، والنداءات، والنيران، والتدافع، والاضطراب، والغبار المتكاثف. لم تَعُد الأصوات تَصدُر من جهة واحدة، لكنها قَدِمَت من ناحية البيوت، ومن الشوارع المُتفرِّعة عن الميدان الرئيسي. البَنادق والمدافع الرشاشة تُومِض بالطلقات، فتسقط الأجساد أمامي. لا فرصة للمُقاوَمة، ولا للدفاع عن النفس. انقضوا كطيور جارحة. الهجوم موجات متلاحقة، لا تترك فرصة للدفاع، أو حتى لمجرَّد التقاط الأنفاس. توقَّفَت عجوز بالإعياء. رفعها رجل على كتفه، وواصل الجري. حتى الإرادة غابت، صاروا مجرَّد محاولة للفرار من الجحيم. الفرار بأقصى سرعة، وإلى أي مكان. ترامى صوت أبي في الظلمة. علا صوته باقترابنا: هذا المجنون يرفض القيام من مكانه.
هتفت بالخوف: ديزي.
نفس النظرة الغامضة تابعتها وهي تجري، تسابق العفاريت بآخر ما عندها: ألم أقل لك؟
لم تكن الأقدام المَلهوفة تقصد مكانًا ما، وإن انتهَت إلى البحر. مجموعات من الفارِّين تتزاحم حول قوارب صغيرة. ثَمَّة من فكوا حبال القوارب، ودفعوا بها إلى قلب المياه. لَحِقَهم من امتلأت بهم القوارب، ومَضت إلى الساحل المُقابل. اندفع العشرات من الشُّبَّان إلى المياه، ألقوا بأنفسهم في الأمواج، يُحاولون السباحة إلى الشاطئ المقابل، البعيد. وثمة من ضلوا الطريق بالقوارب الصغيرة، فابتلعهم البحر.
سبقَنا خلفان الوهيبي إلى قارب. فكَّ الحبل من الوتد، وقفز إلى داخل القارب. استحَثَّنا، فلا تصيبنا القذائف، أو يلحق بنا الجنود. اندفَعْنا وراءه. تلاصَقْنا، وامتلأ بنا القارب.
كان الرجل قد بدأ يُحرِّك مِجدافي القارب، عندما تَلقَّفني رُكَّابه من أمي، وقفزَت ورائي. ترامَت استغاثة من الشاطئ.
قالت أمي: هذا صوت جارنا سعود.
واصل الوهيبي التجديف. أشباح آدمية تحرَّكت من بعدُ. اختفَت داخل البيوت التي هجرناها. بدَت زنجبار — في ابتعاد القارب — مجرَّد أضواء متناثرة. ظلَّت تَشحب وتغيب، حتى ابتلعَنا الصَّمت والظُّلمة، ما عدا تَحرُّك المجدافين، وارتطام الموج بالقارب.
وقف رجال ونساء على الشاطئ، يَتلقَّفوننا. لمحت من بينهم أبي. كان قد سبقنا.
آخِر رؤيتي لزنجبار، عندما التفَتُّ ورائي، أحاول — خلال الظلام — تَبيُّن البيوت التي غَيَّبها الدخان، وامتدادات النيران المُنسحِبة في ابتعادنا عن المدينة.
رسَتِ القوارب في أقرب الشواطئ الأفريقية. مُجرَّد الرسو على البر. تَعدَّدتْ أماكن الاستقبال في الساحل الأفريقي الشرقي. يضم جاليات عربية كبيرة: مقديشو، وباراوا، ولامو، ومالندي، وممباسة، وبامباوز، وموزمبيق. تَشكَّلتْ فيها تجمُّعات الفارِّين، ثم نُقِلوا بالطائرات، وبالبواخر، إلى السَّلطنة.
قالت أمي: هل انتهَتْ زنجبار من حياتنا؟
كأنها ضَغطت على زِر، فجَّر البكاء والنحيب، والنشيج، والتعليقات الحزينة. الحقيقة التي تنساها — أو تتناساها — عندما تطالعك — فجأة — ملامحها القاسية.
بعد أن احتوانا الأمان، بدأتْ أسرار الليلة الدامية تَتكشَّف في كتابات الصحف، وروايات القادمين، ورسائل الذين عجزوا عن الفرار، وأبقى الزنوج على حياتهم. عرفنا أن مَن حاولوا الدفاع عن أنفسهم، وتحصَّنوا بالبيوت، فاجأهم توالي الوميض والرصاص، والكُتل المشتعلة، وتَعالِي ألسنة النيران من الأسطح والحدائق وداخل الغرف. تَحوَّلت البيوت الصغيرة، المتلاصقة، إلى جحيم.
لم يكن ما حدث وليد ذاته ولا مُصادَفة، ولم يكن القتل لذاته. سبقه حركات الزنوج والسواحليين، هَمُّها التخلص من العنصر العربي. القتل والضرب وإطلاق الرصاص والصرخات وإشعال النيران، لدَفْعِنا إلى الخروج من البيت، والاتجاه نحو البحر، لإخلاء زنجبار من الجنس العربي، وإحلال الجنس الأفريقي بدلًا منه. وعرفنا أن الجنود المُسلَّحين اجتاحوا أقسام الشرطة، واسْتَولَوا عليها، وحاصَروا قصر السلطان خمشيد، لكن السلطان كان خارج القصر، وأفلح في ركوب البحر مع خدمه.
تعدَّدت مقدِّمات الأحداث، وإن لم يلحظها أحد.
ظلت الدكاكين تفتح أبوابها، والبضائع تنقل من الميناء وإليه، والأسواق مزدحمة، والدواوين الحكومية تضم العرب والزنوج، والناس يجلسون على المَصاطب، وتحت أشجار النارجيل، وأمام شاطئ البحر، ويُقيمون حفلات الزفاف والختان والمآتم، ويتنقلون ما بين زنجبار والمدن الأفريقية الأخرى، وصوت الأذان يترامى في مواعيد الصلوات الخمس، ونحن — الأولاد والبنات — نذهب إلى الكتاتيب والمدارس، ونلعب في الساحات وعلى الشاطئ.
استرجعَت أمي تفصيلات ما حدث، تَذكَّرت زيارات ديزي لها. جارتنا في نهاية بيت صغير يطل على الحقول خَلْف البيت. بدأَت صداقتُهما في السوق. بيع وشراء وفِصال وأخْذ ورَد ومناقشات. لبَّتْ دعوتها للزيارة. في المرة الثالثة، أَذِنَت ديزي لنفسها بالحركة في البيت. حتى السلالم ارتقتها إلى الطابق العلوي.
قالت للنظرة المتسائلة في عيني أمي: كنتُ أطمئن إلى ما سأحصل عليه بعد أن نستولي على بيوت العرب.
اتبعت كلماتها ابتسامة وُد. لم تسألها أمي إن كان ما قالته دعابة، أم أنها تعنيه بالفعل. ثم أهمَلَت الأمر — بتوالي الأيام — تمامًا. لم يكن ثمة نُذُر تشي بعاصفة، ولا واجهتها ديزي بعداء، ولا حدَث صدام بين الأفارقة والعرب. تذهب إلى عملها في المدرسة الثانوية. تعود في الأوتوبيس. تَعْبُر أحياء الأفارقة. تُبادِل من تعرفهم التحية. ربما دخلَت في مناقشات، أو قَبلَت الدعوة للزيارة، أو وجَّهَت هي الدعوة.
إذا كنتُ قد أمضيتُ طفولتي في زنجبار، فإن أمي أمضَت فيها معظم عمرها. أهم ما تعتز باقتنائه — حتى الآن — مكحلة من الفضة، كانت في ثيابها لما بدأت المذبحة. يخالط صوتها نبرة حزن، عندما تلح الذاكرة بتلك الأيام. أفطن إلى ما تعانيه، فأنقل الكلام إلى موضوعات أخرى.
توالَت — في الأسابيع التالية — أنباء قاسية. امتد الهجوم إلى القرى المحيطة بزنجبار. سَطَوا على البيوت. أخرجوا ما بها من أثاث ومُتعلِّقات شخصية، حملتها جماعات إلى بعيد، ثم قذفوا بِكُرات اللهب على البيوت. تعالَت النيران. أضاءت ليل المدينة.
كانت مذبحة دموية، قُتِل فيها ما بين عشرين إلى خمسين ألفًا.
سألت أمي: مَن الذي رفض التحرك في مكانه؟
قال أبي: الشيخ حسن خليفة، أصر أن يموت ويدفن في أرض زنجبار … لم نَعُد نعرف عنه شيئًا، وإن استعاد أبي عنه قوله: لو أن الكل فرُّوا … من يبقى في زنجبار؟!
وتلكأت الكلمات على شفتيها: انتهى كل شيء صباح الأحد ١٢ يناير. لم تَعد زنجبار عربية.
وداخل صوتها تَغيُّر: بعد أربعة أشهر … أُعْلِن قيام الوحدة بين تنجانيقا وزنجبار … أصبح اسم الدولة تنزانيا.
رَنَوتُ إليها، أبحث — بتلقائية — عن آثار المعاناة القديمة.
الشعر المهوش يحيط وجهها بِهالَة من السواد، والعينان الواسعتان، البريئتان، تطل منهما ابتسامة صافية، وإن ومَض فيهما حزن. وكانت قد استبدلَت باليونيفورم بلوزة قطنية، وبنطلونًا من الجينز، وحذاء رياضيًّا.
– أفلحنا في الهرب … ما عدا أَخوَيَّ سعيد وصالح … لحقهما — فيما يبدو — رصاص الجنود.
ثم تَنهَّدتْ: كان أول ما حرص عليه أبي أن أواصل دراستي في مسقط.
وانتزعَت ابتسامة: لو أن ذلك لم يحدث ما كنا التقينا في مطار السيب.
غالبت التردد: قرأتُ أن الثورة كانت ضد السلطان.
وهي تغمض عينيها في تأثُّر: السلطان جمشيد فَرَّ في قاربه إلى كينيا، بينما المواطنون العرب هم الذين قُتلوا وشُرِّدوا.
وتُسْلِم نفسها إلى شرود: ماذا يفعل العرب الذين بقوا في زنجبار؟
أردفتْ كالمتذكرة: حَمَل لنا من ظل في زنجبار من أهلنا، في زياراتهم إلى مسقط، ما نشرته صحف تنجانيقا عن المذبحة. كانت تنجانيقا وزنجبار قد أصبَحَتا — منذ تلك الأيام — بلدًا واحدًا. كتبَتِ الصحف عن القضاء على الاستعمار العربي في زنجبار الأفريقية. كان أبي يُعلِّق على العبارات القاسية بالقول: نحن لم نكن كذلك! ونحن لم نكن كذلك بالفعل. وُلِدتُ في زنجبار، وعِشت فيها دون أن يخطر ببالي فارق من أي نوع بين عربي وأفريقي. أحببتُها لأنها بلدي، وليس لأي معنًى آخر.
قلت: لكلٍّ منا وجهة نظره التي قد تختلف مع وجهات نظر الآخرين.
– أنا لا أُعبِّر عن وجهة نظر … وإنما عن حياة عِشتُها … طفولة وذكريات وصداقات.
ووُشِّي صوتها بالتأثر: لم نكن يهودًا طَرَدْنا أصحاب البلاد لنستوطن بدلًا منهم.
وأطرقَت لحظة، ثم رفعت رأسها: ضَمَّت زنجبار الجميع باعتبارهم أبناءها.
– وجهة نظرهم أنها بلد أفريقي، ويجب أن يظل كذلك.
– ما أذهلني أن بعض الصحف تَحدَّثت عن انتصار المسيحيين على المسلمين.
ورحلَت نظراتها إلى بعيد: ما حدث لم يكن حربًا.
ومرَّرتْ جانب يدها على رقبتها دلالة الموت: كانت مذبحة ضد كل ما هو عربي!
قالت زوينة: وأنا أسير في شوارع مسقط أشعر كأني أسير في شوارع زنجبار … حتى القعدات خارج البيوت تذكرني بالجزيرة. وقالت: حتى أبواب البيوت المتلاصقة، والنوافذ، والمَحال الصغيرة، النوم بعد العشاء، وخُلو الشوارع من السيارات والمارَّة … كلها تذكرني بالحياة في زنجبار. وقالت: حتى اختلاف الأديان والجنسيات الذي نراه هنا … أهل مسقط وأبناء الداخل والظفاريين واللواتيا والبلوش والهنود والباكستانيين والعرب … ذلك كله ظل مظهر الحياة في زنجبار. وتنهَّدت: حتى حدث ما حدث.
تحدَّثتْ عن زنجبار: الأسواق، والمساجد، وصخور المرجان، والشواطئ الطويلة، والرمال البيضاء، وأشجار جوز الهند، والثوم، والنسق العربي في العمارة، والميناء المطل على المحيط يستقبل كل أنواع السفن. وتحدَّثت عن رائحة القرنفل، والفوانيس الصغيرة في رمضان، وأشجار جوز الهند، وشجر المانجو، والأناناس، والموز، والبرتقال.
قالت: يختلف جو زنجبار عن جو مسقط في أنه معتدل مُعظم السنة.
ولانت ملامح وجهها: يرطب مناخها الهواء القادم من المحيط.
أُخمِّن من كلامها أنها تنقل عن آخَرِين، ربما أبوها أو أمها، وإن تحدَّثَت عن ذلك كأنها هي التي شاهدَت.
قالت: قد لا تعرف أن سعيد بن أحمد، سلطان مسقط، قرَّر في ١٨٣٢م أن يجعل زنجبار عاصمة للبلاد بدلًا من مسقط … أصبحَت عاصمة لمملكة عُمان وأفريقية الشرقية، وانتقل إليها المئات من أبناء عُمان.
ثم وهي تَعُد على أصابعها: موقعها ومَواردها الطبيعية وميناؤها الممتاز … ذلك كله رشَّحها لأن تكون العاصمة.
– لكن زنجبار تظل بلدًا أفريقيًّا.
قالت في نبرة تصديق: لا أحد يُنكِر!
قلت: مأساة الهنود الحمر والأوروبيين.
وهي تهز إصبعها: تشبيه خاطئ. لم يُواجِه الأفارقة في زنجبار شُبهة إبادة، وعاشوا مع العُمانيين في سلام.
– لكن زنجبار تظل وطَنهم.
– وهي وطني أيضًا!
واكتسَبَ صوتها نبرة شَجن واضحة: تُؤلمني الوسيلة القاسية التي خَرجْنا بها. لم يكن قد سبق ذلك اعتراض ولا تَمرُّد ولا ثورة (وأشارت إلى ما حولها) مع أن العُمانيين — كما ترى — بلا حول ولا قوة.
قلتُ وأنا أرنو إليها بنظرة تتأمَّل رَدَّ الفعل: قبلت صراحتي … ما حدث كان ينبغي أن يتوقعه العُمانيون، وإن جاء الأسلوب قاسيًا.
أردفتُ في ابتسامة متكلَّفة: الاستعمار يغلق دكاكينه في العالَم كله. بديهي أن يغلق دكان زنجبار أبوابه.
– دخل العُمانيون زنجبار بالإسلام والنرجيل. لم يدخلوا بالسلاح.
– تختلف التسميات … لكن الاستعمار يظل استعمارًا.
أخليتُ وجهي للدهشة: هل تنكرين على الأفارقة حقهم في الاستقلال؟
– هذا موضوع يصعب أن أناقشه بالعقل.
