تحت الأرض في «باريس»
نظر «أحمد» و«بو عمير» إلى «بو سعيد»، الذي كان منهمكًا في إعداد الشاي، فقال: أنا أيضًا لم أسمع بهذا الاسم من قبل، كل ما عرفته من «مارشيه»، أنكم قادمون لمطاردة مجرم كان له معكم جولات سابقة، ولكن لم يتسع الوقت لأسأله عنه، وكان المفروض أن يتم هذا الحديث بعد حضوركم.
لم يتحدَّث «أحمد» على الفور … وكانت مشكلة أن يدلي بمعلوماته عن «مالمو» إلى شخصية لم يرَها إلَّا منذ فترة قصيرة، ولا يدري ماذا يمكن أن يحدث، إذا اتضح أنهما مدسوسان على الشياطين …
وتبادل هو و«بو عمير» النظرات، وفهم «أحمد» من نظرة «بو عمير» أنه لا بد من الإدلاء بالمعلومات، رغم ما في ذلك من مخاطرة.
قال «أحمد»: إن «مالمو» مجرم من طراز جديد … فهو قارئ أفكار، يستطيع معرفة أية معلومات تدور في ذهن شخص ما، إذا استطاع تحديد مكان هذا الشخص، أو رأى صورته! … إن عنده قدرةً خارقةً على قراءة الأفكار على مسافة بعيدة، ممَّا جعله أداةً فعَّالة في أيدي العصابات العالمية!
بدت الدهشة على وجه الرجل «العجوز»، والتفت «بو سعيد» وأخذ يستمع باهتمام مشوب بالدهشة … ومضى «أحمد» يقول: وقد استأجرته مجموعة من العصابات للقضاء على تنظيمنا الذي يعمل أساسًا لحماية الدول العربية من المؤامرات التي تقوم بها الجهات الأجنبية …
قال «الأخضر»: وهل سبق تعاملكم معه؟
ردَّ «أحمد»: نعم، كان لنا معه جولتان؛ واحدة في «بيروت»، والثانية في «القاهرة»، وقد كان هدفه في المعركة الأولى القضاء على زعيمنا … وكان هدفه في المعركة الثانية خطف عالم ذري مصري … وقد استطعنا إحباط خططه والقضاء على أعوانه. ومعلوماتنا تُؤكِّد أنه نزل أولًا في «صقلية» ثم جاء إلى «باريس». وقد رأى زعيمنا أن نُهاجمه في «باريس» قبل أن يعود للهجوم علينا. وكان المفروض أن نحصل على معلومات وافية عنه من «مارشيه»، الذي لم نجده في المكان المتفق عليه، ووجدنا منه رسالةً أن نلتقي بشخص يُدعى «بو سعيد» في محل «بيير»، وقد قابلنا «بو سعيد» الذي قادنا إليك.
أخذ العجوز يُفكِّر مليًّا، ثم قال: «صقلية» … مقر عصابة المافيا!
أحمد: هذا ما قصدناه أيضًا!
زم الرجل العجوز شفتَيه، وبدا واضحًا أنه لا يكاد يُصدِّق ما يسمع … وتذكَّر «أحمد» إصابة «عثمان» فقال مسرعًا: لقد سرَقَنا الحديث … لنا صديق مصاب برصاصة في فخذه، ونخشى أن نذهب به إلى طبيب حتى لا نتعرَّض لمشاكل!
ردَّ «بو سعيد»: هذه مسألة سهلة … لنا طبيب صديق ساعدنا أثناء الثورة الجزائرية، ولا يتردَّد في مساعدتنا في أي وقت.
قال «أحمد»: إن صديقنا نائم الآن في فندق «فوجيرار».
بو سعيد: هل يستطيع السير؟
أحمد: بصعوبة!
بو سعيد: لا بأس … سأُحدِّث الطبيب الآن، ثم كلِّم صديقك ليذهب إليه!
وأمسك «بو سعيد» بسمَّاعة التليفون، وطلب رقمًا ثم انتظر قليلًا، وتحدَّث بالفرنسية إلى شخص ما واستمع قليلًا، ثم التفت إلى «أحمد» قائلًا: سينتظره في خلال ساعة.
أخرج «أحمد» من جيبه بطاقة الفندق، ونظر إلى رقم التليفون، ثم طلب الفندق، وتحدَّث إلى «إلهام» وأملاها العنوان الذي أعطاه له «بو سعيد»، وأحسَّ ببعض الراحة والطمأنينة إلى «بو سعيد» و«الأخضر».
