صراع على شاطئ «السين»
كواحدة من الشياطين اﻟ «١٣»، أدركت «زبيدة» أن هذه فرصتهم الوحيدة قبل أن يذوب «مالمو» في «باريس» ولا يعثرون له على أثر، ولم يكن يدور في ذهنها أي تردُّد في الاستعداد للتضحية بنفسها في سبيل القضاء عليه!
وشاهدت «الجرسون» ينحني أمام «مالمو» وزميله، وأخذ «مالمو» يقرأ قائمة الطعام، فعرفت أن أمامها وقتًا يتراوح بين نصف ساعة وأربعين دقيقة، فقرَّرت أن تستغل كل ثانية، فنظرت حولها حتى عرفت مكان التليفون … لقد قرَّرت أن تتصل بالشياطين مرةً أخرى قبل أن تتصرَّف، ثم رسمت خريطةً سريعةً للمكان في ذهنها، بحيث تستطيع المرور بين الموائد دون أن يُشاهدها «مالمو»، وقامت واقفةً واتجهت إلى جهاز التليفون، وطلبت فندق «فوجيرار» مرةً أخرى، ودقَّ قلبها سريعًا عندما ردَّت عاملة التليفون، وسألتها عن اسمها فقالت «زبيدة» … قالت الفتاة: هناك رسالة لك يا آنسة … إن شخصًا يُدعى «أحمد» يطلب منك الاتصال به في هذا الرقم …
ثم أملتها رقمًا حفظته «زبيدة» على الفور، فقد كان حفظ الأرقام ضمن التدريبات التي تلقَّوها في المقر السري، وشكرت العاملة ثم أدارت قرص التليفون، وردَّ عليها صوت يتحدَّث الفرنسية بلكنة مختلفة، وعرفت على الفور أنه لا بد أن يكون «بو سعيد»، ولكن على سبيل الحذر قالت بالعربية: أنا «زبيدة» … وسمعت «بو سعيد» يقول: نعم يا آنسة، أنا «بو سعيد» … ونحن قلقون عليكِ …
زبيدة: إنني على ما يرام، شكرًا … هل أستطيع أن أُكلِّم «أحمد»؟
بو سعيد: لحظة واحدة …
كانت «زبيدة» تتحدَّث وعيناها على «مالمو» وهو جالس يتحدَّث مع زميله، ولم يكن الطعام قد وصل بعد … وسمعت صوت «أحمد» يقول: «زبيدة» … أين أنتِ؟!
قالت: كيف حالكم؟
أحمد: نحن على ما يرام، وأنتِ؟
زبيدة: على ما يرام أيضًا، المهم … إن «مالمو» أمامي الآن!
لم يردَّ «أحمد» على الفور، وعرفت أنه في غاية الدهشة … ثم قال: هل أسروك؟!
ولم تتماسك «زبيدة» نفسها من الضحك … لقد تصوَّر «أحمد» أنهم أسروها، وأنهم يُجبرونها على الكلام فقالت تطمئنه: لا … لقد حاولوا، ولكني تركت ثلاثةً منهم في سيارة مهشَّمة بالقرب من «فرساي»!
أحمد: إذن أين أنت وأين «مالمو»؟
زبيدة: إنه يجلس الآن في أحد مطاعم الطابق الثاني من برج «إيفل» ينتظر العشاء ومعه أحد الرجال الذين طاردوني أنا و«عثمان» في «روما» …
أحمد: هل تبعته إلى هناك؟
زبيدة: أبدًا … كنت جائعةً وقرَّرت أن أتناول عشاءً هادئًا في البرج، ولكن «مالمو» دخل منذ دقائق.
ساد الصمت لحظات ثم قال «أحمد»: يجب أن ننتهز هذه الفرصة!
زبيدة: هذا ما فكَّرت فيه، ولكن المهم كيف …؟!
أحمد: انتظري لحظات!
كانت عيناها تتابعان «مالمو» وزميله الذي أخرج من جيبه خريطة، وأخذ يُشير إلى عدة أماكن فيها، و«مالمو» يُتابعه … وفكَّرت «زبيدة» أنهما يتحدثان عن مكان العيادة حيث دارت المعركة، وربما يضعان خطةً للهجوم …
ومرَّت ثوان، وثوان، ووصل الطعام إلى «مالمو» وزميله … وعرفت «زبيدة» أن الوقت يمضي سريعًا، فأخذت تقول: ألو، ألو … خاصةً وقد وقف شخص خلفها يُريد استعمال التليفون … وأخيرًا سمعت صوت «أحمد» يقول: «زبيدة» … إن قرارنا سيُعرِّضك لمخاطر ضخمة!
