معاصرون
أبو تمام ودعبل
هم أربعة شعراء، ولكنهم صنفان مختلفان: أبو تمام وابن الرومي من مقلع واحد، ودعبل والبحتري من أرومة تختلف أصولًا وفروعًا؛ فهذان عربيان لسانًا وجنانًا، وصاحباهما ليس لهما من العروبة غير اللسان، وإن كان لأبي تمام ابن تيودوس صبغة إسلامية قلما تجدها عند الأعراب الأقحاح.
مات أبو نواس فانهارت بموته «مدرسة الخلعاء» وبكت الدوالي على شاعرها، وانطوى بساط المرح، وتحطمت الكئوس العسجدية، وفر الشعر من منطقة الحياة وتقلص وانكمش حتى عاد إلى أرستقراطيته وترصنه، فأمسى يُقال في مناسبات لا يعني الشاعر منها إلا ما تدره من مال. كان الشعر حافلًا بألوان عصره وزمانه يصور العاطفة الشاملة أدق تصوير، فصار آلة كسب واستجداء بل مهنة من المهن الحرة … كان الشعر في الحقبة التي مضت بعيدًا عن الدجل والرياء والنفاق لا ينبثق إلا من نفس قائله، فالشاعر يخالف، ولا يبالي، العرف والتقاليد، ويتجاوز بلا خجل التخوم التي وضعها الشرع الديني والمدني. فجل ما يعنيه أن يقول شعرًا يطرب له السامع ويصور له نفسه الأمارة بالسوء وما فيها من ميول مضطربة، وشهوات متَّقدة، لا تُكبَح بلجام ولا تردها شكيمة، فالخمرة — وهي رجس من عمل الشيطان — توقظ الحواس النائمة نومة أهل الكهف.
إنها فترة مرَّت فانقطعت كل صلة بينها وبين الجيل الذي جاء بعدها؛ فقلما تسمع ضحكة بعد تلك القهقهات في ديوان العرب؛ فهذا الشيخ أبو تمام وهو من «الرءوس» لم تبن لنا سنُّه قط؛ فهو ذو عينين ورائيتين تلتفتان إلى خلف تبحثان ما خلَّفه القدماء، ولا يعنيه إلا مضاهاتهم في الإغراب، والصلابة، واقتباس صورهم وإخراجها محسَّنة مجمَّلة.
وهو ذو عينين أماميتين تحدقان إلى ما تقعان عليه، فتلتقطانه بدقَّة وتخرجانه شعرًا، إن فاتته الموسيقى فليست تفوته الصور والتعابير الطريفة والقبيحة التي لم يألفها الأدب العربي، فأبو تمام زهيريٌّ في مديحه، ترصن كذاك «المتألِّه» وتوقر ما استطاع فردَّ على الشعر وقاره وأبهته. لم تفلت من بين شفتيه ابتسامة كأنه ما عرف غير الجد وليس الهزل من طبعه؛ فأبو تمام مقلِّد في مدحه، ومبدع مجيد في وصف الانتصارات، صوَّر وقعة عمورية، وفتح باب الملاحم لشاعر القومية العربية الذي جاء بعده.
إن وصف كتَّاب الحرب، اليوم، للحرائق التي تشبُّها غارات السلاح الجوي يوضِّح لنا ملحمة أبي تمام، فنتذكر قول شاعرنا:
أرأيت؟! ما أحلى هذه السماجة في عين المنصور! فكم كنت تقرأ مثل هذا في حرب الطائرات!
إن قصيدة «السيف أصدق أنباء من الكتب» لملحمة خالدة، وأروع أبياتها:
وقد فات تاريخ هذا البيت أحد الكتَّاب المصريين، فتساءل عن العلاقة القائمة بين نضج التين والعنب وبين هؤلاء التسعين ألفًا الذين نضجت جلودهم. وليست هذه أول مرة يُبتلَى بها أبو تمام، وقد أجاب على ذلك بقوله لقارئه: لِمَ لا تفهم ما يُقال؟!
وإذا فتَّش راغب في تفهم أسرار «الرءوس» عن نبوغ أبي تمام وجده في وصف المحسوسات وصفًا لا يدع شيئًا.
فهو إذا استولى على فكرة أتى على كل ما يُقال فيها، تعضده عيناه الأماميتان وتحمي ظهره العينان الخلفيتان بجنود من اللغة التي يستوعب أكثر مفرداتها.
إن لأبي تمام تعابير خلقها، وهي ومضات عجيبة في ظلمات تلك العبقرية المدلهمة، وقد سماها ابن الأثير الكلمات الجامعة، وضرب مثلًا عليها «وطن النهى» في قول أبي تمام:
فقال: فقوله وطن النهى من الكلمات الجامعة، وهي عبارة عن الرأس، ولا يُجاء بمثلها في معناها مما يَسُدُّ مَسَدَّها.
أما أنا — كما يُعبِّر ابن الأثير — فرأيت أن قوام فن أبي تمام هو في منحه الحياة لما لا حياة فيه، وإسناد الشيء إلى غير ما هو له.
كان أكثر شعرائنا تَوَكُّؤًا على المجاز، فتوغل في هذه الغاية حتى بلغ أقصاها، وأثار هذا معاصريه فهاجموه، ولكن حبيبًا غير هيابة ولا نكس فما بالى بهم ولا بمن جاء بعدهم من عُبَّاد القديم، وإن جاء حينًا بالقبيح فمن له الحسنى فقط؟!
لا إخال قارئي إلا قائلًا: أعطنا بعض نماذج تؤيد بها زعمك، قلت: فاسمع:
وإليك مثلًا آخر من القصيدة عينها، وأظنه ليس يعجبك لأنه لم يعجبني:
فهذا المجد المُسِنُّ كاد يخرف لو لم يعد إليه أبو دلف شبابه، ففتاه غير محتاج إلى ما احتاج إليه فورونوف … وهو يحاول في مكان آخر نفخ الحياة في أضعف الأشياء، فيقول في الدمع:
ويقول:
أرأيت كيف أحيا العذل فصيَّره عدوًّا كما صير الجهل صاحبًا؟!
