العباسيون
عصر الترف
العصر العباسي عصر ترف، فالحب ظل حبًّا وزاد. ملأت الجواري أسواق بغداد فكانت تُباع بالمزاد. وهذا الرشيد يردُّ جارية على الموصلي بعد أن جرَّبها، ويقول له: هذه ليست من بابتنا.
وإلى جانب الجواري غلمان وولدان ومن يستطع فليقتنِ ما شاء.
أما الشرب فاحتالوا له مجتهدين، ففرَّقوا بين الخمر والنبيذ، وبين بنت النخل وابنة العنب، وبين المطبوخة على النار والمعمولة في الشمس، وكان بين الأيمة خلاف، فقال في هذا ابن الرومي:
قصور ودور وحانات وخمارات لم يرها العرب في باديتهم فتأثروا بها، وكان لها في شعر الموالي، ورثة هذه المدنيات، أثر بيِّن، فتطور الشعر بمقدار. كان منه لونان: لون حضري ولون بدوي، فالحضري من عمل الموالي، أما البدوي فيقوله الوافدون على الخلفاء فينفق عندهم.
والغناء بعد أن كان رجزًا وحداء أصبح فارسيًّا موقعًا، وأقبل عليه حتى أبناء ملوك العرب، أما الحرب فظلت حرب ولكنها سُمِّيت جهادًا، وهكذا في كل زمان تتغير الأسماء وتبقى الجواهر.
أما العلوم والآداب فازدهرت في هذا العصر، كان المنصور ممعودًا فتُرجمت له كتب الطب، وكان الرشيد أديبًا شاعرًا فكثر الشعر في زمانه واعتز الشعراء. وكان المأمون ابن فارسية فكثرت الفلسفة في زمانه، وانتشرت حرية الفكر، فقال دعبل الخزاعي فيه وفي خلفاء بني العباس هجاء لو قيل في أحد السوقة لما صبر، ومع ذلك سلم دعبل وظل حاملًا خشبته أربعين سنة ولم يجد من يصلبه عليها كما قال.
فتح عصر المأمون للعرب باب التفكير الحر فورثت بغداد أثينا، لقد فاز العرب في اللغة والدين ولكنهم تقهقروا في السياسة، وآفة ذلك تلك العناصر الأجنبية التي صهرها الإسلام ليجعل منها أمة واحدة ولكنها لم تتحد، وظل السوس كامنًا في الجذع، فما انفك ينخره حتى هوى.
لم يكن يجسر شاعر أو غير شاعر من الموالي، في العصر الأموي، أن يتطاول إلى مقام عربي، أو أن يحلم بالمساواة، أما في هذا العصر فيرتفع صوت بشَّار وأبي نواس هازئين بالعرب، وبكل ما عند العرب إلا الدين، وما ردَّهما عن الدين إلا خوفهما على رأسيهما.
وقصارى الكلام، كان العصر الأموي عصر عصبية عربية وشعر، وجاء العصر العباسي فكان عصر فلسفة وعلم وجَوارٍ، وشعر وخمر. هو العصر الذي خلق شهرزاد وإخوان الصفاء، وإذا شئنا كلمة شاملة قلنا: الأمويون جمَّعوا، والعباسيون بدَّدوا.
بشار زعيم الخلعاء
ما أصدق هذا القول على الأدب! فالأدب خلاصة عقل الأمة يدلُّ الأواخر على السُّبُل التي اختطتها أوائلهم، وما مرُّوا به من شِعاب. يبدو الهرم ويستولي الفناء على آثار الأمة وبقاياها ما خلا الأصيل من أدبها فهو لا تفارقه نضارة الشباب؛ لأنه ابن الحياة الحي.
إن هذه الثورات التي تضطرم في كل حقبة لدليل على أن الأدب كائن حي، فهو أبدًا في تفاعل كعناصر الحياة الأخرى. إذا واءمته الأنواء برعمت غصونه الهاجعة وأزهرت وأثمرت ما يموت وما يعيش، سُنَّة الحياة الخالدة التي تحارب أبناءها فلا يثبت في جبهة النضال إلا الأشد الأشد.
يتأثر الأدب بالحياة؛ لأنه وليدها، ويصعب الاختراع فيه لأنه صورة عنها وهي لا تتغير إلا بمقدار؛ ولهذا تقل الاكتشافات فيه، ويظل قديمه متصلًا بحديثه، يتمشى تمشي السلالات والأنواع، وينمو نموًّا حسابيًّا لا هندسيًّا؛ فالأديب الحق هو المصور الحاذق تلتقط ريشته المشاهد الرائعة فتمسي في محبس الفن لتتمتع بجمالها الحواس دائمًا وأبدًا: فإنك:
هكذا قال شاعرنا، وإن آثرنا الصدق ولم نذهب مع الشعراء في كل وادٍ قلنا: أخلد الملوك وأسيرهم ذكرًا من نفقت عنده بضاعة الأدب. وليست الدول العظمى أحرص على ذكر ملوكها منها على ذكر أدبائها، فهم سجل مجدها الباقي ومؤثلو ملكها، فحيث تُلقَى بذور آداب أمة ينبت النفوذ والسيطرة، فما تأثر بعض الأمم ببعضها تجاريًّا وصناعيًّا بأقل منه عقليًّا، ففي الحياة مجارٍ خفية كالمناجاة لا يلتقطها إلا ذهن الأديب؛ لأنه أشد إحساسًا من زجاجة المصور الشمسي.
تقع الثورة في الأدب فتظنها طوفانًا عرمرمًا وتحسب أن الساعة قد دنت، حتى إذا لفظت العاصفة آخر أنفاسها وطلعت الشمس ضاحكة بدا لك غير ما كنت تتوهم أنه كائن، فهذا الثبات يدلك على خلود الأدب فلا تأخذ منه الثورات إلا كما تأخذ السيول من الجبال الصلعاء. فالأدب الرفيع، وهو نزر جدًّا، هو آخر صفحة تمحوها العوادي من تواريخ الأمم والشعوب، وهي أشد آثارها الأخرى صبرًا عليها.
قد يقول القارئ: هنيئًا له ما أفضى باله، يحدثنا عن الأدب وثوراته في هذه المعامع. الدنيا قائمة قاعدة وهو غارق في هذره وسخفه، فليحدثنا عن المفاجآت الحربية، عن الخبز والملح، عن الرز والسكر …
أما الجواب فهو أني لا أصلح لهذه ولا لتلك ولا يعنيني غير الثورات الأدبية، فأصحابها هم الذين وضعوا المثل العليا التي تناضل عنها الدنيا قاطبة، وتقوم الحروب في كل عصر تحت ألويتها.
كل أديب ثائر، والأديب الهادئ لا يهدم ولا يبني بل هو من الذين تجرفهم شبكة الصياد فتخرجهم من بحر الحياة العجاج إلى المقلى أو إلى الفرن ليتغذى بهم الحيتان الصالحون للبقاء.
إن أول ثورة أدبية عربية أوقد نارها أديب أعمى مستعرب، وكأنه نظر بعين الغيب إلى أثره في الأدب، فقال بيته الذي نتمثل به الآن:
لا يا بشار، ما ضل من يقوده أعمى مثلك، وكم من أعمى قبلك وبعدَك رأى ما لم نره نحن البصراء، فانعم بالًا.
أسمع الكثيرين يقولون: لماذا زعَّم القدماء بشارًا، وماذا رأوا فيه حتى أقروا له بزعامة لا خلاف فيها؟ فالذين لا يدركون ما غمض ودق يقولون: كان لبشار لسان كالسوط فألقى الرعب في نفوس العلماء والرواة — والرواة هم نقَّاد ذاك العصر — فاعترفوا له بالسبق خوفًا ورهبة. وكما يصير الباطل حقًّا ويصبح الكذب صدقًا، في رأس قائله، متى تقادم عهده، هكذا ثبتت زعامة بشار كما ثبتت زعامة الحريري بعده.
إن هنالك لشيئًا غير ذلك، إن هنالك لفنًّا ليس رمية من غير رامٍ، فبشار زعيم أدبي رغمًا عن وطأته الثقيلة؛ ففي ذلك الجسم الجاموسي نفس فنية ما رأى الأدب العربي مثلها، نفس أدركت عفوًا أن الأدب ابن البيئة، فتحسست بيئتها تحسسًا فكان لها من كل إصبع ألف عين، رأى بشار بأنفه وأذنيه ولسانه ما لم تَرَهُ ملايين الناس بأعينهم، وهو من العباقرة الذين سبقوا دهرهم دهورًا.
