بعد الإسلام
عصر العصبية العربية
وركدت ثورة الجاهلية حين ظهر الإسلام، وكان للقرآن الكريم أعظم وقع في النفوس، فحسبوه شعرًا، وقالوا عن صاحبه: شاعر مجنون! وكان للإسلام — كما يكون لكل دعوة جديدة — أعداء وأنصار، فانشق الشعراء شطرين: فريق يدعو لمحمد وحزبه، وفريق يُنفِّر الناس منه ويؤلبهم عليه. على رأس أولئك حسان بن ثابت، وعلى رأس هؤلاء أمية بن أبي الصلت.
كان أمية ألدَّ خصوم الرسالة الجديدة، ولم يكن بالخصم الهيِّن، وإن كان شعره غريب الوجه واللسان. قال فيه أبو عبيدة: اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب، ثم عبد القيس، ثم ثقيف. وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت، وقال فيه الكميت: أمية أشعر الناس، قال كما قلنا، ولم نقُلْ كما قال.
وقال الزبير عن عمه مصعب عن مصعب بن عثمان: كان أمية قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية، وحرَّم الخمر، وشك في الأوثان، وكان محققًا والتمس الدين وطمع في النبوة؛ لأنه قرأ في الكتب أن نبيًّا يُبعَث من العرب، فكان يرجو أن يكون هو، فلما بُعِث النبي ﷺ قيل له: هذا الذي كنت تستريث وتقول فيه. فحسده عدو الله، وقال: إنما كنت أرجو أن أكونه.
فأنزل الله فيه عز وجل: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا.
قال وهو الذي يقول:
حنق أمية لهذه الخيبة وشرع يُحرِّض قريشًا بعد وقعة بدر، حتى نهى رسول الله عن رواية إحدى قصائده. وقد قال الحجاج على المنبر: ذهب قوم يعرفون شعر أمية وكذلك اندراس الكلام.
وأمية قدم على أهل مكة «باسمك اللهم» فجعلوها مكان «بسم الله الرحمن الرحيم» في أول كتبهم، وقد وضعت أساطير حول أمية، منها أنه خرج في سفر فنزلوا منزلًا، فأمَّ أمية وجهًا وصعد في كثيب، فرُفِعت له كنيسة فانتهى إليها، فإذا شيخ جالس، فقال لأمية حين رآه: إنك لمتبوع، فمن أين يأتيك صاحبك؟
قال: من شِقِّي الأيسر. قال: فأي الثياب أحب إليك أن يلقاك فيها؟ قال: السَّوَاد. قال: كدت تكون نبي العرب ولست به. هذا خاطر من الجن وليس بملك، وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه صاحبه من شقه الأيمن، وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض …
وهناك أساطير عديدة أغربها انشقاق السقف وظهور طائرين، وقع أحدهما على صدره فشق قلبه، وكان بين الطائرين وبين أمية حديث، ولم يبخل عليهما أمية بكلام يشبه الشعر.
الخلاصة أن ظهور الإسلام حوَّل الشعر مدة عن مجراه، فصار نضاليًّا حينًا، ثم سكنت ريحه فترة، في صدر الإسلام على عهد الخلفاء الراشدين، ثم عاد سيرته الأولى، ينحو نحو الأقدمين في أغراضه وأسلوبه.
ودبت إليه عناصر السياسة فكان فريق من الشعراء يؤيد عليًّا، وفريق يناصر معاوية، ولما سكتت الأمصار بين يدي الأمويين ساسوها على أساس العصبية العربية ولم يقدِّموا غير عربي، فأوغروا الصدور، وكان لهم خصوم من العرب فحاربوهم حتى أخضعوهم، ولكن الضمائر ظلت في غليان فانضم هؤلاء إلى الأعاجم المغلوبين على أمرهم، فقاوموا جميعًا «العصبية العربية». وهذا الاتحاد العربي الفارسي جعل الدولة العباسية في اضطراب دائم، وأخيرًا أدى ذلك إلى اضمحلالها واندثار الملك العربي.
إن العصر الأموي خلق للشعراء سوق عكاظ جديدة — المربد — وفي هذا العصر أيضًا استقل الهجاء والغزل، فهو العصر الذهبي للشعر العربي القديم.
عصر الهجاء
هو العصر الأموي، وإذا تحدثنا عن العصر الأموي فما نعني غير ذلك الثالوث الأنجس: الأخطل، وجرير، والفرزدق. لقد مزَّق هؤلاء الثلاثة الأعراض، ونبشوا القبور، وصلبوا الموتى، وأكلوا لحوم إخوانهم أحياء وأمواتًا. وإذا تحدَّثنا عن هؤلاء الشعراء فكأننا نتحدث عن شعراء الجاهلية، فالطور الذي أوحى إلى الجاهلي هو الذي استوحاه الأموي واستلهمه العباسي، لقد سدَّ شعراؤنا نوافذهم لئلا يبصروا العالم الخارجي، حتى قال أعمق العرب ثقافة وأثقبهم عقلًا وأغزرهم معرفة؛ أي الجاحظ: وفضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب.
لا نلوم شعراءنا الأولين أن خاضوا بحر التقليد خوضًا، فهم أطفال بالقياس إلينا، والطفل أشد تقليدًا من البالغ، وإنسان القبيلة والجماعات يدور على نفسه في حلقة محكمة، بخلاف المفكر الوحيد الذي يرى الناس من عل، ويحكم عليهم، ناهيك أن التقليد ناموس طبيعي يُسيِّرنا في كل زمان. قال أحد دارسي الأدب الغربي؛ إذ بحث التقليد في شعر أمته: نستطيع أن نضع خلف كل شاعر جديد شاعرًا قديمًا.
لم يَفُتْ ذلك أسلافنا، فقال أبو عمرو ابن العلاء: الأخطل كالنابغة، والفرزدق كزهير، وجرير كالأعشى. أصاب ابن العلاء بؤرة الهدف؛ إذ شبه الأخطل بالنابغة فكأنهما واحد، أما جرير والأعشى فيجتمعان في الرنة الشعرية ويختلفان في تماسك الديباجة، فليس في شعر صناجة العرب هلهلة شعر أبي حزرة، وقد طاش سهمه في تشبيه الفرزدق بالنابغة، والذي يبدو لي هو أن خيال هؤلاء — ما خلا الأخطل — أضعف من خيال شعراء الجاهلية، فالفرزدق خاصة ينقصه الخيال والعاطفة، وهما مِلاك الشعر وقوامه.
الأخطل كحليفه الفرزدق حامض الوجه، كلاهما جافٌّ، بيد أن الأخطل يبتسم أحيانًا نصف ابتسامة، وله نزوات محبوبة حين يُحَدِّثُنَا عن الأحمرين، وله وَثَبات في النضال تدل على أن هناك نَفْسًا طرية، ولكن خمرة أبي نسطوس يَبَّستها فصارت كتلك الأفاعي المنقوعة في الكحول، تبدو لامعة ولا حياة فيها.
لست أميز هؤلاء الشيوخ من مشايخ الجاهلية، فالجاهليون يؤلِّهون المادة ولا يهمهم ما وراء القبر:
وهؤلاء مؤمنون ولكن أي إيمان؟ فمسيحية الأخطل مسيحية شمطاء ناصلة: «السكيرون والزناة لا يدخلون ملكوت الله.» والأخطل كان لا يصحو ولا يفيق. اسمعه يتهدد زوجته:
ويا ليته اكتفى بهجرها هجرًا جميلًا ولكنه طلقها الثلاث طلاقًا قبيحًا … أما الفرزدق فأقوال الرواة وابن عمه تُسَفِّهُهُ؛ هو قرد غير نائم، يرقى إلى جاراته بالسلالم، يتدلى من ثمانين قامة ليزني، ويقصر عن باع العلى والمكارم. أما جرير فبذيء اللسان كشَّاف عورات، إني حين أرى الجيف الطافية على بحور شعره أحار أين أجد العفة التي وصفوه بها؛ فالجاهليون وهؤلاء متساوون في التدين والأخلاق، لا بل أرى زهيرًا الجاهلي أفضل من ذاك النصراني وذلك المسلم.