وفي القصيدة عينها يحيي العطايا أيضًا، فيقول:
ويصف ممدوحه بالبأس فيتخيل ويخرج صورة، لك أن تقول فيها ما شئت، ولكنها كيف كانت تؤيِّد زعمي:
ثم يتصور مكارم ممدوحه فيراها:
هذا بعض ما وجدته في هذه القصيدة التي مدح بها أبا دلف القائل فيه علي بن جبلة:
وقد رووا أن هذين البيتين الأخيرين أحفظا المأمون، وهو أعظم الخلفاء حِلمًا، فسلَّ لسان الشاعر من قفاه …
أما وقد عرفت أبا دلف، وقرأت الأبيات المقولة فيه، فإخالك أدركت ما حمل أبا تمام على الجد وراء هذه الصور؛ فلندع شعره في أبي دلف راوين لك بعض أمثلة من هنا وهنالك لتسير بالفانوس الذي يجب أن يُدرَس أبو تمام على ضوئه.
قال ابو تمام متخيلا الصيف:
فاقترض هذه الصورة البحتري من ابن عمه — وأنا أشك جدًّا بطائية أبي تمام؛ لأن تفكيره غير طائي — وألبسها الربيع حين قال:
وفي هذه القصيدة يهب أبو تمام الحياة للحاجات والأمل فيقول:
ولست أذكر لك: مات مضرب سيفه، ولا الحفاظ المر؛ فهذه القصيدة يعرفها كل متأدب، ولكنني أعطيك مثلًا آخر منه أبياتًا وجَّهها إلى عيَّاش، وعيَّاش هذا كافور أبي تمام، وإن لم يحسن أبو تمام ما أحسنه أبو الطيب.
قال أبو تمام يعاتبه على الإبطاء:
أظنك أدركت ما فيها من منتوجات الشاعر التي حدثناك عنها. وأبو تمام ثالث اثنين، هما أبو نواس والمتنبي، وقد طاشت سهامهم جميعًا في الكنانة …
وأحب أخيرًا أن أريك كيف يتصور الشاعر الأيام، فيقول:
إن أبا تمام لجريء على الكلام يتصرف به كما يشاء؛ ولذلك تراه يأتي بلفظه يستعمل الناس غيرها حيث يستعملها هو، فيقول:
يفعل هذا ليقول فيه أحد شراحه: ولكنه يريد أن يكون غير الناس.
وهو في كل ناحية من نواحي الشعر يتوكأ على عصا التشخيص، فإذا تغزل قال لحبيبه:
فكأنه أخذ هذا من قول أبي نواس:
وإذا خاطب صاحبه «أبا جعفر» جعل الحسن شخصًا يعقل أو ملكًا يغزو، فيقول:
رحم الله أبا جعفر هذا وغفر لأبي تمام … وإذا تحريت الصور التي خلقها أبو تمام وجدتها كثيرة، وكلها من ملتقطات تلك العين الحادَّة التي لا يفلت منها شيء، فيستوعبه جنان يستطيع إخراجه ولو معقدًا أحيانًا.
اقرأ وصفه «الحلة السابرية» التي كساه إياها محمد بن الهيثم، واقرأ وصفه قلم ابن عبد الملك الزيات الكاتب الوزير، واقرأ وصف الفرو، واقرأ رثاءه لابنه وأخيه، ذلك الرثاء الجاف؛ لتعلم أن أبا تمام شاعر بعينه أكثر منه بقلبه، فكأنه كان يشهد مرض ابنه ونزع أخيه ليلتقط ويصف.
واقرأ أيضًا وصفه إحراق الأفشين لتعلم أن شاعرنا كوافد البراجم يحب رائحة القتار، ويتهلل لرؤية «الشاورمه».
وإذا شئت أن تعلم ما توحيه الطبيعة لأبي تمام فاقرأ وصفه الربيع، فمن كل ما ذكرنا تعلم أنه كان السبَّاق إلى «التشخيص» لا ابن الرومي كما يزعم بعضهم:
ثم ينظر فيها إلى ما وراء القبر، فيقول:
ويُتَّهَم أبو تمام بشن الغارة على معاني القدماء وسرقتها، فكان يزعم معاصره دعبل أن أبا تمام يتبع معانيه ويسرقها. روى له محمد بن صابر الأزدي شعرًا لأبي تمام وقال له: كيف تراه يا دعبل؟ فأجاب: أحسن من عافية بعد يأس. ولما أخبره أنه لأبي تمام أجاب: لعله سرقه.
إن شعراءنا، وشعراء الأمم كلها، قد يحومون حول صورة فتتعاورها أقلامهم، كما سترى صورة «المفتاح» هدفًا لثلاثة أقلام كبار؛ قال بشار:
فتناولها بعده أبو تمام وقال في بائيته:
وأخيرًا جاء الشاعر الضخم، فقال — وكأنه ينظر إلى مفاتيحنا الحديثة:
فكر قليلًا يدلك هذا المفتاح على الكثير من نفسية الشعراء الكبار الثلاثة، فأعمل فكرتك. وإذا تأملت بعض التأمل، وكنت من القارئين، تساءلت: لماذا قال المتنبي الفتح الجليل ولم يقل الفتح المبين مع أنها على كل لسان تدور؟!