أراد بشار أن يكون لعصره أدبٌ غير أدب الجاهليين والأمويين فتعمَّد ذلك ووضع معالم فنه صامتًا. لم تكن له نفسُ أبي نواس المرحة ولا حريته الواسعة، ضيق عليه عماه فانطوى على نفسه متأملًا، فأخرج فنًّا شايعه عليه أبو نواس وغيره فكان أدب المولَّدين، وهذه الحكاية تؤيد ما نزعم.
قال الأصمعي: كنت أشهد خلف بن أبي عمرو بن العلاء وخلفًا الأحمر يأتيان بشارًا ويُسَلِّمَانِ عليه بغاية التعظيم، ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألانه ويكتبان عنه، فأتياه يومًا فقالا له: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟! قال: هي التي بلغتكما. قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب. قال: نعم، بلغني أن سلمًا يتباصر بالغريب، فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرفه. ثم أنشدهما القصيدة ومطلعها:
فقال له خلف الأحمر: لو قلت يا أبا معاذ، مكان «إن ذاك النجاح»، «بكرا فالنجاح» كان أحسن.
فقال بشار: إني بنيتها أعرابية وحشية، فقلت: «إن ذاك النجاح» كما يقول الأعراب البدويون. ولو قلت: «بكرا فالنجاح» كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة.
فقام خلف وقبَّله بين عينيه، وشاء خلف الآخر ابن أبي عمرو بن العلاء ممازحة بشار، فقال له: لو كان علاثة والدك يا أبا معاذ — أي لو كان عربيًّا — لفعلت كما فعل أخي، ولكنك مولى. فمد بشار يده، فضرب بها فخذ عمرو بن العلاء، وقال:
كان والبة بن الحباب، ومطيع بن أياس، وابن المقفع، وحماد عجرد، وبشار المرعث، وأبان اللاحقي إلخ ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر لا يكادون يفترقون، يهجو بعضهم بعضًا هزلًا وعمدًا وكلهم متهم في دينه.
فهؤلاء، أضف إليهم أبا نواس وأترابه، هم رجال الثورة الأولى في الأدب العربي، أما موقد نارها فبشار. وسنريك في قابل أثر بشار وزعامته فيها، ثم كيف خمدت نارها قرونًا حتى اتقدت في هذا العصر.
أخلاق بشار
لا متسع لدرس عصر بشار ومحيطه اللذين يعرفهما كل متأدب، ناهيك أن بشارًا ابن الغريزة العمياء الموروثة، فما رأينا له ضريبًا إلا نفرًا تتلمذوا له فأعداهم. ليست الأوبئة النفسانية بأقل عدوى من الأمراض السارية، وليس بشار أول المتهتكين ولا آخرهم ولكنه تفوَّق على كل من تقدموه بثورته الشاملة كل ما تواضع الناس على تقديسه، فكان يزدري تقليدهم، وعرفهم، وعاداتهم، ونواميسهم. ولولا فنه الأصيل لأُحصِيَ مع السفلة الرعاع، ولكن فن هذا الأعمى الوقح، ونظراته البعيدة المدى تستهويني فأغلو في تقديره. يدهشني قوله: عدم النظر يقوِّي ذكاء القلب، ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء، فيتوفر حسه وتذكو قريحته. وأزداد دهشة إذ أقابل قوله هذا بقول بول فاليري زعيم الشعر المحكك في فرنسا؛ ففاليري يدعو الشاعر والكاتب إلى الخلوة في الغرفة السوداء لتأمل ما تصور وكتب.
أما بشار فكان في غرفة أبدية الظلام، لم يعشُ قط إلى ضوء النار التي قدَّسها وقدَّمها على الطين … فقضى عمره بين نارين: شهواته، وفنه. فلننظر إذن في سجاياه قبل فنه؛ لأن هذا ابن تلك، وإن كانت جميعها لا ترضي. فما رأيت فنانًا خلا من كريمة مثل الشيخ بشار.
كان بشار خائفًا على شعره، فقال: أزرى بشعري الأذان. فجاء الجاحظ بعد قليل وقال: ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى، كان شاعرًا راجزًا سجاعًا خطيبًا صاحب منثور ومزدوج، وله رسائل معروفة، وهو أطبع شعراء زمانه كلهم. ثم جاء أبو الفرج فاقتفى أثر يوحنا الإنجيلي في تدوين سلسلة نسب بشار فبلغ به إلى أدريوس بن يشتاسب بن يهراسب الملك. وقال آخرون: بشار مولى وأبوه طيان. وسواء عندي أكان ابن طيان أم صنو كسرى أنو شروان، فقد كان هوراس ابن مولى، وفرجيل ابن حطاب.
لا يعنينا مما ذكره أبو الفرج إلا هذه الكلمة التي ختم بها تلك السلسلة الملكية: «ويُكنَّى بشار أبا معاذ، ومحله في الشعر وتقدمه في طبقات المحدثين فيه بإجماع الرواة، ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك.»
فكيف أتته الرئاسة منقادة، وما هي الخصال التي جعلت منه زعيمًا لا خلاف فيه؟ قال تين: الشاعر ابن العرق والزمان والبيئة، وبشار هو حقًّا ابن عرقه وزمانه ومحيطه. قد نظلم عصر بشار إذا جعلنا هذا الفاجر الفاسق مثالًا له؛ قد كان في ذلك الزمان أناس فضلاء يقولون: أما لهذا الأعمى من يبعج بطنه؟!
وقد نكون — إذا اتخذنا بشارًا وعصابته نموذجًا لعصره — كمن يزور مواخير بيروت وملاهيها، ولا يلم بكنائسها ومساجدها، ومدارسها وجامعاتها، وديورتها ونواديها الأدبية، ثم يقول: بيروت مدينة لهو ودعارة. لسنا نطهر ذاك المحيط فخطبة زياد تكذِّبنا، وهذه النواة — أي: بشار — لو لم تصادف تربة ذات حرارة ورطوبة ملائمتين لاحتضانها لما انفلقت وجنَّت جنونًا ورأينا لها أخوات.
لا يعنينا أن يكون بشار خفيف الظل أو ثقيله، وسواء عندنا أحبه الناس أم أبغضوه، ولا يهمنا صدقه أو كذبه، فالفن كذب كله.
ولست أتطلب ديوانًا ضخمًا لأحكم على فن بشار، فحسبي ما وصلني من شعره. ورُبَّ كتاب صغير يضم بين دفتيه نفسًا كاملة تامة الخطوط صادقة الألوان.
يرينا شعر بشار شيئين في وقت معًا: إباحية بشار وانحطاطه، وسمو قريحته وفنه. فبشار بن برد أناني من الطراز الأول كأنه إنسان لاروشفوكو الذي لا يهدأ أبدًا، فلا يقف عند الآخرين إلا كما يقف النحل على الزهر ليمتص منه ما هو بحاجة إليه. فبشار معجب بنفسه معتد بها، وحسبك بابن طيان يصبح ندًّا لكسرى أنو شروان، فيقول — وهو من عرفنا:
أدعر فاسق، شموس حرون، غضوب جسر كناقة عنترة، لا تردعه النصيحة ولا يتأثر بأحد، عدو الجميع، ثائر على النظم جميعها تمهيدًا لشهواته المتأججة، فاتك جسور لا يثنيه عن غيه لجام ولا تكبحة الخزامة:
فكان من أمرها معه ما كان، وإذا شئت الخبر كاملًا غير منقوص، فارجع إلى كتاب الأغاني.