أما الخلافة وهي أقوى الروابط الإسلامية فما قرَّبت الشاعرين المسلمين من الإمام، فكان شاعره نصرانيًّا، مدحه جرير مستمحيًا وأدل به على تغلب شعريًّا فقط حين قال:
ولكن ابن مروان لا يصغي إلى ثرثرته، فهو يسامر الأخطل تاركًا الفرزدق أيضًا يتغنى بنار غالب. إن حمية الجاهلية التي أخمد الإسلام نارها قد دبَّ لها هؤلاء بالحطب فكانت جهنم أرضية وقودها الناس وأعراضهم؛ ففي هذا العصر قد بلغت العصبية القبلية منتهاها، فصار ذو الصليب شاعر الخليفة. هب أن الأخطل كان — كما قال لسائله: أشعر الناس — قبيلة — بنو قيس، وأشعر الناس — بيتًا — بيت أبي سلمى، وأشعر الناس — رجلًا — رجل في قميصي. ثم كان وقومه في غير حلف عبد الملك، أكانت تطأ رجلاه بساط هذا الخليفة؟
إذا فتشنا عن أثر ديني في شعر الأخطل فلا نقع إلا على هذا البيت:
ولكننا نجد إلى جانب هذا الابن الوحيد جاهلية عارمة كلياليه التي تهدد بها زوجته، وإليك بعض ما قال:
وقد رووا أنه كان يحلف باللات والعزى، صدق الله العظيم: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وكيف يؤمنون وفي قلوبهم الحمية «حمية الجاهلية»، وهي التي أنطقتهم بهذا الهجو القذر، إن شعارهم جميعًا كما قال طرفة: ولولا ثلاث هن من لذة الفتى … أي الشرب والحب والحرب.
لا يهم الأخطل إلا دواء يردُّ الشيب ليرجع شرخًا ويملأ بطنه من خمور قطار فلسطين، ويأكل صفيف الشواء والقدير المرعبل، ويتمتع بما يلي ذلك … أما جرير والفرزدق فلم يحسبا للملكين حسابًا، فقال جرير لصاحبه:
عاشوا جميعًا ليأكلوا ويشربوا، فخلا شعرهم من الصوفية والنسمات الروحية التي تنعش الشعر وتحييه، ومن المحبة التي ترققه، فشعرهم ثلاثتهم مادي لا يُستطاب ولا يبقى. وما قول الأخطل:
إلا كقول الدهري: خلق الله السماوات والأرض؛ لأن توبة صاحبنا مريضة بدليل قوله:
ولم يفكر هؤلاء بغير صيغ وألفاظ وصور متشابهة، فجاء شعرهم متشابهًا متماثلًا تغنيك مطالعة أحدهم عنهم جميعًا، ساروا وراء من تقدموهم ولم يفكروا بتغيير شيء من أساليب حياتهم فظل الشعر بدويًّا خشنًا، لم يتأثر بشيء من لين القرآن وحنانه، جفاف ويبوسة كطباع الفرزدق والأخطل، فهذان الشاعران لم ينزلا عن عرش أرستقراطية لغة الشعراء، بل غرقا في لجج الخشونة والغرابة وخصوصًا الفرزدق. ولا تعجب إذا قلنا إن الأخطل أصح لغة وأسلوبًا من الجاهليين، فهو صديق عبد الملك الخليفة النقادة. وعبد الملك وعامله الحجاج ما لَحَنَا قط لا في جدٍّ ولا في هزل.
أما جرير فقد لان شعره وإننا نسميه بحق شاعر عصره الشعبي. إن هذا لم يفت القدماء، فقد سأل جرير رجلًا من بني طهية: أيُّنا أشعر أنا أم الفرزدق؟ فقال له: أنت عند العامة، والفرزدق عند العلماء. فصاح جرير: أنا أبو حزرة، غلبته، وربِّ الكعبة. والله ما في كل مائة رجل عالم واحد.
أما الأخطل والفرزدق فما عبَّرا تعبيرًا شعبيًّا بل فتشا بالفتيلة والسراج عن الصيغ الجاهلية وحشراها في منظومهما. إن الشعب لا يتذوق إلا ما ألفه من تعابير، فصيغه المألوفة تؤدي له المعنى كاملًا غير منقوص؛ ولهذا استطاب شعر جرير واستساغه ورواه ولم يطرب لشعر الأخطلين ولم يروه.
وإذا سمَّينا هذا العصر عصر الهجاء فما نعدو الحق؛ لأن الهجاء سيطر فيه على جميع أغراض الشعر حتى الرثاء. لم يحفزهم إلى ذلك غير الأحداث السياسية وانشقاق العرب حول الخلافة، ما افتخر الفرزدق ليتعالى على جرير وحده، بل ليتعالى، من حيث لا يشعر، على الجالسين على السرير فيذكرهم بمجد آبائه وأجداده، إن السياسة في ذلك العصر هي التي أركبت الشعر ذلك المركب الوعر فطبعته بطابع الهجاء، وكثيرًا ما تطوِّر السياسة أساليب التفكير. كان الشاعر في عصره وزير دعوة ونشر، فلا نعجب إن رأينا السلطان لا يُسكت هؤلاء الثلاثة، فالتيار قد جرف الخلفاء أنفسهم فأداروا دفة السفينة وهم لا يعلمون أنهم ربابنتها.
لقد أبعد التناطح الشعري هؤلاء الفحول الثلاثة عن منطقة الفن، وحسبك أن تقرأ مناظرة جرير والفرزدق عند بشر بن مروان لترى مقدار حظ شعرهم منه، إنها لأشبه بمناظرة قوَّالي الزجل والعتابا عندنا. لا شك أنهم في شعرهم الآخر أكثر فنًّا منهم في هذا البراز الشعري، ولكنهم أسفُّوا في كل حال فابتعدوا عن الشعر؛ إذ جعلوا أغراض شعرهم أعراض قبائلهم، حسبنا نقيضة الفرزدق اللامية شاهدًا على ما نزعم، ففيها جيش عرمرم من الأعلام لم تقذف بمثله روسيا الحمراء. وهكذا استحال الشعر الهجائي المعروف بالنقائض فهرسًا شاملًا لمثالب العرب، ويا ليته لم يكن.
حلو الكلام ومره لجرير
قوام شخصية جرير شرَّة وحمية، يستفزه الغضب فيشرئب ويتهيأ للنطاح والمساورة ذيادًا عن حياض شعره، يستجيب لكل دعوة ويصول يمين وشمال وخلف وقدام وفوق وتحت، ينبش القبور ولا زياد يدفنه فيها حيًّا. نموذج أعرابي أصيل، من طبعه الهرج والمرج، تدلنا على خواصه جميعها كلمة الحجاج: قاتله الله أعرابيًّا، إنه لجرو هراش! وهل هجاء هؤلاء الفحول ثلاثتهم غير عرارة ونبوح؟!
