بعد المتنبي
الشريف الرضي
كأني بابن الأثير قد شاهد تدهور الشعر، بعد أبي الطيب، فقال في مثله السائر: «وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وُصِف فهو فوق الوصف وفوق الإطراء.» أجل أن «الرءوس» التي هي من العيار الثقيل قد ذهبت بذهاب المتنبي، وكاد يفقد القريض رصانته لولا شاعران، هما المعري والشريف الرضي.
أما المعري فتفوَّق بدرعياته وحلَّق في رثائه، فإذا أردت شعره، كشعر عربي، فعليك بالسقط وضوئه، وإذا طلبت مذهبه الذي اختصصناه بكتاب سميناه «زوبعة الدهور» فاقرأ لزومياته وكتبه الأخرى.
جرى حديث بين الشيطان وإيفان، في رواية «الإخوة كرامازوف» للقصصي العظيم دوستوفسكي، فقال الشيطان لإيفان: «يجب أن تشك وتجحد، فبدون الشك والجحود لا نقد، وبدون النقد كيف ننقِّح ونهذِّب؟! إذا توارى النقد لم يبقَ إلا «أوصانا» وهذا لا يكفي، يجب أن نضع التقريظ والنقد في كفتي الميزان، ومع ذلك فما أنا الذي اخترعت النقد، ولست أنا تيس الخطيئة، يجب أن أنتقد لأن النقد أصل الحياة.
أين النقد في روسيا؟! عندنا بعض شبان يريدون أن ينتقدوا، فإذا أرادوا أن يبرهنوا أن الدجاجة تبِيض سوَّدوا عشرين صفحة لإظهار هذه الحقيقة … وقد لا يظهرونها كما يريدون.
إذا صدقنا سكوروبيكين قلنا: كل إنتاج قديم هو كالعدم، أو لا شيء؛ لأنه قديم. وإذا كان الأمر كذلك صارت الفنون كالأزياء، ولا لزوم للتحدث عنها بجد! إذا لم يكن في الفن شيء دائم لا يتغير مثل العلم؛ فليأخذه القرد …
نعم؛ إن قواعد الفن صعب اكتشافها كقواعد العلم ولكنها موجودة، ومن ينكر وجودها فهو أعمى.
لا شيء أقوى فينا من الشيء الذي يبقى فينا، ويظل كسِرٍّ مغلق لا نفهم منه إلا القليل.
أمامي الآن كتابان في الشريف الرضي، والشريف الرضي أشهر من أن يُعرَّف، فهو شاعر بعيد مرامي الكلم، كبير الهم. فبيت المتنبي الذي قاله عن نفسه:
يصح في الشريف الرضي لا في أبي الطيب أنه ملك حقًّا، ومستقره في حنايا القلوب الكبيرة لا القصور الرفيعة العماد، أما الكتابان فواحد للدكتور زكي مبارك، وواحد للدكتور محفوظ. فلنقل إذن الشريف، رضي الله عنه، بين دكتورين. ولكن لا، فالأستاذ مبارك، كما يتضح من الكشف الذي على الجزء الثاني من كتابه «عبقرية الشريف الرضي»، أكثر من دكتور، هو دكتور في الآداب من جامعة باريس، ودكتور في الآداب من الجامعة المصرية مرَّتين. لقد حيرني هذا، فقلت: ترى صارت الدكتوراه كبعض الأوسمة … تُمنَح مرتين وأكثر …
وكيفما دارت الحال بالدكتور مبارك فهو كاتب مُلْهِم ومُلْهَم، كما يعبِّر زميله الدكتور الآخر، فكرت قبل أن أفتح كتابه أن أثني ثناء طويلًا عريضًا على كتبه الضخمة، فالرجل — بارك الله في عمره — سوَّد وحبَّر من الصفحات ما يعز على عشرة من فطاحل الكُتَّاب أن يُسوِّدوه، وفيما أنا أفتش عن كلمة أفي بها قسطًا من الديون المستحقة، فتحت الكتاب بدون انتباه، فوقعت عيني على أول صفحة، فاستغنيت عن كلامي أنا بكلمته هو، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. فبعد أن قال الدكتور: ولأنه، ولأنه … كما يُقال في المراسيم بناء وبناء، قال أخيرًا: «ولأن القلم جرى فيه — أي في كتابه — بأسلوب ما أحسبني سُبِقت إليه في «شرح أغراض الشعراء» حتى كدت أتوهم أني طفت بأودية لم تعرفها الملائكة ولا الشياطين.»