ولكن بشارًا خلي من حساسات الحياء، والحياء بالنظر، يبتهر بالمعائب وكره الناس، ما أحب إلا بنيه، متقلب كأبي براقش، يخفر ذمة بني عقيل كما يزدري الدين والمعتقد، يهجو الخليفة كما يهجو الخيَّاط والقصَّار. يذرِّي كيفما طابت له الريح، ولا كبير عنده إلا الجمل. هو على حد قول رابله: يبكي كالبقرة ويضحك كالعجل. يبذل كل شيء حتى فنه إرضاء لربابة ربة البيت وطمعًا بأكل البيض طازجًا، فلسفته دُرْ مع الزمان كيفما دار:
مادي ممتلئ شبقًا، زنديق إذا خاف، ملحد حتى الهذيان إذا اطمأن، ليس الدين عنده شيئًا ولا الفروض ولا الصلاة، فأجاب حين لاموه على تركها: من يقبلها تفاريق لا يرفضها جملة! الحياة عنده في اللحم والعظم، ولا يردعه عن الفجور إلا الخوف على جلده:
شَابَ وما تَابَ … ظلت نفسه خضراء في السبعين. أذَّن في الضحى وهو سكران، فكأن المتنبي يعنيه بقوله:
الحياة عنده هوى عاصف، وشهوات كالتنور المسحور. وهكذا كان له مدرستان: واحدة علمت الجسارة والفتك، وأخرى علمت الفن. لم يحث إلا على مكرمة واحدة وهي رعاية الصديق، ولكنها كقول الدهري: خلق الله السماوات والأرض؛ لأنه لم يكن له صديق ولم يرعَ عهدًا لأحد!
يصوِّب مدفع فنه إلى حصنين: المرأة والصندوق:
هو لا يمدح ريحانة قبل شم، هائج كالبركان. الحياة عنده مأدبة يجب أن تتنوع ألوانها لتقوي شهوة النهم، وقد قال لبعضهم: لا تصيِّروا مجلسنا هذا شعرًا كله، ولا حديثًا كله، ولا غناء كله؛ فإن العيش فرص، ولكن غنوا وتحدثوا وتناشدوا وتعالوا نتناهب العيش نهبًا. قوي الميل حتى الغضب والبهيمية:
يتبع هذه الغريزة كما يتبع الملَّاح نجمة القطب، شعاره الوقاحة والفتك:
وإذا كان الإنسان أضغاث ميول كما يعلم علم النفس فميول بشار نطاحة. يقولون: إن الميل قوة عظمى إذا وجَّهته الإرادة، وأداره العقل، ولكن ميل بشار عنيف خلق منه لص أعراض ومجرمًا خطرًا على المجتمع، ناهيك أن ميل بشار لم يعرف الشيخوخة فكان في السبعين، طور السأم والهرم، كأنه ابن عشرين. كل شيء عنده محلل، وصاحبنا جوعان دائمًا، ينطح الزاد كلما رآه:
وقد عرف بشار اعوجاجه هذا، فاعتصم «بالجبرية»، فقال مبرئًا نفسه:
لم يقعد ولم يتوانَ عن طلب المال، فلم يَحُلْ عماه دون الأسفار والزيارات المثمرة:
وقد اعترف بهذا إذ قال: دخلت على الهيثم بن معاوية، وهو أمير البصرة، فأنشدته:
فسمعته يقول: إن هذا الأعمى لا يدعنا أو يأخذ من دراهمنا شيئًا. فطمعت فيه، فما برحت حتى انصرفت بجائزة.
إن حمية بشار تعمل دائمًا لإتمام رغائبه، فما هجا إلا ليستدرَّ، وما نظم شعرًا لنائحةٍ أو مغنية إلا ليفوز منها بشيء، وما تغزَّل إلا ليستهوي ويغوي، وما مدح إلا ليُجازى. كان فنه أحبولة صيد، والفن مكار. قد يكون للتقاليد والعرق يد عظمى في توجيهه، فما عصمه إسلام، ولا حجبه شرع أو حد. أما أجاب جواري المهدي: ونحن على دين كسرى. حين قلن له: أنت أبونا …؟!
إن بشارًا عبد اللحم والعظم، لقد كان مصابًا بحمى الحياة ولم يفارقه الدور حتى ضربه المهدي ضرب التلف وأُلقِيَ في البطيحة.
وقد يدلنا خَلقه على خُلقه إن كان كما وصفه حماد عجرد:
أو كما قال فيه آخر:
أما فنه فموعده قريب.
الطاقة البشارية
روى الأصفهاني عن بشار، قال: لما دخلت على المهدي قال لي: فيمن تعتد يا بشار؟ فقلت: أما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي كما قلت يا أمير المؤمنين:
وكان أبو دلامة حاضرًا، فقال: كلا، لوجهك أقبح من ذلك ووجهي مع وجهك. فقلت: والله، ما رأيت رجلًا أصدق على نفسه وأكذب على جليسه منك، والله إني لطويل القامة عظيم الهامة، تام الألواح أسجح الخدين، ولرب مسترخي المزورين، للعين فيه مراد، قد جلس من الفتاة حجزة، وجلست منها حيث أريد، فأنت مثلي يا مرقعان.
لم يكذب أبو دلامة، وقد رحم الله بشارًا فأعماه لئلا يفجعه برؤية قبحه.
وإن قيل: من كان هذا شكله وتلك سجاياه، فأي فن سامٍ يخرج منه؟!
لا يفرق علم النفس بين جهد وجهد، فسيان عنده جريح يتجلد في سبيل المجد والوطن، ولص يصبر على جرحه خوفًا من الفضيحة والسجن.
فأنَّى توجهت ركائب طاقة بشار فهي طاقة ولها الأولية بين خصاله، فلولا جهده العنيف المستمر لظل لعبة الصبيان وكُرَة يتلقفها من لا يرحمون ذا عاهة، بل يقولون: اضرب الأعمى واكسر عصاه، ما أنت خير من ربه الذي أعماه! إن هذه الطاقة المتقدة قد سيرت بشارًا نحو الإبداع المستمر، والدليل قوله: لم أزل منذ سمعت قول امرئ القيس في تشبيهه شيئين؛ حيث يقول:
حتى قلت:
لا يعني هذا أنه سرق امرأ القيس كما ظن أحدهم، فالتخيل لا يبدع مادة جديدة بل يقتصر على جمع بعض الصور إلى بعض، فيحلل ويركب ويصغر ويكبر كما عمل بشار. إن إرادة بشار مسلحة بقريحة عجيبة وقوة بادرة، وشدة عارضة يخفرها العقل الذي ألزمه عمود الفكر فيما نظم، أضف إلى هذا كله ذوقًا مرهفًا مكَّنه من نقد شعره أدق نقد، فجاء كلامه نقيًّا كأنه الفضة المسبوكة، فقصرت قصائده ولم تتشعب أغراضها، وقد قال بشار في هذا: «لم أقبل كل ما تورده عليَّ قريحتي ويناجيني به طبعي ويبعثه فكري، نظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفهم جيد وغريزة قوية، فأحكمت سيرها وانتقيت حرها، واحترزت من متكلفها.»
وقد دلنا بشار على هذا قبل علم النفس الحديث، فقال:
ثم قوله لعبدة:
أفلا يؤكد هذا القول كل ما جاء في علم النفس عن الهوى والهيجان والتخيل والإحساس وغير ذلك من فصول؟! وما علينا لو أقحمنا شيخنا المعظم بين جيمس وريبو وبرغسن وغيرهم، فقد خلق بذكائه وانتباهه الشديدين ما لم يخلقه الملايين من البصراء.
ليس هنا موضع إلقاء درس في الانتباه وأثره في الفن، ولكننا نقول ما لا بد منه لموضوعنا، أي إنه يجمع ملكات العقل حول نقطة واحدة. وانتباه بشار تجمَّع كله حول مخيلته فصح في بشار ما زعموه عن العبقرية، أي إنها القدرة على جمع الفكر حول موضوع واحد مدة طويلة.
هذه عناصر بشار الغريزية، أما عناصره الاكتسابية فهي ثقافته الشاملة، إن صح التعبير، وإلا قلنا اطلاعه الواسع على معارف عصره ومقدرته الجدلية، فقد كان شيخنا من أبطال هذا العراك وله فيه حجج وبراهين شعرًا ونثرًا. أما الأدب فعرف منه الغالي والرخيص ونقده نقدًا عجيبًا. قال مروان بن أبي حفصة: قدمت البصرة، فأنشدت بشارًا قصيدة لي واستنصحته فيها، فقال لي: تقدم بغداد، فتُعطى عليها عشرة آلاف درهم. فجزعت من ذلك وقلت: قتلتني. فقال: هو ما أقول لك. ثم قدمت عليه، فأنشدته: «طرقتك زائرة فحي خيالها» فقال: تُعطى عليها مائة ألف درهم. ثم عدت إلى البصرة، فأخبرته بحالي في المرتين، وقلت له: ما رأيت أعجب من حديثك. فقال: يا بني، أما علمت أنه لم يبقَ أحد أعلم بالغريب من عمك؟!