وإذا قرأنا تلك الأسطورة التي رواها أبو الفرج عن أبي عبيدة اتضحت لنا شكاسة خلق جرير؛ قال: رأت أم جرير وهي حامل به كأنها ولدت حبلًا من شعر أسود، فلما سقط منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه، حتى فعل ذلك برجال كثيرة، فانتبهت مذعورة، فأوَّلت الرؤيا فقيل لها: تلدين غلامًا شاعرًا ذا شر وشدة شكيمة، وبلاء على الناس. فلما ولدته سمته جريرًا باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها، قال: والجرير الحبل. لا يعنينا أكاذبة هذه الرواية أم صادقة ما دامت تنم عن طبع جرير الذي أخرج من رأسه ذلك الكلام الحلو المر. وفي حكاية جرير مع راعي الإبل وابنه جندل دليل آخر على شرَّة جرير وحميته. قالوا: إنه لم ينم ليلة طُرِحت قلنسوته تلك الطرحة المشئومة، شرب باطية نبيذ وحبا على فراشه عريانًا لما هو فيه، وما زال كذلك حتى كان السَّحَر فكبَّر، ثم قال: أخزيته، ورب الكعبة. تلك حكايتهم حول قصيدته المسماة «الدامغة» التي قالها ثمانين بيتًا في هجو بني نمير، وهي تثبت لنا أن الحمية — الهيجان في علم النفس — هي منبع الشعر الجريري؛ فهو إذا اهتاج أصبح كالبركان يقذف الحمم ولا يدرك ما يقول، فيزج في شعره ألفاظًا وصورًا لا يتلفظ بها الرعاع، وحسبك أن تعلم كيف تصور عنفقة الفرزدق حين شاب … إن غضب جرير واستقتاله في الدفاع عن شعره يذكرني بشعر هيغو الهجائي، فكلاهما واحد يجري لغاية واحدة في هذا المضمار. حدة تشبه ثورة المجانين في رءوس الأهلَّة، ولا فرق بينهما إلا أن لشاعر الغرب خيالًا عظيمًا جدًّا، وشاعرنا بعيد عن الخيال، هذاك يفكر بالصور التي يخلقها، وشاعرنا يعدِّد المثالب ويعيِّر فيكشف العورات ويمزِّق الأعراض، ووكده الملحة والنكتة.
إن شعر جرير بخلاف شعر صاحبيه، شعر خفيف تغلب فيه لباقة التعبير على قوة التفكير، قريحة لدنة لينة يثيرها أقل تهويش، ولا مانع أن نضم إلى السجعات الأربع المشهورة سجعة خامسة، فنقول: وجرير إذا غضب. لم يحاول جرير السموَّ إلى لغة الشعراء المتقدمين فدار شعره على كل لسان، وقد أدرك ذلك الأخطل، فقال: قلت أنا بيتًا ما أعلم أن أحدًا قال أهجى منه:
فلم يروِه إلا حكماء الشعر. وقال هو:
فلم تبقَ سقاة ولا أمثالها إلا رووه.
السبب عندي هو أن الأخطل تعمَّل وتخيَّل — وهو أقواهم خيالًا — فأخرج صورة غير مألوفة فركد بيته وجاء كحمى الدق. أما بيت جرير فيشبه البرداء التي تنفض الأجسام نفضًا، فهبَّت ريحه وركد بيت خصمه.
في شعر جرير نشاط ومرح، فهو أشبه بخبب المسوَّمة العراب بينا شعر الأخطل يمشي ويهدر كالجمل الأورق.
خطى متزنة رصينة ترضي أهل السمت، أما جرير فاتبع في الهجاء خطة بوالو أستاذ الشعر الفرنجي، فجاء شعره كما قال: تأتي كلماتي بلا عناء لتحل محلها. إنه لا يتعكز في إخراج صوره على علم البلاغة. انظر إلى بيته الذي مرَّ وقف عنده قليلًا، ليتك رسَّام أو مثَّال لتخرج لنا لوحة رائعة أو تمثالًا لتغلبي جرير المتنحنح للقرى، أليس هذا التخيُّل البسيط المُركَّب صورة تضحك وتطرب معًا؟! إن جريرًا يحسن الهزل والتهكم والسخر، فتستحلي هزله وسخره وتهكمه وإن كان مبنيًّا على جرف هار.
إن ضربة جرير خاطفة كأنها سيف طرفة، وهي غالبًا كمبضع النطاسي؛ كان أقدر من صاحبيه على نقض الكلام، ولو كان أبو حزرة من علماء الكلام لأتى ببراهين ذات حدين. خاطب الفرزدق ناقته أجمل خطاب وخلص إلى ممدوحه بلباقة، وسأله بكياسة أنستنا سماجته؛ إذ تحدث مع زوجته الطيبة على الفراش ذلك الحديث الثقيل ليخلص إلى ابن ليلى — عمر بن عبد العزيز — قال الفرزدق يخاطب ناقته:
فانتفض جرير انتفاضة الصقر، فإذا بصورة الفرزدق تسقط كأسوار أريحا حين سمعت صوت أبواق يشوع …
هذا هو الكلام الحلو المر الذي لم يُخرِج مثله إلا رأس أبي نواس، ولكن كلام ابن هاني أكثر فنًّا وأقل إيلامًا وأشد إضحاكًا.
ليس لجرير خيال الأخطل ولا ثروة الفرزدق اللغوية، ولست أجد تحديدًا لشعر جرير أصدق من قول الجاحظ لصاحبه المربع المدور: يحب المعنى حيًّا يلوح وظاهرًا يصيح. إن هذه الخاصة أبرز ما تكون في هجائه، أما غزله الذي قال فيه الفرزدق: ولو تركوه لأبكى العجوز على صباها، فلست أرى فيه ما رأوا وليس إبداع جرير الأسمى هناك. لا شك أن هناك نوعًا لطيفًا من الغزل ولكن جرير لم يفق سواه فيه، بل بذَّ أقرانه بتلك السهولة وذاك الظرف الذي لا يدعه في أرصن الساعات أي حين يمدح الخلفاء.
لا يموت جرير في سبيل اللحم ولا يتحرق تحرق الأخطل ويخرج صورًا جافية مثل هذه:
إن هذه الخشونة تقلب الأعراض فزعًا فيهربن منه، وهو لو كان ألين وأرق لارعوين لحاجته ورأى أن عندهن لذي الشيبة بعض الوطر … أما جرير فأجمل منه مخاطبة لهن فينادي صاحبته:
لا شك أنها وقفت وسارت الهوينى مصغية إلى تلك الموسيقى، كما أنها تنفر نفور البقرة الجافلة حين تسمع الأخطل يندب وينوح:
إنها تنفر وتمضي بتلك الحقيبة ولا تردُّ عليه … عجبًا لغياث! ألم يجد مستودعًا لقلبه أنعم من ذلك الخرج وآمن من ذلك الموقع؟! … قد عرف الأخطل فعل الكلام، فقال:
أفما علم أيضًا أنه يلين القلوب القاسية؟ إنه الطبع، فكلام صاحبنا على بلاغته وصحَّته ومتانته خشن كعباء الموصل.
لا نظلم جريرًا إذا قلنا إن شعره الهجائي هرير وعواء، ولكن في هذا الهرير والعواء إيقاعًا يستلذه السمع والذوق فتُنسَى بذاءته. أما ماذا؟ وبماذا يهجو؟ فأعداء جرير كأعداء هيغو أيضًا، عبيد وتيوس وخنازير وكلاب، وعقيدهم الفرزدق قُرَيْدٌ أصلع وقين، ماعونه علاب وكير وعلاة وقدوم ومبرد وكلبتان وعدل من الحمم الأسود، وكذلك آباؤهم وأمهاتهم جميعًا.
وإذا طفح الكيل زجَّ في شعره هنات وأشياء يستهجنها أشد الناس حبًّا للأحماض، فكل ما هجا به الأخطل والفرزدق ينحصر في بضع كلمات، ولكن براعة سردها تنسيك قبح تكرارها فلا تحتج ولا تعترض.
