الأوائل
حب وشرب وحرب
حدَّد لنا طرفة، قاصدًا أو غير قاصد، غاية الحياة العربية البدوية بقوله:
هذه صورة «السيد» الجاهلي، فهو يرى أن الحياة تنتهي عند باب القبر، وأن الموت نهاية كل حي:
يريد العربي أن يأكل خيراته في حياته، ولا عاش كل بخيل.
وإذا فتشنا عن الملامح الأخرى وجدنا أكثرها عند هذا الشاب، أما ما ينقصنا من خطوط فهو عند السيد زهير، في «من ومن ومن» التي أطراها عمر بن الخطاب، الإمام العادل والخبير بكلام العرب …
إذا قلنا الشعر الجاهلي فكأننا قلنا الشعر العربي كله، من امرئ القيس حتى شوقي؛ لأن علم امرئ القيس، حامل لواء الشعر في النار، ظل خفاقًا في سماء أدبنا العربي بضعة عشر قرنًا، ولم ينزل، عند بعضهم، إلا منذ أعوام. لم يتبع رجل في آداب الدنيا كلها كما اتبع هذا الشاعر.
يصعب علينا جدًّا أن نحلل الدم العربي، بل أن نجد دمًا عربيًّا عربيًّا خالصًا لم يُلقَّح بدماء أخرى. قد يستنكف بعضنا من هذا الزعم، ولو فكر لقبله بغبطة؛ لأن العنصر المستعرب في أمتنا هو ذو الشأن الأسمى، وحسبنا أن نعلم لنقنع، ولا يتجهم وجه أنانيتنا للحقيقة الساطعة، إن النبي ﷺ هو من العرب المستعربة لا العاربة، والعنصر الذي استُعرِب بعد الإسلام، أيضًا، كان له أبعد أثر في تطور الأدب العربي وتجديد دمه، في النثر والشعر، خيالًا وتعبيرًا، تفكيرًا وأغراضًا، فلولا «المستعرب» لم يدخل هواء جديد إلى قلعتنا التي حصناها بسد نوافذها في وجه كل غريب، إن هذا «المستعرب» قد أعطى وأخذ، تأثر إلى حد بعيد بالسلف وخضع لعقلية العربي وخطته الشعرية كما خضع لسلطانه الديني والمدني، فقال الشعر عربيًّا في تفكيره، وتعبيره، وأغراضه. هذا بشار زعيم المجددين يفتخر في بائيته كأنه عربي قح، ولولا دلالة تعبيره عليه لعزوت قصيدته إلى شاعر جاهلي أو أموي.
إن طبيعة المكان القاسية كيَّفت هذا الإنسان الذي نسميه عربيًّا؛ فانفراده في تلك الصحراء، الحمراء السمراء، جعل لونه نحاسيًّا وعزيمته فولاذية ودفاعه غريبًا عجيبًا، إن ذلك المناخ العنيد جعل الرأس العربي رأسًا فريدًا؛ إذ أفنى الضعيف منه ولم يُبقِ من هذا الرأس الأسمر إلا الصالح للحياة، أما نحن أحفادهم فقد صرنا كما يقول الشاعر:
إذا قعدنا في مسرح هواه ناعم سعلنا طوال الليل، وإذا عرقنا أُصِبنا بزكام دائم قد يحملنا إلى مصح ضهر الباشق.
إن انفراد العربي في صحرائه جعل منه هذا الرجل الذي نعرفه، فالشجاعة العربية هي من هبات المحيط وعطاياه السنية؛ فالذي يعيش في بيت من الوبر؛ فلا بد من أن يكون شجاعًا، حاضر البديهة والجنان واليد؛ ليقابل عدويه: الإنسان، والحيوان. والإباء العربي يدعو إليه أسلوب العيش، فمن لا يستقر في مكان ما يأبى كل ما يذله ويستعبده؛ فالعربي البدوي سائح دائم، وعن هذا أيضًا نتجت قلة صبره، وضعف تعمقه في التفكير، وارتجاله في كل شيء؛ فالمبادرة سمة عربية؛ «إن المجد مبتدر.» كما يقول جرير. إن الإقامة الدائمة في مكان ما تحمل الإنسان على إطالة التفكير بما حوله، أما المسافر الدائم، سليل الشيخ يعرب، فلا ينظر إلا إلى مظاهر الأشياء؛ ولهذا لا يتعمق العربي في موضوعه، لقد شبهته بالنحلة تأخذ حاجتها من الزهرة وتظل الزهرة زهرة، لا ينقص شيء من عرفها وجمالها وطراوتها، بينا المفكر «الآري» يضعها في الأنبيق، ولا يبقي إلا خلاصتها، أما عناصر جمالها فيأكلها أكلًا.
ومن خواص العربي الإيجاز، وهذا مقتبس من شكل الحياة، فبيته وجيز، ولباسه وجيز، وطعامه وجيز. لا تلمه أن تغزل بعباءته:
فهي كل شيء، تصلح لكل ما له من مآرب؛ فهي الجبة والرداء، والقميص واللحاف، والبرنس، والمشمع، والطراحة، وهي خيمته تقيه الهجير، متى أركز عصاه في الرمل ونشرها عليها وقعد يتفيأ ليستريح أو ينام. اعذره ولا تملَّ، متى قرأت وصفه الناقة؛ فهي مستودع البقاء، هي سيارته الخاصة، وهي سيارة الشحن، وهي مطبخه وإهراؤه، هي مصدر جميع المواد اللازمة له، ومن وبرها يكتسي، ولله درها! فكل ما فيها نافع، حتى زبلها، فإنه كالفحم الحجري.
أما الكرم، فأسلوب الحياة دعا إليه العربي، يسوق ثروته أمامه وهي معرضة للهلاك؛ ولهذا لا يدَّخرها، إنه وهَّاب نهَّاب، اشتراكي متطرف، يغزو إذا جاع أو احتاج، ويكف يده عن جيرانه ما دام بخير. أما الغزو فهو سُنَّة أوجدتها الحال، فالكفاح لحفظ البقاء تبرره جميع النظم دينية ومدنية، كان الغزو عندهم كحرب اليوم المقيدة بنظم تجب مراعاتها وإلا كانت الحرب ظالمة وغير مشروعة، وكذلك الغزو، وقد ضل من عدَّ الغزو سرقة أو كالسرقة.
والعربي متقلب في آرائه، وقد أكسبه محيطه هذه الخاصة. هو غير عنيد، غفور رحيم كربِّه، لا يصر ولا يثبت، ككل من يحب الفصاحة واللسن، إلا إذا كان له ثأر فإنه لا يهنأ له عيش حتى يأخذه.