أما بصره بالغريب فأمكنه من فهم سر كل لفظة فحملها ما تستطيع تأديته، وأحلها محلها بين أخواتها لتؤدي فكرته التي بدت كالبحر الهادئ، تبصر قعره بعينيك وهو عنك بعيد.
فملذات بشار بقيت منقوصة، ولم يروِ غلته كل ما ارتكب من الموبقات. لقد بقيت طاقته فتية في الهرم فهجا الخليفة وسبَّ الوزير. كان سلاح هذا الرجل لسانه، في كل أطواره، وبه رد الثقلاء عنه وانفتحت له أبواب القصور.
خبرونا أنه كان يعطي أبا الشمقمق مائتي درهم في كل سنة، وبلغ أبا الشمقمق أن بشارًا أعطى عشرة آلاف درهم، فوافاه، فقال له: يا أبا معاذ، إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون:
فأخرج إليه بشار مائتي درهم، فقال: خذ هذه ولا تكن راوية الصبيان يا أبا الشمقمق …
لا نعجب إن رأينا الشاعر الكبير المهوب يخاف هرَّاجًا كهذا، فمن يسقط من علٍ في صغره لا يجرؤ فيما بعد على تسور حائط عالٍ، وشاعرنا ذاق طعم عبث الصبيان صغيرًا فآثر إرضاء من يهوشهم.
وإذا صح قول أبيقور في أن السعادة في الجمود وفقدان الشهوات، فبشار لم يسعد يومًا في حياته، ولا شك أن تنفسه لم ينقص عن سبع عشرة مرة في الدقيقة، ولم يكن نبضه قط عاديًّا … فهو رجل ملاذ ومسرات. ظل من فنه في جهد جهيد ينفق من طاقة لا تنضب، فكان كالدجاجة المرخمة لا تبرد ولو طمرتها بالثلج بل تنتفض وتعود إلى بيضها تحضنه.
فن بشار
عاش الشعراء الجاهليون على الإنعام، فاحتلت صورها ساحة مخيلتهم واستأثرت بشعورهم، فكأن الله لم يخلق الفرات ليسقي الفردوس الأرضي كما جاء في كتابه المقدس، بل ليشبه به النابغة أبا قابوسه ربيع الناس، والأخطل سيده عبد الملك خليفة الله الذي يُستسقَى به المطر. لم يهمس بردى في أذن التغلبي حرفًا، ولم تومئ إليه «الغوطة» بإصبع، فلولا ذلك «الخبر» الذي أتى ابن مروان ما ذكر اسمها شاعر «خف القطين»؛ فالزهور عند قدمائنا مخمل وأرجوان، والشقيق أعلام ياقوت نُشِرن على رماح من زبرجد، والورد والتفاح خد لونًا وطعمًا ورائحة، وقطر الندى لآلئ، والنجوم درر منثورة على بساط أزرق، والأعشاب بساط زمردي، وبعض الثمار كرات ذهبية والبعض الآخر كهرمان، والحليب كوثر، والمياه فضة سائلة إلخ، ما هنالك من صور جافة. ولا عجب في هذا، فخيال الجاهلي خيال طفل كبير.
لم يعب هذا النحو بشار بن برد، فثار عليه وقال مستهزئًا بزعيمهم امرئ القيس:
ثم أنحى بسوطه على قفا زهير، مخوِّف الأعراب بيوم الحساب، فقال:
فلا يظنن من ظن من دارسي بشار أن بشارًا مؤمن هنا، فبشار شيخ الزنادقة وفاتح باب السخرية بالأقدمين، راز بشار شعر القدماء فاستخفه وجرؤ عليه، وقعد يخلق صورًا جديدة من عمل وطن ألف ليلة وليلة، فهز نفوس الرواة والسامعين بشعر ينطق بصور حياتهم المتحركة، فأُعجِب به الأصمعي وفضَّله على ابن حفصة المحبوس في قفص التقليد البايزيدي.
جارى بشار الأقدمين وسأل الطلل مثلهم، ولكنه حدثه بروح بشارية ولغة مولدة، فقال:
فهو لا يدع أبدًا أسلوبه ومنطقه، يطعم شجرة الجاهلية بالبراعم العباسية المشرئبة، ويلقح ذلك الهيكل الهرم بدم جديد، يقوده في ذلك المعترك الفني ذوق نقدي مرهف يحسن به الانتقاء والاختيار، فلا يضع حجرًا في بنيانه ما لم يقلبه على جميع وجوهه عارضًا إياه على بركاره وزاويته. أنشد بشار مروان بن أبي حفصة هذا البيت:
فقال مروان: جعلني الله فداك يا أبا معاذ، هلا قلت: خرست بالصمت؟! فأجابه بشار: إذن أنا في عقلك، فض الله فاك، أأتطير على من أحب بالخرس؟! انظر إلى أي أفق من آفاق الفن يذهب ببشار ذوقه ونقده.
شعر بشار مديح وهجو وغزل. أما مديحه فنصائح وحض على الجود، وإيماء إلى الجائزة، وتهديد إن أبطأ الممدوح، وأما الهجو فيمد الإلهام فيه فن بشار أيما مدد، ويغلي مرجل سخطه، وتبلغ حساسته حد الفوران إذا حرم، وأما غزله فمشوق مغرٍ بالفسق والفجور، أقضَّ على العلماء الصالحين مضاجعهم فحملوا الخليفة على نهي بشار عنه ففعل.
أدرك بشار الجمال بعين الغريزة العمياء، فتخيل المرأة مادة غذائية لا غنى عن استهلاكها، كالسكر والرز مثلًا، فقال مستعطفًا عبدة:
صورة رائعة نادرة خلقتها مخيلة بشار من أتفه المواد وأخسها، رأى نفسه محقونة في زق الجسد، وخشي أن ينشقَّ ذاك الزق البشاري إن لم ينفس عنه، فأنطق كل حرف من بيته باستعطاف صارخ بلغ به ذروة الفن الرفيع، تعالى عن العوام وظل بينهم، وهذا سر فنه وموضع التعجب منه. فحلاوة فن بشار هي في استعارة هذه الصور التي لم يحلم بها القدماء، وكسوتها بألفاظ مألوفة وُضِعت في مكانها الملائم، يحوطها الشاعر بهالة فنية شفافة فتبدو كوجه الحسناء من خلال البرقع، وهكذا يجمع شعره صفاء مع قوة، وموسيقى مع شدة، فيغذي الذوق والعاطفة معًا. انظر إلى هذه الصور التي أخرجها في مدحه خالد بن برمك:
وكقوله لآخر:
فهذه الصور وهذا الأسلوب يغلبان على شعر بشار الذي خاطب الناس بلغتهم ففتنهم، وأرادنا أنه أقدر الشعراء على تأليف الكلام حقيقة ومجازًا. والقرآن الذي جعله العرب ملاك الشعر تتناوله يد بشار متى شاء؛ تأمل كيف أخرج هذه الفكرة بأسلوبه الحي الناصع:
ففي كل مجال يمده هذا النفَسُ الفني فيبعد شعره عن اليبوسة والجمود.
إذ يحفل بالكلمات التي تهيج أعمق لجج الشعور. قال بشار يهجو باهلة:
فانظر كم حمَّل كلمة «العارض» من أثقال، ثم دعمها بقد سد الأفق، فنهضت بفكرته نهوضًا عجيبًا مروعًا قوَّل الأصمعي: «ويلي على هذا العبد القنِّ ابن القنِّ!» لا شك أن بشارًا قنٌّ ابن قنٍّ ولكنه في فنه أبو الأحرار، وشرفه الفني قد طبق الآفاق.