استغرقها التفكير، أو الشُّرود. بدَا صوتها كالهمس، كأنها تخاطب نفسها، أو لا يعنيها إن كنت أستمع إليها: وُلِدتُ في زنجبار، وعِشتُ فيها طفولتي. كنتُ أعرفها، ولا أعرف عُمان حتى طردونا إليها. لم أكن أعددتُ نفسي للرحيل غربًا … لترك زنجبار، ولا تَصوَّرتُ نفسي بعيدة عنها.
ثم وهي تُحكِم الإيشارب على رأسها: أصارحك أني احتجتُ إلى وقت لأُقنِع نفسي بأن عُمان هي وطني أيضًا. تقاسمني — لفترة طويلة — شعوران: الحنين إلى زنجبار، والدهشة لصور حياتنا الجديدة في مسقط. أسأل وأقارن وأتذكر. ظل الشعوران يتقاسمانني، ثم حل شعور الأُلفة للمكان في البيت والعمل والصداقات.
قلتُ وأنا أحتضنها بنظرة مشفقة: المثل يقول: وطنك حيث قلبُك. أرى أن قلبك — حتى الآن — في زنجبار.
– من المستحيل أن أنسى زنجبار. وبعيدًا عن السياسة فهي وطني الذي أحبه.
– وعُمان؟
– زنجبار هي الوطن … أما عُمان فإن الوطن الأم هي التسمية التي أفضلها.
أردفَتْ كأنها توضح: عُمان هي وطني أيضًا … ليستْ بلدًا مختلفًا، وأعرف أن جذوري فيها.
فاجأتها بالسؤال: هل انقطعَت صلتكم بزنجبار؟
– لنا أقارب هناك … يأتون للزيارة.
– جنسيتهم عُمانية؟!
– لم يُفيدوا من المهلة التي حدَّدتْها الدولة للمجيء إلى الوطن والحصول على الجنسية.
أردفَتْ لتساؤل ملامحي: حدَّدَت الدولة موعدًا بعد ١٩٧٠م ليستعيد أبناء زنجبار ذوو الأصل العُماني جنسيتهم … أهملوا الأمر حتى فاتت الفرصة!
قلتُ: أتمنَّى لو تستضيفينني في بيتك.
قالت: أنا ضد الكثير من التقاليد … لكن أهلي مع كل التقاليد!
١٢
الخط كوفي جميل. مَكتب الإعلام
مضى على عملي في مسقط أكثر من عامين … لماذا تذكرتني هذه الدعوة؟
المكتب في داخل البنايات ذات الطابقين المُلحقة بالقصر. بدَا القصر في نهاية الساحة الرخامية الواسعة، بألوانه الزاهية، وأعمدته الرخامية، والنافورات، والحدائق، والنوافذ الزجاجية العالية.
أعددتُ نفسي لأسئلة، ومُراجعة أوراق، وتفتيش، لكن الطريق امتد خاليًا. الأرضية من البلاط السيراميك، والأبواب مُغلقة، أو مُنفَرجة، والصمت يعمقه هدير المُكيِّفات.
سألتُ الحارس أمام الباب الخشبي المُزيَّن بنقوش إسلامية: أين مكتب الإعلام؟
•••
المكتب أشبه بقاعة مستطيلة. على الجدار، قُبالة الباب، صورة للسلطان بِزِيِّه العسكري يركب جوادًا. ولصق جدرانها مكتبات خشبية، غُطِّيت واجهاتها — من الداخل — بستائر بيضاء. واسم سليم الغافري على حافة المكتب الضخم الخالي من أية أوراق.
وقف الرجل في مَودَّة ظاهرة. سلَّم بيد، وأشار إلى الكرسي باليد الأخرى.
تشاغلتُ — لمغالبة الحرج — بإعادة تأمُّل المكان. لاحظتُ أنه استغنى عن المكيف بفتح النافذة المُطلَّة على الخليج.
– أهلًا وسهلًا … نَوَّرتَ مسقط …
هل هي مجرَّد كلمات للمجامَلة، أو أنه عرف — متأخرًا — بوجودي في السلطنة؟
كان في حوالي السبعين. نحافته المُسرفة تداري ضآلة تكوينه الجسدي. تُعاني بشرته أثر جدري قديم. يرتدي نظارة شمسية، خمَّنتُ أنها تداري مرضًا في العينين، بدت الصبغة واضحة في رأسه وحاجبيه وشاربه الأقرب إلى خط بعرض السنتيمتر.
– أتابع نشاطك في الجريدة … جميل.
يعرف إذن بإقامتي الطويلة.
– العمل في الجريدة يأخذ كل وقتي.
واتجهتُ إليه بنظرة ود: لكنني سعدتُ بالدعوة الكريمة.
قال: أنا أدين للثقافة المصرية بالكثير مما تعلَّمتُه … لا أنسى تَرقُّبي لوصول السفن إلى صلالة حتى أحصل على الأعداد المتأخِّرة من الرسالة والثقافة.
ثم وهو يمسح شاربه بإصبعه: هاتان المجلتان هما الزاد الحقيقي لمثقفي أيامنا.
بدتْ آراؤه مقنعة في عمومها: أنتَ تلتقي بالتاريخ والتراث في مسقط، وسمائل، ونزوى، وبهلا، وكل المدن العُمانية، إلى نزوى أو إلى صحار. حتى الجبال الصخرية تبين عن روح التاريخ، عن تواصل الزمان والمكان. من السهل تَبيُّن أن المجتمع العُماني كان — منذ القديم — ذا طبيعة عسكرية واضحة. القلاع والحصون التي تطالعك أينما سِرتَ. الخنجر الذي يُعَد جزءًا من الزِّي العُماني. المعارك المتواصلة بين العُمانيين والغزاة، وأتباع المذهب الإباضي وأتباع المذاهب الأخرى، والقبائل العُمانية وقبائل منطقة الخليج، والقبائل العُمانية بعضها ضد البعض … وأخيرًا قوات السُّلطان المسلَّحة ومتمرِّدي ظفار.
– انتهت؟
– طبعًا … كان في ضيافتي ليلة أمس ثلاثة من قادة «الجبهة» … استسلم الجميع، ولم يَعُد في ظفار قلاقل، أو توترات، ولا معارك كبيرة، أو صغيرة.
قلت: قال السلطان في حديث مع الصحفي عبد العظيم مناف: إن عُمان كانت هي الخليج، وستعود كما كانت.
واتَّجهتُ إليه بنظرة متسائلة: هل تنوي السلطنة استعادة ما ترى أنه جزء من أراضيها؟
وتعمَّدتُ التلكؤ في النطق: هل نتوقع حربًا ذات يوم بين عُمان وجاراتها؟
ارتبَك للسؤال. بدَا أنه يبحث عن إجابة لا تدينه. قال بعد تردُّد: لماذا العمل السياسي إذن إن جعلنا القوة هي السبيل الوحيد لاسترداد حقنا؟
تأمل الإجابة. بدَا أنها أعجبَتْه.
سألتُ: هل تُعِد السَّلطنة لضم إمارات الساحل؟
أعجزه الارتباك عن الإجابة تمامًا. قال: لم تكن إمارات الخليج وحْدَها جزءًا من عُمان … هناك زنجبار.
هل الملاحَظة عفوية، أو أنه يعرف — في مجتمع الأعين المراقبة والآذان المتنصتة — بحكايتي مع زوينة؟
نقلتْ ملاحظتُه ارتباكه إليَّ. قلتُ: كانت عُمان إمبراطورية.
أمَّن بهزة من رأسه: هذا صحيح.
وقال: لعلك لا تعرف أن زنجبار كلمة عربية مَحرَّفة أصلها بر الزنج. وقال: كانت زنجبار مجرَّد جزيرة فقيرة … ثم عمَّرها العُمانيون. وقال: ظلَّت زنجبار على ازدهارها، حتى دخلها الاستعمار الألماني فالإنجليزي، فتبدَّلتِ الأحوال.
طال حديثه، فَشرَد ذهني. اختلطَتِ الصور وتشابكتْ بين القاهرة ومسقط وزنجبار التي لم أشاهدها. اكتشاف العُمانيين لأواسط أفريقية. وصولهم إلى حوض نهر الكونغو والبحيرات والجبال المغطاة بالثلوج والغابات الممتلئة بالوحوش الضارية والتماسيح والحشرات. لم تصبح هي الجزيرة الخصبة، الجميلة، إلا بعد أن نزح عنها البرتغاليون في القرن الثامن عشر، وقدم العرب بالقرنفل والزنجبيل والبنايات الحديثة. لم يكن العرب طارئين على أفريقية. توالت هجراتهم إلى بلاد القارة منذ آلاف السنين. نقلوا الإسلام، واندمجوا في أهلها. وجاء يوم كان إذا ضرب فيه السلطان طبوله في زنجبار رقصت على إيقاعها كل غابات أفريقية. ظل العلم العربي يخفق — بمفرده — فوق بنايات زنجبار، ثم ارتفع العلم الإنجليزي — إلى جانبه — للمرة الأولى في ١٨٤٣م. تداخلت البذلة، والدِّشداشة، والوزار، وأحاديث زوينة عن تشابُه الملامح، وهزة رأس السائق الهندي كالبندول وهمسه المُؤدَّب: سير، ومرافَقة خميس المناعي للإنجليز المسافرين إلى بلادهم.
قال: عَمَّر العرب زنجبار بالقرنفل والنارجيل. وقال: لم تكن الجزيرة تعرفهما قبل دخول العرب. وقال: لولا زراعة العرب للقرنفل والنارجيل ما كانت زنجبار التي أطمَعَت فيها الآخَرِين. وقال: المكانة التي احتلتها زنجبار بواسطة العُمانيين هي التي نَبَّهت المطامع الأوروبية إليها. وقال: لم يكن البر الأفريقي بالنسبة للأوروبيين سوى أرض مجهولة حتى دخلها العُمانيون. وقال: كانت ستظل جزيرة فقيرة. وقال: حتى الأكواخ التي كانت تُشكِّل المظهر المدني للجزيرة استبدل بها العرب البيوت والقصور. وقال: لم يكن في الجزيرة بنايات حقيقية، فملأها العُمانيون بالقصور. وقال: حتى المطبعة خَلتْ منها السلطنة إلى أيام قابوس، بينما كان في زنجبار مطبعة حديثة.
استعدتُ قراءات دفعتَنِي إليها العلاقة الجديدة: لم يكن الزنجبيل والقرنفل وحدهما سبب الرَّخاء الذي حقَّقه العرب في زنجبار. هناك بيع الرقيق.
– تحرير الرقيق دعوة حق أريد بها باطل.
وقال: لم تَكن حملات تحرير الرقيق إلا وسيلة لفرض الاستعمار الأوروبي. وقال: إلغاء الرقيق كان يعني القضاء على القوى العاملة في الزراعة، والقضاء على الثروة الزراعية بالتالي. كان إلغاء الرقيق إلغاء للرخاء في زنجبار. وقال: حرَّرت القوانين العبيد من السُّخرة، وأطلقَت لهم حرية السَّرقة والنَّهب. وقال: أنهيتَ مشكلة، وظهرَت مشكلة أخرى.
واتجه إليَّ بالسؤال: هل يُحرِّم الإسلام الرقيق؟
قلتُ للتخلص من ارتباكي: لا أعرف!
– الإسلام لم يُحرِّم الرقيق. وكان الرقيق لصالح الاقتصاد في زنجبار … فلصالح من إلغاؤه؟
– لصالح الرقيق أنفسهم.
– كان الخير يَعُم الجميع.
واتتني جرأة: لا شيء يُبرِّر العبودية … انتهى الرقيق في العالم كله.
– ليس بالطفرة. حرَّرُوا الرقيق قبل أن يستبدلوا به الآلة التي تُغني عنه.
وعلا صوته: لو أن العُمانيين أُتيحَت لهم الآلة ما أبقوا على الرقيق.
– ربما لذلك جاء تأييد عبد الناصر لتولِّي الأفارقة السُّلطة.
كأني ضغطتُ على زر. اعتدل في جلسته، ثم لم يَعد هو. كأنه يُكلِّم نفسه، أو لا يعنيه إن كنت أستمع إليه. تَكلَّم بلا توقُّف. بدَا أن الأفكار تتزاحم في ذهنه، والكلمات تتقاطع. سرى التوتر بالحُمرة في وجهه، ونفر شريان في عنقه.
– أن يطردنا الأفارقة، فذلك تَصرُّف ينطوي على وجهة نظر، نقبلها أو نرفضها. أما أن يوافق جمال عبد الناصر على المذبحة، فذلك ما يصعب تصديقه. هل نسي في انشغاله بتحرُّر أفريقيا ما واجهَه عرب زنجبار من مذابح مؤلمة؟ الزعامة مسئولية. مصيبة الزعيم عندما ينسى مسئوليته. ينشغل بالواجهة، ويسقط التفاصيل. ماذا تعني الخيانة؟ عبد الناصر رفع شعار وحدة الأرض العربية، وهو الذي مزَّق الأرض العربية. تحدَّث عن الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، فحَدَث التمزق من المحيط إلى الخليج: فلسطين، وسيناء، وجنوب لبنان، والجولان، وزنجبار. كانت زنجبار أرضًا عربية، أو يحكمها العرب. هل أذكرك بحرصه على أن يكون رئيسًا لمصر وحْدَها، بدلًا من محمد نجيب الذي قَبِل السودانيون رئاسته لمصر والسودان؟ جعل أبواقُه هزيمة ١٩٥٦م انتصارًا في وسائل الإعلام. تَجاهلوا آلاف القتلى من الجنود المصريين، والإذن لسفن إسرائيل بعبور مضيق تِيران. تكرَّرت الهزيمة — بصورة أقسى — في ١٩٦٧م دعا الأمريكان إلى الارتواء من البحر الأحمر، فاضطر جنوده — في انسحابهم المتخبط — إلى شرب البول. هل أُذكِّرك بالوحدة الأمل بين سوريا ومصر؟ … ترك مسئولية سوريا إلى صديقه الذي لا يعرف إلا النساء والحشيش وكرة القدم، فعجل بالانفصال!
وقال: خرج الإنجليز من زنجبار في ديسمبر ١٩٦٣م، ثم حدثت المذبحة. ألا يذكرك ذلك بخروج الإنجليز من فلسطين بعد انتهاء الانتداب؟
هززتُ رأسي بغير معنًى محدَّد.
قال الرجل: رحلوا لحساب اليهود.
وتبدَّلت نبرة صوته: ذلك ما فعله الإنجليز في زنجبار. انسحبوا من الجزيرة في ديسمبر، ثم قام الزنوج بالمذبحة بعد خمسة أسابيع!
وهز قبضة يده: زنجبار أندلس صغرى … مُسلِمو زنجبار ظلُّوا على دينهم. أما مُسلِمو الأندلس فقد تَلاشَوا بمحاكم التفتيش!
هل يمكن أن نضيف زنجبار — كما قال الشيخ — إلى الأندلس وفلسطين؟ هل يمكن أن نضيفها إلى سَبتة، ومليلة، والإسكندرونة؟ هل نضيفها إلى الأجزاء العربية التي تَساقطت في تآكل الجسد؟
١٣
– ناصر التميمي.
أضاف الشيخ حمود النبهاني وهو يشير إلى الشاب النحيل بالجلوس على الكرسي المُواجه له أمام المكتب: ناصر ولد ذكي … أثق — إن أحسنتَ تدريبه — أنه سيصبح أول صحفي عُماني!
في حوالي الخامسة والعشرين. قامة طويلة، رشيقة. وعينان تَنُمَّان عن طِيبة. له ابتسامة حيية. يرتدي دِشداشة أقرب إلى الرمادي، وعلى رأسه كمة مُطرَّزة بنقوش.