كان لجرير الكيماوي مرتع خصيب في تلك الفرزدقة، وهو أدرى الناس بفحص الدمن وتحليلها واكتشاف مضامينها ووصف ما بها من غرائب وعجائب، كما أن دين صاحبه الآخر — أي الأخطل — أوحى إليه كلامًا مستطابًا:
فهذا الكلام على بساطته استهوى الناس في أمس ويستهوينا اليوم، فنقول مع الفرزدق: قاتله الله! فما أحسن ناحيته، وأشرد قافيته!
أجل هو شاعر طلي محبوب، ذو قريحة فياضة، حاضر البديهة لرد الجواب، يعينه على ترسيخ كلامه في الأذهان أسلوب رائق.
إن شرَّة جرير لا تنطفي، لا رحمة عنده ولا غفران، يضرب بألم وحقد وضغن، فلا هوادة ولا هدنة:
أما كلمتي المجملة في هؤلاء الثلاثة، فهي: الأخطل أوفرهم فنًّا وأسماهم خيالًا، وجرير أشدهم فتنة وأقلهم صنعًا للمنتوجات البيانية، فكلامه طوعي اختياري لا فن فيه، والفرزدق لا فتنة عنده ولا فن إلا متى وصف نار غالب، وقدور دارم، وصفوف المعتفين حولها في السنة الحمراء.
عصر الغزل
كان عبد الملك بن مروان أبصر أهل عصره بوجوه الكلام، وأدرى جيله بالشعر الجيِّد، وأبلغهم كلمة، وأملحهم نكتة ممضَّة. وإذا كان الناس على دين ملوكهم، فعصر عبد الملك عصر نهضة استقل فيها الهجاء والغزل، وكانت الخطابة، وبلغ الشعر الخمري الأوج؛ فأبو نواس صهر صور الأخطل والأعشى والوليد وغيرهم ممن تقدموه في بوتقة فنِّه، فخرجت أبهج وأملح، وانبثقت له صور خمرية طريفة أعانه على إخراجها دينه الذي حرَّم الخمرة، وظرفه، وخفة روحه، ولسانه، وسهولة بيانه.
فإذا راعينا مدنية العرب والفرنسيس كان شعراء عصر عبد الملك كشعراء عصر الملك الشمس؛ فالمدح والغزل والهجاء اجتمع أشدها في عصر ابن مروان — عصر نهضة الشعر الرصين والكلام العربي المبين. فالغزلان الإباحي والعذري استقلَّا في هذا العصر، حتى إذا ما انقضى أمسى الغزل كالمقبلات التي تتقدم المآدب، فعمر وجميل هما شاعرا الغزل، أما بقية الشعراء فبدد. وأحسبك توافقني على كنية جديدة نطلقها على ابن أبي ربيعة. قد وسخ عمر كنية أبي الخطاب في غاراته التي شنَّها على الحريم، فأبو جوان تليق به وتدنيه من زميله دونجوان الأوروبي. إن دونجوان شخص أسطوري أما أبو جوان فكنية حقيقية؛ لأن جوان بن عمر كان رجلًا صالحًا كما روى الأصبهاني. فليهنئ العرب دونجوانهم، وماذا ينقصنا بعد؟!
قال الجاحظ في حجج النبوة: والناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم، والحجاز كانت في زمن عمر مترفة، ثروة يضخمها الفيء الذي ينصبُّ فيها انصباب وفود الماء في بركة المتوكل … وماذا يعمل شاب قرشي سدَّ عليه الأمويون وعلى أضرابه مطلع السياسة، وأغرقوهم في الأعطيات لئلا يتطاولوا على الخلافة؟!
أحس عمر أنه شاعر، وهبَّت في صدره الأهواء فغنَّى لها، فحملته على أجنحتها إلى عبقر، قد يكون ركب رأسه بعد موت أبيه ففتنته مجالس الغناء والشراب والجواري والقيان والمواسم التي تتجدد كل عام عندهم، فمكة مشتى الأكابر، ومصيفهم الطائف، وعمر منهم. يسيل العقيق فتسيل معه عواطفهم، ناهيك بالقصور والجنات التي قامت على آثار الطلول كما أنبأنا عمر بقوله:
وكما قال جرير يخاطب هشام بن عبد الملك:
في مثل هذا المحيط الفتان نشأ أبو جوان، لست أحدثك عنه وعن عصره ومحيطه وحياته، فقد كفانا ذلك الأستاذ الكبير جبرائيل جبور، فإن شئت أن تختص فدونك الكتاب النفيس الذي ألفه. إنه كتاب جامع رصين فيه أناقة عمر في شبابه، وترتيب هندامه في زمانه، فشاعرنا أبو جوان كبير الحظ، حيًّا وميتًا، وحسبه أن يُكتَب عنه هذا الكتاب الغني شكلًا ومادَّة.
كان عمر غنيًا جدًّا، فاستغنى عن الخلفاء ومدح النساء، ولم يجد له ندًّا بين شعراء عصره فيهاجيه فاختص بالغزل. وهل في الدنيا اختصاص أجمل من أن يوكل رجل بالجَمال فيتبعه أين وجده؟! لم ينبغ عمر في الشعر منذ طلع، ولكنه مرَّ في ثلاثة أطوار تتمثل في أقوال زملائه المعاصرين. قرزم عمر، فقال جرير إذ سمع قوله: شعر حجازي لو اتُّخِذ في تموز لوُجِد البرد فيه، ولما دانت له القوافي قال فيه: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر. ولما شقَّ طريقه إلى خدور النساء ومشى إليها مشية الحباب، فوصف حديثهن في خلواتهن، قال الفرزدق: هذا الذي أراده الشعراء فأخطئوه وبكوا على الطلول.
ظل عمر ينحت ويعمل، استوحى عاطفته ومحيطه، وانقاد للهوى فلم يخرج من تلك الدائرة. ومن يستطيع الخروج من دائرة الهوى، فهو — عند علماء النفس — حصر الحياة السيكولوجية في نطاق واحد، واتجاه القوى الفاعلة نحو النهاية المشتهاة، وتكييف كل وجودنا كما يقتضي ميلنا. وهذا ما وجَّه عمر في فنه هذا التوجيه، وقف عمر على الأطلال كما وقف المتقدمون، فقال وقصر عنهم:
وليس هو أول من وصف لنا حالته عند الحبيبة وما أتى من ضروب الشهامة … فقد سبقه إلى ذلك امرؤ القيس، ويكاد يقع الحافر على الحافر إذ دخل هذا دار نعم وذاك خدر عنيزة … ويتشابهان أيضًا في قصيدة ذات البعل الذي يغط غطيط البكر شد خناقه … ويتفق أيضًا مع الفرزدق واللتين دلتاه من ثمانين قامة … ولكنه كان أقرب إلى الواقع منهما؛ لأنه أترف وأخنث وأشب. وفي الغزل الذي جاءه من اليمن — كما قالوا — لم يفق عمر سواه ولم يبتدع شيئًا، فأين إبداعه إذن؟!
إن إبداع أبي جوان في «ليت هندًا» وفي «هيَّج القلب» وقصائد أخرى من طرازهما ولكنها دونهما روعةً وفنًّا، وجعل عمر نفسه المحبوب وروى لنا أحاديثهن في خلواتهن، فأرانا أنهن مثلنا من لحم ودم … هذا الذي سبق فيه عمر، كان شعره متصلًا بنفسه كل الاتصال بل هو صورة حياته اليومية، أخرجها قلم أُوتِيَ براعة القصص ففُتِن الناس. لم يتكلم بلغة امرئ القيس وتلاميذه بل باللغة التي تفهمها المرأة كل الفهم، وكان شعره غير مهتاج ولا مضطرم ولا متألم؛ لأنه محظوظ يشكو اليسر لا العسر، ففتح قلبه نصف فتحة، لا يترك شعره الغزلي أثرًا عميقًا في أنفسنا؛ لأنه لم يتألم ولم يحرم.