زبيدة: دعك من المخاطر والمخاوف، ما هي الخطة؟
أحمد: نُريدك أن تستدرجي «مالمو» إلى مكاننا!
زبيدة: أين أنتم؟
أحمد: إننا جميعًا ومعنا «بو سعيد» وصديق يُدعى «الأخضر» في سرداب تحت الأرض ليس بعيدًا عن البرج، وللأسف إن الأسلحة الموجودة قليلة، ومن نوع قديم، ولا تُصلح مع هؤلاء … لهذا لا بد من استخدام الحيلة والحذر.
زبيدة: وما هو المطلوب مني بالضبط؟
أحمد: راقبي «مالمو» حتى ينتهي من عشائه، وعندما يُحاول الانصراف قومي أنت أيضًا واتركيه يراك وسوف يتبعك على الفور، ثم سيري بجوار نهر «السين» في اتجاه كاتدرائية «نوتردام»، وعند الباب الرئيسي المطل على النهر قفي هناك … واتركي الباقي لنا!
زبيدة: سأقوم بتنفيذ المطلوب مني!
أحمد: سأحضر أنا و«بو عمير» فورًا، فعن طريق السراديب التي تحت الأرض يمكن أن نصل إليك في دقائق، وسنتبع «مالمو» وزميله من بعيد، ولكن …
زبيدة: ولكن ماذا؟
أحمد: إذا أحسست بخطر عاجل فلا تتردَّدي في الفرار واتصلي من أي مكان برقم التليفون، وستجدين من يرد عليك؛ ﻓ «الأخضر» لا يُغادر مكانه إلَّا نادرًا، و«عثمان» لا يستطيع الحركة الآن.
زبيدة: فهمت … إلى اللقاء!
وضعت «زبيدة» السمَّاعة وعادت إلى مكانها من نفس الطريق، وجلست ترقب «مالمو» وزميله وهما يتناولان طعام العشاء … ثم ظهر رجل ثالث اتجه إلى حيث يجلس الرجلان، ومال عليهما وأخذ يتحدَّث مشيرًا بيدَيه، ولم تشك لحظةً في أنه يروي ما جرى في العيادة، والمطاردة التي كانت هي أحد طرفَيها … ورأت «مالمو» يمسح يدَيه في الفوطة بعصبية ثم يُلقي بها على المائدة، ويتحدَّث وقد احتقن وجهه وهو يُشير بيدَيه!
كان حضور هذا الرجل يُمثِّل تطوُّرًا مفاجئًا في الموقف لم يكن في الحسبان، وكان على «زبيدة» أن تُعاود الاتصال، ولكن الأحداث لم تسمح لها … فقد قام «مالمو» من مكانه غاضبًا، وبدأ يتحرَّك خارجًا، بينما كان زميله يدفع الحساب، ولم يكن أمام «زبيدة» إلَّا أن تتصرَّف حسب الخطة المتفق عليها، فأسرعت هي الأخرى تدفع الحساب، ثم تحرَّكت إلى وسط المطعم متظاهرةً أنها لا ترى «مالمو» وزميلَيه، بينما كانت ترمق بطرف عينها الرجال الثلاثة، وقد حدث ما توقعته تمامًا … فقد أمسك الرجل الذي طاردها هي و«عثمان» في إيطاليا بذراع «مالمو»، الذي التفت إليه في ضيق، وأشار الرجل بيده الثانية إلى «زبيدة»، وهمس في أذن «مالمو» بكلمات؛ تغيَّر بعدها لون وجه «مالمو» على الفور … وسارت «زبيدة» بهدوء وأخذت طريقها إلى خارج المطعم، وكانت تستطيع دون أن تلتفت خلفها أن تُدرك أن الرجال الثلاثة يتبعونها؛ فقد كان صوت أقدامهم المسرعة واضحًا على ممرات البرج الحديدية …
وصلت «زبيدة» إلى الشارع ومشت في طريقها إلى نهر «السين»، ورغم محاولتها البحث عن «أحمد» و«بو عمير» فلم تجد لهما أثرًا، وقد كانت شبه متأكِّدة أنهما لم يتمكَّنا من الوصول إلى البرج في هذا الوقت القصير … ومضت بخطو بطيء محاولةً كسب الوقت، وفي منعطف طريق سمعت صوت أقدام مسرعة حولها، وأحسَّت بشخص يجذبها من ذراعها محاوِلًا شدَّها إلى الشارع الجانبي. وكانت مسألة سهلة بالنسبة لها أن تتخلَّص منه؛ فقد أمسكت بالذراع التي امتدَّت إليها بسرعة خارقة، ثم ثنتها على كتفها حتى سمعت طرقعة العظم في أذنها، وانحنت إلى الأمام، فدار الرجل فوق كتفها، وارتفعت ساقاه في الفضاء، ثم نزل على الأرض في سقطة داوية لم يستطِع القيام منها! …
وعلى الضوء الخافت الذي يتسلَّل من ضباب شتاء «باريس» البارد، لمحت «زبيدة» في حزام الرجل الممدَّد على الأرض مسدسًا يلمع، وكان هذا كل ما تتمناه في هذه اللحظة، فانحنت بخفة وجذبت المسدس، ومضت في طريقها كأن لم يحدث شيء، ولكن فجأةً تذكَّرت شيئًا خطيرًا … إن «مالمو» خلفها، و«مالمو» ليس مجرمًا عاديًّا يتم التعامل معه بقوة العضلات أو برصاص المسدسات، ولكنه قارئ الأفكار … وفي إمكانه الآن أن يقرأ ما تُفكِّر فيه، ولعله قرأه فعلًا!
