النظرة الأخيرة
ساد الصمت بعد ما قالته «زبيدة»، ثم قطع الصمت صوت «بو سعيد» قائلًا: لا أظن أنهم سيهاجموننا الآن … إن وجود الشرطة سوف يمنعهم.
ولكن لم يكد «بو سعيد» ينتهي من جملته، حتى قفزت «إلهام» من مكانها وصاحت: اسمعوا!
ولزموا الصمت جميعًا … وسمعوا بما لا يدع مجالًا للشك صوت هدير بعيد، كأن آلافًا من الفئران تجري في سراديب المخبأ الذي يجلسون فيه … وأخذ الصوت يرتفع دون أن يعرفوا ما هو، ثم قال «بو سعيد»: لعلها سيارة شحن ثقيلة تمر فوقنا.
ولكن «إلهام» قفزت من مكانها، وقالت: هل تشعرون بتيار هواء قادم من هذا الاتجاه؟!
وأشارت إلى فتحة من فتحات الدهاليز التي تتفرَّع من الغرفة التي يجلسون فيها …
وقال «أحمد»: نعم، إنني أُحس به!
وأسرعت «إلهام» وخلفها «أحمد» إلى فتحة الدهليز وغابا فيه، وبعد لحظات عادا جريًا، وقال «أحمد»: إننا مهدَّدون بالغرق!
بو عمير: كيف؟!
أحمد: لا أدري!
ثم وجَّه كلامه إلى «الأخضر» قائلًا: هل هناك سرداب يُؤدِّي إلى نهر «السين»؟
ردَّ «الأخضر» وقد تغيَّر وجهه: نعم … إنه السرداب الذي دخلت منه … وهناك سرداب آخر.
وأشار إلى جانب مغلق في الحائط.
قال «أحمد»: لقد فتحوا نهاية السرداب، ومياه «السين» تتدفَّق داخله … وفي دقائق قليلة سوف يغرق هذا المكان!
ولم يكد «أحمد» ينتهي من جملته حتى بدت خيوط من المياه كالثعابين تتلوَّى داخله!
وصاح «أحمد»: عثمان … هيا!
وقفز «أحمد» إلى جوار «عثمان» وأخذ يُساعده على الوقوف، وارتفعت الأصوات وهم يُسرعون إلى السرداب الذي يُؤدِّي إلى العيادة، ولكنهم بعد أن صعدوا السلم فوجئوا بمدخل الدهليز مغلقًا، وحاولوا فتحه ولكن عبثًا … وكان واضحًا أن عصابة «مالمو» قد وضعت شيئًا ثقيلًا عليه … فعادوا جريًا إلى الغرفة، وكانت نظرة واحدة إليها تُؤكِّد لهم أن موتهم غرقًا أمر لا مفر منه؛ فقد ارتفعت المياه في دقائق قليلة إلى ارتفاع ربع متر تقريبًا، وأخذت تجرف كل ما تُقابله من قطع الأثاث وغيره!
قال «الأخضر» وقد بدت على ملامحه علامات الضيق والتحدي: ليس أمامنا إلَّا السرداب الآخر المؤدي إلى النهر، وهناك قارب بخاري يمكن أن نهرب به!
وأخذ «الأخضر» و«بو سعيد» يحاولان فتح باب السرداب … كان الباب قديمًا وقد التصق بالحائط كأنه قطعة منه … وبدا واضحًا أن جهود الشيخ العجوز والشاب هي مجرَّد عبث، فقال «أحمد»: أخرجوا المسدسات التي معكم! وظهرت ثلاثة مسدسات في يد «بو عمير» و«أحمد» و«زبيدة»، وكانت هناك بندقية سريعة الطلقات معلَّقةً على الحائط، خطفها «بو سعيد» … وقال «أحمد»: صوِّبوا واضربوا الباب!
وارتفع في الغرفة ضجيج طلقات الرصاص وكأنها معركة … وانهالت الرصاصات على جانب الباب كالسيل المنهمر، ثم قال «أحمد»: والآن … احملوا فراش «الأخضر» وسنضرب به الباب!