إن صاحبنا أبا الطيب كضريبة أبي تمام يحب الخلق ويبتعد عن المألوف، إنه يحب الضخامة والجلجلة؛ ولهذا آثر الجليل على المبين، ثم ألا يذكرك نعته المفاتيح بالبيض الخفاف بمفاتيح اليوم الصغيرة التي تفتح الأبواب جميعًا؟
إن أبا تمام هو من الشعراء المحككين، من السلالة الزهيرية المتحدة الجذور والفروع في الأدب العربي، ولو لم يقل الشعر في المواضيع الجديدة التي أشرنا إليها لما كان إلا شاعرًا مدَّاحًا نوَّاحًا كما قال فيه ابن عمه البحتري، ولم يبقَ له ما يميِّزه إلا صناعة المطابقة التي نعدها نحن اليوم تكلفًا وتعملًا، ولكن كان له حظ فوصف ما وصف، فظل ذكره حيًّا وسيبقى إلى حين.
أما مخيلته فمن الطراز الأول، لا يتكلم إلا بالصور، وإذا فاته الرقص المرح فلم تفته الخطوات الثابتة الجبارة؛ ففي شعر الطائي رائحة ثقافة لا عهد للشعر العربي بها من قبل، ولا غرو فقد نشأ وشب في شرخ صبا الفلسفة العربية. والكلمة الأخيرة هي أن السيد الشريف الرضي «شخَّص» مثل أبي تمام واستعار مثله؛ فصار في نظر أحدنا شيخ الطريقة الرمزية وواضع أسسها قبل بودلير وغيره من شعراء الغرب …
أما معاصره دعبل وعدوه الألد فكان أكثر عروبة في اللسان والجنان من صاحبه، كان هذا الشاعر خالعًا العذار، ولكن على غير طريقة الخلعاء الذين تقدم ذكرهم. روى صاحب الأغاني: خرج إبراهيم بن العباس ودعبل بن علي وأخوه رزين في نظرائهم من أهل الأدب رجَّالة إلى بعض البساتين في خلافة المأمون، فلقيهم قوم من أهل السَّواد من أصحاب الشوك فأعطوهم وركبوا تلك الحمير، فأنشأ إبراهيم يقول:
فقال رزين:
فقال دعبل:
فانصرفوا معه فباع خفه وأنفقه عليهم …
لقد تظرف دعبل فلم يفلح، فالظرف سجية ليست من طبع أبي علي، بل «الشطارة» طبعه الأصيل، قتل صيرفيًّا طمعًا بصرَّة رآها معه فإذا بها ثلاث رُمَّانات … ثم صار شاعرًا، فغلبت سجية اللؤم على شعره، فقال فيه الأصفهاني: شاعر متقدم مطبوع، خبيث اللسان، لم يسلم عليه أحد من الخلفاء ولا من الوزراء ولا أولادهم، ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن، ولا أفلت منه كبير أحد، ولم يزل مرهوب اللسان وخائفًا من هجائه للخلفاء، فهو دهره كله هارب متوارٍ.
كان يقول: لي خمسون سنة أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها، فما أحد يفعل ذلك. وما سلم إلا لأن له حزبًا سياسيًّا يحميه، فكان يدافع عن العلويين ويحتمي عند أهل اليمن.
مع هذا الشاعر العربي الخالص بلغ الهجاء الذروة. كان مع الأخطل وجرير والفرزدق هجاء أموات أو هجاء أناس أحياء كالأموات، فصار هنا هجاء ملوك ووزراء كالملوك. صار هجاء سياسيًّا، فكان دعبل يناضل غضبان على السلطان وحكومته يريد تقويمه وإصلاحه، لقد بدت طلائع هجاء دعبل السياسي مع بشار العقيلي، ولكنه بلغ حدَّه وتجاوز المدى الأبعد مع هذا الشاعر الشاطر، أما هجاء الوجه فابتدأ مع دعبل وتمَّ عند ابن الرومي. قال دعبل يهجو وجه صالح بن عطية مخاطبًا المعتصم:
وقال ابن الرومي:
وفي الشاعرين يقول المعري:
فجميع الخلفاء العباسيين نعموا بهجاء هذا الشاعر الفذ، وخير ما نذكره في هذا الكتاب الضيِّق قوله فيهم جميعًا:
كان المأمون رحب الصدر تتسع أخلاقه للطغيان الأدبي — وإن سل لسان ذاك الشاعر من قفاه كما مر بك — فلو كان دعبل اليوم في أرقى دولة وأوسعها حرية وهجا ملوكها أو رؤساءها كما هجا الخلفاء لما سلم رأسه، ومع ذلك يروون أن المأمون قال لأحدهم حين استأذنه بالمجيء برأس دعبل: لا؛ هذا رجل فخر علينا فافخرْ عليه، فأما قتله بلا حجة فلا.
وعندما جاء إبراهيم بن المهدي المأمون يحرضه على دعبل ضحك المأمون، وقال: إنما تحرضني عليه لقوله فيك:
ولما قرأ المأمون أبياته في إبراهيم هذا:
ضحك، وأمَّن دعبلًا واستدعاه وأحسن إليه. ولكن الشاعر لم يسكت وشاعت له، بعد ذلك، أبيات يهجو بها المأمون …
والغريب أن يُولَّى شاعر لص كدعبل كما وُلِّي أبو تمام، والأغرب أن يموت أبو الطيب وفي نفسه شوق إلى الولاية، وأشد من هذا غرابة أن يهجو دعبل المطلب الذي ولاه أمر الهجاء وأقذعه:
ومن العجب العجاب أن تكون أخلاق الشاعر كما عرفنا ويقول قصيدة تفيض عاطفة وبلاعة وقوة كقصيدته الخالدة التي مطلعها:
وأن يقول في الغزل مثل قوله:
إنني ليعجبني كل طريف وإياه أقصد؛ ولهذا تراني أخالف غيري، فأجعل دعبلًا من الرءوس وهو عندي من كبارها، اللهم في الهجاء الذي جاء فيه بالبدع.
إذا قرأت شعر دعبل فلا ترى إلا عريان الكلام، ومع ذلك تجد شعره حيًّا ينبض؛ لأن روح قائله الثائرة المتمردة تتردد فيه.