والعربي يغويه الطريف، ويعجبه الذكي الظريف، وإننا لنظلم الجاهلي إذا خلطناه بالبرابرة والمتوحشين؛ فهو ابن مدنية ووارث حضارة، شهم أَبِيٌّ ذو شمم، توحي إليك طلعته كل هذا إذا تأملت. يثرثر العربي حينًا ويتكلم صامتًا أحيانًا، ذكي نجيب لبيب تكفيه الإشارة ليفهم، حاضر الذهن، حذر؛ لأنه يواجه الأخطار في كل لحظة من حياته.
اختباراته محدودة، وتحديده لجميع الشئون يكاد يكون عامًّا؛ لأنه سطحي في كل أعماله، يحب الامتزاج بالناس إلى حد ما، ثم يعود إلى عزلته، يعشق العدالة والحرية والمساواة وينتصر لجاره، والجار عندنا قبل الدار؛ لأنه عوننا في الملمات؛ ولهذا نقول: جارك القريب خير من أخيك البعيد.
إن العزلة العربية خلقت في الرجل العربي كل هذه الخصائص التي يترجم عنها شعره وأدبه.
العربي تيَّاه فخور، وهذا ما يحمله على التبرج والتطوس والتطيب والتجمل، فهو رَجُلُ مَظَاهِر، يباهي بكل شيء ويغالي جدًّا بالتبجح بأصله وفصله. ومن هنا، جاء العرب التقعر في حوادث تاريخهم وسردها على عواهنها دون تمحيص، ومن هنا جاءنا التشبث بعروبتنا حتى أنكرناها على فريق من البشر فسميناهم «شعوبية» وإن حذقوا العربية وجاءوا بأروع مما أنتجه العربي المحض، وحب العربي للقديم وإعجابه به سدَّ الطريق على الأدباء أكثر من سبعة عشر قرنًا، فحنَّط شعرنا ونثرنا، وانكماش العرب في جزيرتهم جرَّهم إلى حب ذاتهم حبًّا لا هوادة فيه، فرأوا أنفسهم فوق العالمين أجمعين، وحسبوا دمهم أسمى من دم الآخرين. ومن هذه الناحية جاءهم التشدد بالمصاهرة، ثم جرَّهم تصنيف أنفسهم وتأصيلها إلى تصنيف خيلهم وتأصيلها.
وكذلك فعلوا بعد الفتح حين خالطوا الشعوب الأخرى، فقسَّموا نساءهم أربع طبقات: أمة، وجارية، وأم ولد، وسيدة. فالأمة للرعي والحلب، والجارية لخدمة الدار، وإذا شرَّفها سيدها بتزوجها وعلقت منه سُمِّيَت أم ولد، أما السيدة فلا تكون إلا عربية، وتُقصَى هذه في قعر البيت، وراء الستار؛ لتظهر على المسرح تلك المسماة «جارية»، ومن هنا جاء قولنا: ابن الست وابن الجارية.
وهذا التشبث بالعروبة كان ويلًا على الدولة واللغة ففرَّق العناصر التي وحَّدها الدين واللسان، فالأجنبي — كما قلت غير مرة — إذا أقام خمس سنوات فقط في الولايات المتحدة حُقَّ له أن يصير أميركيًّا، بينما المستعرب — عند بعضنا — لا يصير عربيًّا حتى يوم القيامة.
والعربي مزواج مطلاق؛ ولذلك أسباب؛ أولًا: لأنه يحب النسل، وشعاره: إنما العزة للكاثر. فهو مجنون بحب العزة. ثانيًا: لأنه شهواني، وهذه الشهوة توقظها طبيعة المحيط الحار، يكثر العربي من الزوجات؛ لأنه مطبوع على التنقل، حتى في الحب، ناهيك أن المرأة البدوية هي عضد زوجها وعونه، فهو لا يخدمها، كما هي الحالة اليوم.
وتحجُّب المرأة جاء من الغيرة عليها، فالحجاب العربي مخالف لما اختطه بنو إسرائيل قبل العرب؛ فالتوراة تخبرنا أن تامار: «تغطت ببرقع، وجلست في مدخل عينايم التي على طريق تمنة، فحسبها حموها يهوذا زانية؛ لأنها كانت قد غطَّت وجهها، فمال إليها على الطريق، فأعطاها رهنًا خاتمه وعصابته، وعصاه التي في يده» (تك: ٣٨).
ومن التقاليد العربية والحجاب، جاءنا هذا السيل العرم من الغزل، فنحن — وقد يكون غيرنا مثلنا — نفكر دائمًا بالمرأة، والإكثار منها، ونراها متعة. قد يكون الأمر كذلك عند كل أمة، ولكن المرأة لم تحتلَّ عند جميع شعرائهم القسم الأوفر من الأدب، حتى كاد يكون الغزل لأدبنا كالملح للطعام — من حيث الوجوب والضرورة لا من حيث القلة والكثرة.
وإفراط العربي في المحبة الجنسية حمله على المغالاة في صون المرأة والغيرة منها وعليها، وهو الذي حمله أيضًا على وأد البنات. ومن أسباب وأد البنات أن كثرة الزوجات تؤدِّي إلى كثرة النسل، فشاء العربي أن يظل خفيف الظَّهر فلم يُبقِ من بناته إلا اللازم «للتوريد».
قال ابن كلثوم:
إن للمرأة في الشعر كله أدوارًا خطيرة، وأخطر هذه الأدوار في الأدب العربي، وفي الحياة العربية البدوية. وهذه هند وغيرها ماذا فعلن عندما قاتل المشركون النبي محمدًا؟ وهذه ليلى وغيرها كم لهن من يد على تفتيق القرائح وخلق الشعر الطيب!
ومن خصال البدوي الحماسة، فهو متحمس حتى التهور؛ ولذلك قلَّت الأحلام في شعره فجاء قليل الإيحاء، فأخفق في الفنون المستوحاة، وبرع فيما بعد، في الفنون اليدوية كالعمارة.
أظهر نبوغًا في الدروس العملية والذهنية، يحلم بالحسيَّات لا بالمعنويَّات، يؤثر الحياة الجسدية على الروحية؛ فالروح أمرها لخالقها، يكره التصوف والزهد، يُقبِل على الدنيا إقباله على الصلاة، ويتمتَّع ويعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، كما يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا، يسَّر دينه ولم يُعسِّر فأخذ من دنياه ما استطاع وترجَّى الآخرة رجاء قويًّا.