لم أكن أملك وقتًا للتعليم ولا للمُتابَعة. قررتُ أن أترك له الفَهْم والسؤال في أثناء خطوات الإعداد لصدور الجريدة. أُفكِّر بصوت عالٍ، وأترك له تقليد ما أفعل. يعيده مرة واثنتين حتى يتقنه.
كلَّمني — وهو يتابع ما أفعله — عن بلدته «قريات»، وأُسرته، ووقوفه مع أبيه في «ميني ماركت» — هذه هي التسمية التي قالها — بالقرب من البيت. أظهر تفهمًا وميلًا للتعاون، فذَوَت الصورة التي تَكوَّنت من تصرفات الآخَرِين ومعاملاتهم. بدَا مبتسمًا، وودودًا، وميالًا للتعلم.
•••
حين تناهت الدقات الخافتة، سبقني إلى فتح الباب.
لم أعرف كيف قدَّمَت زوينة نفسها إليه، ولا كيف قدَّم نفسه، لكنها قضَت على مخاوفي ببساطتها العفوية. توالَت أسئلتها، وتحدَّث ناصر عن تَخرُّجه في معهد المُعلِّمين بالوطية، وأبويه، وأسرته المؤلَّفة من ولد وبنتين. لم أكن عنيت بسؤاله، فأضافَت إلى ملامح صورته ألوانًا وعمقًا.
أدركَتْ أن وقت ما بعد الظهر هو الذي تَجدُني فيه بمفردي. تُعيد ترتيبَ حجرة المكتب، وتُعِد الشاي، أو الطعام، في المطبخ، ولا تنعى هَم قدوم أحد بعد مواعيد الدوام.
لم أعد أفكر إن كانت مشاعري نحوها حبًّا، أو أنها تقف عند حد الصداقة.
•••
تأملتُ تعبير بهجت حسان: مسقط عبارة عن مجموعة من الأحياء المتناثِرة، تفصل بينها التلال والروابي. مسقط، أقرب — بشوارعها الترابية، وبيوتها الأفقية التصميم، والشمس اللاهبة — إلى الوادي الجديد، وسيوة، وسيناء. مدينة تنتمي إلى البداوة والصحراء، فيما عدا العمارات القليلة المتناثرة في رويْ والقرم.
تَغيَّرت صورة مسقط في عيني. لم تَعُد موحشة، أعاني فيها الوحدة والملل. أصبحَت مكانًا جديدًا لم أتعرف إليه من قبل. كانت تمضي أيامًا طويلة في المطار. تطرق الباب بما أَلِفته في أوقات متباعدة. نتكلم ونحن واقفان على الباب الخارجي، أو نَتواعد على لقاء في فندق مسقط إنتر كونتيننتال، أو فندق رويْ، أو فندق الخليج. تَتردَّد عليها بحُكم عملها في العلاقات العامة بطيران الخليج. أنتظرها في الموعد الذي تُحدِّده. تجلس أمامي، هذه السمراء الجميلة، النقية، كقطرة الندى. تفصل بيننا الطاولة الصغيرة، وناصر يتشاغل بتأمُّل ما حوله، أو يشارك بكلمات قليلة، أو يُعقِّب بسؤال. أُدرِك معنى التفاتها إلى الداخلين من الباب الزجاجي. أحرص، فلا أُبدي ملاحَظة. لا تعلو كلماتنا عن الهمس بما يَتَّفق مع هدوء الكافيتريا. يفرض اقتحام نظرات الفضول أو غيابها طول الجلسة وقصرها. يداخلني ما لم أشعر به من قبل. يجف حلقي، يتفصَّد العَرق على جبهتي. تتلعثم الكلمات، وتضيع المعاني. ربما طالت أحاديثنا. شرَّقت وغرَّبت. امتدت إلى ظروف عملها وظروف عملي. ربما اكتفينا بكلمات اجترار الود، وانصرفنا. وكنتُ أفكر — في حضور الجالس بيننا، والمتناثرين على الموائد — أن أضمها إلى صدري، وأسلم نفسي لتصورات، لكنني أكتم مشاعري. وكانت النشوة تغمرني إذا لامستني — على أي نحو — في حركتها بجانبي. مجرد أن يمس بنطلونها ذراعي، أو تصطدم قدمها بقدمي. أي شيء.
•••
كانت المرة الأولى التي أترك فيها الحمرية ورويْ والولجة ومطرح.
جلس ناصر إلى جانبي في السيارة، وجلسَت زوينة وأخوها الصغير في المقعد الخلفي.
لم تكن تصحبني إلى أي مكان دون أن يرافقها أخوها الصغير. كنتُ أُحرِّض ناصر على أن يصحبني لألتقي بها، وليرافقنا في الأماكن التي تخشى — نخشى — أن يرانا فيها أحد. يغلب عليها التوتر — وربما الخوف — من أن يراها أحد معي. لزنجبار تقاليدها أيضًا. العُمانيون هم العُمانيون، هناك وهنا. عُزلة البيتين في حضن الجبل تمنع نظرات الفضول والمساءلة. كان ناصر يعتذر في البداية. ثم يرضخ لإصراري. وكان يسهِّل علينا الأمر أننا لم نكن نفعل ما يفعله المحبون. في بالي، حرصها على أن تظل العلاقة بين صديقين، لا تجاوزها. ثمة حواجز غير مرئية نشأت بيني وبينها، أتبيَّنها دون أن أراها.
يهمني ألا أفقدها ثانية. وكنتُ أنفض رأسي، ربما تغيب صورتها. لكن الصورة تظل في موضعها من الذهن. ليست ثابتة، ليست مجرَّد وجه وعينين وأنف وشفتين. تَتبدَّل فيَّ حركات وتصرفات وإيماءات، من لقاءاتنا في المكتب، في السيارة، في الشوارع، في الفنادق. تختلط الصور وتتشابك، فلا يبقى إلا صورة زوينة وحدها، واضحة الملامح والقسمات.
كانت ترتدي قميصًا ينسدل إلى الركبتين، وسروالًا فضفاضًا طويلًا، يضيق عند الكاحلين، وتلف شعرها بعصابة من الحرير.
لاحظَتْ نظرتي: لو أني ظللت في زنجبار، ربما كنتُ أرتدي الشراع.
– الشراع؟
– ثوب واسع.
واتسعَت ابتسامتها: فري سايز كما يقال.
الطريق إلى نزوى شق طويل — في معظمه — بين الصخور وسلاسل الجبال الصغيرة، المتلاحقة، وإن تَكشَّف الساحل كالومضات السريعة على يمين الطريق. والجبل الأخضر — في البعد — تكسوه الثلوج، تضوي بألَق الشمس.
قال لي سليم الغافري: سُمِّيت نزوى على اسم جبل مرتفع، أو نِسْبة لمورد ماء كان تحت قلعتها الهائلة … سميت كذلك بيضة الإسلام.
تَركْنا السيارة في السوق الرئيسية. أخلينا لأقدامنا السير في الشوارع والأسواق والتطلع إلى البنايات، والدكاكين، والأسواق، والقلاع، والحصون، والجامع الكبير. قال ناصر: إنه لا يزال مَقرًّا لدراسة الفقه والعلوم، وجامع سَعَال، ومسجد الشواذنة، ومسجد الشرجة، ومسجد العين، وحصن تنوف، وحصن الرويدة، ومحالُّ صُنع الحلوى العُمانية والمشغولات الذهبية والفضية. وثمة أجانب ثلاثة — خمَّنتُ أنهم من الإنجليز — في أيديهم خرائط، يُحدِّدون من خلالها المواقع التي يقفون فيها، أو التي يتجهون لرؤيتها.
قلعة نزوى
برج دائري كبير، قديم، لونه أقرب إلى الصفرة، به فتحات للمدفعية. تهدَّمتْ بعض الجدران، أو تطايرت الحواف، وامتلأت الجدران الأقرب إلى الصفرة بعشرات الثقوب من طلقات البنادق أو المدافع الرشاشة. الباب الضخم مُطعَّم بالصدف، والأرض تغطَّت بقطع الحجارة، والجدران المتطايرة من القصف، والرمال. الفتحات في أعلى، تطل على الساحة المقابلة والبنايات وأشجار النخيل والجبال الممتدة إلى مدى الأفق.
حصن جبرين
ثلاثة طوابق مبنية بالجص والصخور. السور من حولها يمتد طويلًا، يطل على ما حوله ببوابات وفتحات للمراقبة وأبراج. ذات مدخل مقوس، والباب الخشبي الكبير مزين بنقوش تقليدية، نوافذها مربعة، مشبكة، ذات عماد حجري. تطل على ساحة القلعة الداخلية. الأسقف الخشبية مزدانة بالزخرفة، والجدران منقوشة بآيات القرآن وأبيات الشعر والزخارف الفنية وأعمال الجص النافرة، ويبدو من الكوات والتجاويف ضوء النهار ومَشاهد الجبل الأخضر وراء القلعة، وأُفق تَلتقي فيه الخضرة والصفرة.
قال ناصر: شَيَّده الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف اليعربي لحماية منطقة وادي قريات.
ثم وهو يشير بيده: في الداخل … يوجد ضريح الإمام بلعرب.
صعدنا إلى ما سَمَّته زوينة مجلس الإمام الخاص في أعلى القلعة: حجرة واسعة، يَتردَّد فيها الهواء. ذات سقف مَطلي بألوان واضحة، وتطل على المشهد الممتد من السهول حتى مرتفعات الجبل الأخضر.
كان ناصر يقرأ على جدار مبنًى قديم في السوق الكبيرة منشورًا من الوالي، يُحذِّر فيه المواطنين من عدم أداء صلاة الجمعة، وأن ذلك مُخالِف لتعاليم الدين وأوامر السلطان، ويُشدِّد على وجوب التزام الجميع بالسعي إلى الجامع الكبير في موعد صلاة الجمعة.
فاجأتني زوينة بالقول: أنتَ لم تحدثني عن نفسك … عملك في القاهرة وأسرتك.
أضافت بإيماءة من رأسها: وغير ذلك.
– أعمل — كما تعلمين — صحفيًّا … وأبي على المعاش … لكنه ينتمي في أفكاره إلى الجيل القديم … وأمي أكثر من طَيِّبة … ولي أخوان … ولدان، وطفلة.
– هل عملك في القاهرة مماثل لعملك هنا.
– أنا صحفي … كما قلتُ لكِ.
– أقصد … هل تُعِد الجريدة بمفردك؟
– طبعًا لا … الجريدة هناك مجهود آلاف الصحفيين والإداريين والفنيين، بالإضافة إلى المَطابع والإعلانات والتوزيع.
ودفعتُ في فمي برشفة أخيرة من فنجان القهوة: شيء مختلف تمامًا.
واتجهتُ إليها بنظرة تطلب تصديقها: لكنني استفدتُ من تجربة المُحرِّر الواحد.
لاحظتُ انشغال ناصر بقراءة بيان من الوالي عُلِّق على جدار البناية المجاورة للقلعة. قالت: وقلبك … ما أحواله؟
– ثَبتتْ سلامته عندما أجريتُ الكشف الطبي عليه قبل تعييني في الجريدة.
ابتسمَتْ: أعني أحواله العاطفية.
توقعت أن تهمس لي بالبراءة التي اعتدتها: أُحبك.
– خطيبتي — قلتُ لك — اسمها مها.
هممتُ بإعلان ما في نفسي. ثم تَصورتُ ما بعد المصارحة، فابتلعتُ الكلمات.
قالت: متى تتزوجان؟
– قولي … متى تفترقان؟
أظهرَت الفزع: لماذا؟
– تريد أن تكتفي بَجني الثمار.
أردفتُ للدهشة المتسائلة: تُفضِّل أن تنتظر في القاهرة حتى أكوِّن نفسي على حد تعبير أمها … ثم نتزوج.
– هل عرضتَ عليها المجيء معك؟
– أمها رفضتْ مُجرَّد الفكرة … وصوتها من صوت أمها.
تكلمتُ
رويت حتى ما لم أكن أتصور أني أبوح به. ما كنتُ أعتبره سِرِّي الخاص، فلا يعرفه الآخرون. وتناثَرت أسماء القاهرة، ومها، والجريدة، وأم مها، وأيمن، وشارع الفجَّالة، وميدان الدقي، ورئيس التحرير.
أتوقع — ويضايقني — أن الأسئلة التي أتَّجِه بها إليها، تَردُّ عنها أمها. تتململ في جلستها على الكنبة، أوسط الصالة، وتُجيب. تحمل الإجابة تلميحات وتَلْميزات وشروطًا لا معنى لها … لكن الصَّمت السادر، واكتفاء مها بأن تحني الرأس، فلا تتكلم، يدفعني إلى مخاطبتها، وتوقُّع الرَّد من الأم المتربعة على الكنبة.
قالت زوينة: كما فهمتُ … أحوالك المادية مُستقِرَّة.
– استقرار لا يشي بتطوُّر.
وتنهدت: لهذا سافرت.
قالت في تخابُث طفولي: هل خطبتَ فتاتك قبل أن تعد نفسك للسفر.
– بدَا أن إتمام الزواج غائب … فبدأت البحث في إمكانية السَّفر.
– مشكلة!
أمنت على قولها: مشكلة!
•••
تنبهت إلى الأوراق المطوية على الطاولة أمام المكتب، تناثرَتْ فيها أسماء أشخاص وأماكن وأحداث، وكلمات واضحة وناقصة ومطموسة.
حين سأل عبد العال عنها، بدَا عليه تَيقُّن أني قرأت ما بها. كنتُ قد طالعتها بالفعل، تصفحتها، لكن المعاني ظلت غائبة.
قال وهو يعيد طيَّ الأوراق في يده: أنت تدفع عمرك ثمنًا لمن لا يستحقونه!
أضاف للدهشة المتسائلة في عيني: إنها أم لطفلين … وأتصور نفسي زوجًا لا بأس به … لكن الخيانة في دمها.
وتلون صوته بحزن: كنت أضع كل ما أحصل عليه هنا، في يديها … ثم اكتشفتُ أني كنتُ أعطي النقود بواسطتها لشخص ثالث.
فاجأتني الكلمات. أَنِس لي إلى حدِّ مكاشفتِي بأسرار عمله: المدرسة والتلاميذ ومُفتِّشي الوزارة … لكنني لم أتصور أنه يفتح بابًا نسيتُ حتى أنه موجود.
قلت في ارتباك، ربما لأهون عليه: ربما الأمر مجرَّد شك.
– المثل يقول إن الزوج آخر من يعلم … وهذا صحيح.
أضاف بلهجة واشية بالألم: الجزَّار أسفل البيت صارحني في بساطة، أنه تَصوَّر أني راضٍ عمَّا يحدث.
وعلا صوته: تصوَّر الرجل أني أداري على المرأة خيانتها.
استعدتُ الأمر من بداياته: الكلمات المتشائمة، والمشكلات التي بلا حل، والحديث في الموت، وكُره الحياة، وتوقُّع النهاية، وتَمنِّيها.
قال: حكيتُ لك؛ لأنك صديقي الوحيد هنا.
وانتزع ابتسامة فاترة: الصداقة هنا غير متاحة حتى بين الرجل والرجل.
وتَهدَّج صوته بالانفعال: الناس هنا أصدقاء بالمُصادَفة … الظروف الطارئة هي التي فرضت صداقتهم.
ورحلت نظراته إلى بعيد: حين يَعودون إلى بلادهم ينسون حتى مسقط نفسها.
وأنا أهز رأسي: إلا هذا … مسقط مدينة لا تُنسى!
