تحت المطر عند «نوتردام»
قالت «زبيدة»: كانت البداية عندما نزلنا «روما» … فقد اعترضنا مصوِّر في ميدان سانتا ماريا مد جوري، ولاحظت أنه صوَّرنا من بعيد، ثم تقدَّم منا، وقال لنا إنه سيلتقط لنا صورةً تذكارية، وقد رجوته أن يأتي معنا إلى نافورة «تريفي» ليلتقط لنا مجموعةً من الصور، وقد سعد بهذا جدًّا … وهناك بحركة بسيطة، أسقط «عثمان» الكاميرا في مياه النافورة، وتركناه مذهولًا وسرنا … وبالطبع أدركنا على الفور أننا متبوعان؛ فقرَّرنا تغيير خط سيرنا، وأسرعنا إلى محطة السكة الحديد، وقطعنا تذكرتَين إلى «ستراسبورج»، ثم استأجرنا سيارةً من هناك، طرنا بها عبر الحدود …
ولكننا أحسسنا أننا مطاردان طول الوقت؛ لقد كانت المراقبة تتم بالتتابع، تركنا مراقب إلى آخر وهكذا، وبدلًا من أن ندخل «باريس» رأسًا، اخترنا الطريق الجنوبي إلى «تروفيل»، ثم أخذنا قطار الليل إلى «باريس»، وفي القطار لاحظنا وجود شخص يقف باستمرار في الممر أمام حجرتنا … وقد كنا نُحاول تجنُّب الصدام قدر الإمكان، لهذا لم نُحاول التخلُّص منه حتى اقتربنا من «باريس»، فخرج «عثمان» وقد نام كل رُكَّاب القطار، وفاجأ الرجل وكتم أنفاسه، وجرَّه إلى الكابينة، وشددنا وثاقه وكمَّمَّناه، ثم نزلنا في محطة الجنوب …
ولم يكن قد بقي على لقائنا في «فانتيه» إلَّا ساعة فقط؛ لهذا أسرعنا باستئجار تاكسي … ولكن لم نكد نصل إلى قرب الفيلا، حتى فوجئنا بسيارة تبرز من جانب الطريق، فأسرعت مع «عثمان» وغادرنا التاكسي من الجانب الآخر، بعد أن طلبنا منه الوقوف ونقدناه أجره. وغصنا داخل المزروعات، فأطلق أحدهم النار على «عثمان» وأصابه، فطلب مني «عثمان» الإسراع إليكم …
وسكتت «زبيدة»، ثم قالت: هذا كل ما هناك …
أحمد: واضح جدًّا أن «مالمو» لا يُضيِّع وقته! … إنه يُريد أن يقضي علينا فورًا، كبداية لتحطيم الشياطين اﻟ «١٣»، ثم يُهاجم المقر السري، ولست أدري إذا كان يعرف طريقه أم لا … ولكن ليس من المستبعد وهو يُنفِّذ كل هذه المهمات بدقة ومهارة أن يكون قد جمع بعض المعلومات عن المكان، خاصةً وقد أوقع «ش. ٢٨» في براثنه كما نذكر في الجولة الأولى معه في «بيروت».
إلهام: إنه عدو في منتهى الخطورة!
أحمد: وللأسف إننا في موقف سيِّئ.
زبيدة: وكيف سنُحدِّد خطواتنا المقبلة؟ وماذا سنفعل من أجل «عثمان»؟
أحمد: بعد مقابلة «بو سعيد» هذا المساء …
وبعد أن تناولوا غداءهم أخذوا راحةً طويلةً حتى المساء، ثم خرج «بو عمير» و«أحمد» معًا متجهَين إلى سوق «لي هال» سوق «باريس» الضخم، وبعد أن وصلوا إليه بتاكسي سألا عن محل «بيير» واتجها إليه …
كان محل «بيير» محلًّا صغيرًا يعكس الطابع الباريسي بأضوائه الخافتة، والمناضد ذات المفارش الحمراء، وقد انقسم إلى جزءين؛ أحدهما للمشروبات والآخر للطعام …
واختار «أحمد» و«بو عمير» مقعدَين قُرب مدخل المحل، وطلبا كوبَين من العصير وبعض الشطائر، وجلسا يرقبان الجالسين والداخلين، وفي ذهنهما الأوصاف التي كتبها «مارشيه» عن «بو سعيد»؛ قِصر القامة، شارب يتدلَّى على فمه، طاقية خضراء … والموعد بين الخامسة والثامنة، وقد وصلا في الخامسة بالضبط.