فهذه الثورة الفنية الجامحة تلهب نفس بشار في كل غرض من أغراض شعره وخصوصًا متى هجا، وأين لا يهجو بشار؟ فهو يتفلسف هاجيًا، ويتمنطق هاجيًا، ويتمذهب هاجيًا، ويأكل ويشرب هاجيًا، لا يطيب له عيش إلا إذا سب وأخرج شعره مفزعًا. إن رقة بشار في ألفاظه تلك لا في صوره التي يضخمها، ففي مخزنه مصنوعات لدنة شفافة، وأخرى قاسية جافة كقوله: والشمس في خدر أمها، وبنو الموت، وأم المنايا، وقناديل أبواب السماوات تزهر. ولكل منها موضع وأبرعها وأشدها يأتيه متى اهتاج. وإذا رأيته وهو الأعمى، يتحدث عن النور، ويشبه بالسراج، ويشق العمى بالسيوف فاذكرْ أنه مجوسي النبعة، وعرق الأصل نزَّاز.
قال لامرتين حين قرأ مجموعة هيغو «العقاب»: ثلاثة آلاف بيت في البغض، هذا شيء كثير! فما تراه كان يقول لو سمع ابن برد يذكر أن له اثني عشر ألف قصيدة، ابتدأها بهجو آدم، وختمها يهجو الخليفة الذي يلعب بالدبوق والصولجان وأشياء أخرى …
ولشعر بشار خواص أخرى منها حرارة متقدة تنتشر في كل مقطع، وسرعة كأنها البرق. اقرأ أرجوزته العجيبة التي مطلعها:
فتخال أن صخورًا تتدهور ورعودًا تقصف، ومدافع رشاشة تنصب قذائفها على الهدف؛ فشعره يجري كأنهار لبنان، فيه جمال وموسيقى يخرجهما الشاعر من تزاوج ألفاظ ذات مخارج ملائمة، وحروف شديدة غير متنافرة، وفي كل غرض تحس هذه السرعة؛ اقرأ قصيدته «قد لامني في خليلتي عمر»، ترَ أنه لا يقتفي أثر امرئ القيس كابن أبي ربيعة، بل ترى على قصيدته الطابع البشاري الذي لا يُقلد. وحسب بشار تعبيره الناصع واتباع قصيدته خطة مثلى لا دوران فيها ولا لف، كعنترة وزهير، ولا تلهِّي بالألفاظ كالبحتري، ولا يفلق قارئه بشروحه الباردة كابن الرومي، ولا يستغيث مثله بالله ورسوله من مهجوه بل يضربه ضربة تقرض اللحم وتكسر العظم. له في هذه الوغى سلاحان: إما تصوير مضحك كما في قصيدة الشاة، وإما نكتة موجعة كقوله:
يعضده في هذا العمل الشاق دقة تفكير، وحدة شعور، وحسن أداء، كما يطلب بيفون. زد على ذلك ذكاء عجيبًا، وبديهة وثابة، وإرادة نهاضة لا تقنع بما دون التمام.
غارات بشار الفنية
لبشار غارات فنية تصدق قول الأخطل: الشعراء أسرق من الصاغة؛ فرغم كل دفاع سلبي تصيب قنابل بشار أهدافها ويعود، كالشنفرى، والليل أليل.
انظر ما فعلت يده ببيت النابغة المشهور:
فقد طرق هذا الصائغ الحاذق تلك السبيكة الذهبية ومددها وصيرها أشكالًا وأنماطًا طريفة تقر له بالأستاذية؛ قال:
لسنا نستدل بهذين النمطين الأدبيين على عقلية شاعرين كبيرين بل على عقلية أمتين مختلفتين؛ فعروبة بشار لم تجرِّده من آريته فيفكر تفكيرًا عربيًّا خالصًا. العربي يوجز، أما بشار فابن عرق منطيقي مطبوع على التبسط والإسهاب، ولكن منطق بشار منطق مجنح، يفر في المأزق فلا يعرقل سير الفن، ولا يسف إسفاف ابن الرومي في بسط الصور وعرضها. والغريب العجيب أن الكلام المنتقى يرك حين يرصفه ابن الرومي، واللفظة المبتذلة تزهو وتسمو في شعر بشار، فكم من عبارة تلوكها الألسن كل ساعة أدخلها بشار في شعره الرصين فما نبت ولا اشتكت غربة، فهو يقول: دار البلى، ومن لحم ودم، ومحسن ومجمل. وكم نسمع حتى الساعة من يقول: يا محسن يا مجمل. فكأن لدى هذا الرجل إكسيرًا فنيًّا عجيبًا يلامس الحجر فيجعله كالذهب الإبريز، انظر كيف أمسى بيت الفرزدق الأعجر ليِّنًا ناضرًا كالغصن الرطيب:
إنها سرقة صيَّرها ذوق بشار الرفيع حلالًا زلالًا، أما من يأخذون عن بشار فيقصِّرون عنه تقصيرًا فاضحًا، قال بشار في جارية اسمها رحمة الله:
فأخذ البيت أبو نواس ليقول في رحمة بن نجاح:
فشتان وألف شتان بين «رائحة الفردوس» وبين «جاورينا» في ملاءمتها لرحمة الله، ناهيك أن فدتك النفس من جار، من سقط المتاع. ولست محتاجًا بعدُ إلى دلِّك على استدراك بشار الدقيق بقوله: غير مختبر، ولا على «بيضة الديك» وهي بضاعة بشارية ذات «ماركة مسجلة»، ولا تعجب إن رأيت بشارًا مولعًا بالرائحة، فسلاحه من الحواس سمع ولمس وذوق وشم.
فالحديث العذب عنده تمر الجنان، أو قطع الرياض كُسِين زهرًا، وهو يرى بأذنيه وأصابعه كقوله مخاطبًا سهيلًا:
فزاده سهيل تمرًا على أن لا يزيده بشار هجاء.
وبشار فنان في كل موقف حتى الحديث، وله في هذا الباب آيات تثير الضحك وتستدعي التفكير، وكأن غريزة بشار الفنية واطلاعه الواسع وبصره باللغة أوحت إليه فأقلَّ من التشابيه ولم يخرج الصور في قوالبها المعهودة، فاستغنى عن كأنَّ والكاف وما أشبههما. والشيخ بشار من كبار علماء الكلام، يظهر ذلك من أخذه بيت لبيد القائل:
فطبعه على غراره المعهود مخاطبًا خالد بن برمك:
لم يقل وديعة لعلمه أن الودائع لا تُمَس شرعًا بل تُعاد عينًا، أما العارية فلها دواء إذا هلكت … وزاد بشار «أطعم وكُلْ» موافقة لفنه المولد، وتحريضًا على الجائزة التي يحلم بها شيخنا دائمًا، ويدور معها كعباد الشمس. تنبئنا عن ذلك صوره التي اصطفاها وآثرها في مديحه:
وكقوله:
وأخيرًا:
وهذا البيت الأخير من غنائم بشار في إحدى غاراته على زهير، وكلمة «محتلبًا» هي الطابع البشاري الذي لا يقلد، ولم يسلم الأخطل من غزوات أبي معاذ ولكنه لم يُوفَّق فأسفَّ في خمريته التي مطلعها:
ثم قصر عن التغلبي في تشبيه الزق يُسحَب على الأرض، فما أبعد قول بشار: وكأن الزق زنجي سرق، من قول شاعر تغلب:
وإذا طلبنا لبشار مثلًا بين شعراء الفرنجة فما نجد غير بودلير.
الشاعران يتفقان في الصناعة الفنية، والأخلاق الصاخبة المعربدة، والزعامة الأدبية، وفي الثورة على ما يقدسه الناس، وصداقة إبليس، وحب العبدة السوداء، وإسخاط الرأي العام، وإغضاب الحكومة والمجتمع.
- (١)
يقوم فن بشار على خَلْق صور حضرية لا صلة لها بالجاهلية، يخيط لها من فصيح المولدين ثيابًا مغرية، مفصلة على قدها.
- (٢)
على السرعة والموسيقى المطردة، يتوسل إلى ذلك بانتقاء الألفاظ الملائمة وتجنب التقديم والتأخير والجمل الاعتراضية، وتقسيم أجزاء شعره تقسيمًا دقيقًا كما ترى في هذا البيت:
وجيش كجنح الليل يزحف بالحصىوبالشوك والخطي حمر ثعالبهفالبلاغة العربية لا تعتمد على الحروف الصوتية، كما توهم المتمشرق بلاشير، بل لها موسيقى تجدها في الحروف الساكنة، والفنان الأصيل يأخذ منها غير متعمد ما يلائم غرضه، كما فعل بشار في البيت السابق؛ فللغرض الواحد أحرف متعددة في لغتنا، تتفاوت ضخامة وصوتًا كالطاء والتاء، والصاد والسين والثاء، وهلم جرًّا.