لا يعبِّر عن خوالج النفس إلا الكبت، وعمر متنقل من زهرة إلى زهرة كالفراشة، فهو كما يقول المثل عندنا: «شمَّام هوا قطَّاف ورد.» مهنته الحب، وآلاتها الشعر والمال والفراغ متيسرة له: خيول مطهمة، وخدم وحشم، وعبيد وجوارٍ، وأصدقاء يعاونونه على حاجاته، يبثهم هنا وهنالك ككلاب الصيد، وهل يصيد الظباء غير الكلاب كما قال ابن الرومي؟!
كان يجب أن يكون لعمر مكتب استخبارات وسفارة لا تنقضي شئونها وشجونها، فهو دائمًا يتصل بهذه وتلك وهاتيك، رسل تروح وتجيء، جناد وزير دفاع، وعتيق ذو الوزارتين الخارجية والداخلية، وعبد الله بن جعفر وزير مواصلات، وابن سريج والغريض وزيرا الدعوة والنشر. جوارٍ سُود وبِيض تقضي حاجات رجل لم تشغل باله السياسة، فمهام دولة الحب تكفيه. اللهم غفرانك.
تستلذ شعر عمر كحكاية حال لا كعاطفة جادة تشاركه فيها، ففي أشد تحرقه أحس ذلك البرد الذي عناه جرير. ليس هناك حب صحيح، إنما هنالك تمثيل فصول ملذَّات وشهوات بطلها أبو جوان — كلاه بحفظ ربه المتكبر — فأبو جوان في قصصه ممثل أكثر منه شاعرًا محبًّا محبوبًا، لا يغلي ولا يثور بل يمثل مشاهده على حقها، وهي تكاد تكون واحدة، يتلهَّى بالمرأة تلهي الطفلة بدميتها، ويقول في ذلك شعرًا، فيجيء قصة صغيرة سهلة ذات اهتزازات أشبه بالتي تحدثها قصة غرامية، أو إحدى حكايات ألف ليلة وليلة. ليس هذا لأن نفس عمر في ذلك الشعر، بل لأنه يمثل لك مشهدًا يوقظ فيك نارًا كامنة.
ليس في ذاك الديوان ابتسامة، ولا ما يبتسم له المرء، بل هناك وصف حالات نفسانية سطحية. كلام بسيط سهل تفهمه النساء، ويتمنين أن يُقال مثله فيهن، لا ألوان ولا صور إلا تلك الأحوال التي تحدث، ويأتي الشاعر على وصفها وتكاد تكون هي هي دائمًا. شعر مرسل عفو الخاطر، وهو — أحيانًا — لولا القافية يشبه الرسائل المنثورة، لا يتورع من أن يفتتحها باسم الإله ويضمِّنها معاني من قوله تعالى ومن حديث رسوله، ويحوِّلها عن القصد، نفس قصير وعمل فيه بعض العناية، لا ينظر إلا لما يقول ولا يهمه كيف أدَّاه. يعمل ويصف ما عمل، ولا حاجة إلى كد الخيال وإعمال الروية.
لم يمر عمر في أزمة لنرى ما يخرج من رأسه، فلم يقل إلا أشياء سطحية يعرفها أقل الناس اختبارًا، ولكنه أجاد وصف هذه المظاهر إجادة فنية كاملة، فإذا أمكننا تقسيم علم النفس إلى داخلي وخارجي كان شاعرنا من وصَّافي الخارج أدق وصف، بذلك الحوار الذي لا يفوته منه شيء، وكأني به يصغي بأُذنَي فرس لينقل الحديث كما هو، ويمعن النظر ليصوِّر الحركات الخارجية:
ليس في قصصه عمل فني، ولكن شخوصها حية تتحرك، والحوار لا غبار عليه؛ إذ ليس هناك لفظة يُستحَى منها كما سترى.
عمر والمرأة
لسنا نحاول درس نفسية المرأة في عهد عمر، فالمرأة في عمر وعهدنا كما كانت في عهد آدم … وأبو جوان لم يعنه منها إلا هذه الناحية. إنه مرزوق، لا يموت من الغم، كالبحتري، إذا أفلت منه طيف …
قال أحد مؤرخي عصر عمر: هذا عصر انتهى فيه سمن العرب وفاضت الدنيا عليهم، فلا بدع إذن أن رأينا حبيبات عمر مترفات، غنيات، شريفات، قارئات، كاتبات. لم يعرِّفنا عمر على شخوصهن معرفة لا تخلط بين واحدة وأخرى، فكلهن دمى الرهبان، وعين البقر، غزالات عليهن ذهب. مسك وعنبر، ما فيهن تفلات، العطر يفوح من أبرادهن وخيامهن، كما قال في نعم:
فلا ترى في شعره إذ يصفهن إلا العطر والزعفران، والزبرجد والجمان والمرجان، والياقوت والقرنفل واليلنجوج، والرند والكافور والزنجبيل. فطعم كل واحدة كالراح، وريقها راح، وسلافة الراح والتفاح، والعذق الرطيب والعسل:
أما الملامح فعينا جؤذر وجيد ريم، وحسن كالهلال والدينار في ثياب العصب. كل أسنانهن وأنيابهن — لا أدري لماذا أنفر من كلمة أنياب — مفلَّجة مؤشرة، وهي دائمًا تشبه البرد والأقحوان، أو كسنا البرق. وهذا الجمال يزينه خز وقز، ووشي ودرحلي، وسوار وبريم وخلخال. أما الجلود فطريئة ناعمة:
أفلا تظن أن الذر يعمل أيضًا في جلدي وجلدك الناعمين مثلما عمل في جلدها؟! وأغرب من هذا كله أن إحدى صاحباته تراءت له كالشمس، أما كيف فاسمع:
أليست هذه الشمس على البغلة مضحكة جدًّا؟! ولا غرو أن تتداعى الأفكار عند ذكر البغلة فتحضر إلى ذهن عمر صورة البيطار، فيقول في سمساره أبي عتيق:
إن عمر قرمٌ دائمًا إلى اللحم، إنه يريد لحمًا كثيرًا، حتى يسأل القضاة أن يجيزوا شهادة العجزاء، أي التي لها إلية كالخروف:
ثم يكشف صدره وينبش شعره ليدعو على الرسح دعاء أرملة مقطوعة، فيسأل الله قصف أعمارهن:
ألا ترى أن لو تجمعت رملية بيروت وكانت كفلًا لإحداهن لوجد فيها عمر أقصى أمانيه كقوله:
يا بارك الله! إنها تذكرنا بناقة عنترة …
بهذه العين ينظر إليهن أبو جوان وينتقيهن كالقصاب من بين القطيع، وأعجب من هذا أنه يشبههن باللحاف.
ويرى عمر الحُسْنَ مخلوطًا بالطِّيب فلا يصبر عنه، وكيف يصطبر من ينصح فتيين في المسجد تلك النصيحة الثمينة؟!