وحسبي بهذا ثناء على الدكتور الجليل، فرجعت ولساني يردد قول العوام عندنا: من مالك يهدى لك …
روى الدكتور بيتًا للشريف وهو:
وقد علق مبارك عليه بهذه العبارة: أشهد إنك وجدت المنتقد، أيها النضار.
ليت الدكتور أصرَّ على ما ادَّعى في عبارته التي تقدمت، فقد أنصف نفسه الإنصاف كله، حين زعم أنه شرح أغراض الشريف. قد أجاد في هذا وأفاد، وصوَّب أشعة التاريخ الكاشفة على عذارى الشريف الخالدات، فبهر جمالها العيون وفهم الناس عن ذلك النبيل ما لم يكونوا يفهمون لولا كتاب مبارك. ناهيك أن الديوان أصبح نادرًا فكأنه أعاد طبعه أو اختار دراريه، فأصبح القارئ في غنى عن التماس الأصل، أما النقد الذي توعَّد به الشريف الرضي أو وعده، فما وقعت على أثر له في الكتاب، إلا إذا كان ما قاله الدكتور مبارك نقدًا في نظر غيري … لعله كذلك، ومن يدري؟!
أتقول هذا نقدًا؟! قال الدكتور في الصفحة ١٢: «سيرى قراء هذا الكتاب أني «جعلت» الشريف أفحل شاعر عرفته اللغة العربية، وقد سمع بذلك ناس فذهبوا يقولون في جرائد بغداد: أيكون الشريف أشعر من المتنبي؟!
وأستطيع أن أجيب بأن الشريف في كتابي أشعر من المتنبي في أي كتاب، ولن يكون المتنبي أشعر من الشريف إلا يوم أؤلف عنه كتابًا مثل هذا الكتاب.»
وإذا قلبت الورقة عثرت على هذه العبارات: «وبيان ذلك أني لم أقف من الشاعر الذي أدرسه موقف الأستاذ من التلميذ، كما يفعل المتحذلقون، وإنما وقفت منه موقف الصديق من الصديق. والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جدًّا، ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق.»
قلْ له، يا سيدي، قم فيقوم، ويشهد الناس عناقًا لم يشهدوا مثله في بيت عنيا … ما زلت تخمل شاعرًا كالمتنبي إذا شئت، وينبه ذكره إذا كتبت عنه كتابًا مثل هذا الكتاب، فلا يصعب عليك أن تنشر الشريف هنيهة ليعانقك معانقة الشقيق، وأنا أكفل له الخلود إلى قيام الساعة مثل إيليا وأحنوخ … لأن معانقة من يحيي قلمه ويميت ليست بالأمر الكثير الوقوع …
حقًّا إن العبقرية فنون! …
ومع كل هذا القول فما أرى كتاب المبارك إلا نشرًا وتحنيطًا، ومصر بزت العالم في هذا الفن. قد كان موقف الدكتور في هذا الكتاب موقف الدليل من العاديات، أو كمن يعرض «صندوق الدنيا»، قلت إن الدكتور في غنى عن المدح؛ لأنه أدرى بنفسه، وقد وفَّاها حقها، إنه محتاج إلى من ينتقده، وقلَّ مَن يُقدِم على ذلك؛ لأن عند الدكتور بضاعة لا يعرضها غيره في سوق الأدب، فهو محتكر هذا الصنف ومدخره لحين الحاجة.
قد فرغنا من كتاب «عدة دكاترة»؛ فلنعد إلى الكتاب الآخر كتاب الدكتور الواحد.
كتاب الدكتور محفوظ جديد في بابه، وفيه جهود ذات بال، لولا مغالاة صاحبها في بسطها. إن فرحته بالعثور عليها تحاكي في ضوضائها وضجتها فرحة ذلك العالم الذي هتف: وَجَدْتُها وَجَدْتُها.