١٤
لم يَعُد السائق الهندي يأتي إلى البيت ليُقِلَّني بسيارته. استغنيتُ بركوب سيارة ناصر. يقلني إلى المكان الذي أريد الذهاب إليه. صارت هي التي تقترح أن نذهب في جولات داخل مسقط، أو خارجها. تصحب سيفًا أخاها الصغير، يجلس بجوارها في المقعد الخلفي، وأجلس إلى جانب ناصر الذي يقود السيارة. تَشي كلماتها — وتصرفاتها — بأنها لا تريد للعلاقة أن تنتقل إلى أكثر من الصداقة. نخرج إلى أحياء مسقط، وإلى المدن القريبة. نجلس في قاعات الفنادق، نتكلم، نُشرِّق ونُغرِّب. أشعر أني أفيض بالعاطفة. تحتويني اللحظة بما تمليه من الهمس والتصرفات المحسوبة.
تعدَّدت جولاتنا. اتَّصلت أيام الزيارات، والتأمُّل، والسؤال، والتعرف إلى ما لم أكن شاهدتُه من قبلُ.
بدت زوينة مرشدًا جميلًا، تعرف الكثير، وما لا تعرفُه تسأل — في بساطة — واحدًا من المارة، أو الواقفين.
التاريخ شديد الحضور. تلتقي به في كل مكان؛ ثَمَّة القلاع والحصون والأبراج المبثوثة أعلى قمم الجبال، في امتداد ساحل خليج عُمان، أو في مدن الخليج، على هيئة دائرة أو مربع، فوهاتها تَتَّجه إلى البحر، أو إلى الصحراء. لا تخلو منها مدينة، ولا قرية، ولا انحناءة طريق. وثمة الشوارع الضيقة، والبيوت ذات الطابع المتميز، والأزياء، والخناجر المُدلَّاة، والروائح العطرية، والبخور.
سوق الظلام بمطرح، أشبه بالقيساريات في القاهرة القديمة. بعض حاراته تكاد تكفي لعبور ثلاثة أشخاص، ومعظم دكاكينه مرتفعة عن الأرض، تعلوها أسقف بامتداد الشارع، تغطي المكان بكامله، والمصاطب فُرِشت بالسجاد أو الحُصْر، وتَكوَّمت على الجوانب — وعُلِّقت — السجاجيد والحُصْر الملونة والأنسجة، والمُعلَّبات، وباروكات الشعر، وتربَّع البائع وسط البضاعة، وتتصاعد منها روائح الهيل، والمستكة، والصندل، وزيت جوز الهند، والقرنفل، والبقول، وتتصاعد رائحة العطور. ينظر العُمانيون إلى جدواها نفس نظرتهم إلى الثياب.
قالت زوينة: المباني قديمة … لكن البضائع عصرية جدًّا … واردات من أمريكا، وإنجلترا، وفرنسا، واليابان.
تَملَّكني الخوف وأنا أُطل من نافذة السيارة على الوادي، أسفل الطريق المفضية إلى مسقط القديمة. طريق صاعدة، ضيقة، تكفي سيارتين — بالكاد — في الذهاب والعودة. محطة الكهرباء تتناثر فيها صناديق خشبية، وبكرات كابلات، وحاويات، وتحيط بها تلال حجرية ورمال وأعشاب برية، تعلوها امتدادات الجبال الصخرية ناحية اليمين. وفي مدى النظر أبراج قلعتَي الجلالي والميراني، وأُفق البحر تتوزع في مداه جُزر صخرية وسُفن.
لاحظَتْ نظرتي المرتَبِكة. همسَتْ في إشفاق: تخشى الأماكن المرتفعة؟
وأنا أتَّجِه بعيني إلى الناحية المقابلة: ربما … لكن النظر إلى هذا الوادي يشعرني بالاختناق.
سِرنا إلى جوار مقابر المثاعيب، في الطريق إلى قلعتَي الميراني والجلالي وجامع الزواوي والخليج الذي يطل عليه قصر العلم. تَل مرتَفع، تَتناثر فوقه قِطع الحجارة، تَشي بوجود موتى، وثمة أغنية مصرية تَتناهى من راديو قريب. شغلني السؤال: كيف تفطن العائلة إلى أماكن موتاها؟! … ثم أهملت الأمر حين قال ناصر: إن زيارة القبور ليست في حياة العُمانيين لأية مناسبة، ولا لأي سبب.
عَلتْ قلعة الجلالي. مبنية على صخرة هائلة، تحيط بها المياه من كل الجهات تقريبًا. ذات أبراج دائرية في أطرافها، والفتحات لاستخدام المدافع. المدخل الوحيد لها من ناحية البحر، درجات صخرية منحوتة في الصخر. أما الطريق الوحيدة التي تُؤدِّي إليها، فلا تسمح لأكثر من شخصين أو ثلاثة بصعوده معًا.
قالت: عندما كانت هذه القلعة سجنًا، فرَّ منها سجين بحبل من البطاطين. لم يجد مكانًا ينزل إليه، فانتحر!
حلَّقَت الجولات. سبَحتْ فوق قصر العلم والخليج المائي والصخور المتناثرة … طارت إلى الأفق البعيد.
ثم وهي تتأمَّل مُتابعتي لصياد تدَّلَت سمكة من طرف الخيط الذي يحمله، وعقد طرفه الآخر في إبهامه: أنا لا أذكر قلعة زنجبار جيدًا … لكن الجلالي والميراني تذكرانني بها … ربما لأن القلاع الثلاث صناعة برتغالية.
تَخيَّلت الحياة في القلعة كما كانت قبل سنوات. العشرات من الأحياء الموتى، الموتى الأحياء، يُعانون أمراضًا خطيرة من بقائهم — أعوامًا متصلة — داخل بئر عميقة، محفورة في الجبل. يُربَط السجناء بحبل ليتسنَّى إنزالهم إلى الجب، ينزل إليهم الماء وكسرات الخبز — طعامهم الوحيد — بالحبل كذلك. إذا تذكَّر السلطان السجين، أو ذكَّره به أحد. لا دفاتر، ولا سِجلَّات تَحسب مُدد الإقامة. دُلِّي حبل في البئر، ونودي على اسم السجين، يربط وسطه بالحبل، ويصعد إلى الحياة.
كنتُ أنصت — مذهولًا — إلى الشيخ النبهاني. يروي — بعفوية — عن السنتين اللتين أمضاهما في سجن الجلالي. تَعلَّم على أيدي من سبقوه مبادئ القراءة والكتابة حتى أجادها تمامًا. ألف الرؤية في الشعاع الضئيل الساقط من أعلى الحفرة، وألف سماع الكلمات، والمناقشات، والسؤال، وتلقِّي الإجابة، والتعرُّف إلى القبيلة والأسرة وظروف السجن. من دخلوا لأسباب سياسية، شغلوا الوقت بتعليم من يريد القراءة والكتابة حتى يجيدهما.
– تَعلَّمتُ على أيدي مساجين صار من أتيح لهم الحياة أعز أصدقائي.
القرم مُرتَفع جبلي، يُشرِف على البحر. تصعد إليه السيارات عَبْر شوارع ضيقة، ملتوية. البيوت من طابق واحد، مَبنية من القرميد الأحمر، الأسقف المائلة تتخللها مساحات الخضرة، الحدائق الصغيرة، والممرات الأسفلتية المتقاطعة والمتشابكة، والسحن تختلف — في عمومها — عما ألفت رؤيته في وسط المدينة.
قالت: هذا هو حي الإنجليز العاملين في البي دي أو … يحرص الإنجليز في البلاد التي يقيمون فيها أن تُطِل بيوتهم على البحر، أو تكون قريبة منه.
فاجأتني بالقول: كَلَّمتُك عن أقارب لي في زنجبار؟
هززتُ رأسي.
– غدًا أنتظر أحدهم … ربما ظل في ضيافة أسرتي أيامًا.
– هل أراك هذه الفترة؟
قلَّبت أصابعها بما يعني عدم التأكد.
– هل تطول إقامته؟
– قدَّم بتأشيرة زيارة مدتها ثلاثة أشهر.
اغتصبت ابتسامة: سأحاول أن أتحمل فراقك.
•••
قال بهجت حسان: المثل يقول: السجن سجن ولو في جنينة.
أضاف بنبرة متباطئة: أفاد العربُ زنجبار، لكن الاستعمار يظل كذلك.
قلت: حدثني صديق (بدَّلت الصفة) عن مأساة طَرْد العرب من زنجبار في عام ١٩٦٤م.
هز رأسه في عدم اقتناع: في رأيي أن العرب أوعزوا للأفارقة بطردهم.
– لا أفهم.
وهو يشب بصدره إلى الوراء: ما حدث في ١٩٦٤م كان ضد استقلال العُمانيين في زنجبار، لكنه كان لصالح استقلال الزنجباريين أنفسهم. أرفض تصديق أن أول معاهدة للرقيق في ١٨٢٣م كان بداية فقدان زنجبار لاستقلالها. ماذا يقصد بالاستعمار أصحاب هذا الرأي؟ وماذا يقصدون بالاستقلال؟
– ما يُحْسَب للسلطان قابوس أنه أفلح في منع الخلافات الطائفية والدينية … وهو ما ساعد على ضياع زنجبار … كانت تضم الفئات نفسها التي تحيا في عُمان الآن: الإباضية، والإسماعيلية، واللواتيا، والفرس، والبلوش، وعبدة النار.
وداخلَتْ صوته نبرة أسى: عندما وقعت المذبحة في زنجبار، لم يكن للسلطان من السيادة إلا العَلَم الأحمر فوق قلعة ممباسة. من لم يستطع النجاة من العرب ولم يُقْتَل، اقتاده الزنوج ليباع كرقيق. فعلوا ما كان يفعله العرب فيهم مئات الأعوام.
وهَرَش ذقنه في حيرة بطرف إصبعه: كانت البداية طيبة … ثم انتقل العرب العُمانيون بالأُبَّهة وجَمْع المال … فانتهى كل شيء.
– ما حدث في ١٩٦٤م هل كان باقتناع من الأفارقة أو بإيعاز من خارج زنجبار.
– تقصد جوليوس نيريري؟
وأدار نحوي ملامح مندهشة: لكن عبيدي كرومي هو أهم الزعماء الأفارقة في زنجبار.
وسرح في صمت، كأنه يقلب الأمر في ذهنه: هل كانت زنجبار بلاد الأندلس أم بلاد الهنود الحمر؟
قلت: إذا قبلنا التشبيه فإن الأندلس أقرب إلى المعنى؛ لأن العرب لم يلجئوا إلى إبادة العنصر الأفريقي في زنجبار.
ورنوتُ إليه بنظرة مستفهمة: أُلاحظ أن السلاطين كانوا يحكمون مسقط من زنجبار، وليس العكس.
أضفت في تأكيد: كانت زنجبار هي عاصمة الحكم.
قال: مَهما اختلفت المُسمَّيات أو الوسائل، فإن من حق كل شعب أن يحكم نفسه بنفسه.
وواجهني بنظرة متحيرة: إذا تناسَيْنا هذا الشرط فنحن نعطي الحق لليهود كي يحكموا الفلسطينيين.
قلت: جعلتَ اليهود في فلسطين أشبه بالعرب في زنجبار … وهذا غير صحيح.
– أقصد الدلالة وليس المعنى المباشر. أعرف أن العرب لم يطردوا أحدًا، ولا دَمَّروا، ولا أحرقوا. عاشوا إلى جوار الأفارقة.
ثم وهو يضغط على الكلمات: ولكن من حق الأفارقة أن يحكموا أنفسهم.
وأطرق لحظة، ثم رفع رأسه: ضع تَحرُّك السواحليين والزنوج للتَّخلُّص من العنصر العربي في زنجبار مع تحرُّك الأفارقة لتحرير كل بلاد القارة.
ولوح بسبابته: أذكِّرك بأن زنجبار لم تصبح تحت الاستعمار الإنجليزي إلا عندما رفض العرب التَّخلِّي عن تجارة الرقيق.
وأظهر التصعب: المُؤسِف أن الإنجليز أفلحوا في تشويه صورة العرب لإصرارهم على تجارة الرقيق.
ورفع عينيه في تثاقل: ما حدَث في فلسطين شَهدتْه زنجبار من قبل … باع العرب أرضهم لليهود في فلسطين … وباعوا أرضهم للهنود في زنجبار.
– أظن التشبيه خاطئ … فلسطين عربية … أما زنجبار فقد كان يستعمرها العرب.
قال: هذا صحيح … لكن مأساة زنجبار — رغم خطأ المُقارَنة — هي مأساة الخليج … بدايتها تحياها الآن دول المنطقة … تَحوَّلت أحياء العرب إلى أحياء للهنود.
وتحرَّك في مجلسه: حتى اللغة العربية لم يكن يتحدث بها إلا الشيوخ.
ثم وهو يتحسس ذقنه الحليقة: كما ترى، فإن الهنود والجاليات الآسيوية قنبلة موقوتة في الخليج، ربما أدَّى انفجارها إلى نتائج لا تخطر ببال.
وعَلَت وجهه سحابة حزن: رحم الله الأندلس والإسكندرونة وفلسطين!
وبصوت أقرب إلى الهمس: ورحم الله الخليج!
•••
قلت: لم نَلتقِ منذ فترة طويلة!
– كنتُ مع زاهر … قريبي.
استطردَتْ في ابتسامتها الطفولية: هو ابن عمي.
– أين أمضيتما الوقت؟
– أبدًا … في البيت … وزُرنا نزوى، وبهلا، وسمائل.
كنا واقفين أمام الجبل الذي ينتهي أعلاه بقلعتَي الجلالي والميراني، كأنهما نُحِتَتا فيه. مُعلَّقتان فوق الصخور، تطلان على البحر، وعلى المدينة القديمة.
تجرأت: هل تأذنين لي أن أسألك: ما مدى صِلَتك به؟
– أُصارِحك بأني وافقتُ على خطبته لي.
– لكنكِ لم تُحدِّثينني عنه من قَبلُ.
– ربما.
– مَن منكما يسافر إلى الآخر؟
– سأحاول الحصول على عقد عمل له هنا … ونستقر.
لا تَذكُره في طفولتها. استمعَتْ إلى اسمه — للمرة الأولى — حين قرأَتْ لأمها رسالة منه. يعلن اعتزامه القدوم إلى مسقط. حدَّثَتْها أمها عن خطبتهما وهما طفلان. شَكَّلت له صورة من أحاديث أمها وأبيها والقادمين من ممباسة. تَحدَّثوا عن ذكريات مُشترَكة بينها وبينه، لا تعرفها، وتضحك لها.
قلتُ: هل بدَا في الصورة التي رسمها خيالك؟
– بصراحة … لا!
أردفتَ في ابتسامتها الصافية: لكنه شابٌّ طيب!
– هل يتحدث العربية؟
– والسواحلية؟
واتجهت عيناها للتساؤل في نظرتي: لغة مزيج من العربية ولغات أفريقية قديمة.
واتسعت البسمة في وجهها: لا زلتُ أذكر بعض الكلمات السواحلية.
قلت: واضح أنك غير مُتحمِّسة لفكرة الزواج من زاهر.
قالت: هناك مَثل عُماني يقول: من يقترن بفتاة غريبة كمن يشرب من إبريق لا يعرف ما فيه … أما الذي يقترن بابنة عمه فهو كمن يشرب من إناء يرى ما فيه.
ومدَّت شفتها السفلى، دلالة عدم الفهم: إنهم يرون في زاهر ذلك الإناء الذي أرى ما فيه.
قلت: هل توافقين على هذا الرأي؟
رفعَتْ كتفيها بمعنى التهوين: رأيهم وليس رأيي … بالتحديد هذا رأي أمي!