أما الخلق الكريم فما ذكره عمر ألا مرة، وأظنه اضطر إليه، فقال:
بل هو بالعكس يصفهن بما يسفِّلهن، فيجعلهن كريمات حتى على ابن السبيل:
أما صِلاته بهن فأشبه بصِلات كل محترفي هذه الحرفة، يترصد هنا وهناك ترصد الهر للعصافير. كان موسم الحج لعمر كالأعياد عندنا اليوم، وكما يفعل كثير من شباننا كان يفعل، وكما يلقون في آذان المارات كان يلقي، فمن شاء أن يتخيل صورة عمر كاملة فليتأمل أحد هؤلاء عند أبواب المعابد والمنتديات ساعة الانصراف. كان عمر فويسقًا عيارًا فاسدًا مفسدًا:
فالحج عند أبي جوان معرض جمال ينهال فيه عليه الرزق، فيرزح تحت أعباء الواجبات المتراكمة … وهو ملحف ملحاح، ووسائل الإغراء عنده كثيرة، فكثيرًا ما كان يتوسل إليهن بالعمومة والخئولة ووحدة الحال، ولا يتورع عن أن يتخذ من الدين أسبابًا يمدها بينه وبين حبيباته، فيقول: لا يحل لك قتل مسلم، وهلم جرًّا. وبهمة ونشاط تلك «المنظمة» التي كانت حواليه، قلما أفلتت منه حمامة … ولا تنسَ الغناء. كان عمر يجعل مجالسه على مفرق الطرق والمعابر، ومغنيه ابن سريج والغريض، وكثيرًا ما كان يوفدهما ليغنيا بشعره عند من تعصى عليه فتلين وتحن …
وهو مشهور عندهن بالخداع، وقد اعترف بذلك بلسان إحداهن:
كما يقول في مكان آخر: ما سُمِّي القلب إلا من تقلُّبه …
وأبو جوان يملأ شعره بالأيمان المغلظة، والقسم من مظاهر الأدب العربي عمومًا، ولا سيما القديم منه، بل من مظاهر حديثنا؛ ولذلك أجاز النحاة الفصل بالقسم في كل موضع حتى بين قد والفعل الماضي. أما الميزة العجائزية التي أراها في شعر عمر فهي أنه يدعو مثلهن، ويحب مثلهن عدد الرمل والتراب والنجوم والحصى وورق الشجر، ومن يكن كذلك فلا بد من أن يقتحم البيوت ويغامر ولكن ليس في شرف مروم …
وهو تبع إلى أقصى حد حتى قالت فيه إحداهن:
ولعمر تائية تدل على هذا الخلق الكريم أذكر لك منها شيئًا أعجبني، وفيه الدليل الأعظم على أنه كذاب لا عهد له:
ويعبر عن هذا الغدر في موضع آخر حيث يقول:
كان عمر بلاء على الحواج وعلى أهلهن، وقد أعيا العمال والخلفاء وذوي النساء كما حدثونا عن عبد الملك وأبي الأسود، ولكن النساء كن راغبات فيه، وله معهن قصص تشبه حكايات ألف ليلة وليلة، كن يردن شعره ويطلبنه حتى إن إحداهن سألت عمن يخلفه حين بلغها خبر موته. ما شبهت عمر مع النساء إلا بولد مدلل يظل يطلب أصناف الأكل، تارة بالتمرد، وطورًا بالملاطفة والمداهنة، وحينًا بالشكوى فيزعج أهل البيت فيرضى بالتافه سترًا على أهله.
إن الحياة البوهيمية التي عاشها أبو جوان قد استحال معها الهوى عادة، وكان الخير فاضلًا عنه، فهو لاحق بهذه إلى العراق، وبتلك إلى الشام. يصور لنا حيلهن لتصيده، فتلك تنصح له أن يأتي على بغلة لا على بعير يسد الفضاء:
ولا على مهر أيضًا، فالمهر يفضح:
أخبرتك أن أبا جوان كان عند إحداهن ثقيل الظل، أما عند الثريا فهو يجعل نفسه كيوسف من امرأة العزيز:
هذا عمر والمرأة، فلننتقل إلى شعره الذي كاد يكون وقفًا عليها، كما قال لابن عمه عبد الملك: أنا لا أمدح إلا النساء.
شعر عمر وشاعريته
لقد شبع شعراؤنا تقديسًا فلنشبعهم نقدًا.
إذا صنفنا الشعراء كالنبات — على مذهب برينتيير — وجدنا أبا جوان وأبا حزرة من صنف واحد. كلا الشعرين من النوع الخفيف، وبينهما فنيًّا أقرب النسب، ولا فرق بين الشاعرين إلا في الاستيحاء فقط، فعمر يستوحي الجمال والحب ويقول فيه أحسن ما عنده، وجرير يستوحي البغض والقبح والمعايب فيأتي بالبدع. إن عمر حبيب قلب الشباب ومعلمهم، غنَّى الجمال غناء حلوًا عذبًا إذ استشعر الحُسْن، قد كان في الإمكان أبدع مما كان، ولكن عمر لم يحس إلا الظواهر فكان تأثيره عابرًا وليس فيه عمق، اتكأ على القدماء في معظم صوره، وشن الغارة على أكثرهم فأخذ صورًا وتعابير من امرئ القيس والأعشي والأخطل وعنترة فأدخلها في شعره، حيث دعت الحاجة إليها، فكادت تكون من نوع النسخ.
نخرج مع عمر من قيود القدماء قليلًا، فهو لا يحطمها كل التحطيم ولا يغل نفسه بها غلًّا. هو صوت جديد نسمعه فنصغي إليه مرغمين؛ لأنه لا يحدثنا إلا عن الحب — حديث الأبد — لا تشم في شعره رائحة القطران والقار، فناقته لا تحضر مجالسنا، يتركها في العراء، لطارق ليل أو لمن جاء معور. كان عمر أقرأ شعراء زمانه للقرآن الكريم وأدراهم بالحديث الشريف فتأثر بذلك، لا نعني اللهجة الخاصة فهذه مكتسبة من المحيط، ولا الأسلوب فهو حجازي مكي قرشي، ولكننا نعني أن في شعره عبارات بعينها أُخِذت من الكتاب العزيز؛ فأبو جوان عارف لدينه يستثمره — كما قلنا — حين يُضطَر، وقد يتفقه «لهن» إذا اقتضى الصيد فقهًا …
ولا غرو أن كان فصيحًا لسنًا فهو أحد أبناء العصر الذي وصفه الجاحظ بقوله: كان أغلب الأمور عليهم، وأحسنها عندهم، وأجلها في صدورهم، حسن البيان ونظم ضروب الكلام مع علمهم له وانفرادهم به. إن أبا جوان رابع ثلاثة شعراء أفسدهم اليتم: طرفة والأخطل وأبي نواس، فسار كل منهم في الطريق التي وجهه إليها طبعه ومحيطه، وكان الغزل محبوبًا في الحجاز ومن طبيعة أهله، فانفرد به عمر واختص، ومن أحرى بذلك من عمر:
كل هذا طوع يد عمر، فصار الحب والشعر مهنته وعمله. تفرد الحجازيون في عهد بني أمية باللهو وأورثوه العباسيين فاستحال معهم مجونًا وعبثًا وتهتكًا، كانت له مدرسة بشار فأنمى تلك المدرسة الإباحية التي أخرجت أبا نواس وغيره من النبهاء، فكلهم يَمُتُّون بنسب فني إلى جدهم الأعلى امرئ القيس.