كان الشاعر عدو أبي تمام، ومع ذلك كان صديقًا حميمًا لابن عمه البحتري، وميتة دعبل وأبي تمام كميتة جرير والفرزدق وشوقي وحافظ — تاريخيًّا — فرثاهما البحتري بهذه الأبيات الثلاثة التي لا تدلنا على شيء غير التاريخ والجغرافيا:
ابن الرومي
لو راعينا الأنواع الأدبية وجب علينا أن نشد ابن الرومي وأبا تمام في قَرَن، ودعبلًا والبحتري في قرن. ولكننا نظرنا إلى الزمان وإلى ما اعتبره غيرنا من القدماء، ناهيك أنَّ تَدَاعِيَ الأفكار يُذكِّرنا دعبلًا الخزاعي كلما ذكرنا حبيبًا الطائي، ويجرنا إلى تذكر لحية البحتري التي تغنَّى بها زميله ومعاصره ابن الرومي، حتى كاد يتفرد هذا الشاعر بصورة «المخلاة» وإن لم يكن المبدع الأول لهذه الصورة.
إذا رمنا المقابلة بين شاعرين رأينا المقابلة ميسورة جدًّا بين أبي تمام وابن الرومي، فكلاهما يحتفل للمعاني أيما احتفال، وكلاهما يحاول إخراج «صورته» كاملة الخطوط تامة الألوان وإن تنطَّس ابن الرومي أكثر، لا أرى ابن الرومي في إخراج صوره إلا كماصِّ قصب السكر، يظل في عراك مع تلك الألياف حتى يمتصَّها. أما أبو تمام فلا يُفرِط في عمله هذا كل الإفراط، ولا يهمل البلاغة إهمال ابن الرومي، بل يبالي باللغة والموسيقى مبالاة أخرجه تشدده فيها من زمرة المطبوعين، وأحصاه بين الشعراء المحككين، بل المتعمِّلين لما عاناه من تصيُّد البديع.
لا ريب في أن ابن الرومي شاعر كبير ولكن بعض المعاصرين بالغوا في تكبير صورته؛ لأن «ثمرهم أشبه بأشواكه وحطبه اليابس.» اتخذوا من رفع مقام الشاعر سترًا يغطي عيب شعرهم، ويا ليت لهم معنى واحدًا من معاني ابن الرومي فتختفي معايبهم، ولكنهم فازوا بالبليد من تعبيره وما حصلوا حتى على الدون من تفكيره. لم تغفل العرب شأن ابن الرومي إلا لأسباب، منها أن الشعر عندهم موسيقى أولًا، والشعر عند كيوركيس استقامة وزن ومعنى؛ ولهذا نراه إذا ظفر بمعنى طريف فلا يحصره في بيت واحد بل يشرحه بأبيات تليه، ويظل يفعل ذلك حتى يفقده روعته، ويخسر جماله الفني، فيبتعد صاحبه في هذا عن العرب الذين لا تروقهم الثرثرة ولا يحبون إلا الإيجاز.
وإليك مثلًا من شعره يُعرِّفك بالذوق العربي. أكثر العرب لا يروون لابن الرومي إلا هذين البيتين في العدُوِّ والصديق:
وتركوا له الأبيات الخمسة التي تليها لأنها تعليل وشرح، ولا بأس علينا إن أوردنا مثلًا آخر:
أرأيت إلى ركاكة البيت الثاني الذي لم يدل إلا على حماقة صاحبه وحبه الإطالة، التي يسميها «أصحابنا» نفسًا طويلًا؟! فلو شئت أن أنفي ما في طويلاته من مثل هذه الحماقات لما أبقيت إلا ربع ديوان ابن الرومي ولقلت له في قصائده تلك ما قاله هو لصاحب اللحية: ألقِها عنك يا طويلة.
ولكن أصحابنا قعدوا على طريق الأدب يضربون بالرمل، فعدوا هذه الإطالة الشنيعة إرثًا يونانيًّا، واليونانية بريئة من مثل هذه الثرثرة. أرشدتهم إلى هذا الزعم كلمة رومي فألصقوا بصاحبهم المنطق، والعقل، والخيال، والتفكير، ووحدة القصيدة، حتى كادوا يعدون ابن الرومي شاعرًا يونانيًّا. قد يكون لأصل ابن الرومي بعض العلاقة بشعره، وقد يكون تفكير أبي تمام يحملنا على الشك في عروبته، ولكن هذا لا يخرج الشاعرين من نطاق الشعر العربي. لست أعزو إلى «الجنس» إلا شيئًا قليلًا من هذا، فشعراء الأمة الواحدة أشكال وأجناس، كما أنك تجد — إذا تأمَّلت — لكل شاعر في كل أمة مشابهًا في أمة أخرى.