أخذت «زبيدة» تُسرع الخطو بدلًا من البطء الذي كانت تتعمَّده، محاوِلةً إبعاد أفكارها عن الشياطين اﻟ «١٣»، والخطة المتفق عليها مع «أحمد»، ولكن عبثًا حاولت … كان الموقف متوتِّرًا كله، ولم يكن في إمكانها إلَّا أن تُفكِّر فيما تفعله، وما يفعله الشياطين الأربعة في هذا الوقت!
وفجأةً سمعت خلفها مرةً أخرى صوت أقدام، ولكنها في هذه المرة لم تكن لرجل واحد، كانت أقدام كثيرة، ولم يكن أمامها إلَّا أن تلتفت خلفها، ورأت على الأضواء التي يلفها الضباب صراعًا ينشب بين مجموعة من الرجال، وبعض المارة على الجانب الآخر من الشارع قد توقَّفوا ينظرون … وأدركت — رغم بُعد المسافة نسبيًّا — أن بين المتصارعين «أحمد» و«بو عمير» … ولم تتردَّد «زبيدة» فمضت بأقصى سرعتها عائدةً إلى حيث كانت المعركة، وشاهدت «أحمد» يُهاجمه رجلان من الجانبَين، وهو يتراجع في انتظار فرصة للانقضاض عليهما، وبثلاث قفزات متتالية كانت قد وصلت إلى مكان الصراع، وضربت أقرب الرجلَين إليها بحذائها ضربةً فنيةً تُصيب الساقين في وقت واحد، فترنَّح الرجل وسقط! … وقفز «أحمد» على الرجل الآخر، وشاهدته «زبيدة» وهو يرفعه إلى فوق ويقذفه على رجل آخر كان يستعد في هذه اللحظة لإطلاق الرصاص!
وفي هذه اللحظة ارتفع صوت صفَّارات رجال البوليس، وصوت سيارة تُطلق بوقها المرتفع بانتظام، فأدركت أن البوليس الفرنسي يتدخَّل، وصاح بها «أحمد»: اهربي! وأسرعت تجري واختفت قرب شجرة، ووجدت «بو عمير» يُقبل عليها، وقال لها: تعالَي خلفي … إن باب السرداب قريب!
مضت خلافه في الظلام، ولم تتمالك نفسها من أن تنظر خلفها، وشاهدت رجال البوليس في مكان المعركة التي خلت بسرعة من المتعاركين، عدا الذين سقطوا … وبعد دقائق قليلة وجدت «بو عمير» يدق بابًا بطريقة معيَّنة، ثم وجدت نفسها تنزل سلالم قديمة ترشح بالماء، وقال «بو عمير»: هذا هو السرداب السري!
نزلا مسرعَين، ولحسن الحظ وجدا «أحمد» قد سبقهما بخطوات، ولحق بهما «بو سعيد» الذي فتح لهما الباب …
وظل الثلاثة يسيرون حتى وصلوا إلى حجرة «الأخضر»، وفي جانب منها كان «عثمان» وبجواره «إلهام» …
وقبل أن يتحدَّث «أحمد» قالت «زبيدة»: إن هذا المكان لم يعد مأمونًا … لقد رأيت «مالمو» يتحدَّث مع أحد رجاله وأمامهما خريطة، لا أشك لحظةً أنها ﻟ «باريس» … ومن المؤكَّد أنهما كانا يُحدِّدان مكاننا. وبعد المعركة التي جرت الآن، سيتمكَّن «مالمو» من الوصول إلينا حالًا!