ليس لعمر حساسية بشار الفنية، ولا نفس أبي نواس المرحة، ولا موسيقى جرير. هو وسط الخيال، وسط الحساسية، منفرد في سهولة الشعر، لا يحسن إلا بث شكواه وتحرقه أحيانًا. كل ديوانه تكرار ممل للحوادث والتعابير يكاد، لولا القليل، أن يكون موضوعه واحدًا. لم يصف تلك المجالس ولا ما كان في الحجاز على عهده، ولم يذكر العقيق إلا كما ذكره جرير، فهو في الشعراء من أصحاب «الفكرة الثابتة» إن جاز لي هذا التعبير، لا يعنيه إلا جسد المرأة. افتخر مرة وما هجا قط، رثى قتلى صفين بأبيات بليدة، ورثى امرأة جميلة قتلها مصعب، بثلاثة بيوت، وهي لو كانت حية لتبعها إلى حجرها، فإذا كان لسجع الحمام شبيه فهو شعر عمر. وليس عمر مفكرًا فيعنيه ما وراء القبر، وإن ذكر ذلك مرة فليقول:
وليس متفننًا فيبالي بالصور، بل يهمه أن تفهم عنه من يوجه إليها رسالة شعرية، وأن تعجب تلك الرسالة غيرها من النساء فتتمنى مثلها، وإن طلبت إحداهن شعرًا قرزم لها. كان عمر فبركة شعر مثل فبارك أميركا في إخراج المنتوج الحربي، وأكثر هذا الشعر يصدره المعمل كيفما اتفق له: قصص ووصف حيل، وصف سهرات حتى الصبح، والصبح دائمًا مفتوق أشقر، كأن صبح الجزيرة لا يتغير كصبح لبنان؛ مواعيد فمُلتقى، وكلها على نمط واحد. ناشد ينشد، أو عمر يتلصص ليهجم، رسائل ومعاتبات، والعتاب صابون القلوب. لا يحسن دعابة ولا هزلًا، ولا يذكر بعد الاجتماع إلا ما ذاق وشمَّ … يستغفر الله على الشبع، ويوصي بالكظة بخلاف أبي عبد الرحمن، كلبيُّ الفلسفة يحس ما يراه، والشوق يحدثه للعاشق النظر، كما يقول. لا يفكر إلا بعينيه ولسانه، حساسية تقليدية، فإذا حضرت الحبيبة قال لها: بل قادني الشوق والهوى. لا يتعدى في شعره العام منطقة الإقليم المعتدل، لم يبدع في الغزل بل في وصف الواقع، بذَّ الشعراء أجمعين في بضع قصائد قصصية، ومن هذه الروائع أتته الشهرة التي استحقها.
يكرر عمر ليقرِّر ويثبت، فكأنه درس علم الإيحاء على فرويد، يقول:
رب، رب، رب، كأنه من رجال حلقات الذكر. رأيت عمر يتضاءل أمام هذه «الهند» بينا هو يرى نفسه عند غيرها فوق الجميع كما يقول:
كان عمر من المبتهرين ومثله كثير بيننا، ففي كل عصر أناس كثيرون يقولون كما قال، ويكونون قد استُقبِلوا بالنعال.
يُكثِر عمر من الجمل الدُّعائية بلسانهن فتخالهن ذائبات، قد ألهت عمر المرأة عن فنه فهو لو فكَّر أكثر، كما كان يفعل بشار، لجاء بما هو أعجب. ولكنه قليل الصبر إذا أدَّى الفكرة نظمًا عدَّ ما قاله شعرًا. لا يتسع المجال فأدلك على الكثير، ولكن واحدة تريك تلك الخصلة فيه:
فكيف رأيت «لكم» في هذا الموضع؟! إن أخواتها كثيرات في ديوانه، فما أكثر ما أنسَ لا أنسَ، وبينا، وبينما، وملأشياء وأضرابها؛ مثل: ملحب، وملكاشحين، ملسماحة حتى ملغميم … وما أكثر التليين الكريه؛ كقوله: أو تدابان حقبة مثل دابي، ومثل: عند قراتك القرانا، أو مثل:
ويدهشني قول أبي عمرو ابن العلاء: إن عمر حجة في اللغة العربية، وما تعلق عليه إلا بحرف واحد، وهو قوله:
وكان ينبغي أن يقول: أتحبها؟ لأنه استفهام، وله وجه إن كان أراد الخبر ولم يرد الاستفهام.
قلت: وأي وجه يجده لنا أبو عمرو في قول صاحبه عمر:
وكقوله:
وكقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
بضم العذر والهجران، والقافية مبنية على النصب. وكقوله:
وقوله:
وقوله:
بضم المثنى؛ لأن قصيدته مضمومة. وكقوله:
وإلى جانب هذا الإهمال مصنوعات فنية رائعة جاء بها فدلت على أن هناك شاعرية لم يتعهدها صاحبها، ولا عجب فالهوى يحتل ساحة الشعور ويطرد منها كل شيء، ويبقى وحده. ومع هذا تجد لعمر تعابير فنية جميلة جدًّا أدركها المتقدمون وأفاض في سردها صاحب الأغاني. وفي هذا الشعر المدني تلمح شيئًا من البداوة كقوله:
لا نطالب الحجاج بقوله لأهل الشام: أنتم العدة والحذاء، ولكننا ننعي على عمر قوله: حذوك النعل بالنعل. وهو من عرفنا.
ولا يغفل عمر عن بعض الخرافات أيضًا فيذكرها؛ مثل: خدر الرجل، واختلاج العين. ونحن ما زلنا في هذا العصر نجر خلفنا أمثال هذه ونقطر إلى القافلة أبعرة جديدة.
لا يلين شعر عمر ويواتيه الكلام إلا عندما يحس حقًّا كقوله، وما كان أقدره على الاسترضاء:
بمثل هذا، وبمثل هذين البيتين فتن عمر العقول:
البيتان جميلان ويصيران أجمل منهما متى أرسلهما ابن سريج والغريض في البطحاء، فقد كانا من شعر عمر كما كان عبد الوهاب من شعر شوقي، أما نحن الآن فبعيدون عن الطلسم الغريضي والسريجي نرى الشعر كما هو، وكما يوحي إلينا. إن عمر لم يتفوق فنيًّا إلا في قصصه، وفي أربع قصائد لا غير، ولأجلها قال الفرزدق: هذا الذي أراده الشعراء فأخطئوه وبكوا على الأطلال.
وسننظر في ثلاث منهن خاتمين كلامنا عن أبي جوان الذي شغل رجال عصره حتى العلماء، إنه ليستحق، جلَّ من لا عيب فيه وعلا.
خوالد عمر
إن أسلوب عمر بسيط وحلاوته في بساطته تلك، فالنثر العربي يُكنِّي عن الهيفاء بقوله: غرثى الوشاح. فيقول عمر شعرًا:
وقد دنا عمر من لغة دهره في قصصه كل الدنو، فأجاد الحوار إجادة قصر عنها شعراؤنا جميعًا. لم يدنُ منه إلا أبو نواس في وصف مجالس الخمرة والندامى.
إن قصص أبي جوان كثيرة، بل في أكثر شعره قصص: في الطواف قصص، وفي الحج قصص، وفي المضارب والخيام قصص، وفي الغرف وفي الجبانات قصص قذرة … الرجل إباحي تيَّاه، معجب بنفسه، لا سر عنده، تارة يبوح به ابتيارًا وطورًا ابتهارًا. إذا درسنا كل قصيدة فيها حكاية حال ابتذل كلامنا، كما ابتذل شعر عمر لهذا السبب، فخير قصائده القصصية ثلاث: أمن آل نعم، وهيَّج القلب، وليت هندًا. وتدنو منها قصيدتان أخريان هما على الراء أيضًا، ولكنهما ليستا من الشعر في السطح كما عبَّر الجاحظ عن مقام معاوية من قريش.
ليس لشخوص خالدات عمر علامة فارقة، فبطلاته في نظر الفنان نساء ليس غير، فنعم وهند والثريا وزينب وكلثم وفلانة وفلانة كلهن مثال واحد، كأنهن عمل فبركة لا صنع يد، فلست تميز إحداهن من الأخرى. كلهن بياض واحمرار، وشحم ولحم، وحسن وجمال … أما كيف أتصورهن فهكذا: لو جمعن في مجلس أستطيع أن أضع الاسم الذي أشاء على كل واحدة منهن ولا حرج عليَّ.