البدوي لم يتقن عمله ولم يتوخَّ الغايات البعيدة، فهو سطحي في هذا، كما هو سطحي في شعره، وكذلك هو سطحي في أعماله الأولى، وكل ذلك ناتج عن نشأته الأولى، عن وحدته وانفراده، فكما لا تتقصى أغنامه مراعيها فتقضم وتخضم، تأخذ المتيسر ولا تطالب بالمتعسر، كذلك صاحبها في أعماله حتى بعد حضارته. ولو فكر الخلفاء في الغد البعيد لما زال ظل الإمبراطورية العربية بسرعة، وهذه السطحية في حياتنا هي التي كانت أقوى أسباب جمود شعرنا ووقوفه في عرض الطريق. إن العربي كراكب البحر، يستعرض ما يمر به من مناظر فتَّانة خلَّابة أكثر مما يعنيه ما في البحر من أسرار.
يتخيل العربي، إنما بوجه عام، فيحكم على الأمور حكمًا قاطعًا دون برهان، يعتمد على ذكائه فلا يبالي باكتساب ما عند غيره، وهذا شأن كل معتدٍّ بنفسه كالعربي، فهو في العموم أقدر منه على الخصوص.
لم يصدق الفرزدق، فالعربي يثور لأقل سبب، ولا يهدأ إن لم يُشفِ نفسه ويثأر.
العربي مغامر إذا دُفِع، والبيان يهيجه أكثر من الموسيقى، فهو يُفكِّر بقلبه لا بعقله، يفي إذا صادق، إن لُذْتَ به أَمِنْتَ، فإما أن يصونك وإما أن يموت دونك. إن هذا ميراث دهور أصبح دين العرب الأمثل وعقيدتهم الغالية؛ فالعربي لا ينام على ضيم، يقابل السيف بالسيف، ويأخذ بثأره بعد أربعين عامًا … يصبو إلى الآداب أكثر من العلم، يعيش بقلبه لا بعقله، وهو مع ذلك يحب العدل، وإباؤه وعزته يُبغِّضان الرحمة إليه. يرضى البدوي بالحالة الراهنة إذا كان في سعة، ولم تُمَسَّ حريته، ولا يضج منها ويطلب غيرها إلا في الضيق، يحب حرية القول ولكنه لا يكافح دونها مكافحته ضد قيود حريته، يؤثر العافية إلا إذا أُهِين ونِيلَ مما يُقدِّسه.
يَتَّحد إذا واجه خطرًا أجنبيًّا، وإذا أمن عاد إلى التنازع الداخلي، لا يذعن إلا للتقاليد، ولا يُغيِّرها إلا مرغمًا، كما أنه لا يطيع إلا مكرهًا، وهذا عائد إلى أسلوب حياته الأصلية الذي عَوَّده ذلك، ينشد الاستقلال أبدًا، يؤثر بيتًا تخفق الأرياح فيه على قصر منيف يحبس فيه حواسه الخمس ضمن جدران أربعة ولو رُفِعت من ذهب.
لا يقلد ولا ينزل عن قيافته، يريد أن يكون متبوعًا لا تابعًا، وسيدًا لا مسودًا، يحب الخشونة: «واخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.» ويفضل اللذات على الثروة، يجمع لينفق ويُحسِن، لا ليمنع ويثري، قليل التفكير بالعواقب، يؤمن ويصدق، ولكنه لا يدع معتقداته ولو تبين له فسادها، قلَّما يأخذ بالنظريات «الفلسفية»؛ فحسه متسلط على فكره.
كل شيء وجيز ومتعب وصعب في المحيط العربي، فما الصحراء إلا بحر يابس جاف، ولو كنت مكان عمر حين سأله أحدهم: صف لي البحر. لقلت له: صف لي الصحراء. فالصحراء جافة كهوائها، وكونها على نمط واحد جعل كل شيء عند العربي، حتى شعره، على نمط واحد؛ فهي التي صيَّرت البدوي فظًّا، غليظ القلب.
إن محيطًا كله جفاف ويبوسة يجعل كل شيء ينشأ فيه يابسًا.
فظواهر الجزيرة الجوية قاسية، وألوان مناظرها وطباع سكانها وبنيتهم جاءت من نوعها، ندر المطر عندهم واشتدت الحرارة، فقالوا: برَّد الله ضريحه. وإذا انهل المطر سقط بغزارة فأفسد؛ ولهذا قال الشاعر:
وفي الحديث: «اللهم حوالينا لا علينا.» ووصف طوفان امرئ القيس دليل قاطع، فانظر كيف ابتُدِئت نزهته وكيف اختُتِمت.
إن حالة كهذه تضيق الصدر، ومع ذلك لم تبلغ بالعربي حد التطرف، فقد رأينا حلمًا، ولكن الحلم ليس أولى خصال العرب، وإن ادَّعوه، فمن لا يظلم الناس يُظلم.
إن قلة الماء تجفف حتى أخلاق الرجال، ومتى جفَّت الطباع وقست تبعها الشعر، فإذا رأيتهم يقتتلون على ماء ويستعيرون الحوض في كلامهم للتعبير عن مقاصدهم، فاعذرهم. كل ما لهم ناطق، والناطق يقتضي له الماء، ولولا مناخ الصحراء القاسي لما صبرت الناقة على الشرب، وضربوا أخماسًا لأسداس.
لا يؤمن العربي إلا بذاته، وهذه الذات فنيت في القبيلة؛ فالقبيلة — قبل الإسلام — كانت الذاتية العربية، فكان العربي لا ينظر إلا إليها، وهي التي جعلت شعرنا كله ذاتيًّا؛ فالقبيلة كانت الإله المعبود، ثم صارت بعد الإسلام قبيلة أعظم وأعز؛ فالبدوي لا يبالي كثيرًا أو قليلًا بما وراء الكون، وقد حسب الدين عرضًا يزول بزوال النبي، وفي هذا قال الحطيئة:
ولذلك قلَّ ذكر الله في الشعر الجاهلي، وأقل من ذلك ذكر الثواب والعقاب، فهو في نظر البدوي حديث خرافة يسمعه ويتبسم ابتسامة مُرَّة.
حكى لي أحدهم أن أحد أَيِمَّة الدين البيروتيين، أو الدمشقيين، ذهب إلى قبائل شرق الأردن واعظًا، فقعد يحدث بني صخر ذات ليلة عن الدينونة، وكيف يكون الحساب عسيرًا جدًّا فيُعاقَب الإنسان على ما جنت يداه، وأطال الشيخ الإمام الحديث، فانبرى له أخيرًا أحد مشايخ بني صخر، فقال له: يا شيخ، في هذه «الغوشة» سيدنا موسى ما يكون؟
فأجابه الشيخ: بلى، يكون.