لست أعزو وصف ابن الرومي الدقيق إلى أصله، فشراهته ونهمه وحرمانه حَمَلَتْهُ على وصف تلك المأكولات، فقال في الدجاجة:
ومدح الموز بقوله:
ووصف العنب، فأجاد إجادة يُحسَد عليها:
وإذا شئت أن تتذوق مثلي جمال هذه الصورة، فتعالَ إلى عين كفاع في صدر أيلول الذي يقول فيه ابن الرومي أيضًا:
وقال صاحبنا في وصف القطائف:
ولست أذكر لك وصفه قالي الزلابية، ولا وصفه الخباز، ولا قوس قزح، فهي معروفة من كل متأدب، ولكنني أروي لك أبياتًا تدلك على أن الحياة عند ابن الرومي أكل وشهوات، ثم شعر يصفهما حتى كاد أن يكون من ناظمي كتاب «أستاذ الطباخين» شعرًا، وإليك البرهان من شعره:
إن قوله «كُلْ هنيا» ذكرني بكلمة «صُبَّ وقدِّمْ» في كتاب أستاذ الطباخين … وأحاول أن أعنف ابن الرومي على هذه السخافات فأسمعه يناديني من وراء العصور:
إن تطيُّر ابن الرومي حوَّله صوب هذه الأشياء فوصف المأكولات كثيرًا والطبيعة قليلًا، كما صرفه تشاؤمه إلى هجو أشكال الناس، فصورها تصويرًا هزليًّا، فقال في ذم اللحية الطويلة:
كما قال في وجه عمرو:
وقال في الأنف الطويل:
وأذكر لك هجوه طبيبًا يستحقه الكثير من محترفي الطب:
وتطيُّر ابن الرومي جعله يتخيل الأشياء أشخاصًا يأمن شرها، وأحب الطبيعة لكرهه بنيها، الذين ازدروا شعره لتطويله المملول المسلح بالإيضاحات التي أبعدته عنهم، حتى جعل مديحه قصصًا وأحاديث. إذا قرأت قصيدته «البائية» في مدح أحمد بن ثوابة ضجرت كما ضجر أكثر ممدوحيه في ذلك الزمان، فردوا إليه مديحه فهجاهم لأجل ذلك أمرَّ هجاء:
وأبرز نواحي شعر ابن الرومي وأعظمها تأثيرًا في النفس هي تلك الناحية الأبدية الأزلية، ناحية التلهف على الشباب واستقبال المشيب أسوأ استقبال. لم أرَ ضريبًا في هذا لابن الرومي إلا عمنا الأخطل، القائل في النساء:
كان ابن الرومي محبًّا للحياة أشد حب، وهو في هذا أيضًا يتفق مع التغلبي. كلاهما يتصور نفسه قد مات فيقول في ذلك شعرًا، كما تصور ذلك مثلهما شاعر غربي هو سيلي بريدون، فقال قصيدة مشهورة.
كان ابن الرومي يتبع المغنيات لأمرين: الجمال، وحسن الصوت. وصف المغنية «وحيد» أصدق وصف وأمكنه وفصَّل وقوعه في شِباك حبها تفصيلًا دقيقًا جدًّا، فهو أبدًا في دائرة هواها لا يخرج منها لحظة، والشقية تلعب بالشاعر لعب الهرة بالفأرة. يحتار ابن الرومي في تحليل حب وحيد فيقلبه على جميع وجوهه، فيقول فيه كل ما يقوله علماء النفس في الهوى واحتلاله ساحة الشعور احتلالًا إنكليزيًّا. وله في قصيدة «المهرجان» وصف للمغنيات رائع جدًّا يدل على خيال هو من القوة في الذروة، ولو سلح هذا الخيال بموسيقى البحتري لكان صاحبه سيد الشعراء. ولكن شيئًا من هذا لم يكن، قال خير شعره في وحيد التي عشقها، وبستان التي أحبها، ومظلومة التي هام بها، وإني أذكر بيتًا قاله في رثاء بستان يسوى عشرًا من قصائده:
ولكنه يغالي في هجو المغنيات الأخر، فيقول في إحداهن:
ويقول في غناء قينة أخرى:
ويقول في مغنية اسمها شنطف:
ويقول في واحدة غيرهن:
ثم يجمع مغنيتين معًا، فيقول فيهما:
ومن يُولَع هذا الولع بربات الطرب، وسيدات «التخوت» في عصرهن، ومن يهاجم هجومًا لا هوادة فيه من يجلسن على سرير الغناء ولا يصلحن له، فلا شك أنه يبكي شبابه بتوجع ابن الرومي وتفجعه، فهو بحق شاعر الشباب المفقود. إنه يخاطب ممدوحه، طالبًا أن تأتيه الجائزة إلى البيت؛ لأنه يخاف البحر ويخشى البر حتى أمسى يخاف كل شيء لما حل به من بلايا ومصائب، ولو لم يحلَّ به غير مصيبة فقد الشباب لاستحق العذر من الكرام:
ولا ريب أن الجائزة قد أبطأت، كما هي العادة، فنسمعه يقول:
وهو يطلبه منه ويريده جميلًا متينًا لا كالذي يقول فيه:
إن ابن الرومي على إملاقه وعدمه يحب الحياة، ولا تحدثه نفسه بالرحيل، هو مقيم برغم أنف الكوارث والدواهي، إن صرخته على الشباب لا ينقطع صداها من زوايا نفسي، فهي صادرة من قلب مقروح كقلب مدام دي نواي:
ومن يبكِ الشباب فلا شك في أنه يذم الشَّيب، وهكذا فعل ابن الرومي كما فعل الأخطل قبله، فقال:
ولكن ابن الرومي يبكي شبيبته ويزيد قائلًا:
ويقول في الشباب والمشيب والخضاب:
وظاهر القول يدل على أن الأخطل حين يطلب دواء يرد الشيب فهو لا يطلب الخضاب، بل القوة التي تذهب بذهاب الشباب والتي من أجلها قال في النساء:
أما ابن الرومي فيرى الشيب حدادًا على الشباب:
ثم يصرخ صرخة الأخطل، فتخالها زفرة تصعدت من صدر واحد:
ويسلم أمره إلى من يعنيه الأمر، فيقول:
ثم يتمنى فيقول:
وأخيرًا يقعد حسيرًا في درب الغانيات ويصيح صياح ابن طيما للسيد: أريد أن أبصر. فيقول:
ثم يستكين فيعذرهن على الإعراض قائلًا:
هذه حرقة الشيخ ذي النفس الخضراء، فعينه بصيرة ويده قصيرة، والدنيا أدوار.