ومضت الدقائق، والقلق يعصف بهما من أجل «عثمان» فهو في حاجة إلى طبيب، ولو ذهبا به إلى أي طبيب وشاهد الرصاصة لأبلَغ البوليس، ودخلوا في أسئلة وأجوبة عن الرصاصة ومن أطلقها … فلا بد إذن من طبيب متفاهم، يمكن أن يعالج «عثمان» دون أسئلة كثيرة.
وجاء العصير والشطائر، وقبل أن يمد «بو عمير» يده ليتناول كوب العصير، دخل رجل تنطبق عليه أوصاف «بو سعيد»، ونظر إليه «بو عمير» طويلًا، إنه جزائري مثله، وأحسَّ برابطة الدم تجذبه إلى الوجه الأسمر القوي فقام إليه وقال: بو سعيد؟!
نظر إليه الرجل باستفسار، وقد لاحظ لهجته الجزائرية، فمضى «بو عمير» يقول له: «بو عمير»، جزائري …
ابتسم «بو سعيد» قائلًا: أهلين سيدي!
بو عمير: إننا من طرف …
ثم تردَّد قليلًا ونظر حوله، فقال «بو سعيد»: هل معك أحد؟
أشار «بو عمير» إلى «أحمد» قائلًا: هذا زميلي!
قال «بو سعيد» هامسًا: انتظراني عند كنيسة «نوتردام دي باري»، بعد نصف ساعة … ثم رفع صوته، ولوَّح بذراعه قائلًا: آسف يا صديقي … إنني لا أعرف أحدًا بهذا الاسم!
مضى «بو عمير» إلى «أحمد»، جلس، وتناولا الشطائر والعصير ودفعا الحساب، ثم خرجا، وكانت السماء لا تزال تُمطر … فقال «بو عمير»: إنه شديد الحذر … لقد تظاهر بأنه لا يعرف شيئًا، وطلب منا أن نُقابله عن «نوتردام دي باري».
أحمد: إنه معروف في محل «بيير»، ولعله خشي أن يكون مراقبًا.
وانتظرا دقائق حتى عثرا على تاكسي، ثم انطلق إلى حيث الكنيسة الضخمة التي تقع على نهر «السين» وتُطل على جزيرة «باريس» القديمة، وكانت أبراجها المهيبة تقف في الظلام كأشباح عملاقة للتاريخ … ونزل «أحمد» و«بو عمير» من التاكسي، ووقفا بجوار أحد التماثيل الضخمة يحتميان من المطر، وأمامهما الأشجار الكبيرة التي تقف على ضفة النهر تتمايل بعنف مع الرياح … وقال «أحمد»: من الصعب أن نتبيَّن «بو سعيد» في هذا الظلام!
بو عمير: فعلًا … كان من الأفضل أن نُحدِّد مكانًا أكثر وضوحًا!
ونظر «أحمد» إلى ساعته … كانت السادسة والربع فقال: المفروض أن يصل بعد عشر دقائق.
كانت أضواء الشارع تبدو مختفيةً تحت غلالة من الضباب، والسيارات تمضي مسرعةً مثيرةً حولها الرذاذ، والمارة القليلون يُسرعون الخطو هربًا من الجوف العاصف، وكان أحد رجال الشرطة يمشي ببطء محتميًا من المطر بمعطف ثقيل …
ومضت الدقائق ثقيلة، وتجاوزت الساعة السادسة وخمسًا وثلاثين دقيقة، ونظر «بو عمير» إلى «أحمد» ووجد وجهه هادئًا، وقطرات المطر المتناثرة قد علقت بشعره، وأحسَّ أنه أخطأ … ولكن في هذه اللحظة بدا شبح تحت الأشجار المواجهة للكنيسة الضخمة، ثم برز إلى الطريق، ونظر حوله مرات قبل أن يجتاز الشارع ويصل إلى حيث يقفان …
لم يكن الشبح إلَّا «بو سعيد»، الذي تقدَّم منهما في ثبات رغم المطر الغزير.
وقال: بو عمير …
ردَّ «بو عمير»: إنني موجود …
بو سعيد: ماذا تريدان؟
بو عمير: لقد جئنا من طرف «مارشيه».