– وسيدنا عيسي؟
– وكيف لا يكون؟!
– والنبي، ﷺ؟
– قبلهم كلهم.
فضحك البدوي ضحكة ازدراء، وصاح بالشيخ: قم عنَّا، رعبتنا يا شيخ، هؤلاء ثلاثة أجاويد، بوجودهم لا يصير شيء.
وإعجاب العربي بنفسه جعله لا يؤثر أدبًا على أدبه، وفي هذا تاه أيضًا الجاحظ العظيم حين قال: وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب.
ويتخطى من هذا إلى أن يرى في لغته كل شيء، فسدَّ منافذها وصانها، واللغة كالكائنات تأخذ وتعطي لتحيا؛ ولهذا الاعتداد بالذات أُصِيبت لغتنا بما أُصِيبت من جمود، مع أنها أرحب اللغات صدرًا، وألينهن قدًّا، تتثنَّى كأن عظامها من خيزران. إنها أوفر اللغات موسيقى لو أحسنَّا استعمالها ولكننا غرتنا ذاتيتنا، وحسبنا الفن الشعري كله في العروض والقافية، مع أن لغتنا ليِّنة مطواع كالذهب، تُطرَق وتُرقَّق وتُمَدَّد كما نشاء، فمهما خشن الحرف فإنه يسترخي متى جاوره حرف لين.
إننا نرى ذاتنا في كل شيء؛ لأن انفراد العربي جعله لا يعرف غير ذاته ولم يختبر غيرها، فأخذ يتلهى بها في أدبه. قال الأولون الجاهليون شعرًا أعجبنا؛ لأنه صوَّر لنا حياتهم تصويرًا صادقًا، ولكننا حين نقرأ الذين جاءوا بعدهم لا نرى شيئًا فنستحي من طلابنا؛ إذ لا نرى مزيدًا أو شيئًا نقوله لهم. لقد تلهى جميع شعرائنا بذواتهم — وعلى نمط واحد — فجاء شعرهم متشابهًا، إذا قرأت شعر أحد الجاهليين فكأنك قرأت الجاهلي والأموي والعباسي كله، ما خلا نفرًا من الشعراء أحدثوا شيئًا جديدًا، وهؤلاء هم «الرءوس» الذين سندرسهم.
إن اعتداد الجاهلي بنفسه واعتزاله غيره من الناس حال دون تطور الشعر، جاء خياله سطحيًّا حسيًّا؛ لأن مروره في صحرائه سطحي أيضًا، يتبع مواشيه إلى المراعي، ينتقل ويلتفت فيرى كل شيء في محيطه متشابهًا، ومن أين يأتيه الوحي؟ وشعره ذاتي غنائي كله؛ لأنه لا يدرك غير الساعة التي هو فيها:
ولهذا لا يعرف الاقتصاد والادخار، هو كالحجل لا يبارح محيطه، ومن كان هذا شأنه فمن أين يأتيه الجديد؟! ولكن هذا لا يعني أن نَصِمَهُمْ بالجهل ونعدَّهم من البربر. إن العربي خلاصة إنسانية، صهرته شمس الصحراء فلم تُبقِ منه إلا عروق الرجولة الحق وخطوطها.
والشاعر الجاهلي صورة صادقة لمحيطه وعصره ولون بلاده، أوحى إليه الحل والترحال شعرًا غراميًّا وتحرقًا وتشوقًا، فبكى على الطلول. أما نحن اليوم فنرى الشعر العربي الصادق يموت، وإلا فأي فرق بين حلول المصطافين ورحيلهم وبين حالة البدو في جاهليتهم؟! وما معنى تغزلنا بالزهرة وعشتروت؟!
ولكن العذر واضح، فالشعر العاطفي لا يخرجه إلا الكبت والضغط، وأين هذا في زماننا؟! فلا تكاد تطل المصطافة من شباكها صباحًا حتى يتواعدا ويلتقيا إما في قهوة أو في دار سينما، أو أو … إن الحب الصحيح قد مات.
يقول بعضهم: لا وحدة في القصيدة العربية أو الجاهلية خصوصًا، والحقيقة غير ذلك. فما وصف العربي — خذ مثلًا امرأ القيس، إن صح ما زعم لنا من حكاية دارة جلجل — غير حوادث نهاره، فهي موضوعه المستقل.
لست ممن يشكُّون بوجود امرئ القيس ولا غيره، فإذا لم يصف لنا قصور القسطنطينية؛ فلأنه مات ولم يصلنا شعره، وأغلب الظن؛ لأنه كان مشغول البال بالملك الذي ضاع فليعذره منكر وجوده … ناهيك أن زي وصف القصور لم يكن في تلك الأيام.
أما الشك في صحة بعض الشعر الجاهلي فقديم قبل مرغليوث والذي انسحب على ذيله … فهذا الجاحظ يحدِّثنا عن ذلك في كتاب الحيوان، وهناك غيره كثيرون ممن شكوا بنسبة شعر إلى شاعر وهو ليس له. أما من زعموا أن سهولة الشعر تدل على عدم جاهليته فنقول لهم: إذن ليست قصيدة «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته»، من عمل الفرزدق؛ لأنها ليَّنة هيَّنة. الخلاصة أن هذا البحث لا يعنيني، وهو لا يستحق من الاهتمام أكثر مما قلت، وهذه كلمة أفلتت من شق القلم بالرغم مني، فلنُلِمَّ إلمامة قصيرة بزعماء الشعر الجاهلي.
الشعر الجاهلي
نظلم العربي الجاهلي إذا عددناه إنسانًا أوليًّا همجيًّا، فالشعب الذي لا نستطيع أن نُدخِل على لغته ألفاظًا، وتراكيب وأصولًا وبيانًا، لا ينبغي أن يُعَد كما عدَّ أسلافنا الجاهليين تعصبًا وزورًا؛ فهذه اللغة الكاملة — ليونة ومرونة وتبسطًا — اللغة التي أُنزِل فيها كتاب كريم كالقرآن، كتاب عظيم فيه البلاغة العظمى وفيه التشريع والتوحيد، وفيه علاقات الإنسان بخالقه، وعلاقات الإنسان بأخيه، واللغة التي وسعت — كما وصلتنا — ثقافة الفرس وعلوم اليونان وحكمة الهند، ولم تضق صدرًا بكل ما عُرِض عليها من أعباء ثقافية وعلمية وفلسفية وكلامية، لا تصدر عن رجل أولي.