وشاعرنا منكاح مزواج يتمنى النساء دائمًا ويغضب إن رآهن في حوزة غيره، فيلجأ إلى فنه يستنجده ليخفف من عرام حنقه، فيقول في هذا كلامًا يلبسه خير حلة بعد الابتذال:
لست أستقصي تحرُّقات ابن الرومي على النساء وما قال فيهن فيخرج بحثي عن حده، ولكنك متى عرفت أنه يتخيل الطبيعة امرأة، أدركت مدى شهواته:
وما أرى الطيرة عنده إلا نوعًا من الغيرة والحسد، ولكنها بصورة أخرى؛ فلم يسبب كره ابن الرومي لمعاصريه إلا تقصيره عن التهام ما يُعرَض في أسواق بغداد من هذه البضاعة؛ فها هو ينظم الشعر لأحدهم مستعينًا على الزفاف، فاسمعه يقول:
عجيب أمر شاعرنا وأي عجيب! يستجدي الرغيف هاتفًا:
فلا ألومه، ويطلب الثوب فلا أعنفه، أما أن يطلب تكاليف زفاف وهو جوعان، فهذا غريب … لقد كدت أعذر أناسًا جوَّعوه وحرموه وأناسًا كانوا يعبثون به. لم أرَ مثله رجلًا، فهو كما يقول مثلنا: دجاجة منقارها فولاذ. هذه امرأة تغتصب داره فيصيح:
ثم يتخطى — ولكن مرة واحدة — من التغزل بالحور إلى التغزل بالولدان، فيقول في واحد قولًا يلمح فيه إلى داهية العرب:
إن البيت الأول لا يدلني على كلف ابن الرومي بالألوان كما دل غيري، والنظر الأدبي، قد يختلف. وبعد كل هذا فابن الرومي في نظري شاعر الشباب المفقود، والمطبخ المنشود، والمديح المردود.
لقد فصَّلنا بحثنا هذا على قدِّ كتابنا، وتركنا الاستقصاء، ثقة منا بذكاء من يهمه التعمق في درس ابن الرومي؛ فالتحسر على الشباب، وعلى الأكل، وعلى الجوائز ولَّد ما ولَّد في مخيلة ابن الرومي العجيبة، فأطال القول وتبسَّط في الإيضاح، والعرب يكرهون كل ما يأتي على سحر البيان، والسحر لمع وخطف؛ ولهذا حرموا ابن الرومي وأجازوا البحتري الذي حدثهم بلغتهم، ونهج نهج شعرائهم، فثار ابن الرومي على البحتري وعلى غيره انتقامًا لشعره، وإن اعترف ابن الرومي بغثاثة شعره؛ إذ قال فيه ما يغنينا عن كل تحديد:
إذا صح هذا في النبات وغيره من الأشياء فلا يصح في الفن. كان على ابن الرومي أن يُنحِّي الهراء ويبقي من شعره ما طاب، ولكن الطيِّب من شعره ليس فيه أقل شبه من شعر معاصره البحتري، وآفة الشعراء في حياتهم، معاصر يماشي رجال زمانه، إنه يكسف نورهم وإذا طلع لم يبدُ منهم كوكب، أما الغد فقد يرفع من حطَّ ويَحُطُّ من رفع.
إن في هذا البيت وثبة رائعة، وهو ثمرة لذيذة، أما ما يليها فقشر وخشب يابس وشوك، وإليك ما قال:
البيت الأول فوق السحاب والآخران تحت التراب، فتأمَّل.
وعلى ضعف موسيقى أبي تمام بالقياس إلى البحتري فإن البون بعيد بينه وبين ابن الرومي، وإليك ما قالا في غرض واحد. قال أبو تمام:
فقال ابن الرومي:
ألا ترى أبا تمام شاعرًا — هنا — وابن الرومي منطيقيًّا؟ على الشاعر أن يقول وعلى الناس أن يفهموا، أما ابن الرومي فيريد أن يعرقل سيره. إنها لحجج فارغة ينتحلها ابن الرومي ليدافع عن شعره، فمهما عمل ومهما بذل من جهود فلا يكون غير ما كان.
ولكن قد كان في مكنته أن يدع للسوقة قول: ولا سيما. والعامة لا تلفظها مخففة كما فعل، ثم ما له وللمشار إليه في قوله:
وما كان أحراه أن لا يكثر — على الأقل — من هذا الاستعمال الكريه: المعتذريكم، حبيك، نقديك، واقتضائيك، وهجائيك، وبغضيك، ولبسيها، وهذا كثير في شعره. وأخيرًا عضَّيك في هذا البيت:
وإذا كان لا بد من العض، فلماذا لا يعض ابن الرومي «مثل الأوادم»؟! … فلو قال: عضَّك. لما فقد البيت شيئًا من قُوَّته ولا من وزنه.
وفي هذه القصيدة التي أخذنا منها هذه النماذج، أبيات شائقة تدلك على مخيلة الشاعر، وإليكها:
اقرأ وصف ابن الرومي لقيان المهرجان وآلات الطرب في أحضانهن لتقدر هذه المخيلة حق قدرها، وإن شان ذاك الإبداع سوء ظنه بقرائه؛ فعمد إلى الشرح والتعليق … لقد وُهِب ابن الرومي مخيلة عجيبة ولكنه لم يُوهَب «قوة النقد» التي تسيِّر تلك المخيلة في الطريق الأمثل.