ساد الصمت الثقيل لحظات، وقال «بو سعيد»: «مارشيه»؟!
وخفق قلب «بو عمير»، هل يُنكر «بو سعيد» معرفته ﺑ «مارشيه»، ولكن لحظة القلق لم تستمر طويلًا؛ فقد عاد «بو سعيد» يقول: وأين هو «مارشيه»؟
قال «بو عمير»: كان موعدنا معه هذا الصباح في فيلا «الجاردينيا» عند قرية «فانتيه»، ولكن يبدو أننا وصلنا بعد فوات الأوان، فلم نجد «مارشيه»، ولكن وجدنا رسالةً منه خلف صورة له على الحائط، قال فيها أن نطلب منك المساعدة …
سكت «بو سعيد» لحظات ثقيلة، ثم قال: اتبعاني على مبعدة …
ومضى يسير على الأرض المبلَّلة، وهما يتبعانه على مبعدة … وظل «بو سعيد» سائرًا بجوار نهر «السين» نحو عشر دقائق، ثم توقَّف ونظر حوله بإمعان، ثم انحرف يسارًا، ووقف أمام مبنًى قديم، ومدَّ يده في جيبه وأخرج مفتاحًا فتح به الباب، ثم وقف في المدخل، وبدا شبحه واضحًا في النور الخارج من الباب، وأشار بيده فأسرع «بو عمير» و«أحمد» يلحقان به، ودخل الجميع وأغلق الباب …
كانت هناك رائحة خاصة تُميِّز الأماكن القديمة التي لا تفتح كثيرًا، وأمام الثلاثة امتد دهليز، جدرانه الحجرية قد اهترأت بفعل الزمن، وقد غطته قطرات الماء كأنها عرق، وعلى الأرض الخشبية المتآكلة تناثرت عشرات من الأشياء القديمة … وأشار لهما «بو سعيد»، فمضيا في الدهليز حتى وصلا إلى باب مغلق، دفعه «بو سعيد» بيده فانفتح على الفور … وظهرت خلفه غرفة واسعة، وعلى فراش قديم تمدَّد رجل عجوز، قد تغطَّى ببطانية من الصوف الثقيل … كان أبيض الشعر والحاجبَين واللحية، ضخم الوجه، واسع العينَين … وقال «بو سعيد»: مساء الخير يا عم …
ردَّ الرجل بصوت عميق: أسعدت مساءً يا ولدي …
أشار «بو سعيد» إلى «أحمد» و«بو عمير» وقال: إنهما يطلبان المساعدة …
ولم يردَّ الرجل العجوز فمضى «بو سعيد» يقول: إنهما من أصدقاء «مارشيه» …
لمعت في عينَي العجوز نظرة خاطفة، وقال: تفضَّلا.
وأشار إلى مائدة قد صُفَّت حولها بضعة كراسي، وامتدَّت عليها غلَّاية كهربائية يتصاعد منها البخار، وقال العجوز: قدِّم لهما الشاي يا «بو سعيد» …
ثم نظر إلى «أحمد» و«بو عمير»، وقال: من أين؟
ردَّ «أحمد»: من القاهرة.
هزَّ الرجل رأسه، ثم مدَّ يده وأخرج غليونًا قديمًا ملأه بالدخان، وأخذ يُدخِّن في هدوء … ثم قال: إن «مارشيه» رجل طيب … إنه فرنسي ولكنه ساعدنا نحن ثوار الجزائر أيام الثورة، وكان خير عون لنا في تدبير الأسلحة ونقلها إلى بلادنا.
قال «أحمد»: إنه صديق لزعيمنا.
سعل الرجل العجوز، ثم قال: أي مساعدة تطلبان؟
تردَّد «أحمد» لحظات خاطفة، فقال «بو سعيد»: إن عم «الأخضر» عنده جميع المعلومات عن العالم السفلي في «باريس»، وهو وحده القادر على مساعدتكما بالسلاح والرجال …
قال «أحمد» على الفور: إننا خلف رجل يُدعى «مالمو». إنه يعمل ضد الدول العربية ويُحاول القضاء علينا.
أغمض الرجل العجوز عينَيه ثم قال: «مالمو» … إنني لم أسمع هذا الاسم من قبل!