لقد حان أن نحل الجاهلي محله السَّامِيَ، ما زلنا نتبع آثاره ولا نحيد عن أساليبه قِيدَ شعرة؛ فالعربي الجاهلي عرف الحضارات التي تقدمته وهضمها عقله، فأخرجها في شعره يوم كان الشعر لسان حال الشعوب، وأصدق دليل على مقدار رُقيِّهم. وإذا نظرنا إلى الشاعر الجاهلي نظرة نزيهة رأينا أنه قد عبَّر أكثر منا عن نفسه، وصوَّر لنا حياته كما هي، بلا تدجيل ولا مواربة، كان الجاهلي يتَّكل على باعه وذراعه، ولا يلقي همه على ربه كما نفعل نحن اليوم: الله يدبر، على الله، إن شاء الله، بلا تقدير على الله. هذا حديثنا نحن عرب اليوم، أما الله الجاهلي فبمعزلٍ عن كل هذا، على العربي أن يدافع وأن يسهر وأن يسعى، وما يجيء من فوق فلا مردَّ له.
هذا امرؤ القيس يصف لنا في قصيدته خوالج نفسه ويعبر لنا عن مشاكله بصور كلها محسوسة؛ لأنه ابن بيئة لا يعنيها أي شأن من الشئون التي لا تحسها، إنه يتخيل ويحسن التعبير عن خياله، وإذا لم يسمُ خياله إلى ذروة الشعراء العظام؛ فلأنه في محيط لا يوحي أكثر مما أوحى إلى صاحبه، ولأن مدنيته لم تكن تلهمه أكثر مما ألهمته، فاستمد صوره مما عاين وشاهد، لم يكن في عصر الطائرات والسيارات، فوصف حصانه وشبهه بما يرى حوله من أوابد:
ورأى صدر حبيبته يبص ويلمع، فقال:
ونظر إلى شَعَرها ولم تكن ثَمَّ «موضة» قصِّ الشَّعَر، فأعجبه منه ذاك الطول، فقال فيه:
أما نظرتها فكظبية من ظباء وجرة، وجيدها كجيد الريم، وخصرها نحيل ليِّن، وساقها كأنبوب النخل، وأصابعها كالأساريع — ديدان أظنها ما نسميه نحن بو مغيط — هذا تشبيه لا يشرف ذوق الشاعر الملك، وأخيرًا يراها:
وفي اعتصام المرأة بدموعها، حين تدعو الحاجة، يقول ويجيد كل الإجادة:
إذا لم نفهم كل ما قصد أمير الشعراء، وسيد المجددين في الأدب العربي، والإمام المتبوع سبعة عشر قرنًا وأكثر، فإننا نمر به ماطين الشفتين، أما إذا عرفنا أنه يستغل «الميسر» الجاهلي في شعره، فندرك إجادته العظيمة في هذا البيت: فالسهمان هما عيناها، وقلب امرئ القيس هو الجزور، والجزور يُقسَّم عندهم عشرة أقسام، قد يفوز بها كلها سهمان اسمهما المعلَّى والرقيب. إن هذين السهمين هما عينا عنيزة أو فاطمة، فهي قد غنمت حبيبها كله ولم تترك لأخرى شيئًا منه، فهنيئًا لها ما أكبر حظها!
وإذا وصف الليل شبهه بجمل ضخم يبرك فيملأ الساحة، والليل جمل وأي جمل! فإنه يغطي الجزيرة بل الشرق كله …
وأي إلهام أو وحي يأتي الجاهلي ليشبه ذلك النجم الذي يراه العاشق المنتظر كأنه لا يحول ولا يزول، بأحسن من قول امرئ القيس:
إن رائحة الجاهلية تفوح من كل كلمة في عجز هذا البيت، ويخطئ من يروي غير هذه الرواية؛ لأنه يبعده عن محيطه وزمانه، ويفقده قوته وروعته، وقد أشرت إلى هذا؛ إذ تكلمت عن كتاب «الأدب العربي في آثار أعلامه».
إن معلقة الشاعر العظيم، وإن لم نجد فيها منفعة تربوية لأبنائنا، لهي تدل على خيال ذي شأن حازه هذا الشاعر، فولَّد ما استطاع توليده في ذلك الزمان. إذا قرأت وصف حصانه، عرفت أنك أمام مصور ماهر، وإذا انتقلت إلى وصفه الطوفان وجدت فيه تصديقًا لزعمي، وخصوصًا إذا أمعنت النظر في ما بعد هذا الطوفان، فقرأت:
صُوَرٌ نراها تافهة، إذا نسينا أن الإنسان لا يستطيع أن يتخيل إلا كما يرى، فامرؤ القيس لم يزعم عبثًا، ولكننا نحن لا يؤثر بنا هذا القول كما يؤثر بابن البادية؛ لأننا نجهل الأحوال التي لابسها الشاعر، فقصيدته هي صور طبق الأصل عن محيطه وحياته، وهو الذي شق طريق القصص الشعري، وما عمر بن أبي ربيعة إلا متبع خطاه، وإن حاول بعض المماحكين إنكاره. ومن قرأ هذه اللامية واللامية الثانية رأى أن الزعيم العظيم لم يدع شيئًا من طرق الشعر الغرامي، فهو وعمر فرسا رهان في حلبة الفسق والفجور وقلة الحياء.
إن امرأ القيس لا يتخلى عن خياله القوي حتى في سرد حوادث حبه الواقعية، فانظر قوله:
لا أستطيع الوقوف معك عند امرئ القيس أكثر مما وقفت، فتقصَّ أنت خباياه على ضوء الخيال الفني، والصور الكثيرة، ولا تحلم بأن تأخذ عنه شيئًا فتلك البضاعة لا تُنفَق في سوقنا اليوم. إن جميع الشعراء بعده قد تحاموه ولم يغزوه كعادة الشعراء؛ لأنه أوجد صوره كاملة لا يستطاع فيها أكثر مما استطاع، ولا تظنن أنني سأحدثك عن الشعراء بعده، إلا بمقدار ما يختلف بعضهم عن بعض؛ فطرفة يتبع — كجميع الشعراء — خطى امرئ القيس فيصور الطلل صورة أروع إذا يقول:
وفي بيت واحد يصف خولة فيقول قولًا رائعًا:
ثم ينتقل إلى ناقته، فيصفها إجمالًا وتفصيلًا، ولولا الحياء لم يدع شيئًا منها إلا وصفه، ثم ينتقل إلى وصف نفسه، فيمعن في تحليل «ذاته الكريمة» ووصفها، ويتعرض لما وراء القبر فيعبِّر عن الفكرة الجاهلية فيما أمام القبر وفيما وراءه أصدق تعبير، ولا ينسى المشاكل الأهلية ويعلن أنه مظلوم، ويخشى أن يموت غير مبكي كما يستحق أن يُبكى، فيوصي ابنة أخيه — معبد — بذلك، ويعلمها ما يجب عليها أن تعمل.