- (٣)
يضخم شعر بشار ويشتد حين يحاكي المتقدمين، ويظل سهلًا؛ لأنه يجتنب ألفاظهم الوحشية وطرق تعبيرهم.
- (٤)
لم يخطئ الجاحظ حين أحصى ابن برد بين مشاهير خطباء عصره، فشعره كله مصوغ صياغة خطابية، وقصائده مهيأة تهيئة منطقية لا تطفئ من حدة العاطفة ولا تمحو شيئًا من سمات الفن.
وبعدُ، فثورة بشار التي أفضنا في الحديث عنها لم تتناول كل ما نطلبه نحن اليوم، ولكنه فك أغلالًا، وحطم قيودًا تحلَّى بها بعده البحتري وأبو تمام، فعاد الشعر العربي سيرته الأولى.
أما أبو نواس، وله من يفضله، فما أراه إلا تلميذ بشار النجيب، وحسبي البرهان على زعمي قول الجاحظ: بشار وأبو نواس معناهما واحد، والعدة اثنان. قد يكون أبو نواس أخف ظلًّا، وأظرف نكتة وأرشق، أما بشار ففنان لا يُضَاهى، والكلمة العامية «شيخ كار» لا تنطبق إلا على الشيخ بشار.
شعراء الخمرة
لا نستطيع أن نعدِّد شعراء الخمرة، فهواتها كثيرون، وكأني بها قد كانت من مقومات السيادة العربية فادعوها جميعًا حتى صعاليك العرب وأغريتهم، فافتخر عنترة أنه شربها بالمشوف المعلم. ليس وكدنا كل من شرب كأس خمر ببعلبك أو دمشق وقاصرين، فلا يهمنا في هذا الباب إلا الاختصاصيون، والأخصائيون في الخمرة من شعراء العرب ثلاثة: الأعشى والأخطل وأبو نواس.
كان أول عمل أتاه ابن آدم، بعد خروجه من سفينة نوح، زراعة الكرمة … وعلماء الزراعة يؤكدون أن أقدم خمرة عُرِفت هي خمرة هذا القطر. إذا أحصينا ورود ذكر الخمر في الكتاب المقدس وجدنا أنه نحو مائة وثلاث مرات، كما أننا نرى الكتاب المقدس يختص خمرة لبنان، وحدها، بالثناء العاطر، فيقول هوشع: ويكون ذكرهم كخمر لبنان.
الأعشى أول شعراء الخمرة ويقال: إنها حالت دون إسلامه؛ لأنه لا يستطيع هجرانها. وصف الأعشى الخمرة وأجاد، ثم جاء الأخطل فأتى على جميع ما قاله الأعشى وزاد عليه، فوصف لنا منشأ هذه الأسرة الكريمة، التي أهدت إلى الآداب العالمية عروسًا فريدة، قال فيها برانجه الشاعر الفرنسي: إن خمرة قبرس خلقت جميع الآلهة. قال الأخطل يصف مسقط رأسها:
ثم ذكر عتقها، والعناية بها في خدرها، وكيف هي ملثمة، وعليها أردية شتى من نسيج العنكبوت ومن ليف ومن قار، وكيف كلف لون هذه العروس لطول مكثها في الخباء، وظلت هناك محبوسة محجوبة حتى اجتلاها عبادي بدينار الأخطل.
ثم يصف تقلب صاحبها، رغمًا عن فقره، فكأنه ممن عرفوا السوق السوداء:
وأخيرًا تمت الصفقة وفاح المسك مما تضوع من ناجودها الجاري.
وانتقل الأخطل إلى وصف السكران فأجاد وأبدع، جسد الخمرة ووهبها الحياة، ولما جاء دور شاربها أماته موتًا موقتًا، فهو:
وحين أقرأ هذه القصيدة الرائعة إخالني أشاهد الأخطل ملاقيًا القافلة الفلسطينية، واقفًا على الطريق ينتظر حتى أطل عليه الموكب العظيم:
ثم يصف فعلها، فيقول:
ثم يعود إلى تجسيدها، وإن سبقه إلى مثل هذا حسان بن ثابت قبل إسلامه، فيقول:
وقد أغرب الأخطل في حب الخمرة حتى هجا جريرًا وقومه وعيرهم بالسكر القبيح، فقال:
وأخيرًا يتحدث إلى أمير المؤمنين عبد الملك عن بلاء قومه، فيقول:
ويظل لواء شعراء الخمرة معقودًا للأخطل حتى يظهر أبو نواس فيستولي على الأمد.
خمرة أبي نواس
كأنها وُجِدت منذ قيل للدنيا كوني فكانت، فهي أشبه بقول ابن الفارض:
يخبرنا أبو نواس عن سن عجوزه، فيقول:
صفراء تُمزَج فيبدو الزبرجد المتألق ببدائع الأضواء، أو لؤلؤات شبيهات بواوات، أو حصباء در على أرض من الذهب، وهي تارة بدر وحينًا شمس، لا يُحتَاج إذا وُجِدت إلى مصباح، إذا مسَّت الحجر يُسَرُّ، ويكاد يغفو من ينظر إليها.
أما الساقي الذي يدور بها في مجلس أبي نواس وأصحابه، فهو من سلالة العم يافث، أي ناصع البياض أحور، قدُّه قضيب بان فوق كثيب. إن أبا نواس كابن أبي ربيعة لا يعجبه الرسح؛ ولذلك قال في ذلك الغلام حين قام للصلاة:
ويتخيل ويتفنن في التخيل فيرى حبب الخمرة حدقًا ترنو إلى الشاربين، ثم لا يقف عند حد، فيسلك أودية ما سلكها أحد، كما قيل فيه، فيخال أن مازجها طوقها سلخ ثعبان أو أفعى. وأبو نواس المدمن أصبحت لا تؤثر به الخمرة الخفيفة، فهو يريدها سميكة، من عصير الأرجل لا اليدين، تلذع كأنها مفلفلة. وخمرته الأثيرة، وهو شيخ كار، هي المجوسية التي فارقت أهل دينها لبغضها النار، يعني بقوله الخمرة التي قال فيها الأخطلُ زَمِيلُه:
وخمرة النواسي «دينمو» رائع:
فلو كانت هذه الآية النواسية في عصرنا فكم كانت تغني عن شلالات ومعامل وامتيازات … بل كانت «عين كفاع» مدينة النور الدائم والضياء الأبدي.
ليس يعني أبا نواس غير الخمرة وما تؤدي إليه من ملاذ، فإذا حصلت فليمت من شاء، شرط أن تسلم للشاعر كأسه، وقد أوضح هذا بقوله:
ووصف مشهدًا كنسيًّا وافق ذوقه، فقال:
والخمر عند أبي نواس تكون أحسن منها إذا تمت في شربها شروط معلومة:
وللسقاة من الجنسين منزلة رفيعة عند الشاعر، يستحيل طعم الخمرة في أيديهن فيلذ ويطيب، وخصوصًا حين يمشين في قمص مزررات.