•••
صحت في ناصر: أخطأتَ الطريق.
وهو يضع على شفتيه ابتسامة واسعة: لا … سأريك ما لا يَتكرَّر إلا كل ليلة ثلاثاء … ولا يتكرر في أي مكان آخَر.
أوقَفَ السيارة على الرصيف، في الناحية المقابلة لفندق رويْ.
كانت الساحة الترابية الواسعة قد أحيطت بدشاديش، ووزارات، وبنطلونات، وقمصان، وجلابيب. يُخْلُون الأعين لرؤية الراقصين يملئُون الساحة برقصاتهم وصيحاتهم المغنَّاة، وبالأهازيج. كانوا يَرتدون دشاديش مُلوَّنة، وتفوح منهم رائحة العطر. أَسدَلوا شعورهم المدهونة بالزيت على الأكتاف، وكحَّلوا الأعين، وصبغوا الوجنات والشفاه، وخَضَّبوا أيديهم وأقدامهم بالحناء. تعالت دقَّات الطبول، وأصوات المزامير، وإيقاعات الصنوج النحاس. وهنود وبنغاليون، اتَّخَذوا مواقع على الهضاب القريبة، أو أسفل الجبال، يتابعون — في صمت — ما يجري في الساحة الترابية.
تزايدت أعداد الداخلين في الحلقة. وقفوا صَفَّين مُتقابلَين. تراخت الأجساد، وانتصبَت، والْتوَت، وتَثنَّت، ودارَت حول نفسها، وحول بعضها. اقتربت ببطء. تَدافعتْ حتى تلامسَتْ. واجهَتِ الحناجر بأغنيات خليجية الألحان، غير مفهومة الكلمات، يصحبها تصفيق وإيقاعات. صنعوا دائرة من أجسادهم وهم يُواصلون الرقص. مالَت الرقصة إلى السرعة. دار كل واحد من الراقصين حول نفسه. سحبوا الخناجر من أغمدتها. ضربوا بها الهواء. قذفوها إلى أعلى، والتقطوها وهم يدورون حول أنفسهم. تَقاذَفوها فلا تسقط على الأرض، ولا تصيب أحدًا. أطلقوا الصيحات والصرخات، وتناغَمت أصواتهم بالشعر النبطي. سَرتْ حمَّى الغناء والرقص في أجسام الجميع. تَتلوَّى الأجساد التي لا تخلو من ليونة، وتَتثنَّى، تقترب حتى تتقابل الأعين، ثم تتباعد. تطوق الأيدي الأكتاف. تتشابك الأيدي والصدور والبطون والسيقان، تتداخل، وتتداخل الأصوات المنتشية. تدور الأجسام نصف دورة، وتعود، وتقفز إلى أعلى، تهتز في اندفاعها إلى الأمام، وفي ميلها إلى الوراء، تدور، وتندفع، وتقفز، وتهبط، وتميل، وتنحني، تبدو حيات هائلة الحجم. يَنفلتُ من الدائرة راقصان أو ثلاثة، يُؤدُّون رقصتهم في منتصف الدائرة، ويعودون، ليحل آخَرُون مكانهم، يقفزون في الهواء، ويدفعون صدورهم إلى الأمام، وظهورهم إلى الخلف، تعلو أصواتهم بأهازيج لا أَتبيَّن كلماتها. يتراقص اثنان أو ثلاثة في تَناثُر باتساع الحلقة الترابية، يرقصون، ويغنون لأنفسهم. يُشكِّلون دوائر متقارِبة، ومتباعِدة. لا يلتفتون إلى الدائرة المحيطة. حتى التعليقات التي تعلو بالسخرية لا يأبهون لها، ويواصلون الغناء والرقص. تتشابك الأيدي، وتتلامس الصدور، وتتقارب الشفاه بالهمسات والأنفاس الساخنة، وربما حمل الراقص زميله على ساعده، ودار به حتى يوقفه التعب.
علا الإيقاع، فزاد الراقصون من سرعتهم. يصفقون بالأيدي، يضربون الأرض بالأقدام، يلازمهم الإيقاع السريع، يتكلمون بالأيدي والأقدام والأرداف وغمزات الأعين. استغرقتُ في متابعة الرقصات الغريبة كأنها حلم.
كان الصمت يستغرق الحلقة المُلتفَّة حول الراقصين، أو تتعالَى التعليقات والضحكات والإشارة بالأيدي.
ضاقت الحلقة واتسعت، ضاقت واتسعت. ثم هدأت الموسيقا، وهدأت الأجسام. حل صمت سادر. ومضى الجميع إلى السيارات المتناثرة في أطراف الساحة. كل شاب ومن كان يراقصه.
قال ناصر لملامحي المتسائلة: مثل كل المجتمعات … توجد هذه الظواهر.
وأشار إلى السيارات التي أثارت الغبار في توالي اندفاعها ناحية دوار دار سيت هؤلاء دمامل في وجوهنا.
لحق عبد العال تبريره: مجتمع رجال، والنساء لم يظهرن — إلا متأخرًا — في المكاتب والأسواق والشوارع. بعد أجيال قد تستقر الصورة، تغيب اهتزازاتها، تتوضح ملامحها الصحيحة، يحقق الاختلاط ثماره المرجوة، يحقق كذلك ما لا يرجوه أحد.
اتجهتُ إليه بنظرة إشفاق: ولماذا يفعلون ذلك أمام الناس؟!
– الدمامل تظهر على البشرة وليس في داخلها.
وهو يُسلِّم منصرفًا: لا تقل لزوينة أني ذهبت بك إلى دار سيت!
أخليتُ وجهي لتساؤل.
كانت ظلمة الطريق قد ابتلعَت سيارته في انحرافها إلى اليمين، وانطلاقها.
بدَا لي من الصعب أن يَتعرَّف الوافد إلى سلوكيات الحياة اليومية، وما يجري داخل البيوت. المجتمع المفتوح أمام جاليات وافدة، كثيرة، مُغلَق على ناسه، فلا أحد يطل على ما بالداخل.
كانت تفصلني عن الجميع مسافة كبيرة، وأشعر بالغربة، كأني نقطة زيت ترفض الذوبان في الماء.
أنا — في هذه المدينة — مُجرَّد مصادفة، عابر طريق، يمضي لشأنه. أشياؤه في الحقائب، وليس على أرفف الدواليب، ولا في أدراج المكاتب.
١٥
رأيتهما في دوَّار دار سيت. أبطأتْ سيارتها للسيارات القادمة من يسار الدوَّار. كانت تقود، وجلس إلى جوارها. كلَّمتْني عن زاهر، لكنها لم تُقدِّمني إليه، ولا دَعتْ أحدنا للقاء الآخر.
حَدَجته بنظرة متأمِّلة: في حوالي الثلاثين، تشي جلسته بطول قامته. شعره منكوش، وبشرته سمراء، ووجهه ساكن الملامح. يرتدي بلوزة قطنية، وبنطلونًا من الجينز، وألقى بالحقيبة الجلدية الصغيرة إلى جانبه.
لمحتُ ناصر يتابع حركة المصعد الزجاجي، في صعوده وسط بهو فندق مسقط «كونتيننتال» الواسع إلى الطوابق العليا.
– رأيتكما هذا الصباح.
أردفتُ للتساؤل في عينيها: أنتِ وزاهر.
– أين؟
– في دوَّار دار سيت.
– آه … كنا عائِدَين من إدارة الجوازات.
وأشاحت بيدها في ضيق: يبدو أنه لا فائدة.
وشردت بعينين ساهمتين: لم يعد أمام زاهر إلا تجديد تأشيرة الإقامة.
– والجنسية؟
كان ناصر قد ترك الملعقة والشوكة والسكين. ضغطَت قبضته على كمية الأرز، كورها، ودفع بها إلى فمه. أهمل السمن المنساب إلى مرفقيه.
– فاتته فرصتها.
وتعثَّر ظل ابتسامة على شفتيها: ربما حصل عليها بعد سنوات.
ماذا أحب في هذه الفتاة؟
رفعتُ رأسي من الطاولة، ونظرتُ إليها. بدَت عيناها أجمل ما رأيت. ضغطَت على يدها. همسَتْ وهي تومئ ناحية ناصر: لسْنَا وحْدَنا.
كانت أيدينا قد تلامست عن غير قصد. شعرت بملمس بشرتها الناعم تحت راحتي. سَحبتُ يدي، وإن ظلَّت أمنيتي في أن ألمس يدها. أمد يدي، تمد يدها، تتعانقان. أن أملك القدرة لأعلن لها حبي.
دَرَّبت نفسي على كلمات، أفتح بها النقاش إلى الطريق التي أريدها، ثم أزمعتُ ألا أُعِد كلمات مسبقة، وإنما أقول ما أشعر به، ما يواتيني من عبارات تنبض بالصراحة. في عينيها ما يشي بأنها تحبني، استجابة مكتومة لا تفصح عنها، لكنَّ شيئًا ما في ملامحها، في تصرفاتها، حتى في عفويتها المنطلقة، يصدني، يمنعني من أن أقدم على ما يشعرني بالذنب.
أنا مسكون بهذه الفتاة. أرى وميض النجوم في عينيها، وأستمع إلى النغمات الحلوة في صوتها، وأتطلع إلى بهاء الشمس في ابتسامة وجهها. هي جِنِّيَّة البحر التي أتوق لأن تجتذبني إلى عوالم الخيال والسحر والأسطورة. هي سِت الحسن والجمال، وأنا الشاطر حسن، هي الأميرة سندريلا، وأنا الشاب الفقير.
بَدتْ كل الأماكن التي نستطيع أن نلتقي فيها — حتى في صحبة ناصر والصغير سيف — محدودة للغاية: فندق مسقط إنتر كونتيننتال، فندق الخليج، شاطئ السيب … إذا سِرْنا — بمجرَّد نزولنا من السيارة — تَتقدَّمنا هي والصغير. نتبعهما — ناصر بعفوية، وأنا أتظاهر بها! — يظل الصغير بجوارها، يظل كرسيه خاليًا إن مال للعب. تفصل بيننا الطاولة، دائرة، أو مستطيلة، بينما ناصر بجواري يمارس شرود التأمُّل.
لم تكن الرغبة تفارقني، لكنها تصطدم بمصدات الخوف من رد الفعل. في بالي، ما أقدمتُ عليه حين تَصوَّرتُ سهولة قَطْف الثمار.
كان إيقاع الشَّبَق يعلو في داخلي. أُجاوز البراءة الظاهرة التي استرحت إليها. أدنو منها، وتدنو مني. لم يَعُد ثَمَّة صيف ولا خريف ولا شتاء ولا ربيع. اختلطَت الفصول الأربعة في فصل واحد. أتوق إلى جسدها، وأتصوَّر أنها تتوق إلى جسدي. تَتلامس نيران الرَّغْبة، فيشتعل الجسدان. تنبثق المياه من ينابيع الجبل الأخضر، تَسري في شرايين الأفلاج الظامئة. نقتحم الغابات، نعلو الجبال، نَتسلَّق النخيل، نتسلل إلى الجُزر المسحورة. تصطدم الكواكب والنجوم، ويتطاير جسدانا في الفضاء ذرَّات صغيرة متناثرة من اللَّذَّة. وضبطت نفسي — لحظة — أضرب الحائط بقسوة أَدمتْ راحة يدي المضمومة، كأنها تفرغ شحنات من الرَّغبة المَوَّارة في داخلي.
أغمض العينين — في حضورها — وأحلم. أفتحهما على استعادة ما جرى، وأن الواحة الظليلة ربما انتهت إلى سراب.
لا أجرؤ على مجرَّد التلميح. تبدو لي النهاية قاسية. أدرك أن المسافة بيني وبينها لا يمكن أن أتجاوَزها، أن أحاول تجاوُزها.
هل آنَ الأوان كي أبوح لها؟
متى يَئُون الأوان كي أبوح بها؟
لم أسأل نفسي — لحظة — ما إذا كان لحبنا نهاية. أنا أحبها، وهي تحبني. هذا هو المبدأ والمنتهى. ماذا بعدُ؟ سؤال لا يشغلني، ولا يهمني.
١٦
خمَّنتُ من التوتر البادي على ملامح ناصر، أن لديه ما يريد التكلم فيه، ما يريد البوح به.
قال لنظرتي المتسائلة: واجهتُ الموت أمس وأنا في الطريق إلى قريات.
صحبني إليها مرة واحدة، واعتذرتُ في دعواته المتوالية، التالية. الطريق إليها لولبية، صاعدة بين المرتفَعات والجبال، تطل — من اليمين — على أودية تتباعد فيها بنايات صغيرة، وزراعات، وأشجار، وبيوت عارية الأسقف متناثرة في امتداد الأرض الرملية، وإلى اليسار الجبل المُصمَت بنتوءات الصخور، وبروزها، واحتراقها في أشعة الشمس اللاهبة. دار مع الجبال، جبال دائرية لا تنتهي. علا، ودار، وعلا. مضى إلى الأمام، ومال إلى اليمين، وإلى اليسار. المنعرجات لا تنتهي، والعجلات تئز في انحناءات الطريق. الصخور تَضوي في ألَق الشمس، وتبين الظلال والعتمة داخل التجاويف. لم أفلح في أن أرى القمة؛ لأن رءوس الجبال كانت تتوالى، مُتفاوتة الارتفاع والاقتراب والتباعد. كأنها بلا نهاية. تمتد إلى نهاية الأفق. تَتخلَّلها ممرات، ووديان، وكثبان رملية، وبيوت متناثرة، وزراعات قليلة. تبدو المرئيات في أسفل كأنها دُمًى صغيرة. اتَّجهتُ بنظري إلى الأمام. تَجنبتُ التطلع إلى أسفل فلا يصيبني دوار. أتوقع — وأخشى — أن تصطدم السيارة بالصخور. تتحطم، أو تَرتدُّ إلى الهوة الواسعة باتساع الوادي من تحتنا.
– ألا يوجد طريق أخرى؟
– هذه هي الطريق الوحيدة منذ آلاف السنين.
ثم وهو يزيد من تَحكُّمه في القيادة: لم تكن مُسَفْلتة حتى عامين مضيَا.
بدَا أنه يندفع إلى نهاية الطريق المطلة على الفراغ، لكنه مال — فجأة — وأنا أغمض عينَيَّ في طريق صاعد، جديد. يعلو الجبل إلى يساره، والسهل الذي تختلط فيه السهول، يتخلل جبالًا متفاوتة الارتفاعات، وتتناثر فيه بقع من الخضرة والبيوت الصغيرة.
تساءلت: ما الذي يغريهم بالحياة في هذا المكان؟ ما الذي يدفعهم للابتعاد عن العالَم؟ وماذا يفعلون لو أن الجبل انهار على الطريق، فَسدَّه لأيام أو لشهور؟ كيف يَحْيَون في الخطر في صعودهم إلى الجبل، ونزولهم منه؟
– لماذا تَحْيَون هنا؟ … أليست الحياة في السهل أفضل؟
– نحن نحيا في هذا المكان منذ آلاف السنين.
– بالقرب من السماء؟
اختلاط الصخور بالرمال — من تحتنا — إلى مَدى البصر. لا بَشَر ولا خضرة ولا دلائل حياة، فيما عدا نباتات صغيرة، متناثرة، كالأعشاب، تَسلَّلت بين قطع الصخر.
ابتسمت عيناه البُنِّيتان: لم تقرأ ابن بطوطة؟ … تحدث عن رحلته إلى قريات.