قد قرأت ديوان عمر الجامع بيتًا بيتًا. أقول: «الجامع» لأنني وجدت اسمي فيه حيث يقول:
فهل من يدريني ما هذه أو هذا المارون وله الأجر؟ قرأته كله فما وجدت علامة فارقة إلا مرة واحدة حيث قال:
فهذه الشخوص مجهولة، كما ترى، ناهيك أن القصص كلها على نمط واحد: اذكر الذيب وهيِّئ القضيب:
ويغلب التثليث على بطلاته، فبطلات «أمن آل نعم» ثلاث، وبطلات «هيج القلب» ثلاث، وهكذا دواليك. فهل قال هذه القصائد في موضوع واحد؟ لم يصف عمر في شعره إلا اللون الأزلي، فهذه المهازل بل المآسي التي يمثلها تصلح لكل مكان وكل زمان، فشعره المقول في هند ونعم وغيرهما يصح قوله في كل أنثى، فعبثًا تفتش فيه عن اللون المحلي. فليلة ذي دوران أشبه بمسرح متنقل يُنصَب حيث تشاء وتُمثَّل عليه كل رواية، لا زينة مختصة بكل مشهد، فكأنه ذلك المسرح الذي حطَّمه دون كيشوت. بلى، عمل عمر إطارًا واحدًا لقصة واحدة وهي:
ففي هذا البيت أصاب عمر عصفورين بحجر واحد، بكى على الطلول كالقدماء، وذكر لنا العمران العربي الحديث، وسأل المنزل هل فيه خبر، ولكنه سؤال يعقبه الفرج لا يأس الجاهلية، ناهيك أن أطلال عمر ليس فيها آرام وبعر وأثافي بل استحالت «فيلَّا» كما نعبِّر اليوم. ثم يتجاوز عمر هذا النطاق الضيق فيوضح المكان والزمان بعض الشيء، فيقول:
ثم يفلت الخيط الفني لينتقل إلى بطلات قصته فلا تعرف إلا أنهن من الجنس اللطيف الناعم المدلل، يتمشين في ذلك الجو الذي هيَّأه لهن؛ حرصًا على وجوههن من الحر، وعلى أقدامهن من الكلالة. وما اكتفى عمر بالوصف الخارجي الذي أعده لتحريك النفس، فقال يصف بعض ما انطوت عليه نفوسهن:
تلك هي الخطة الشعرية التي ابتدعها أبو جوان وسبق إليها، فلم يعالجها أحد قبله، ولا بعده. ثم ينتقل إلى شيء يؤيده علم النفس الحديث والواقع، فيقول:
لا شك أنك قد لاحظت مثلي من اختص عمر بحبه، ولا بد من «وهل يخفى القمر؟!» فعمر تارة هو المشهر، وحينًا ميسور أمره أعسر، كما تقرأ في «أمن آل نعم» فهو يعلم أنه جرس على بغل.
وهناك صغرى ثانية هي إحدى الخالدات لا تقل فنًّا عن هذه، ومطلعها طائر الصيت:
يقول البعض: إن هذين البيتين قتلا البرامكة، وأقول: إنهما قتلا محصنات كثيرات، وعمر يستأهل على قصائده هذه جلد القاذف الحرة، ولكن ما لنا ولهذا؟! فما يعنينا إلا فن عمر. ففي هذه القصيدة يدخل عمر قدس أقداس المرأة، فيسمعنا حديثها مع ضراتها إذ تقول لهن، حين تعرَّت تبترد:
أما هن:
إن كل حرف من هذا البيت يقطر حسدًا أمرَّ من الحنظل الذي نقفه امرؤ القيس؛ فهذا التضاحك، وهذا القول المر المبطن: حسن في كل عين من تود، يصور لنا الحسد فاضلًا عن الكمال. بيد أن صاحبنا يسفُّ حين يصف أشنب هند، وعينيها وجيدها، وبرودتها وسخونتها … ثم لا يلبث الفن أن يستيقظ، فيسألها: من أنت؟ فتجيب:
فأجابها السيد عمر جواب أستاذ في هذا الفن:
أرأيت هذا الحديث الطلق، وكيف تُلقى الشباك بخفة دونها خفة أدهش المشعوذين؟ ولكن سلة عمر عادت فارغة كما أنبأنا في ختام القصيدة، وهو أروع ختام عمله؛ لأنه لم يحسن ختامًا قط. فهذه الآدمية خيبته بظُرف وكياسة وهزء، ولم تقع في فخه، وإليك البيت:
ألا تذكر تهكمنا إذ نقول «بعد بكرة»؟ إنها هي.
قد رأيت أن شعر عمر مادي خفيف، وأشد قصائده أسرًا هي «أمن آل نعم»، وهي التي أحلته أسمى مقام في الشعر العربي حتى حفظها ابن عباس التقي الزميت، فماذا أحدثك عنها وسياق قصص عمر واحد وشخوصه هن هن؟! أراد عمر في هذه القصيدة أن يقول كل شيء فاضطرب حبل الفن. وصف حبه لنعم، وما يعترضه من عقبات، وذكر الجهاد الذي غيَّر لونه، فأمسى قليلًا على ظهر المطية ظله، ثم تخلص إلى القصة التي ابتدأت في موضع اسمه ذو دوران، لا نعرف إلا أنه «ذو دوران»، وأن عمر يتلصص هناك يراقب الناس، ويفكر أين خباء نعم، فهو نهب مقسم. يفكر بالخروج بعد الدخول، وماذا يعمل بناقته، وأخيرًا سقط القمر فانساب كالثعبان وابتدأت المعركة:
أرأيت ما أبرع هذا الوصف وما أسرعه؟ فأبو جوان لا يقصر — في محاورة النساء فقط — عن لافونتين، وأحب أن تقدر معي هذا الوصف الموفق إذ جعل نعم تسأل بدهاء ولباقة عجيبين:
فأجابها اللعين وهو داهية العاشقين:
فاطمأنت وارتاح بالها، فجأرت بالدعاء الذي يبذره عمر بسخاء كلما تحدث عن مقامه عندهن … ثم عقب ذلك الدعاء سلام واطمئنان حتى مطلع الفجر …
وكانت حيرة عقبتها بطولة دونكيشوتية:
وأخيرًا انجلت الغمرة وكان مؤتمر ثلاثي أسفر عن استحالة عمر امرأة تمشي بين ثلاث، بعدما شاء أن يكون مكرهًا لا بطلًا.
وفي الختام كان هذا الدرس الخبيث:
أما ما يجيء بعد هذا البيت فثرثرة، غفر الله لعمر كل زلة فنية من أجل خالداته هذه، فقد جعلته في الذروة حتى الساعة.
وهناك أخت رابعة للخالدات الثلاث، قلما ذكروها بخير، هي على الراء أيضًا، ومطلعها: قل للمليحة قد أبلتني الذكر.
عرف عمر هذه الفتاة بالمروتين، وسمعها تقول لفتاة:
لقد هزَّت هذه الكليمات قلب عمر، فانتظر الليل وجاء راجلًا كما يعترف:
وهنا يفيض عتيق الخمر والشهد والمسك الخالص والعنبر والكافور والقرنفل، ويظل عمر سادرًا حتى يقال: قوما بعيشكما قد نور السحر …
وبعدُ، فلا تظنن، أيها القارئ العزيز، أن عمر لم يسلك الجادة التي عبدها الزعيم امرؤ القيس، فقد وقف في قصائد على الديار، فقال كما قالوا:
وهو هنا لا يتعفف عن السرقة الشعرية فيقول:
ثم يصف صاحبة تلك الدار فيغير على القدماء إذ يقول:
ويقول أيضًا:
وفي شعره من هذا غير هذا، فارجع إلى ديوانه كاملًا إذا شئت، وإلى الأغاني أيضًا إذا شئت معرفة رأي القدماء فيه، أما أنا فحسبي ما قلت.