وللندمان احترام وكرامة عند أبي نواس، وللشراب آداب تجب مراعاتها، فلا تحل الخمرة لأي كان:
أما آداب أبي نواس التي يراعيها — مع الشارب لا مع الساقي — فوصفها أولًا فقال:
وقال يعظ الثقلاء من الشاربين:
عاش المربي الكبير … وكأن أبا نواس عرف أخيرًا قدره الخمري، ومقامه الأسمى، وأن له في هذا المقام حق الاشتراع وإصدار المراسيم، فقال:
هذه نصائح «الأستاذ الأعظم» للذرية، فعلى من لا يقلع عن السكر أن يعمل بها على الأقل، فتستريح الشرطة …
ويتأمل أبو نواس حبيبته — الخمرة — حين تُمزَج بالماء فيراها تتألم وتتوجع … فيخلق صورًا عديدة، ويولد تشابيه كالأنوار والأضواء التي ولدتها خمرته، أكتفي منها بذكر هذا التشبيه الغريب:
ويدفع أبا نواس طيشه، فيخلع على الخمرة كثيرًا من الصفات الربانية، فيقول:
وأبو نواس يعلم أن الخمرة محرمة وأن شاربها هالك، ولكنه يشربها في كل حال، متكلًا على عفو ربه، ويجادل في ذلك النظام فيقول له:
ثم ينظر إلى قضية «العفو» وقد شبَّت «الفِرَق» حولها حرب الكلام، فيقول:
ثم يقول في توبته قول مجتهد عالم مخاطبًا ربه:
وتارة يهزأ ويسخر، فيقول:
ثم يعطف على الخليفة، فيلذعه هذا اللذع المؤلم، فيقول:
ويرى أن لذته تكون منقوصة إذا ظلت وراء الستار، فيقول:
وينادي صديقه أحمد ليستفيق ويعصيا معًا جبار السماوات، ويهيب باللاحي هاتفًا:
ويقول لساقيه الغرير:
ويجيء الصوم، فيضيق به أبو نواس صدرًا، فيقول:
وأخيرًا يلجأ إلى العلم لعله يجد عنده باب فرج يدخل منه إلى خدر هذه الحبيبة، فيقول:
ثم يعتصم بالاجتهاد، فيتوسل إلى تحليلها بمنطقة المعكوس، فيقول:
ويرى لنفسه رأيًا جديدًا، فيقول:
وينتهي به الطواف فيوصي أين يُقبَر، فيقول:
أما وقد أتينا على ذكر القبر فيجدر بنا أن نقسم الميراث، فلأبي نواس تقسيم طريف أحب أن تسمعه:
ولا يدعنا أبو نواس في حيرة من أمر دينه، فيكشف الغطاء، وما دعاه إلى ذلك غير النكتة التي كان يؤثرها في كل موقف، فقال:
وللكأس حظ كبير من وصف أبي نواس، والأبيات السينية التي أطراها الجاحظ في غنى عن الذكر. وأبو نواس مولع، كعنترة، بالكئوس الفارسية ذات التصاوير، وله في ذلك بيتان مشهوران أُعجِب بهما الرواة القدماء:
ثم يصفها أيضًا فيبدع:
وأبو نواس الشريب المهذب لم ينسَ أحدًا من شركائه في المأدبة حتى قال فيه شيئًا، فهو لا يهمل الدن المسكين:
وينظر إلى الدن فيراه ميتًا، أي فارغًا، فيكتب إلى أحد السادة:
ويجر حب الخمرة أبا نواس إلى الهزء بالشعر العربي القديم، فيحمل على نادبي الطلول حملات غاشمة، ويدعو عليهم دعاء العجائز:
ويقول في قصيدة أخرى:
ثم يقول:
ويقول:
ولأبي نواس غزل نسائي يضاهي خمرته جودة، وخصوصًا المقطع الذي قاله على الباء:
إن هذه الأبيات لتنم عن وصف عشق صحيح، كما ينم هذا البيت عن براعة فنية:
وكم في هذا البيت من مطابقة لما يقوله علم النفس الحديث عن «الهوى»:
ولكي يتنصل أبو نواس من التبعات الغرامية قال:
مقدرة أبي نواس
إن مقدرة أبي نواس التي تميزه من أصحابه لا ترتكز على تشابيهه واستعاراته، وإن دلتنا على خياله القوي، ولكنها تتجلى في هذا الخلق القصصي الذي تشيع فيه روحه، ويحيا بظرفه فيكشف عن عبقرية شعرية نادرة، مسلحة بتعبير سهل تنعشه موسيقى شديدة، وجو فني تخلقه لفظة بسيطة. انظر كيف يصف قدم الخمرة:
فلو كنت مزارعًا مثلي، تزور الكروم حين تبرعم، لرأيت بعينك هذا الخمار الأبيض، وعلمت كيف تتخمر بنت الكرمة في الرحم، فنحن — الفلاحين — نقول في تلك الساعة: قطن الكرم. وهذا ما عناه أبو نواس، ثم لي في هذا المعنى وجه آخر: إذا رافقنا الخمرة إلى الخابية رأيناها، وهي مسطار حين تغلي تلبس خمارًا حقًّا، خمارًا من نوع «الكريشة» التي كانت تلبسها ستي رحمها الله … إلخ، ويقول أبو نواس:
فهذه الخمرة تشب كلما تقدمت بها السن. وإليك التجسيد الأخير، أو المفاجأة المسرحية — إن صحت التسمية — فقد عودنا أبو نواس هذا «الزخم» في قصصه:
إنني لأتخيل الخمرة عجوزًا دهرية مقرفصة قرب الموقد في ليالي كانون تقص علينا قصة ثمود وعاد … ولا ينسى أبو نواس «مهنته» فيقول في البيت الذي يلي:
قد مرت بك شروط أبي نواس على النديم، فاسمع وصفه الآن:
إن هذا البيت ينظر إلى بيت الأخطل:
ولكن فلنوجز: إن منتوجات الأخطل والأعشي وشعراء الخمرة كلهم تجدها كلها عند النواسي. فلندع هذا إذن ولنُشغَل بما هو أجدى وأنفع.
قلنا إنه يقص في وصف الخمرة، ولنقل إنه يقص أيضًا في المديح، فاسمع قوله الطريف:
وفي مدح الخصيب قص أيضًا، إن قصة إقحام المرأة في القصيدة للتخلص إلى الممدوح لغريبة في أدبنا.
قال الأخطل ولم يعدُ الواقع:
فقال الفرزدق بكل وقاحة:
وقال جرير:
ثم قال بشار:
وكذلك قال أبو نواس حين قصد الخصيب:
فقل أنت معي: الشعراء كالغنم … والمعاني عندهم كلعبة الكرة الصغيرة … ثم عد لنرى تجسيد أبي نواس في الهجو؛ إنه يجعل لرغيف محمد بن إسماعيل قرطًا وشنفًا وخلخالين، ويجعل رغيف سعيد بن مسلم ولدًا مدللًا يُقبَّل ويُلاعَب ويُداعَب ويُخاطَب، ويقول في هجو الرقاشي وهو أحد أبطاله:
ويقول في قدره:
ويقول واصفًا «أيوب» كما روى الجاحظ في كتاب «الحيوان»:
أما في وصف مجالس الشرب فقصصه كثيرة، حسبي ذكر اثنتين منها وتقص أنت الباقي؛ الأولى مع امرأة اسمها حنون:
وله قصة كهذه مع خمَّار:
وللدلالة على اقتداره في التخيُّل أذكر هذا، وإن جاء متأخرًا، قال يمدح فأجاد في البيت الأول وأغرب في الثاني:
وله في قصص الخمرة أيضًا شيء لا يجوز تركه، قال يصف الساقي أولًا والخمرة ثانيًا:
وقال ناحيًا هذا النحو:
وينحصر هم النواسي في أربعة أشياء:
فمما أوردناه يتضح لك أن أبا نواس يعتمد في قصيدته على الإخراج، كأنه أدرك أن مواضيعه واحدة فلجأ إلى الفن الذي يقصي عنه الملل. إن أقصى هم أبي نواس هو أن يختم قصيدته ختامًا جيدًا، فإذا لم يُوفَّق بشيء من عنده عمد إلى بيت قديم يختم به القصيدة، كقوله:
وهذا «التضمين» شائع جدًّا في ديوانه.
الشاعر الشاذ
أتخيل أبا نواس تائهًا بين قطربل وطيرناباذ، يتبع آثار المخنثين، مخمورًا، هازئًا ضاحكًا، يجمش هذا، ويغمز بعينيه ذاك، لا يصحو حتى يسأل عن الكأس، يهزأ في كل مكان، وفي كل شيء، في المسجد وفي القصر، في الطريق وفي الخمارة.
له عين لا يفلت منها شيء، فتقدمه إلى مخيلة قوية تخرج منه صورة جميلة.
حياة بوهيمية، ابتدأت منذ الصغر، نشأ على يد أستاذ فاسق فبذ أستاذه في كل ما أخذه عنه وتعلمه منه … قال الشعر بعد أن حفظ عشرات الألوف من القصائد، كما يروون، ثم نسيها كما أمره خلف الأحمر الذي ألحقه بأقيال اليمن زورًا وبهتانًا.