كانت مياه النهر تتسرَّب بسرعة وحشية إلى الغرفة، وقد أخذت ترتفع حتى تجاوزت نصف المتر. وحمل «أحمد» و«بو عمير» و«بو سعيد» الفراش الحديدي، وعادوا إلى الخلف خطوات ثم انقضُّوا على الباب بكل قواهم فانفتح الباب بعد أن أخذ معه جزءًا من الجدار المهترئ، فاندفعوا جميعًا إلى السرداب، وأخذوا يجرون محاولين سبق المياه التي كانت تتبعهم في جنون، كأنها في سباق معهم! …
أخذوا يجرون، وارتفعت في جنبات السرداب أصوات الفئران التي أخذت تتخبَّط في أقدامهم، والمياه تجري خلفهم … و«عثمان» يعرج معتمدًا على ذراع «أحمد» …
واستمر السباق نحو عشر دقائق، ثم وصلوا إلى نهاية الدهليز، وللمرة الثانية واجهتهم مشكلة فتح الباب المؤدِّي إلى مرساة القارب البخاري، فقال «أحمد»: الرصاص أولًا، ثم استخدموا أكتافكم!
وانهالت طلقات الرصاص على جانب الباب، ثم استجمع «أحمد» و«بو عمير» و«بو سعيد» قوَّتهم وانقضُّوا على الباب بأكتافهم، وتزلزل الباب من مكانه، وسقط مع كومة من الأحجار، وقال «الأخضر»: إنه لم يُفتح منذ خمس عشرة سنة!
صعد الجميع مسرعين إلى حيث مرسى القارب. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، والجو شديد البرودة، والضباب يُغطِّي وجه النهر …
قالت «إلهام»: المهم أن يسير القارب!
قال «بو سعيد»: إنني أتنزَّه به كل أسبوع في يوم الأحد!
وقفزوا إلى القارب … كان صغيرًا فانحشروا في مقاعده القليلة، وقام «بو عمير» بإدارة المحرِّك، ولحسن الحظ دار المحرك، وبدأ القارب يتحرَّك مغادرًا الشاطئ، ولكن لم يمضِ سوى أمتار حتى ظهر في الضباب الكثيف ضوء كشَّاف قوي، أخذ يدور لحظات ثم استقر على القارب الصغير … وأدار «بو سعيد» مقدَّم القارب بمهارة ثم اندفع مبتعدًا، ولكن ضوء الكشاف سرعان ما أحاط بهم مرةً أخرى، وبدا واضحًا أنه يصدر من قارب آخر أكثر ارتفاعًا … هل كان قارب رجال الشرطة؟ قال «أحمد»: دُر مرةً أخرى واقترب منهم في شكل دائرة، وأوقف المحرك … إنهم يتمكَّنون من متابعتنا على صوت المحرِّك.
نفَّذ «بو سعيد» تعليمات «أحمد»، فأوقف المحرِّك عن العمل، ثم دار بالقارب دورةً واسعةً مقتربًا من مصدر الضوء في شكل نصف دائرة، وبحيث يقتربون من جانب القارب دون أن يصل إليهم ضوء الكشَّاف … وقد نجحت المغامرة وأصبح قاربهم الصغير بجوار القارب الكبير على الجانب الأيمن، دون أن يتمكَّن من في القارب الكبير من رؤيتهم؛ بسبب الضباب الكثيف الذي كان يُغطِّي سطح النهر … وكانت لحظات خطرة تحتاج إلى قرار، فقال «أحمد»: سيصعد الشياطين إلى سطح القارب المعادي عدا «عثمان»، وعلى الباقين الانتظار ساعةً بالضبط من لحظة صعودنا إلى السطح … ثم ينصرفون إذا لم نظهر!
بو سعيد: سأنضم لكم!
أحمد: إن بقاءك هنا لا يقل أهمية؛ فسوف نحتاج لك إذا اضطُررنا إلى الانسحاب.