ودهمه جيشان عاطفي: اللهجة والمُفرَدات التي يَتحدَّث بها العُمانيون كانت لأبناء قريات وحدهم.
لم أقاوم اللهفة: هل تَعطلتْ سيارتك؟
هز رأسه بالنَّفي.
قدَّمَني ناصر إلى أبيه وأمه. أشار إلى أولاده وهو يُقدِّمهم بأسمائهم. بنت وولدان أعمارهم بين السَّنتَين والسنوات الخمس. تَبادَل كلمات هامسة من أمام الباب الموارب. خَمَّنتُ أنه يُكلِّم زوجته. الأب في حوالي السبعين. وجهه عَظْمي مستطيل. تطل من فتحتي الأنف شعيرات بيضاء. خَضَّب لحيته بحناء شديدة الحمرة. خَمَّنت من اتساع الدِّشداشة أن جسده كان ممتلئًا. تكشف فتحة الصدر عن شعر أبيض كَثٍّ. في ظهر يده أثَر حرق، أو كي بالنار.
عدلت الأم فوق رأسها اللحاف الأصفر المنقوش برسوم صغيرة، وغَمغمَت بما لم أتبينه، ثم انطوَت على نفسها.
– هل اصطدمتَ بسيارة أخرى؟
– أبدًا … أثناء صعودي بالسيارة فوجئتُ بامرأة … سيدة … في حوالي الثلاثين … تقف في طريق السيارة … طلبَت أن تصحبني إلى المدينة.
هززتُ رأسي أستِحِثُّه على مواصلة الحديث.
– رَكبتْ إلى جواري … ثَبَّتتْ نظْرَتها إلى الأمام وظلَّت صامتة … ثم أحسستُ بحركة إلى جواري … نظرت بطرف عيني … فإذا بها قد استطالت حتى وصل رأسها إلى سقف السيارة.
همستُ: عفريت!
– لا أعرف … لكن قلبي وقع في قدمي … لهثتُ بالمعوذتين وآية الكرسي، حتى اختفَت المرأة تمامًا … خلا الكرسي بجواري منها، دون أن تفتح الباب، أو تقفز من النافذة.
ثم وهو يُجسِّد بيديه ما لا أتبينه: كأن المرأة تَبخَّرت في الهواء … كأنها لم تكن جالسة إلى جانبي.
وأغمض عينيه ليستجمع نفسه: تهيأتُ للقفز من النافذة … لكن المرأة لم تَعُد في مكانها … تَبخَّرَت تمامًا … اختفَت.
قلتُ: وماذا فعلتَ؟
– لا أدري كيف واصلت القيادة حتى وصلتُ قريات وفمي لا يكف عن تلاوة آيات القرآن.
– ربما كان مجرَّد طيف صنعه الظلام والخيالات.
– كلَّمتْنِي وكلَّمتُها … هل كنتُ أُكلِّم خيالًا؟!
ألِفتُ سماع أحاديث السِّحر والتنجيم ومعرفة الطالع. تحدَّث الشيخ النبهاني عن جبل خميلة بالقرب من بهلا. ما تزال تسكن فيه إحدى الساحرات. غلب التأثُّر على صوته وهو يقول: الأمهات المسكينات يعطين الأبناء جرعات قليلة من الزِّئْبق لحمايتهم من كيد الساحرة!
قال ناصر كالمتذكر: قابلتُ زوينة في طريق المطار … قالت إنها مشغولة هذه الأيام، في إنهاء أوراق قريبها.
أدركتُ أن زاهر بيني وبينها. يصعب أن أفكر فيها دون أن أفكر فيه. أتخيلها، فأتخيَّلُه. هي معه، وهو معها. لا يفترقان إلا للنوم، وتَنبَّهت: هل تكون سندريلَا قد خلعت حذاءها؛ لأن الأمير وعَدَها بتحقيق الأمنية؟!
١٧
لم يَعُد ناصر الذي أعرفه.
كان يعود إلى قريات قبل الغروب، أو يقضي الليل في مسقط. يعاني الإحساس بالمطارَدة. يتصوَّر المرأة في صعوده إلى الجبل. يتوقَّع ظهورها في انحناءات الطريق. إن لم يقف تؤذيه بما يغيب عن تَصوُّره. أضاف إلى قلة كلامه شرودًا في مَدًى لا أتبيَّنُه. يتأمَّل ما يراه هو وحده. يكتفي بمجالستي، فيسهل على زوينة أن تكون ثالثتنا. لو أنه غاب، أو اعتذر، هل أكتفي من زوينة بوقفتها القلقة أمام باب البيت، أم بتسللها الخائف إلى الداخل؟
قالت: زاهر.
واختلجت عيناها: اختلفْنَا.
– لماذا؟
– يريد أن يصحبني إلى زنجبار.
– هل رفضتِ؟
– طبعًا … أحن إلى زنجبار … لكنني لا أستطيع أن أفارق أسرتي.
ثم وهي تحاول السيطرة على مشاعرها: أصارحك كذلك بأني لم أَعُد أتصور أن أبتعد عن مسقط.
– لعله يرفض هو أيضًا أن يبتعد عن وطنه.
– عُمان هي وطني ووطنه.
– لكن جنسيته ليست عُمانية.
حرَّكتْ سبابتها إلى أسفل: هو الذي يجب أن يبقى هنا.
وشردت كأنها تُحادِث نفسها: أنا حتى لم أعرفه بما يجعلني أحزن لابتعاده.
قلت مجاملًا: لكنكما خطيبان.
أشاحت بيدها: فليتزوجه مَن خطبوه لي!
•••
قالت: زاهر.
– ما له؟
– سافَر هذا الصباح.
ورفعَتْ عينين تعانيان ما يشبه التوتر: وجَد أن فرصة حصوله على الجنسية ضعيفة … خشي أن يفقد عمله في ممباسة.
قلتُ لمجرَّد أن أُبدِي رأيًا: قرار مُتسرِّع.
– عصفور في اليد.
– وعلاقتك به؟
– المستقبل أمامنا.
وأشاحت بيدها: هذا رأيه.
والْتَمعتْ عيناها بالدمع.
أين تستقر مشاعرها؟
امتدَّتْ أصابعها إلى عينيها، وامتدَّتْ أصابعي إلى يدها. تلامسَت الأصابع. تشابكَت. سَرَت في ذراعي، في جسدي، نشوة لم أحسَّها من قَبلُ. رفعَتُ يدها إلى فمي، وقبَّلتُها. تمنَّيتُ لو امتدَّت اللحظة إلى الأبد. يظل أمامي الشَّعر الذي أجادت تصفيفه، والعينان الواسعتان، والأنف الدقيق، والشفتان الرقيقتان كورقتي وردة.
هل أضم ذراعَيَّ حولها، وأضمُّها؟ هل أُقبِّلها؟ وهل توافق على تقبيلي لها؟ وهل أُودع هذه الجميلة قلبي، لا تغادره؟
تجمَّعتْ مشاعري في هذه اللحظات النورانية. تبدَّلت نظرتي إلى مَن حولي، وما حولي. بدَت الأشياء في غير الصورة التي أَلفتُها. لم تكن مسقط جميلة كما كانت في ذلك اليوم. اختلَفت الشوارع، واختلَفت الوجوه التي اعتدتُ رؤيتها.
لستُ أذكر أين، ولا متى، قرأت حديث شابٍّ عربي عن حبه لفتاته: أرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس. شمس مسقط — في ظل حبي لزوينة — تختلف عن الشمس نفسها قبل أن تدخل زوينة حياتي. عرفتُ معنى الربيع للمرة الأولى: قَدِمَت سِت الحسن من عالَمها المسحور. عَبَرت الجبال والتلال والوديان والشعاب والأفلاج. ترامت الخضرة في مدى الأفق، وأنبتَت الصخور أزهارًا متداخلة الألوان بما لا حصر له، واختلطَت الأشجار والنخيل والزهور وقطرات الندى ورائحة العطر، وبدت زُرقة السماء في قمة صفائها، وتألَّقت مياه البحر بضوء الشمس، وحلَّقَت أسراب من الطيور — تُغنِّي — في أشكال لم أَرَها من قبل، وتماوجَت في المدى تكوينات لا حد لجمالها، وعلَت أظلاف الماعز بإيقاع الرقصات، وتناهت صفارات البواخر في ميناء قابوس بما لم يسبق لي سماعه من ألحان، واستحالَت شمس الظهيرة خيمة هائلة من الدفء والطمأنينة، واختلطَت رائحة البخور بشذى الورد والفل والياسمين.
أنا الشاطر حسن، وحبيبتي ست الحسن والجمال. لم أَعُد أتصور أني أحيا بدونها. حتى العمر الذي عشتُه قبل أن ألتقي بها، لا أعترف به. تمنَّيتُ لو أني احتضنتهُا في صدري. تتحول الصخور المدببة إلى ملساء، نتسلقها، نتأمل مسقط الممتدة من تحتنا. أخوض البحار السبع. أصارع الوحوش المفترسة. أحصل لها على لآلئ الخليج. أصعد بها إلى الكواكب والأقمار والنجوم. يَلفُّنا الضياء، يحتوينا الألق، وتنساب موسيقا شجية الإيقاع.
لو أننا انطلقنا في قارب يمضي بنا إلى المدن والجُزر البعيدة. لو أن أصواتنا علت بالغناء، وأجسامنا صرخت بالرقص. لو أننا استعدنا كل الكلمات الجميلة، وتعلمنا لغة الرمال والصخور والشمس الحانية.
قلَّبتُ أوراق الرواية التي أوشكتُ أن أتمها.
كان القلم قد جرى فيها بالإضافة والحذف. تَغيَّرت الصورة التي كانت عليها حين قدومي — للمرة الأولى — إلى مسقط. غابت شخصيات، وحلَّت شخصيات أخرى، وتبدَّلَت الأحداث تمامًا.
١٨
متى يشعر المرء بالغربة؟ ومتى يغيب ذلك الإحساس؟
هذه المدينة التي لم أكن أراها إلا ساكنة، مقبضة، مملَّة، تكشف الآن عن ملامح لم أتعرَّف إليها من قَبلُ. بدَت مدينة أخرى غير المدينة التي قدمتُ إليها منذ سنتين، فلم أحبها.
أبدَتْ ملاحَظة عن المدينة التي كأنها تُولَد. مسقط تكبر، وتَتَّسع — ملامحها تكتمل يومًا بعد يوم، أو أنها تكتسبُ ملامح لم تكن موجودة من قبل. الجَرَّافات تُزيل بنايات مسقط القديمة. تتحول إلى أرض تَمتدُّ أمام قصر العلم. لا يبقى سوى جامع الزواوي، وجامع الخور، وبيت السيد نادر، وبنايات أخرى قليلة، حديثة، والمقابر أعلى الجبل في باب المثاعيب. ظهرت الشوارع الجديدة الواسعة، والدوارات، والأرصفة والكباري، والحدائق، وعلامات المرور، والعمارات العالية، والفيلات، والشركات، والمطاعم، ومَحالُّ الملابس والأثاث والذهب. البيوت على النظام العُماني والأوروبي. تُضيء الأنوار كل النوافذ في البناية، فأعرف أنه تم إنشاؤها، وأنها معروضة للإيجار، ومَسكن المدرسات في شارع رويْ لم يَعُد بمفرده في الأرض الرملية. أحاطَت به بيوت من طابق واحد أو طابقين. حتى السفارات بدأت في إقامة بنايات جديدة لها في منطقة القرم، وتناثَرت الفيلات والقصور على جانبي طريق المطار. بدأت الشوارع — للمرة الأولى — تعرف أسماءها. رجال من التاريخ العُماني القديم. وعرفَت إعلانات النيون مواضعها فوق الأسطح وأعلى البيوت. امتدَّت أحياء المدينة، واتَّسعَت، وإن ظلَّت الفراغات كثيرة.
حبيبتي ست الحسن والجمال. أتكلم وتنصت، تتكلم وأنصت. تتشرب عيناي كلماتها وملامحها. لا يَجتذبني إليها شيء محدَّد. عيناها اللوزيتان، الواسعتان، وابتسامتها الطفولية، وعفويتها، وشخصيتها الآسرة … ذلك كله جعل منها الفتاة التي اجتذبتني. لم أَعُد أتصور أني أعيش بدونها. أشعر — أحيانًا — أنَّنا وحيدان في هذا العالَم، وأن العالَم مِلك لنا.
لم أتدَبَّر الكلمات حين بادرتُها بالقول: هل قال لك أحد قَبْلي إن عينيك جميلتان؟
هممت بأن أعانقها.
كأنها عرفَت ما يدور في نفسي. رمقتني بنظرة آمرة: لا تُحاول!
فكَّرتُ فيما قد يلي الفعل، فوأدتُ خاطري.
الزمن!
كم أمضيت في مسقط، وكم يتبقَّى على موعد الإجازة؟
لم يَعُد هناك وقت لأتعرَّف إليه. غاب الإحساس بالوقت، غابَت الأشهر والأسابيع والأيام والساعات. لم يَعُد إلا اللحظة الطويلة، القصيرة، الممتدة. اكتفيتُ بهذه المحبوبة السمراء عن كل الدنيا، لا يشغلني شيء سواها. لا القاهرة، ولا مسقط، ولا الجريدة، ولا الأصدقاء. هي البدء والمنتهى. هي الواحة في ظل الجبال اللاهبة، في هجير الصحراء المترامية. صحراء تَتَّسع باتساع العالَم، فلا تحتويني الطمأنينة إلا في تَشرُّب ملامحها الطفولية، وصوتها، وانفعالاتها، ونظراتها. بَدَّدتْ إحساسي بالوحشة، ألْغَتْه تمامًا.
كنتُ أكتم أمنيتي بأن أحيطها بساعدي، وأحتضنها. أبتلع شفتيها الممتلئتين. لا أتركهما حتى أرتوي.
قَرَّرْنا — في صمت — أن يكون كلٌّ منا للآخَر. أن يستغني به عن العالَم. تكلَّمَت النظرات وارتعاشات الأيدي. وكنتُ أغلق عيني على ملامحها، وأنام.
عدتُ إلى كتابة الرواية التي تركتُ القاهرة قبل أن أتمها. تبدَّلت — وأنا أكتب — شخصية البطل. لم يعد ذلك الساخط، الناقم، المُتطلِّع إلى ما لا يستطيع تَبيُّن ملامحه.
كانت جلساتنا — بمفردنا — تطول، فلا أشعر بالارتباك. ضاقَت الفواصل، أو انمحت. اختفى التوجُّس والحذَر. أعتبرها الصديق الوحيد الذي أستطيع أن أكلمه في موضوع يهمُّني. لم أَعُد أسأل نفسي: متى تلتقي أصابعنا، وتتشابك، في اتكائنا على الطاولة؟ … لم يَعد في تلامُس أيدينا ما يثير الحَرج. لم تَعُد تُبعِد يدها بما يدلُّ على أنها تَنبَّهت وتعالِج الخطأ. تُرَبِّت ظهر يدي براحتها. نتصافح — بعفوية — تعبيرًا عن اتفاق الرأي. تمد يدها لأعينها على النزول من السلم الخشبي. تظل الأصابع متشابكة حتى بعد أن تطأ قدماها الأرض.
لم تَعُد تحدثني عن زاهر، ولم أَعُد أسألها عنه.
لمحتُ في يدها ورقة مطوية.
– رسالة؟
هزَّت رأسها.
– من زنجبار؟
هزَّتْ رأسها.
ماذا ستكون عليه حياتي في مسقط، لو أنها خلَت منها؟ هل أعود إلى الوحشة، ومعاناة الغربة؟
– هل زاهر بخير؟
– قد لا يأتي هذا العام … مشاغله كثيرة.