برز في الشعر، وإن أغار على القدماء. أطاعته اللغة فأوضح عاطفته وفكرته إما بصورة تتجلى فيها شخصيته، وإما بأسلوب قصصي يظهر فيه روحه وشخصيته.
السخر المضحك المبكي، دعامة الأدب النواسي، أما مصادر وحيه في الخمرة فهي من شعر الذين تقدموه، فقد نهبهم ولم يدع لهم شيئًا. ومن حوادث عصره، فهو يصور حياة الفئة التي لابسها، ويصف حياة عاشها.
يخطئ من يظن أبا نواس شيئًا من الأشياء أو ذا لون اجتماعي أو سياسي؛ فأبو نواس لا يعنيه من الحياة غير لذتين، وإذا قال:
فهذا لا يعني أنه شعوبي، فأبو نواس خمري لوطي، لا يعنيه شيء من المذاهب السياسية والاجتماعية، إلا بمقدار ما تتصل بمهنتيه، وإن قال:
فهذا ما توحيه إليه شخصيته من هزء بعيش الذين بكوا على الأطلال، أما تجديد الشعر فما خطر له ببال.
لم يكن أبو نواس مولعًا بالمطالعة كالجاحظ، بل كان مولعًا بالسماع، حاضر الذهن، سريع البديهة. وُهِب خاطرًا مولدًا يكاد ينتفع بكل ما يسمع ويرى، ومهما تأزم المضيق فله منه منفذ ومخرج.
خاصة التصوير قوية في شعره، وهي تدلنا دلالة صارخة على أنه ليس من حاء وليس من حكم. شعره أسهل من شعر بشار ولكنه أشد أسرًا من شعر عمر، وليس فيه شيء من رائحة بداوة شعر جرير، وإن كان فيه من سهولته.
عاش أبو نواس كولد، وظل كولد حتى انتهى. وفي هذا يتفق مع بشار، ولكن شتان بين مراح الرجلين، فمراح بشار مراح رصين، ومراح أبي نواس مراح هازئ مستهتر، مراح مخنث:
قلنا: والحمد لمن لا يُحمَد على مكروه سواه … وهذا التخنث أورثه إياه اليتم، ونشأته في حجر أمه، ثم التحاقه بوالبة الفاسق.
لم يُرَبَّ تربية جدية ليُقدِّر المسئولية ويقوم بأعبائها. فتى رُئِي عند عطار وحُمِل إلى بؤرة فاسدة، كان جميلًا، وسوق الجمال رائجة، وخصوصًا في ذلك العصر، فآلت إليه زعامة عصابة الخلعاء حين شب. تجري الأحداث السياسية الجسام حوله وكأنه غريب عن أورشليم، ولا بدع، فقد لا يكون صحا ليفتكر:
إن بين أبي نواس وبين غيره من شعراء الخمرة فروقًا، فالأعشى يشرب مفتشًا عن رزقه، والأخطل يشرب ويأكل:
وأبو نواس يشرب وعيناه على النديم والساقي.
قضى العمر بين الخمارة والسجن، وقلما رُئِي صاحيًا، فهو إما نائم، وأما متعتع، فمن أين له الساعة التي يفكر فيها بالعواقب:
ألا تذكرك هذه الأعلام تلك الأسماء التي ذكرها الجاهليون حين وقفوا على الأطلال؟ هناك تحسر على الخيام وهنا تحسر على الحانات والخمارات، والشاعر يحيا بذكرياته.
والغريب في أبي نواس أنه لم يأسف على ما فات لعلمه أنه لم يُضِع الفرص، ولا شك عندي أنه اغتنم ما سنح له في سجنه؛ ولذلك لم يذكر السجن بشر كما اعتاد أن يذكره المسجونون.
أما الطبيعة فهي عنده كزينة للمأدبة تستثار بها القابلية، ثم تُنسى عند نشوب المعارك النواسية، ولا يذكرها إلا لتشويق نديم أو ساقٍ ليتبعه …
ولا يصور أبو نواس غير حالة نفسية شاملة، وهو يصور ولا يوحي، ولوحاته تثير ضحكًا يمازجه الإعجاب.
وإذا كان الفن، كما عرفه بعض الفرنسيس، هو أن يضع الإنسان نفسه كلها فيه، فأبو نواس اعترف أصدق اعتراف للذرية. لم تهم الحكمة أبا نواس، فحكمته كلها في اللذات ليس غير. إنه لم يقل شعرًا على هامش حياته، بل صورها لنا كما هي ولم يُخفِ خطًّا واحدًا من خطوطها فكأنه يفتخر بدعارته وشبقه. أدخلنا بيته وأرانا ما في زواياه من خبايا وما في صناديقه من طرف، ولبراءة الذمة، قلَّب أمام أعيننا جيوبه ونفض أجربته … ومع كل هذا «الإخلاص» أرى شعر أبي نواس كجرس ينقطع رنينه عند التوقف عن قرعه! بخلاف الأجراس التي ترسل نغمًا إثر نغم، ورنينًا إثر رنين فتسترعي سمعك إلى ما لا يُدرَك.
أما أوزانه فتجري تبعًا للموضوع، فإذا كان مديحًا أو قصصًا اختار له البحور الواسعة الرصينة، وإن كان لهوًا آثَرَ الضيِّقة السريعة. وفي الحالين تأتي قافية أبي نواس منقادة طائعة، كندمانه وغلمانه … وروح أبي نواس تطفو دائمًا فوق بحوره، فهي تعمل عملها المرح في شعره فيطيب ويحلو.
شعره مرنان، وألفاظه مختارة، وعبارته لينة سهلة لا تعقيد فيها، تغلب مرونتها على شدتها، موسيقى كمناجاة ينابيع لبنان لا كهدير أنهاره. والخطة مرعية عنده؛ لأنه لم يركب المركب الخشن الذي ركبه شعراؤنا في تعدد أغراضهم.
شعر أبي نواس واضح جدًّا، وقد يكون هذا الوضوح مقللًا من إيحائه، وحائلًا دون بقائه في النفس؛ فلذة شعر أبي نواس عابرة كأنها لذة النكتة، إنه يحاول أن يريك لا أن يحملك على أن تحلم.
وأبو نواس يتراءى لي كأنه مُركَّب من جسد فقط، جسد بلا نفس أو نفس لا قيمة لها فيما بعد، فهي آلة في يد اللهو والطرب. لا يذكرها بخير، فكأنه لا يدرك إلا بحواسه فقط. وإن نظم في «التلبية» والزهد فإكرامًا لعيني جنان، ومعارضة لأبي العتاهية. إن أبا نواس آلة شعر، يقول لك ما تريد شعرًا ولا تدري مدى تأثره بما يقول. هو عارف — سطحيًّا — بعلوم دهره وقد ينتفع بها في شعره حين الحاجة.
لقد أقلَّ أبو نواس من استعمال التعابير المعدة، فلا تجد بعضها في غير طردياته، أما مواضيعه فواحدة تقريبًا: خمرة وساقٍ جميل مقرطق، أو ساقية غلامية. يُشبِه عمر في إعاداته، وإذا لم يدركها ما أدرك شعر عمر من ملل؛ فلأن نفسية أبي نواس وأخلاقه مرحة هازلة. إن عمر كرر مواضيعه وقصصه متبعًا نسقًا واحدًا، أما أبو نواس فمسلَّح بخيال أقوى، وتعبير فيه كثير من الحلاوة والإغراء.
لقد ساعد تحريم الخمرة الديني قريحة أبي نواس فخلقت كثيرًا من الصور والنكت الطريفة، ولأجل هذا التفرد نجعله فوق الأخطل في خمرياته؛ فهو شاعر الخمرة بلا منازع، كما كان عمر شاعر المرأة، وكلاهما قليل الحياء والمروءة.
إن صور أبي نواس لا تُحصى، وهي مستمدة من ملاحظاته ومطالعاته ومن نفسه الهازئة كما قلنا. يُضحك إذا هجا، بضد زعيم المدرسة بشار الذي يؤلم ويبكي. وأبو نواس، وحده، هو الشاعر العربي الأسطوري له وجهان: وجه عامي وإليه تُنسَب كل نكتة طريفة، ووجه أدبي أحله مقامًا رفيعًا بين الشعراء الكبار.