اسمع كيف يتخيل ليهجو رجلًا ادعى نسبًا:
لو ذكر غيري هذه الأبيات لعدها دليلًا عظيمًا على ثقافة ابن الرومي الطويلة العريضة العميقة، ولكنني لست أراها إلا معلومات بسيطة يعرفها أهل عصره كلهم، وحسب الشاعر أن يدرك ما يراه الناس كلهم ويحس به غير إحساسهم، كما فعل بشار وأبو تمام. وابن الرومي يعلم كما نعلم أن شعره ينقصه شيء فيدافع عنه بقوله:
فابن الرومي عارف أنه إذا قصر في ميدان البلاغة فقد وُفِّق في التصوير والتخيل إلى أبعد مدى. وقد كفانا ابن الرومي تحليل نفسيته، فقال عن نفسه:
لا نقول شيئًا إلا أن هذه القريحة لو كان لها منها مهذِّب لجاءت بغير ما نقرأ. وابن الرومي يشكو الجد كغيره من شعراء هذه الحقبة، ويقول شيئًا من هذا بمناسبة الكلام عن أبي الصقر الذي حوَّله زرنيخ جده ذهبًا:
والظاهر أن أمثال ابن الرومي كانوا عبئًا ثقيلا على الصناديق وخصوصًا على صناديق الأنانيين البخلاء أصحاب الجمع والمنع، فلا تسمع في ديوان ابن الرومي إلا أنينًا موجعًا فهو يناقش ممدوحيه الحساب:
وإذا استبطأ واضطر فقد يتحرك إذا لم يرَ في دربه من يتطير منه، ولكن المسكين لا يفوز بغير برودة الاستقبال، فيصيح بأبي القاسم:
ولا يُغضب ابن الرومي شيء مثل عيب شعره، فيثور ويفور كالتنور، ويسب أم من يعيب شعره:
ولا إخاله هجا أبا سليمان الطنبوري وغيره من مغنين ومغنيات إلا لأنهم لم يتغنوا بشعره؛ ولهذا السبب أيضًا هجا الأخفش كما هجا بشار سيبويه. قال ابن الرومي في أبي سليمان:
وقال في مغنٍّ آخر، وقد أجاد:
والحسد كان ولم يزل آفة الأدباء، وخصوصًا المتأدبين، ومن هذا يشتكي ابن الرومي فيقول:
وأخيرًا يلوم الشعراء على المديح، وهو واحد منهم:
ويحاول ابن الرومي أن يلم بأقوال الأخطل في المرأة والشيب فيقصر عنه، كما أنه ألمَّ بفكرة سبق إليها بشار، فاستمدها من القرآن الكريم ليقول في رجل اسمه أبو سفيان:
فقال ابن الرومي في رجل اسمه ابن حريث:
ويأخذ قول أبي تمام:
فيقول قولًا قبيحًا يدل على فساد ذوق:
ويصف بيته وخصوصًا ملبسه فيفتت القلوب:
رحمك الله يا ابن الرومي فكم في الحياة من أمثالك! ولو كنت حيًّا لما قلت في شعرك غير ما قلت، وإن مثلت بي كما مثلت بالأخفش وغيره من عائبي شعرك. إن القليل من شعرك يعجبني كأسمى الشعر، أما ما بقي فنثر موزون، ولست أزعم غير هذا ولو اتفق على عكسه الإنس والجن.
البحتري
أول ما نعلم أولادنا كلمة قالها ابن الأثير: أراد البحتري أن يُشعِر فغنَّى. نستدل بذلك على الديباجة البحترية التي نفَّقت شعر البحتري وكسَّدت بضاعة ابن الرومي.
إن نقاد الأدب القديم ودارسيه كالغنم يتبع بعضها بعضًا. شهد الثعالبي — صاحب يتيمة الدهر — لشعراء الشام بالتبريز قديمًا وحديثًا لقربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم، ولما جمع شعراء عصره من أهل الشام بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة. ثم روى — تأييدًا لزعمه — أن الصاحب بن عباد كان يعجب بطريقة الشاميين التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة والفصاحة والسلاسة. إنني أؤيد شيخ نيسابور في زعمه هذا، وإن لم أجد في شعر البحتري ناحية جديدة لم يطرقها الشعراء قبله غير وصف القصور، وقتال ابن خاقان للأسد ومقاتلة البحتري والذئب، لم يحد البحتري قيد شعرة عن خطط القدماء، أدرك ذلك خصمه ابن الرومي، فقال في هجوه:
أي إنه صورة مطابقة لهم كل المطابقة.
شاء البحتري في بدء اتصاله بالخلفاء أن يكون شاعرًا سياسيًّا، فشهد بالخلافة لبني العباس ولكن شهادته جاءت بعد وقتها فلم يُؤبَه لها. والتفت الشاعر فرأى قصر الخليفة في زمانه، كناطحات السحاب في هذا العصر، فقال في ذلك شعرًا استمال به الخلفاء وأعجبهم؛ لأن المرء يحب الثناء على بيته، ولو كان كوخًا، فكيف به إذا كان قصرًا لا نظير له في عصره، كالجعفري والكامل؟! وأعجب البحتري وصفه القصور العربية؛ فشاء أن يكون موضوعه بنية فخمة، فقصد إيوان كسرى يرافقه إليه ولده أبو الغوث الذي سقاه ولم يصرد … فوصف الإيوان ومن بنوه وصفًا رائعًا شكَّك النقاد في عروبته. لقد فاتهم أن الشاعر عمومًا — والبحتري خصوصًا — يميل مع الهوى، وحسبك برهانًا على ما أزعم أن تذكر تمنيه لو كان سيفه في يده ساعة الفتك بالمتوكل، ثم ما كان بعد ذلك؛ فالبحتري ليس من أصحاب المبادئ الثابتة، إنه ككل بخيل يشمر للحاق بالقرش في أوعر السبل، ويغوص عليه في الحمآت، لا يبالي بكرامته إذا كسب. لستُ أقول هذا لأدَّعي أن البحتري كان له غُنْم في وصف إيوان كسرى، لكن لأدُلَّ على خُلُق البحتري، فالبخل رأس مزايا هذا الشاعر، والمال هو الحك الذي تهتدي به سفينة البحتري في خضم الحياة. وهل أدلُّ على بخل هذا الذي يسمونه شاعر الطيف من تحسره على إفلات الطيف منه؟! البحتري — أخلاقيًّا — يصح به قول مثلنا: يلحس الفرن على ريحة الكبة … كان يمدح ثم يهجو، ويهجو ثم يمدح، مهتديًا بالجائزة والأمل البراق في كيس الممدوح.