واقترب القارب الصغير في الضباب الكثيف، حتى التصق بالقارب الكبير، واستعد الشياطين الأربعة؛ «أحمد» و«بو عمير» و«إلهام» و«زبيدة»، وقد حمل كلٌّ من «أحمد» و«بو عمير» و«زبيدة» مسدسًا، بينما حملت «إلهام» بندقيةً سريعة الطلقات، وطلب منها «أحمد» هامسًا أن تكون في حمايتهم من الخلف.
كان «أحمد» أول من بدأ الصعود على الحبل الذي يتدلَّى من نهاية القارب الكبير لربطه بالشاطئ، وبمهارة القرد تسلَّق الحبل حتى وجد نفسه عند نهاية القارب، فرفع رأسه ونظر، ولم يستطِع أن يرى شيئًا، ثم تبيَّنت عيناه بعض البقع الضوئية في أماكن متعدِّدة من القارب الكبير، فاستلقى على بطنه وزحف إلى الأمام، وخلفه جاء «بو عمير» ثم «زبيدة» ثم «إلهام»، وبعد أن أصبح الأربعة على سطح القارب وقفوا …
وبدءوا تحرُّكهم إلى الكابينة الرئيسية التي تتوسَّط القارب، وصل «أحمد» أولًا إلى السلَّم، دون أن يلتقي بأحد. كان يعرف أنهم جميعًا متجمِّعون في مقدمة القارب حول الكشَّاف، وهم يبحثون عن القارب الصغير الذي كان ملتصقًا بنهاية القارب الكبير …
نزل «أحمد» درجات السلَّم محاذِرًا، وسار في دهليز مضاء، في نهايته باب كله من الخشب، عدا فتحتَين أعلاه يغطيهما الزجاج. رفع «أحمد» رأسه ونظر من خلال الزجاج إلى الكابينة، وأحسَّ بأعصابه كلها تتوتَّر عندما شاهد الجالسين في الداخل … كان «مالمو» يجلس في الوسط وقد وضع أمامه على المائدة كوبًا من الشراب، ومدفعًا رشاشًا. وبجواره جلس رجل آخر شرس الهيئة ضخم الجسم. وفي جانب من الكابينة كان ثمة رجل متوسِّط القامة موثق اليدَين والقدمَين. لم يشكَّ لحظةً أنه «روشيه»، صديقهم المعروف باسم «العصفور الأبيض».
فكَّر «أحمد» لحظات … إن الثواني القادمة بالتأكيد ثوانٍ حاسمة … إمَّا الانتصار والتخلُّص من «مالمو» إلى الأبد، وإمَّا هزيمتهم …
والتفت خلفه وأشار إلى «إلهام» وأخذ منها المدفع الرشاش، وأعطاها المسدس، ثم قال بصوت خافت: إن «مالمو» هنا. سأقتحم المكان … يدخل بعدي «بو عمير» بربع دقيقة، ثم «زبيدة» بعده بربع دقيقة، ثم «إلهام» بعدها بربع دقيقة. في كل مرة يجب أن نأمن المفاجآت.
ودفع «أحمد» الباب بقدمه ودخل … كانت لحظةً من أشد لحظات حياته إثارة، عندما شاهد «مالمو» يرفع عينَيه إليه في نظرة ثابتة. ومد الرجل الجالس بجوار «مالمو» يده إلى المدفع الرشَّاش، وضغط «أحمد» على زناد مدفعه، ولكن … لم ينطلق المدفع! …
وابتسم «مالمو» قائلًا: إنها أسلحة قديمة يا صديقي! لقد أكلها الصدأ!
كانت لحظةً هائلة … ورفع الرجل المدفع الرشاش، ولكن قبل أن يضغط الزناد، كانت رصاصة من خلف «أحمد» قد مرقت عبر الكابينة وأصابت الرجل في رقبته! … فمال إلى الأمام … وانطلق المدفع الرشَّاش في أرض الكابينة محدثًا دويًّا رهيبًا! … واندفعت المياه على الفور من القاع المثقوب …
وسمع الشياطين الذين دخلوا جميعًا الكابينة صوت أقدام كثيرة على السطح تجري هنا وهناك، فقفز «أحمد» إلى المدفع الرشَّاش الذي سقط من الرجل المصاب ورفعه بين يدَيه، ثم قفز خارجًا وقال: «بو عمير» …
وأسرع «بو عمير» خلفه، وقال «أحمد»: لا تتركا «مالمو» يغيب عن أبصاركما، وفكَّا وثاق «مارشيه»!