إن هذه القصيدة تصور أكثر أحوال العربي الجاهلي ومشاكله الاجتماعية حتى الدينية، وإذا صور طرفة «الجهال»، فالعم زهير يصور «الكمال»، وهل تطلب من ربيب مقعد أن يقول كطرفة:
ولكنه يمد يده، وهو زعيم الشعر المحكك، إلى صورة طرفة فيعطيها شيئًا من ألوانه وموسيقاه و«عسله المصفَّى» فيقول:
و«يشخِّص» تلك الدار التي عرفها بعد عشرين عامًا فيسلم عليها سلام الأحباب بعد الغياب … ثم يصف لنا وصفًا دقيقًا ظعائن الحبيبة، فتخال شريطًا سينمائيًّا يُنشَر أمامك، وينتقل انتقالًا بشعًا ليمدح صاحبيه المشهورين، ولكن زهيرًا وإن كان أول المدَّاحين، فهو لا يمدح الرجل إلا بما عمل فيصف ما له من مبرَّات، ثم يحث على السلم ويقبِّح الحرب، ويهدد الأعراب باليوم الآخر والحساب العسير، وهذا شيء لا يقيم له الأعراب أقل وزن كما أنبأنا الكتاب الكريم.
إن زهيرًا مولع بالتجسيد، ووهب الحياة لما لا حياة فيه، فيقرب زعمه إلى الناس، ولا عيب في قصيدته إلا هذا الكر والفر، والذهاب والإياب. أما حكمة زهير، فهي أيضًا صورة للنفس العربية، وليس الرجل بزاهد في الحياة وإن قال:
فهو في كل بيت من هذه الحكم لا يصدر إلا عن ينبوع النفس العربية، والنفس العربية ليست كلها عتوًّا وطغيانًا، ومن زعم ذلك فقد ضل أن الشخص الواحد يمر كل يوم في أطوار مختلفة، فكيف بالأمة؟!
أما لبيد القائل:
فحذا حذو من سبقوه وافترق عنهم، فحدثنا عن حمار وأتان وحشيين انقطعا عن العالم مدة فكان شهر العسل عندهما ستة أشهر. أما عمرو بن كلثوم فقصيدته قصيدة الشباب، هناك قبيلة تتكلم لا شاعر، فذات الشاعر ذابت في قبيلته، فأصبح كأنه لا يحس مفردًا، بدأ «ملحمته» في وصف الخمرة، وتأثيرها في الناس، ولا بد لرجل مثله أن يدع الطلول ويصف الكأس ففي قرارتها الشجاعة، وهي من «المقبلات» العظمى لاقتحام مأدبة كمأدبة عمرو بن هند التي أعدها للأراقم، فأكل منها حتى تخم. وعلم ابن كلثوم — وهو نموذج الفتى العربي — أن لا بد للخمرة من ساقية لتحلو وتطيب، فذكر صاحبته بخير، ثم أقبل على عمرو بن هند، فخاطبه بسهولة فائقة وتحداه أخيرًا بقوله:
ثم يعود إلى البكريين بني عمه فيلومهم على نسيان ما كان، وأخيرًا يملأ البر خيلًا، والبحر سفينًا، وتسجد لطفل قبيلته الجبابرة. وهو بهذا يفتح باب الابتهار على مصراعيه لكل شاعر عربي، وليسمح لي من تعوَّدوا تقديس كل قديم أن أقول كلمتي وأمشي؛ ما أظن صاحب ملحمة «الزير» التي أولها:
إلا مستلهمًا أو معارضًا قصيدة ابن كلثوم …
أما ابن حلزة فهو ذاك المدره الرصين. توكأ على المنطق حين رأى ابن عمه فائر العاطفة، واتخذ الهزء الناعم مجنًّا يتقي به سهام ابن عمه المرنانة.
أما صاحبنا الأعشى فأعرب في مطلع قصيدته عن أخلاق سكير حقًّا، السكير يهمه الحاضر وما هو آتٍ ولا يبكى لما فات، فعكف على وصف صاحبته هريرة وصفًا يغري ويهز، حتى أخرج صورة يعرفها المنكوبون في الحب في كل عصر، فقال:
ويلم بأغراض شتى حتى الحماسة والقتال، فيقول:
وقد صدق أسلافنا حين لقبوه صناجة العرب، فقصيدته على بداوته موسيقية لا تُبارَى جرسًا ورقة، ولا عجب فالأعشى شاعر الخمرة الدوار. إنه يحسن القص، فاقرأ أبياته لشريح، تعلم أنه بألفاظ قصيرة يخرج صورة تامة، وهو من الشعراء المجسدين الكبار، وقد خاطب ناقته خطابًا أخذه بعده الفرزدق، فأوحى إلى جرير تلك الصورة المخزية، فأخرسه.
أما النابغة فهو من السلالة الزهيرية ديباجة وتحكيكًا، وقفزًا من غرض إلى غرض، وقد أحسن خطاب دمنة دار نعم حين قال:
ومن عنده أخبار أكثر من الدار؟! وخصوصًا إذا كانت من دور الكراء التي وصفها الجاحظ في البخلاء، ففيها منافع للناس العاشقين … لقد قصَّر النابغة عن النابغة في استخبار الدار في داليته، ناهيك أن الدالية مفككة الأجزاء مثل قصيدة زهير، وقد أعرب صاحب جمهرة العرب عن ذوقه الفني حين أحصى الرائية في كتابه لا الدالية. والنابغة يقيم الدليل على نبوغه في وَثَبَاتٍ رائعة مُوفَّقة في الصورة والموسيقى؛ كقوله في استبطاء الليل، حتى صارت الليلة النابغية بعد بديع الزمان، مضرب المثل:
وقوله في الصورة الثانية التي افتخر بها النابغة في عكاظ على حسان — إن صدق الرواة:
ثم في قوله الذي عبَّر عنه أسلافنا بالرهبة:
إن نابغتنا اتبع زهيرًا في إخراج الصور فاستجدى بها نُعمانَه السمح، وترك هندازها لثالث هؤلاء — الأخطل التغلبي — الذي قال: أشعر الناس — قبيلةً — بنو قيس، وأشعر الناس — بيتًا — بيت زهير، وأشعر الناس — رجلًا — رجل في قميصي.
إن المقابلة بين هؤلاء الفحول الثلاثة ميسورة، فليت من له متسع من الوقت يقابل بينهم، فبينهم نسب قريب جدًّا.