قالتْ مها في رسالتها التي لم أَتوقَّعها: إنها عَملتْ سكرتيرة في مكتب مدير شركة استيراد، وإنها تنوي المساعدة في شراء بعض ما يحتاجه بيتنا. أعدتُ قراءة الكلمة. حدَّدَت البيت بأنه «لَنَا». لم تُشِر إلى أمها.
قالت زوينة: هل ظروف العمل في المطبعة على حالها؟
أدركتُ أنها لا تريد الدخول من باب هي التي واربته.
قلت: تَغيَّرت الظروف كثيرًا … انتظم العمل، وأجد وقتًا للقراءة، وسماع الراديو، والراحة.
أضفتُ بلهجة ذات مغزًى: وأخرج مع الأصدقاء.
قالت زوينة: هل تدعوني إلى سينما ستار؟ … تعرض فيلمًا عن الزومبي.
– الزومبي؟
– مَوتى يأكلون لحم البشر.
– أدعوكِ … ولكن ماذا ستشاهدين.
احتوتني بنظرة مشفقة: لا تُحب العُنف.
– أكره القرف!
هذه الفتاة خُلقتْ لي، وأنا خُلقتُ لها. زاهر قريبها. فليظل كذلك. لا معنى لأن يتجاوز القرابة. ليس كل الأقارب مُحبِّين. المثل يتحدث عن ابنة العم التي لا تصلح للإنجاب.
ناوشني السؤال: ثم ماذا؟ … ما طبيعة امتدادات العلاقة بين جميلتي الفاتنة وبيني؟ هل يظل الحب حبُّا بلا نهاية؟ وهل تقبل الزواج إذا عرضْتُه عليها؟ وهل تظن أني سأظل في مسقط، أو أنها لن ترفض السفر إلى القاهرة؟
بدَا لي المستقبَل غائب الملامح. شغلتني اللحظة، أيامنا الحالية. لم أتحسب للمستقبل، ولا حاولتُ أن أتصوره. لم أتصوَّر مستقبل ما نحن فيه.
١٩
– الأستاذ موجود.
افْتَرَّ الفم الخالي من الأسنان عن ابتسامة واسعة.
– أنا الأستاذ.
هل هو بالفعل ذلك الذي يستقبلني وراء مكتبه؟
كان وجهًا آخَر غير الوجه الذي ألتقي به، وأعرفه. نزَع النظارة الطبية السوداء، وطقم الأسنان، وأهمل صباغة شعر رأسه ولحيته، فتداخل البياض بالسواد في بُقَع كالندف المتلاصقة.
سبقني إلى الداخل.
الحجرة الواسعة أيمن الطابق الأرضي في البيت ذي الطابقين. لصق الجدار مرتبة من الإسفنج بلا ملاءة. أمامها — إلى اليسار — كومودينو عليه تليفزيون وفيديو، يفتحهما، ويغلقهما، ويُغيِّر القنوات، بريموت كنترول. وإلى جانبه راديو لم أرَه — في زياراتي المتباعدة — يستخدمه. وثَمَّة طاولات متناثِرة، عليها أطعمة، ومُعلَّبات، وأكياس مفتوحة ومُغلَقة، وبسكويت، وطبق ممتلئ بالحلوى العُمانية، ودلايات قهوة، ومياه معدنية، وترامس تَحفظ الماء البارد والساخن، وعُلب مناديل ورقية. حتى الخبز كان له آنيته المستقِلَّة، وإن بدَت الكُتب أهم ما في الحجرة. كُتب تحتل الأرفف والجدران، وتناثَرت على الوسادة والمرتبة والأرض، لا تبين عن نوع قراءة محدَّد. روايات ودواوين شعرية وتاريخ ودراسات أدبية، داخلتها أوراق وأجندات صغيرة. وعلى الجدار صورة كبيرة للسلطان يمتطي جوادًا، وفي الجدار المقابل لوحة من الخط الكوفي تتضمن آيات قرآنية. بدَا لي أنه قد خلق لنفسه عالمًا خاصًّا، فهو يحرص على أن يكتفي بما في الحجرة. لا يطلب شيئًا من خارجها، ولا ينادي على أحد.
أشار لي بالجلوس على حشية بالقرب من الباب. تربَّع على المرتبة الإسفنجية بما كان يدهشني، وإن ألفته، فقدماه وساقاه تتداخل فلا تبدو ركبتاه على المرتبة. يظل — لساعات — في هذه الجلسة، لا يُبدِّلها. أشارك في الجلسة بالصمت. أتأمَّل جلسته المتربعة، كأنه أقعى على ركبتيه. يبدل بالريموت كونترول قنوات التليفزيون، يَصب الماء الساخن من الترمس في الكوب الفارغ، ثم يضع السكر وكيس الشاي. الخواطر تجر بعضها. ربما قطع كلامًا ليصله بكلام مختلف تمامًا. قرأ لي أبياتًا من الشِّعر النبطي.
قال: أيقظتُك من النوم؟
ظللتُ صامتًا، وإن اغتصبتُ ابتسامة لم تفلح في إخفاء ما يعتمل في نفسي من قلق.
– كتبتُ بعض الأبيات الشعرية.
كان يطيل التحدث في القضايا الثقافية، وإن لم يُطلعْني على كتابات له. أشار إلى أبيات من الشِّعر على أنها من تأليفه، لكنه لم يُشِر إلى ديوان له، أو حتى قصائد نَشَرها في دوريات.
خَمَّنتُ أنه ثَمِل. يُفرِط في الشراب، فتغيب الذاكرة. ينسَى — بعد أن يفيق — كل ما يفعله. ولم يكن يفعل — في الحقيقة — شيئًا مؤذيًا. يكتب شعرًا، يشاهد أفلامًا جنسية، يتصل بمن تطالع عيناه أرقام تليفوناتهم في الأجندة.
الخمر موجودة في الفنادق، وفي البيوت، وحتى داخل مساكن الضباط والعاملين المَدنيين في المعسكرات، لكنها ممنوعة في العَلن. السجن عقوبة من تُوجَد داخل حقائبه في المطار، أو تشم الشرطة رائحتها في فمه، في مَفارق الطرق، أو عند الحوادث.
غالبتُ النوم، وأنا أتظاهر بالإنصات.
لم يعد هو الرجل الذي أعرفه. أستأذن من السكرتير في لقائه. يُحدِّد لي الموعد حالًا، أو فيما بعدُ. أسأل ويجيب. تجذبني طريقة كلامه. ميله إلى الموضوعية، وعدم السرعة في إصدار الأحكام.
دارت الخمر في رأسه، فتحوَّل إلى إنسان لا أعرفه. انطلق في الصياح والغناء، وأجهش بالبكاء، قال ما لم أكن أعرفه، واستعاد أبياتًا من الشِّعر النبطي تُدِين وجود المستشار الأجنبي في أخطر المَواقع. وقال كلمات غير واضحة، وغير مترابطة، وكلمات بذيئة، ولوَّح بيده، ونقر على الطاولة أمامه بأصابع مرتعشة. وشخَط، ونطر، وحدَّق فيما لم أتبينه، وعلا صوتُه فيما يشبه الصراخ. أخذَه السُّكر، فغاب عن كل ما حوله، أو عاش في عالَم صنعَتْه له الخيالات.
اكتفيتُ بتأمُّل تصرفاته. تظاهرتُ بمتابعة توالي الكلام، لا أتابع كل ما يقول. شردتُ، ومَضَتْ خواطري إلى آفاق بعيدة، وإلى جُزر أحيا فيها بمفردي. ومَضَت في الذاكرة وجوه تشابَكتْ ملامحها، واختلطَتْ.
•••
قبل أن أميل بالسيارة إلى طريق مطرح، تَبيَّنتُ — في غبشة الفجر — يد الشرطي تُلوِّح بالوقوف.
وقفتُ.
كنتُ أحرص على أن أحمل في جيبي تصريح العمل والإقامة. أتوقَّع السؤال — فجأة: أين أوراقك؟
– ما السرعة التي تسير بها؟
– لا أعرف … ربَّما ثمانين.
– أنتَ تسير فوق المائة … مع ذلك فإن سرعة الطريق (وأشار إلى اللافتة على جانب الرصيف) لا تزيد عن أربعين.
كانت عيناي تُغالبان النوم. لم أحاول أن آخُذ وأُعطي. تركتُ له «الليسن»، وواصلتُ السَّير.
تواصلَتْ ضحكاتها وهي تُنصِت إلى ما حدث.
– وكيف تطمئن إلى رجل مخمور؟
– الشابُّ المخمور لا يقوى على شيء … فما بالك بشيخ؟!
– وهل استعدتَ «الليسن»؟
– سأذهب إلى المرور غدًا.
وتذَكَّرتُ خميس المناعي: لي صديق ضابط شرطة … سيذهب معي.
– هذا البلوشي؟
كنتُ قد قلَّبتُ النشرة الرسمية بدافع الفضول، وبتصور أني قد أجد فيها ما يصلح للنشر. مُعظم النشرة أسماء بلوش يطلب فهر بن تيمور نائب وزير الدفاع مَنْحَهم الجنسية العُمانية.
قال لي الشيخ النبهاني: سيُصبحون جنودًا في الجيش العُماني … لا بُدَّ أن تكون جنسيتهم عُمانية.
استَعدتُ الخبر الذي نشرَتْه وكالة رويتر: كيف تختار لجنة من القوات المسلحة العُمانية جنودًا من أبناء بلوشستان، يجدون في الانضمام إلى الجيش العُماني فرصة للفرار من أوضاعهم المادية القاسية. البلوش هم الطبقة الأدنى بين العُمانيين. يعلوهم اللواتيا، فالزنجباريون، فالعُمانيون العرب.
قالت زوينة: لا تذهبْ … سآتي لك بالليسن.
ثم وهي تهز سبابتها: المُشاة هنا لهم أولوية عبور الطريق.
واتَّجهَت ناحيتي بنظرة مستنكرة: كيف تَقف لمن يريد عبور الطريق وأنتَ تجري كالصاروخ؟!
تساقطَت التفاصيل الصغيرة والملاحَظات. بدَتْ لي أجمل فتاة في حياتي كلها. يأسرني صوتها، صوت طفل ناعم، وعيناي تَتوهان في عينيها، ورائحتها الهادئة تملأ أنفي. ربما تَنبَّهَتْ إلى أني — كأنما دون تَعمُّد — أضع يدي على يدها. أفكر في أن أفعل شيئًا، أي شيء. قاومتُ هاتفًا في أن أحتضِنَها، أضمها إلى صدري، وأُقبِّلها … كرَّرتُ القول: أُحبك، وإن ظل فمي مغلقًا.
اتَّسعَت فترات غيابي عن القاهرة. أضع سماعة التليفون فأشعر أني تركتُ — حالًا — أبي وأمي والولدين والصغيرة عَفاف. أهمل الأيام التي أعقبَت قدومي إلى مسقط. أتصوَّر أن ذلك اليوم هو أول أيامي في مسقط.
ألَحَّ خاطِر — لا أدري كيف بدأ — في أن أترك مها، ومصر، وأحيا مع هذه الجميلة، الناعمة، أو أصحبها إلى القاهرة، لتحيا معي.
حاولتُ أن أستعيد صورة مها، فلم أُوفَّق. بدَت الملامح غير واضحة، وضبابية.
هذه الجميلة هي دنياي الحقيقية.
٢٠
أفزعَني في عينيها جمود دامِع، وفي فمها صرخة تريد أن تنطلق: ماذا؟
– ناصر في المستشفى!
صرختُ: ماذا؟
– ناصر … في المستشفى!
– كيف؟!
– حادثة سيارة في الطريق إلى قريات.
– هذا ما كنتُ أخشاه!
بدَا لي — في الأيام الأخيرة — شخصًا آخَر غير الذي أعرفه. نظراته زائغة، وخطواته مُتعثِّرة، واصفرار وجهه يَشي بالمرض. كان يُحدِّثني عن خوفه من الصعود إلى الجبل. يتوقع أن تظهر له المرأة الجنية. أدركتُ من كلامه الذي بدَّل طبيعته المنطوية، أنه سأل، وتلقَّى إجابات. تشابَكَت الإجابات بقدر تعدُّد إلقاء الأسئلة، أو السؤال الواحد. اختلطَت الأرواح الشريرة والأشباح والعفاريت. أضافَت إلى خطورة ما يعانيه. يهمس بهاجس، ثم يعلو صوتُه بما يرى أنه أجدَرُ بالتصديق، ثم يعود إلى وسيلة لم يكن قد اقتنع بها.
فاضل بين شُقق خالية في رويْ ومطرح ودار سيت والحمرية. غلَبَه الهم لرَفْض أبيه. إذا أردتَ مفارَقة قريات، فلن نَنزِل معك. وكنتُ أُدركُ حُبَّه لأسرته. أبيه وأمه وأخوته الصغار.
وقفتُ في الطرقة الطويلة، تلفها ضبابية شفيفة. ألصقتُ وجهي بالزجاج الفاصل بين الطُّرقة وحجرة الإنعاش. سِتَّة أَسِرَّة، خلَت من المرضى، ما عدَا سريرًا في أقصى الحجرة. بالكاد تَبيَّنتُ فيه «ناصر» مُمدَّدًا على ظهره، وُضِعَت فوق أنفه كمامة أوكسجين، وغُرِسَت في جسمه أسلاك، وتَدلَّت زجاجة الجلوكوز من حامل المحاليل.
حاولتُ أن أُلوِّح له بيدي، أو أُبدي حركة يفطن لها، لكنه كان ممدَّدًا في السرير الأبيض. نظراته غائبة، أو أنه كان يَتَّجه إلى السقف.
قلتُ للطبيب ذي السحنة الأوروبية: هل هناك أمل؟
قال في إنجليزية هادئة، باترة: ادْعُ له بالرحمة!
•••
قالت زوينة: ما يُفزعني أن الأطباء بَذلوا كل ما لديهم.
قلتُ في دهشة: من قال؟
صَمتَت لحظة، ثم قالت: لو أننا في زنجبار … كنتُ صحبته إلى عين شمشم.
استعدت التسمية: عين شمشم؟
– عين ماء بالقرب من المدينة … تُعالج كل الأمراض، حتى المستعصية منها.
– أعرف أن ناصر يُعاني مطاردة أرواح شريرة.
– حتى الأرواح الشريرة يَطردها الاغتسال في العين من داخل الإنسان.
أضافت لنظرتي المستغربة: أعرف شيخًا في بهلا … ربما ساعد على الشفاء.
قلت: هل يُفلح شيخك فيما عجز عنه الأطباء؟!
– مجرَّد محاوَلة … ربما تفيد.
رَوتْ لي أن الشيخ في إصبعه خاتم مُطَلْسم يملك قوة الصحة والمرض والحياة والموت. يكشف عن المخبوء بالنظر إلى السماء. يتأمَّل الزُّرقة، والشمس، والسُّحب، والليل، والقمر، والنجوم. تفتح الأبواب أمامه بمجرَّد أن يقرأ أسماء أم موسى.
فاجأني النبهاني — حين سألتُه عن الشيخ — بأنه يعرفه: هذا شيخ مُبارَك … من يقرأ عليه أو يلمسه بأصابعه، يُشفَى بإذن الله.
رجَّح النبهاني أن تكون المرأة التي التقَت بناصر في طريق قريات من العالَم السُّفلي. استهواها ناصر، فظلَّت تطارده حتى يوافق — أو ترغمه — على أن ينتقل معها إلى حيث تعيش. قال الشيخ: إن المرأة أثيرية، طيف خيال، لا تتجسد إلا لناصر. أحبَّتْه، فسعت إلى إغوائه والسيطرة عليه.