وقفت «إلهام» بالمسدس وقد صوَّبته إلى جبهة «مالمو» مباشرة، بينما أسرعت «زبيدة» تفك وثاق «مارشيه». وفي هذه اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان … كانت «إلهام» قد أخذت تُفكِّر فيما يحدث على السطح، وهي تسمع طلقات الرصاص تُدوِّي في الظلام. وشردت لحظات قليلة، ولكنها كانت كافيةً ﻟ «مالمو» كي يقرأ أفكارها، فقفز في خفة القط على قدمَيه نحوها. واختل توازنها فسقطت على الأرض، واندفع هو كالرصاصة خارجًا من الكابينة، وأسرعت خلفه، واستطاعت أن تراه وهي تفتح الباب يجري في نهاية الدهليز، محاوِلًا صعود السلَّم إلى سطح القارب، وأطلقت الرصاص، وتوقَّف «مالمو» مكانه … أصابت الرصاصات ساقَيه، فأمسك بالدرابزين وحاول بعزيمة جبَّارة أن يصعد السلالم …
واندفعت «إلهام» إليه، وفي هذه اللحظة كان أحد رجال «مالمو» يُحاول الدخول في الدهليز، قادمًا من السطح، وفي الظلام والضباب الكثيف لم يعرف أن الواقف أمامه في فُوَّهة الدهليز هو زعيمه، ظنه في لحظة التردُّد والاضطراب أحد الشياطين؛ فانهال عليه بالرصاص … وترنَّح «مالمو»، واستدار ينظر إلى «إلهام». كانت عيناه تشعَّان ببريق من الذهول، والغضب، والموت! …
وارتفع في الظلام صوت قارب آخر، وصفَّارات تُدوِّي على سطح النهر، وعرف الشياطين أنهم رجال الشرطة … ولم يكن أمامهم ما يفعلونه، خاصةً وقد أخذ قارب العصابة يغوص في النهر بسرعة، تحت ضغط المياه الداخلة إليه!
ودون كلمة واحدة، انطلقوا جميعًا ومعهم «مارشيه» ونزلوا إلى قاربهم الصغير، وسمعوا «عثمان» يقول في الظلام: ماذا حدث؟ هل وجدتم «مالمو»؟
وردَّت «إلهام»: لم يعد هناك «مالمو» يا «عثمان»؛ لقد قتله أحد رجاله!
واندفع القارب الصغير مبتعدًا في الظلام حتى التصق بالشاطئ … وراقب الشياطين قارب الشرطة وهو يُحيط قارب العصابة بالكشَّافات، ولكن كان من الواضح أن أي محاولة لإنقاذ القارب من الغرق هي محاولة فاشلة؛ فقد مال القارب على جانبه، وأخذت المياه تبتلعه تدريجيًّا!
في شقة أنيقة مفروشة في حي الشانزليزيه الفخم، تسلَّلت أول أشعة من الشمس بعد أيام من المطر والبرد إلى غرفة «عثمان»، وفتح عينَيه وحرَّك ساقه … وقال متمتمًا: لا بأس … كم الساعة الآن؟
ودقَّ جرس التليفون بجواره، كان المتحدث «مارشيه» وقال: أسعدت صباحًا … لقد اتصلت برقم «صفر» منذ لحظات، إنه سعيد، أكثر من سعيد … وقد طلب مني أن أضع لكم أحسن برنامج لزيارة فرنسا كلها. عندكم عشرة أيام إجازة! … قُل لزملائك إنني قادم فورًا!
ووضع «عثمان» السمَّاعة … وأخذ ينظر إلى الصباح المشمس، وابتسم …