كان البحتري بيَّاع شعر وكانوا يعرفون منه ذلك فيعبثون به، ويتنادرون عليه ثم يرضونه، وكل شيء جائز متى حصلت الجائزة، وهكذا شأن كل بخيل. سُبَّ أباه وأمه وأَنِب عنك قرشًا ولو من قروش هذه الأيام في الاعتذار إليه، فقد وصل له حقه. هذا ما أصاب البحتري بعد عبث الصيمري به ذاك العبث الشائن.
فتن البحتري معاصريه بسلاسة شعره ورنته وسهولته، وقال في قصور الخلفاء قولًا جديدًا فقرَّبوه وأدنوه من الحضرة. وصف بركة المتوكل، وهذا الوصف شهير يعرفه كل مطَّلع، ثم وصف «الجعفري» فقال في علوِّه وشموخه وضخامته:
ثم ذكر المتوكلية في قصيدة أخرى. قد بلغ البحتري في هذا الوصف قمة الشعر؛ لأن أحدًا لم يساجله في هذا المضمار، فقال في وصف قصر المعتز:
فلولا ما قاله في هذا القصر المسمى «بالكامل» ولولا صورة أخرى أخذها قلمه عن إيوان كسرى، لقلت إن البحتري عيال على ابن عمه، وعلى شعراء العرب القدماء. فانظر كيف يصف الربيع، وعد إلى قول أبي تمام:
ومن وصف البحتري لقتال الأسد تدرك مدى خياله متى قابلت قصيدته بقصيدة المتنبي، ليس عندي زيادة في هذه المقابلة عما قاله ابن الأثير النقادة الفذ، فعد إلى قوله في محله من المثل السائر.
أما وصف قتال الذئب فقد تفوَّق فيه البحتري على الفرزدق، جعل هذا موضوعًا مستقلًّا وإن بدأه بالغزل والفخر والعتاب، وختمه بشكوى الزمان. دع كل هذا وأبدأ بقوله:
ثم قف عند قوله:
تجد أن البحتري أحاط بأطراف موضوعه كل الإحاطة، رسم صورة صغيرة ولكنها ناتئة الخطوط، قد سبقه الفرزدق إلى شيء من هذا وتجاوز الوصف إلى الأخلاقيات، أما البحتري فما عناه غير المشهد، فكأنه في هذا من جماعة «الفن للفن».
أذكر أن كاتبًا قابل بين ذئبي الفرزدق والبحتري وذئب دوفيني، فخلص من بحثه إلى أن الشاعر الغربي يرمي إلى غاية بينما شاعرانا لا غاية وراء ما قالا. لقد ضلَّ صاحبنا، فلكل أمة تفكير ومرمى، العربي يعنيه أن يقهر خصمه ويقتله، وإذا حصل ذلك فهو البطل الذي أدى الرسالة القومية، بينا الشاعر الفرنجي يريد أن يجعل من ذئبه مثالًا للنضال العنيف والثبات الشريف، ولا يحمله على هذا التفكير غير موقف أمته من جاراتها.
وبعدُ، فماذا نرى في شعر البحتري من خصائص لم نرها عند من تقدموه؟ نرى سهولة وشدة في وقت معًا، نرى شاعرًا لا يُقدِّم كلمة ولا يُؤخِّر كلمة، فنظمه كنظم العقد حقًّا. قصيدته كالكتيبة مصفوفة جنودها صفًّا لا عوج فيه ولا أمت.
نرى كلامًا مُقَسَّمًا، فكل بيت تستطيع إن تأملت أن تراه جُمَلًا متتابعة كأنها موقعة إيقاعًا، لا زحام ولا تسابق، تعرف الكلمة دورها فلا تتقدم ولا تتأخر.
نرى شاعرًا يكثر من استعمال الأفعال، فيتحرك شعره ويهتز أيما اهتزاز، ونرى شاعرًا لا تعرقل معانيه سَيْر قصيدته، فهو يرصف الكلام، وعلى هذا الكلام أن يؤدِّي المعنى كيفما اتفق. نرى شاعرًا يساير طبعه ولا يخالفه بأمر، وطبعه يمدُّه بهذه الرنة، وإذا كان الشعر رقصًا، كما حدده أحد الفرنجة، فشعر البحتري هو «الدبكة» الرقصة المعروفة. وما رأيت أبا العلاء المعري قد تجاوز الحد حين سمى شرح ديوان البحتري: عبث الوليد. وإذا كان الشعر كما يزعمون لذة عارضة لا معاني، فشعر البحتري هو الشعر؛ لأنك تخرج من قراءته كالشعرة من العجين، اللهم إذا استثنينا ما ذكرت لك. والذي يلوح لي أن البحتري لم يقرأ كتابًا من كتب زمانه وإِنْ جمع ديوانًا. مات الجاحظ في عهده، ونُعِيَ إلى الخليفة فتلهف حتى كاد يبكي على رجل الجيل، بينا لا نرى البحتري يشعر بموت أبي الأدب العربي، ولا يعنيه أن يرثي غير مجزيه.
والخلاصة عندي أن قول البحتري في أبي تمام: مدَّاحة نوَّاحة. أكثر انطباقًا عليه هو منه على ابن عمه. في مدح أبي تمام ونوحه عِبَر منثورة، وحكم ناصعة، بينا كل شعر البحتري خالٍ إلا من ألفاظ تُستلَذ منفردة ومُجتمِعة وإن لم يكن تحت تألفها طائل. لا يعني هذا أنني أشايع ابن الرومي؛ إذ يقول فيه:
لا يا جورجيوس، ولكنه كالموسيقى تطربك وإن لم تقل لك شيئًا تقوله فيها أو ترويه عنها.