قد استحق النابغة أن يُحكَّم في سوق عكاظ، فشعره صافٍ نقي، وإذا حاولنا أن نميز بعض الشعراء الجاهليين من بعض فلا نستطيع ذلك؛ لأنهم لم يخرجوا من حظيرتهم، واتبعوا خطة رُسِمت لهم فكانت كالطرق المُعبَّدة في هذه الأيام، وأي جديد يجد من يسير في مثل هذه الجادات؟
بقي — عدا عنترة — شاعر اسمه عبيد بن الأبرص، لماذا عدُّوه بين هؤلاء الفحول؟ لست أدري. وأية غرابة وجدوها في قوله حتى ألَّفوا أسطورة حول شعره، فقالوا إنه غضب لأن رجلًّا اتهمه بأخته، وابتهل إلى الله ونام، فأتاه آتٍ في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه، ثم قال له: قُمْ. فقام وهو يرتجز ببني مالك. إن معلقة عبيد لا تستحق أن تُكتَب فكيف بها أن تُحصى في الشعر الذي يفتخر به العرب؟!
أما عنترة، فأبقيناه إلى الختام؛ لأنه جمع في قصيدته الميمية المشهورة مُثُلَ العرب العليا في الحياة؛ فالذين وصفناهم من أصحاب القصائد العشر قد يقصر بعضهم في نواحٍ أو ناحية، أما هذا العبد الأسود فأرانا أخلاقًا يندر وجودها في الأحرار البيض؛ فحبه عربي قح، وخلقه عربي صرف، وأسلوبه دانٍ كل الدنو من لغتنا اليوم؛ ولهذا سندرسه أكثر من أصحابه، وفي كل حال لسنا نرسم إلا خطوطًا رئيسية، وعلى من يتعمق أن يُفصِّلها.
إن ما يرويه الرواة عن عنترة وقعوده عن النجدة، حردًا وغضبًا، يقرب كثيرًا من حكاية إلياذة هوميروس، ولسنا نعني بهذا أن معلقته ملحمة.
إذا آمنَّا بما يقوله علم النفس عن مُركَّب النقص رأينا أن عنترة هالته بشاعته، التي لا تغري عبلة، فجعل وكده في قصيدته محاولًا أن يستميلها برجولته، وللرجولة شأن عظيم في عيني المرأة، فكان جل همِّ عنترة أن يُصوِّر لحبيبته عبلة بطولته وما تضمه من أخلاق عربية نبيلة، فقال قصيدته وما موضوعها إلا عنترة ذاته.
كأني بعنترة قد أدرك أن السير على نمط واحد في الشعر يُمَلُّ ويُكْرَهُ، فقال: هل غادر الشعراء من متردم؟! خلنا أنه سيقول غير ما قالوا، ولكنه عاد حالًا إلى الحظيرة، فقال: أم هل عرفت الدار بعد توهم … ثم راح يُصبِّح ويُسلِّم، وهو لولا يظل في تمرده لشجع الشعراء على الخروج من حظيرة التقليد، ولم يخشوا ذئاب النقاد الذين حبسوهم هناك إلى الأبد. إني أرى عنترة يصور في قصيدته نموذجًا عربيًّا، ولأجل هذه الصورة أكاد أصدق ما رواه المحدثون عن النبي الكريم.
في القصيدة اضطراب، وفيها كغيرها ضعف سياق، وفيها مثل تلك مخالفات لغوية ونحوية، وفيها إلى جانب كل هذا صور طريفة، كتشبيهه ناقته واقفة في طلول عبلة، بالقصر. وفيها لوعة حبية حقيقية لا تتعدى التقاليد العربية في الحب والعشق، قد يتحاب عاشقان تحت غبار الحرب بين قبيلتيهما، إن عنترة محتار كيف يدرك عبلة وهو بالغيلم، وهي قد حلت بأرض الزائرين فأصبح طلابها عسرًا عليه، أما عبلة فصفتها كصفة غيرها من بنات العرب، حلوة معطير، حتى شبه فمها بالروضة، واستطرد فوصف الذباب ذلك الوصف الذي أعجب الرواة فشادوا بذكر عنترة، وتوارث هذا الإعجاب اليوم أساتذة الأدب العربي، كابرًا عن كابر … ويصف عنترة حياة السيدة العربية وحياة الفارس مثله، فهي:
ويستطرد عنترة إلى وصف ناقته، كما فعل طرفة، فيصفها مثله بعد أن يتمنى أن تبلغه دار عبلة، ويناجي عبلة بقوله: إن القناع المسدول دونه لا يمنعه من أخذها؛ لأنه طب بأخذ الفارس اللابس اللأمة والدرع، وهو وإن كان في هذه البطولة فسهل القياد إذا لم يُظلَم.
مسكين، يقول هذا ليُهوِّن عليها ما يلقي منظره من رعب في نفسها، ثم يخفف من أهوال تلك الشخصية بما يصف به نفسه من كرم، فهو يحب كما يحب كبراء العرب ويحارب خيرًا منهم ويشرب مثلهم أيضًا، لا يشرب إلا بالدينار الذي اجتلى به الأخطل عذراء ذاك العلج المكار … وإذ شرب عنترة فهو كريم يبيد المال، وفي تلك الثورة يبقى محافظًا على عرضه وإذا صحا فهو فارس ميدان. ويحدث عنترة عبلة عن كل هذا حديثًا يُستفاد منه أن القضية معلومة منها، لا تحتاج إلى برهان، ولكنه يقول ما يقول للتذكير.
وبعد الحب والشرب ينتقل عنترة إلى الحرب، ولا يزال وسواس عاهته عالقًا بذهنه فيخبر عبلة عن جبروته، فيصف لها كيف يترك حليل الحسناء الغانية مجدَّلًا بضربة عاجلة، ولها أن تسأل الخيل إن كانت جاهلة بما لم تعلم، فيخبرها من شهد معاركه.
إن عنترة كبعض الفنانين — الفن للفن — يحب الحرب للحرب؛ ولذلك يقتل للحفاظ لا للسلب والغنيمة، وإذا عجز القوم عن البطل العنيد الكريم الذي لا يتزحزح من الساحة فهو يجود له بطعنة ويريح البرية من شرِّه.
وأخيرًا يصف لها بطلًا ثالثًا فيصوره أعلى مثال من كرام العرب، قيدوم الجماعة، وبطل السرج، وأسد المجلس، ومع ذلك فعنترة طعنه بالرمح، ثم علاه فحزَّ رأسه بسيفه.
كل هذا ليُحوِّل بصر عبلة عن الجَمَال ويستميلها إلى الرجولة الرائعة.