وضع «أحمد» السمَّاعة، ثم التفت إلى «الأخضر» قائلًا: والآن هل ستُساعدنا يا سيدي؟
ردَّ «الأخضر»: إنني لا أدري كيف أُساعدكم … إنكم عرب مثلنا، وبالطبع سوف نُساعدكم بكل ما نستطيع، المهم كيف؟
ساد صمت لم يكن يقطعه إلَّا صوت إعداد الشاي الذي انتهى «بو سعيد» من إعداده، وبدأ يُقدِّمه …
ثم قال «أحمد»: إننا جميعًا — وعددنا خمسة — قد تعرَّضنا لسلسلة من المطاردات، ونستطيع وصف الأشخاص الذين طاردونا، وربما أمكن عن طريقهم الوصول إلى مكان «مالمو».
نظر إليه «الأخضر» قليلًا … ثم قال: لا بأس … ولكن هذا يستغرق بعض الوقت.
أحمد: أليس أمامنا حل آخر!
الأخضر: هناك حل واحد سريع، أن تضعوا لهم طُعمًا! …
أحمد: لقد فكَّرتُ في هذا … أن نبرز إلى الميدان ولكن مع «مالمو»، هذا خطر جدًّا؛ إنه إذا استطاع أن يحصل على واحد منا حيًّا فسوف يتمكَّن من قراءة أفكاره، وببساطة جدًّا سيعرف كل شيء عنا، بما في ذلك علاقتنا بك أنت و«بو سعيد».
أخذ الرجل العجوز يُمشِّط لحيته وهو يشرب الشاي في رشفات متتابعة سريعة، ثم نظر إلى «بو سعيد»، الذي قال: ليس أمامنا إلَّا تنفيذ خطتهم …
هزَّ «الأخضر» رأسه علامة الموافقة، فأشار «أحمد» إلى «بو عمير» الذي بدأ حديثه قائلًا: جئتُ على الطائرة الفرنسية مباشرةً إلى «باريس»، وقد لاحظتُ أن شخصًا يركب في نفس الصف الذي أجلس فيه يُراقبني، وهو رجل متوسِّط القامة شديد الأناقة يبدو كرجال الأعمال، أبيض اللون، أشقر الشعر، في وجهه نمَش خفيف يتكاثر عند أُذنيه، وسيم يُشبه إلى حد ما الممثل «آلان ديلون»، وقد صوَّرني بآلة تصوير دقيقة تُشبه القلم، وها هي …
ومدَّ «بو عمير» يده في جيبه فأخرج آلة التصوير، وناولها ﻟ «الأخضر» الذي تأمَّلها لحظات، ثم قال: إنها عصابة قوية حقًّا …
بو عمير: أرجو أن تُحمِّضوا الفيلم؛ فقد نجد فيه صورًا غير صوري لها أهمية.
ناول «الأخضر» الكاميرا الرفيعة إلى «بو سعيد»، الذي وضعها في جيبه، ثم بدأ «أحمد» الحديث: أخذنا الطائرة أنا وزميلتي «إلهام» إلى لندن، ولم نلحظ في الطائرة شيئًا غير عادي، ولكن يبدو أننا كنا متبوعَين دون أن ندري، وربما يكونون قد صوَّرونا كما فعلوا مع «بو عمير»، ولكننا لم نُدرك هذا إلَّا عندما قرَّرنا عبور المانش، من «دوفر» إلى «كاليه» بالمركب؛ فقد لاحظت أن وجهًا أو أكثر من الركَّاب الذين كانوا معنا على الطائرة يركبون معنا، وأجريتُ تجرِبةً بسيطةً للتأكُّد، وعرفت على الفور أنهم ثلاثة رجال، أحدهم تبدو كتفه اليمنى أعرض من اليسرى …
قال «بو سعيد» على الفور: إنني أعرفه!
ساد الصمت بعد هذه الجملة، والتفت الجميع إلى «بو سعيد» الذي قال: إنهم يدعونه «الطحَّان»؛ فهو يستطيع فعلًا طحن أي شيء يقع في يده اليمنى، التي نمت نموًّا غير عادي على حساب يده الأخرى لسبب لا أدريه. وهو ضمن مجموعة من القتلة المأجورين، يعيشون قرب قلعة «كاركاسون» في جنوب فرنسا، حيث يكونون قريبين من موطنهم الأصلي في «صقلية»، وحيث يهربون بعد عمليتهم … ومن المؤكَّد أن هذه المجموعة تُمثِّل أقوى وأعتى مجموعة من القتلة المأجورين في أوروبا كلها.