ثم وهو يستحثني بإشارة من يده: اصْحَب ناصر إلى بهلا. بركات الشيخ مُؤكَّدة.
أضاف في تأثُّر واضح: لم أكن أعرف ناصر التميمي قبل أن يزورني ويطلب العمل في الجريدة.
وانتزع ابتسامة: أردتُ تشجيعه؛ لأن الشُّبان لا يُقبِلون على العمل في الصحافة … ثم أحببتُه لحبك له!
تحدَّث النبهاني عن أدعية الشيخ لدفع لدغات الثعابين والعقارب، ولفك المربوطين والعاقرات وعقد البنات، ولعلاج الأمراض التي عجز الأطباء عن مداواتها. قال: إنه يجيد تعبير الرؤيا وتفسير الأحلام، ويطلع على أسرار الطبيعة، ويعرف في حساب الكواكب والطالع والنجوم، ويعلم الغائبات من الأمور، ويخبر عن الأشياء قبل كونها، ويجيد تحويل القلوب، وإحداث الشفاء والأذى، ويَشفي من الأمراض المستعصية، ويطرد الجن، ويملك تمائم وصِيَغًا سحرية تطيل العمر، وتطرد الأرواح الشريرة، وتَجلب الحظ السعيد. وقال: إن الشيخ عُرِف عنه علمه بجميع العلوم بقدرة الله: الطب، والهيئة، والتنجيم، والكيميا، والسيميا، والروحاني، ومُسمَّيات أخرى لم أكن أعرفها، ولا استمعتُ إليها من قبل.
حذَّر الرجل من أن الشيخ يطيعه الجن والشياطين، فهو يملك تقييد يَدَي الإنسان الذي يغضب عليه وقدميه ولسانه. يَشلُّ حرَكَته، فلا يقوى على الكلام أو الحركة. ربما أخرج الواقف أمامه من هيئته البشرية إلى هيئة حمار أو كلب أو ماعز. لو أنه ردَّد — بسرعة — قراءات وتعاويذ وطلاسم، انسخط الواقف أمامه من فوره. صار جمادًا لا حول له ولا قوة.
غلبَ الفضول ما عداه في تَهيُّئي للسفر إلى بهلا.
قال عبد العال: نصيحتي … لا تسافر.
وأنا أفتش في وجهه عما يخفيه: لماذا؟
– هذه مدينة سحر … قد تُؤذَى في جسدك أو في نفسك.
– يصحبني أصدقاء عُمانيون إلى شيخ له كرامات.
وضغَطت على كتفه: لن يظل ناصر مُقعدًا طيلة حياته.
– هل نستبدل السحرة بالأطباء؟
– مجرَّد محاولة للإفادة من الطب النبوي.
هز رأسه في غير اقتناع.
•••
أدركتُ من ملامح الشيخ النبهاني ما حدث.
– ناصر؟
انتزعتُ الحروف: هكذا … بسرعة؟
أردفتُ في تأثُّر: حتى جنازته لم أمشِ فيها.
قال: المذهب الإباضي يقضي بأن يُدفَن الميت قبل أن تمر صلاتان على وفاته.
أغمضتُ عَيني بالتأثر: لا أتصور أني لن أرى ناصر بعد الآن … لا أتصوَّر أنه لن يأتي ونخرج معًا.
بدَا كل شيء حزينًا، ومقبضًا. أحْسَستُ — ربما أكثر من قبل — أني وحيد. وحيد تمامًا. امتلأتُ بشعور الوحدة.
٢١
نظرتُ من النافذة المستديرة المجاورة لي، والطائرة تحاول الوقوف. واللمبة الحمراء — أسفل الجناح — تتلاحق ومضاتها. يداخلني شعور يتمازج فيه الرغبة في الفضفضة والإحساس بالذنب. وكان وجه زوينة مقيمًا في ذاكرتي.
فاجأني مرض أبي.
ظلَّت رسائله على انتظامها، رسالة كل أسبوع. حتى الكلمات ظلَّت واضحة لم يداخلها اضطراب، فلم أتوقَّع مرَضَه، ولا خطَر في بالي.
قالت أمي: أعرف أن مسقط مدينة حارة … المفروض أن تعود ببشرة سمراء … العكس ما حدث.
قلتُ في نبرة مُهوِّنة: نسيت أني أحيا في المكيِّفات.
أختزن المشهد وراء النافذة منذ طفولتي، لكنني نفضتُ رأسي لتَصوُّر أن سِرْب الطير يُحلِّق في سماء مسقط.
قلتُ وأنا أرنو — بتلقائية — عَبْر النافذة: المُكيِّفات وليس البترول هي سِرُّ الحياة في الخليج … في البيت والعمل والسيارة … في كل شيء.
ثم وأنا أتأمَّل الظلال تعلو واجهات البيوت: لا أتصوَّر أنهم يَقْوَون على الحياة بلا مُكيِّفات.
واستدرتُ إلى داخل الحجرة: لو أنهم أفلحوا في تكييف المناخ لفعلوا.
•••
أَلِفتُ أزيز إقلاع الطائرة وهبوطها. أُطِلُّ من النافذة الزُّجاجية المستديرة. تعلو الطائرة فوق الرِّمال. فاجأتْنِي — في المرة الأولى — مساحات الرِّمال. تَتناثر خضرة وبيوت متلاصِقة، ومتباعِدة، تصغر جميعها، وتَبهتُ، حتى تتلاشى.
– أستاذ عبد العال.
واتَّجَهت إليه بنظرة متسائلة: إجازة أم عودة نهائية؟
– إجازة قصيرة.
واستدرك في كلمات متباطئة: هي إجازة قبل العودة النهائية إلى مسقط.
أضاف لنظرة الدهشة في عيني: سأظل في مسقط حتى يُبلِغني العُمانيون برأي آخَر.
ومطَّ شفته السفلى في هيئة المتحير: أفلَحَتْ — أدركتُ أنه يقصد زوجته — في خداع الأولاد … لم أَعُد بالنسبة لهم إلا حصَّالة يُنفقون منها.
ثم وهو يفرك يديه: نَتحدَّث بالمُجاملة عن الوطن الثاني.
وداخل صوته نبرة حاسمة: الآن … مسقط وطني الأول.
عصتني الكلمات. تَشاغلتُ بالنفاذ إلى داخل الدائرة الجمركية.
طال تَرقُّبي للنقرات على الباب الخارجي. أهملتُ التعب، وتشاغلتُ بمراجعة موادِّ الجريدة. لو أني أسلمتُ جسمي إلى راحة النوم، ربما لا تصلني النقرات التي أنتظرها. لم نَعُد — منذ وفاة ناصر — نلتقى خارج المكتب. تدخل من الباب المفتوح ساعات النهار، وأتوقَّع الطَّرقات الخافتة في الليل.
مضتِ الشمس في دورتها من الشرق إلى الغرب، وبدَا ليلُ سبتمبر لطيفًا، وهبَّت نسائم خريفية منعشة.
لم تَعُد الشمس مجرَّد أشعة ساخنة، لكنها دافئة، حانية، ويسهل تَحمُّلها.
ناوشَني السؤال: لو أني تَخلَّيت عن مها، وقدمت زوينة إلى أبي وأمي زوجة لي، ماذا يقولان؟ هل يأخُذ القبول أو الرفض تصرُّفًا تغيب عني ملامحه؟
مها. زوينة. لا ميل، ولا انحناءات في الطريق التي يعرفانها. زوينة حكايتي التي عشتها بمفردي في مسقط، ومها حكايتي التي يعرفانها في القاهرة. فكَّرتُ في أن أحكي لأمي. أنفض لها نفسي. أُحدِّثها عن المخلوقة الساحرة التي بدَّلت حياتي. توقعت القول: ماذا بعد؟ … والمقارَنة التي لا بُدَّ أن تطرح نفسها بين الفتاة التي أخطبها في القاهرة، والفتاة التي أحببتها في مسقط.
أزمعتُ أن أحتفظ بما في داخلي، فلا أبوح به. أنسى — أتناسى — تمامًا.
– أين كنتِ؟
قالت للهفة في كلماتي وعيني: أنا لم أَمتْ … ما زلتُ حيَّةً.
وقامَت متكئة على المكتب: وصل زاهر ليلة أمس … لديه وجهة نظر تُثِبت أحقيته في الجنسية.
داخَلَني قلق داريتُه بابتسامة مشفقة: هل أتوقَّع أن يستعيد جنسيته هذه المرة؟
– لنا أقارب أفادوا من القانون واستعادوا الجنسية.
بدَت الطَّرقات أسرع وأقوى مما اعتدتُ … هل هي؟
حدستُ أنها تداري انفعالها بابتسامة مفتعلة: هل أعددتَ حقائبك؟
– لن تحتاج إلى أكثر من دقائق.
– وأوراقك … ومستحقاتك؟
– أنهيتُ كل شيء.
قالت في انفعالها: متى تسافر؟
– طائرة العاشرة صباحًا … صباح غدٍ.
– ليس موعد وَرديتي … لكنني سأكون في وداعك.
قاومتُ ارتباكي: لا داعي … لا أحب لحظات الوداع.
تعانقت راحتانا.
فاجأتني — في اللحظة التالية — بما حدث.
شبَّت على أطراف أصابعها. طوَّقَت عنقي بساعديها. أحنيتُ رأسي. ضغطَت بشفتيها على مقدمة الرأس. هبطت إلى الجبهة والعينين والأنف والذقن. لامسَت شفتي — قبل أن أتَنبَّه — بقبلة خفيفة. لم يكن في بالي أني أفعل هذا. لم يكن في بالي أنها تفعله. هل كتمَت السدادة على القمقم حتى اللحظات الأخيرة؟
غاب ما يجب أن أفعله في الارتباك الذي شملني. قبَّلتنِي ثانية، وأودعت عينيها نظرة استجابة. ملت عليها. قبَّلتُها. احتوتْ شفتاي فمها الورديَّ الرقيق. أحاطتني بساعديها. ثم عادت برأسها كأنها تتأملني. قرأتُ في عينيها حنانًا كنت في حاجة إليه.
حدث ما حدث في ومضة، في لحظة باهرة. لم أُعِدَّ نفسي لها، ولا تَصوَّرتُها.
أدركتُ أنها تبادلني نفس مشاعري، وإن لم تَبُح. تُحبني مثلما أحبها، تحبني أكثر مما تظهر، تجيد إخفاء عواطفها.
– قبَّلْتُك لأني كنتُ أريد ذلك.
ولوَّنَت صوتها: لكن من حق زوجي أن يجدني كما خلقني الله.
– زوجك؟!
أومأتُ: زاهر … لن يعود إلى زنجبار.
– حصل على الجنسية؟
– لا … لكنه سيعمل هنا … وينتظر.
وأنا أغالب الارتباك: كان هذا هو اقتراحك.
– لم يوافق عليه.
– الآن … وافق.
همستُ بالذهول: تتزوجينني؟
تأمَّلتْني بنظرة مستفهمة: هل ستطيل إقامتك في مسقط؟
وربَّتتْ ظهر يدي بأطراف أصابعها: أقصد … هل ستنتقل حياتك إلى هنا؟
– تنتهي إعارتي — كما تعلمين — هذا الشهر.
وأسلمتُ نفسي لشرود: كان مُقدَّرًا أن نعرف بعضنا.
لم تحاول إخفاء استيائها: نعرف بعضنا؟!
– يُحِب أحدُنا الآخَر … ثم أجبرَتْنا الظروف على أن نفترق.
اقتحمني يقين أننا — حين يمضي كل منا في اتجاه مغاير — سنفترق إلى الأبد. لن يرى أحدنا الآخَر ثانية. يكتفي باجترار الملامح والكلمات والتصرفات. تظل في ذاكرتي — أثق — مهما تمضي الأعوام. هل أظل في ذاكرتها؟
– ولماذا نفترق؟
– أنت لن تحيا في مسقط طول عمرك … وأنا لا أستطيع أن أفارق مسقط.
وعكسَت نظرَتُها ما تعانيه من قلق: هتفتُ بعفوية: سنحيا معًا في القاهرة.
– لا أستطيع أن أفارق مسقط.
– هذه الصخور واﻟ…
قاطعتني: أحب هذه الصخور … وأحب الجبال.
هززتُ رأسي في عدم اقتناع: لكنني أحبك … وأنت تحبينني.
وهي تدير عينيها: وزاهر أيضًا يحبني!
– فإذا أصر على عودتك إلى زنجبار؟
– ستكون عودة إلى الوطن الذي أحبه.
– وعُمان؟
– لم أحاول المُقارَنة … لكن زنجبار طفولتي التي لا أنساها.
هل تنتهي كل الأشياء الجميلة، فهي ذِكرَى لا أملك إلا استعادتها؟ هل حان الفراق؟ وهل أرادتْ أن تجعل للحظات الوداع شعائر لا أنساها؟
كانت نظراتها تقول: لن نلتقي بعد اليوم. لم تَقُل ذلك بلسانها، ولا همسَتْ به، لكن ذلك ما قالته عيناها بالفعل.
بدَا كل شيء من حولي يتصدع وينهار. تبين نتائج لا أتوقعها، ولا أحبها. هل تودعني؟ هل أودعها؟ هل أفقد زوينة؟ … أعود إلى القاهرة، ويظل زاهر في مسقط، فلا نلتقى ثانية؟ … مجرَّد التفكير في أننا نفترق يصيبني بارتباك. كيف تبدو الحياة دون أن ألتقي بها، أكلمها، أستمع إليها، أتأمل ملامحها الطفولية المنمنمة؟
شعور غامض تَخلَّق في داخلي، يشي بأن شيئًا ما قد تكسر، أو ذاب، انتهى. أثق أني أفقد زوينة. أني لن أراها ثانية. لن أترقَّب الطَّرقات الخافتة، الجلسة المتربعة على الكنبة المواجهة للمكتب، أحاديثنا فيما يفد إلى الخاطر، تحكي وتحكي، تَشاغُلها بإعادة ترتيب ما تعمَّدتُ إفساده، قولها في قاعة المطار: لماذا تقف هكذا؟ قولها أمام باب البيت: هل عندك وعاء كبير؟ تأمُّلي لها للمرة الأولى، الرواية القاسية لما جرى في زنجبار، تبدُّل حركاتها وتصرفاتها وإيماءاتها، وقفاتنا تحت قلعتَي الميراني والجلالي حين أرنو إليها وأنا أتَّجِه إلى مكتب الإعلام، المناقشات الهامسة في كافيتريا الفندق، طريقة ارتشافها للشاي، تَحوُّر الوجه الطفولي بالغضب، تَعثُّرها في وقفتها على السُّلَّم، سؤالها تحت المصعد الزجاجي بفندق مسقط إنتر كونتيننتال: ما أخبار القلب؟
•••
أقلعتِ الطائرة.
فككتُ الحزام من حول وسطي، وتهيأتُ لأخذ نسخة من الصحف المصفوفة بالقرب من الباب الأمامي.
بدَت مسقط في صعود الطائرة مناطق متناثرة بين الجبال والصحراء والبحر والزراعات القليلة. ميناء قابوس، وكورنيش مطرح، وألَق الأمواج، والجبال المتلاصقة، والقلاع، والطوابي، ومساحات الخضرة المحدودة تضاءلت — بارتفاع الطائرة — وشحَبت، ثم لم يَعُد إلا الفراغ المحيط وصوت المحركات، والطائرة تخترق أفقًا من السحاب الأبيض، المتكاثف.