ولهذا يخبرها كيف لبَّى نداء مرة حين أيقن أن سيكون ضرب يطير عن الفراخ الجثم، وقد كنَّى صاحبنا بالفراخ الجثم عن الجماجم فأجاد.
ثم يشخِّص حصانه في هذه المعركة الفاصلة، حتى كاد يُكلِّمه شاكيًا، ولكن عنترة لا يرحم نفسه في الجُلَّى، فكيف يرحم حصانه؟!
لقد حشر عنترة في قصيدته هذه مكارم الأخلاق العربية كلها، فأصبح هذا العبد خير نموذج للأحرار، فما كان ألطفه في التعبير! وما كان أسلم ذوقه — وهو البدوي الجاهل العبد — حين قال:
وما أسمج ذوق المتنبي! وما أبشع تعبيره، حين قال في هذا المعنى أيضًا:
إن هذا عبد، وهذاك حر ألته ذاته، فتأمل. لقد أحسن عنترة الاستمالة، وتسامى إلى أسمى التسامي، واستغل «عبديته» في فنه الشعري، فقال:
وقال أيضًا:
أما سواده، فأوحى إليه أيضًا صورًا رائعة رددها في شعره الآخر، منها قوله:
ولا يزال «السواد» مغلالًا حتى اليوم، وآخر من استغله محمد إمام العبد، كما أشرنا إلى هذا في موضع آخر.
إن عنترة أول شاعر يدرس الفتى العربي بعد أبي الطيب المتنبي، لقد تسامى هذا العبد فرفع نفسه ورفع الناس معه.
خصائص الشعر الجاهلي
كان الشاعر الجاهلي مثل «القوَّال» اليوم، يقول الشعر بلغته ولهجته فيُستحلى ويُستملَح؛ لأن سامعيه كانوا يتذوقونه تذوقًا غير منقوص؛ يحسون الأجواء، ويدركون الشخوص، ويعرفون الأمكنة. وفي هذا ما فيه من الإيحاء، أما نحن فبُعدنا عن كل هذا ينقص تذوقنا ويجعلنا دون العربي القح إحساسًا لهذا الشعر، إن ألفاظ الشعر الجاهلي لا تَحْمِلُ أكثر مما حمَّلها أصحابها، وإذا استسمجناها نحن فلأنها لا تدور على ألسنتنا فيصقلها الاستعمال. ناهيك أن لمعرفة المكان أعمق أثر في نفس القارئ؛ ولهذا وجدتني أشد رغبة في الشعر الجاهلي بعدما قرأت «ملوك العرب» للريحاني.
كان الشعراء ألسن القبائل يعبِّرون عن أغراضهم ومآربهم بلسان تلك القبائل وأساليبهم وطرق تعبيرهم وتفكيرهم، وإذا خلوا إلى نفوسهم عبَّروا عما يجيش فيها من خوالج نفسانية. كان عندهم لكل غرض ألفاظ، فاشتد قريضهم ولان حسب مقتضى الحال، وهكذا تتنوَّع الموسيقى في القصيدة الواحدة، وهذا ما ضلل أحد المحققين حين ظن أن الأبيات إذا كانت هينة لينة في قصيدة جاهلية فهي دليل واضح على أنها منحولة، إن هذا لضلال وقلَّة بصر بوجوه الشعر؛ فالشاعر يرق ويشتد في قصيدة واحدة، تبعًا لأغراضه، فكيف به في ديوانه؟!
قال الجاحظ في كتابه البخلاء: كان الأصمعي يقول: قد كان للعرب كلام على معانٍ، فإذا ابتدلت تلك المعاني لم تتكلم بذلك الكلام.
وإذا لاحظنا أن الشعر العربي ذاتي، يعنيه «الأنا» قبل كل شيء، أدركنا السبب في اتخاذه اللهجة الخطابية، فكأن كل قصيدة مُعدَّة لتُلقَى على الجماعة، وهي كذلك.
ليس في الشعر الجاهلي تكلف ولا تقعر، فهو كالزجل اليوم. كان يُقال عفو الطبع، يعتمد على التشابيه، والاستعارات، والصور، والعاطفة على ضروبها وأنواعها، ولم يصبح فنًّا أو عملًا إلا مع زهير، ونما نموه المعلوم مع راويته الحطيئة حتى سُمِّيَ عبد الشعر، ثم مع النابغة فالأخطل. وهذا التعمل لم يبعد الشاعر الجاهلي عن الصدق، فهو صادق في التعبير عن عاطفته، عن مآرب قبيلته، عن وصف محيطه، صادق ما استطاع في تشابيهه. خذ قول امرئ القيس في وصف الطوفان:
ومع كل ما في هذا الشعر من صدق لم تبقَ لنا حاجة ماسة إليه؛ فهو منبع لغوي فقط، أما عناصر الفن والتاريخ والأخلاق فضعيفه فيه.
ومع ذلك أرانا ندرس هؤلاء الشعراء بشكل يقرب من التقديس؛ فعنترة كأحد آلهة اليونان، وزهير فرخ نبي، ندرسهم اليوم كما قرأنا عنهم في كتاب الأغاني وغيره من المجموعات الأدبية، فلا نجرؤ أن نقابل هذا الشعر بأقل نقد، فكأنه وحي! وهب أن أستاذًا «تمرَّد» وخرج على التقاليد الأدبية وشايعه تلميذه كان الرسوب في الامتحان جزاءه … إذن على المدارس التي تهيئ تلامذتها للمنهاج أن تعمل بقول غوستاف لبون فتضع فونغرافًا على كراسي الأساتذة فيؤدي مهمتهم المنهجية.
وعلى الطالب أن يسمع من معلمه امرؤ القيس: أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وقيَّد الأوابد.
وأن يقول، مثلًا، إذا سُئِل من أشعر العرب؟ امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب.
وعليه أن ينعت اللغة العربية كلما جرى ذكرها بقوله: لغتنا الشريفة وأشرف اللغات.
وعليه ألا ينتقد شاعرًا من شعراء المنهاج، وإن فعل فمصيره الخذلان والخيبة، ليس له ولا لأستاذه أن يفكرا إلا وفقًا للمنهاج، وإن فعلا فالخسار عليهما.
إن قصيدة واحدة من القصائد العشر لتُغْنِي عن الشعر الجاهلي كله. ماذا يعنينا اليوم من حياة لا نعيشها؟! فلنفتِّش عما ينفع أبناءنا تربويًّا، فلو كان في أقوال هؤلاء الشعراء خير ما قال عنهم الكتاب الكريم ما قال وسفهَّهم.
إن الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا غيَّر المثل الأعلى الجاهلي، ونحن في القرن العشرين نحسبه ركنًا تعليميًّا.