قال «الأخضر»: لقد وضعنا يدنا على طرف الخيط ولكن …
وصمت قليلًا وهو ينظر إلى «بو عمير» و«أحمد»، ثم قال: ألستما وأصدقاؤكما أصغر من أن تُواجهوا هذه المجموعة القوية من الأشقياء، ومعهم هذا المجرم الفريد «مالمو» الذي لم أسمع عن نظير له من قبل؟!
تبادل «أحمد» و«بو عمير» النظرات … وابتسم «أحمد» وهو يقول: تستطيع أن تعتمد علينا يا سيدي في أي صراع … إن ما نحتاجه منك أن تضعنا وراء هؤلاء وتعطينا الأسلحة اللازمة ولا شيء آخر.
الأخضر: لقد ساعدنا «مارشيه» كثيرًا، ونحن متأكِّدون أنه لم يخنكم، وسنعمل معًا من أجل شيئَين … أولًا أنكم عرب مثلنا، ويجب أن نُساعدكم مهما كان الثمن … والثاني أن نبحث عن «مارشيه»، فهو فرنسي شريف ساعدنا في وقت المحنة.
وفي هذه اللحظة دقَّ جرس التليفون ورفع «بو سعيد» السمَّاعة، واستمع لحظةً ثم قال مندهشًا: تليفون لك يا «أحمد»!
«أحمد» وهو أشد دهشة: لي أنا؟!
بو سعيد: نعم! وليس في «باريس» إلَّا عدد محدود من الناس يعرف رقم هذا التليفون!
وضع «أحمد» السمَّاعة على أذنه واستمع … كانت المتحدثة هي «إلهام»، قالت: إنني و«عثمان» في عيادة الطبيب الآن … وقد حصلت على رقم التليفون من الطبيب بعد جدل طويل …
ثم سكتت قليلًا، وقالت بصوت متوتر: «أحمد» … إننا مراقبون، بل أستطيع أن أقول إننا محاصرون!
أحمد: في عيادة الطبيب؟!
إلهام: إنها ليست عيادةً بالمعنى الصحيح، ومن الواضح أنها تُستخدم في الأعمال السريعة فقط، وقد رأيت أحد الرجال الثلاثة الذين كانوا يُراقبوننا أثناء عبور المانش، يحوم حول المكان ونحن داخلون، وليس معنا أسلحة، والطبيب في غاية الاضطراب!
أحمد: سنأتي فورًا.
ثم وضع سمَّاعة التليفون والتفت إلى «الأخضر» قائلًا: إن رجال «مالمو» وفيهم هذا «الطحَّان» ذو الذراع القوية يحاصرون العيادة، وأصدقائي الثلاثة هناك …
لمعت عينا «الأخضر»، وأشار إلى «بو سعيد» وقال: اذهب معه … سنرى ما يُمكنكم عمله أيها الشباب.
عاد الثلاثة إلى الدهليز الذي دخلوا منه إلى مخبأ «الأخضر»، وعندما وصلوا إلى منتصفه، أشار «بو سعيد» بالوقوف، ثم حرَّك ما يُشبه ماسورة مياه ممتدَّة على الجدار، فانفتح الحائط عن دهليز مظلم أضاءه «بو سعيد»، وأشار لهما بأن يتبعاه، ثم أغلق بابه خلفهم، ومضى وهو يقول: سنخرج إلى مكان قريب جدًّا من العيادة. إن هذه المجموعة من السراديب الخفية تحت الأرض لا يعرفها سوانا، وقد قمت بعلاج مئات من الثوَّار الجزائريين عبر هذا الطريق …
كان السرداب متشقِّقًا يكاد ينهار، وأرضه تغمرها المياه، وقد تساقطت بعض أحجاره، وأخذت الفئران المذعورة تجري هنا وهناك أمامهم، والثلاثة يُسرعون في طريقهم إلى نهاية السرداب، ولكن قبل النهاية بقليل أشار «بو سعيد» لهما بالتوقُّف، وأخرج من جيبه سلسلةً من المفاتيح اختار منها مفتاحًا، ثم اقترب من باب في الجدار وأولج المفتاح وفتح الباب …