لقد أصبت يا دكتور، ولكن حنانيك … وهلتنا يا شيخ. فليس ما تسمونه «الرمزية» باكتشاف جديد، فمحاولة الاستعارة الرمزية، كما فعل الشريف اللبيب، تبلغك الهدف. احذف كاف التشبيه وأضف المشبه به إلى المشبه، وفتش عن الاستعارات الغريبة والكنايات البعيدة تكن رمزيًّا.
نشر هذا الكتاب الطريف الجديد في لغة الضاد السيد محمود صفي الدين صاحب مكتبة بيروت، فخدم الأدب خدمة جلى؛ إذ أدخل هذا البرعم الجديد إلى حديقة آدابنا المحتاجة إلى التطعيم؛ فالكتاب نفيس مفيد جدًّا للشعراء الرمزيين؛ ففيه كل شيء حتى التمارين لتحويل الكلام الواقعي إلى رمزي … يعلم الذين يستحلون الأسلوب الرمزي، وخصوصًا من لا يغيرون على الموتى، كما قال ابن الرومي في صاحبه البحتري، أو الذين لا يعرفون الفرنسية ليعرِّبوا صور مالرمه وسامان ورنبو وفاليري، حتى نثر جورج دوهاميل — عفوًا يا سيدي دوهاميل، أنت دكتور، فعندكم يهملون هذه الألقاب، وأنا أتكلم بلغتكم حين أتحدث عنكم.
من قراءة مقدمة السيد صفي الدين ناشر كتاب محفوظ يفهم القارئ أن الكتاب جديد في بابه، وهذا لا ينكر. فهو، عدا تعريفنا بعبقرية الشريف الرضي، يعرِّف القارئ الذي لا يعرف لغة أجنبية مذاهب الأدب الأجنبي، فيخرج من مطالعته وعنده من كل فن خبر؛ فالكتاب حجر جديد في المكتبة العربية.
أمَّا أنه أدرك دون سواه رمزية الشريف وعبقريته فهذا ما أشك به. سمعت من أستاذ لي — في ذلك الزمان — أطيب الثناء على شعر الرضي، كان هذا الأستاذ — أدركته وهو شيخ — يعلمنا المعاني والبيان، يقول عن الشريف الرضي: إنه شريف في معانيه، شريف في غزله، لا تستحي البنت ولا خوري مثلي أن يُردِّدا نسيبه، يؤدي فكرته بأسلوب يخفف من وطئها وسماجتها، فتحلو في السماع ولا تنبو عنها الطباع. وما سماه الدكتور محفوظ اليوم «رمزيًّا» كان يسميه معلمنا تشبيهًا بليغًا، وكثيرًا ما كان يتلمظ إذ يقول:
كان يحب، رحمه الله، أسلوب الشريف الرضي لفحولة كلامه وتعففه، وبعده من الركاكة والحشو، ويعجبه جري تعبيره فيشبهه بأنهار لبنان، ويتكلم عن متانته، فيقول: هذا عمَّار — بنَّاء — ماهر، مدماكه حلو …
نعم؛ إن أستاذنا — في ذلك الزمان — كان عارفًا بالأدب الفرنجي، ولم يكن يقيم وزنًا للرمزيين؛ لأنه محافظ لا يعدل بكورني وراسين شاعرًا فرنسيًّا، كان ينظر في شعر الشريف على ضوء كتابه الذي يعلمه — كتاب البلاغة العربية — وكان يقول لنا: متى قلَّت الأدوات والوسائل كان المجاز أبلغ وأحلى. وخير مثال على هذا عنده شعر الشريف.
رحم الله ذاك الخوري، لقد كان — كما قال الشاعر — حجر شحذ يسن الحديد ولا يقطع. كان شعره باردًا ونثره أبرد، ولكنه كان معلمًا.
أما كتاب الدكتور محفوظ، فيفتح أذهان الشعراء والطلاب، ويرشدهم في مهمه الرمزية، فهو كالصوى في الصحراء، أو كهذه الأعمدة المنصوبة على مفارق طرقات لبنان تهدي السائق الغريب طريق البلد الذي يقصد، لا تعيب هذا الكتاب تلك الفصول الخارجة عنه، فهي مفيدة للقارئ وهي تمتُّ إلى موضوعه بنسب. يردُّ على الدكتور طه حسين في المقارنة بين الأدب العربي والآداب الأجنبية، ويسمي ذلك وقفة، فإذا بالوقفة تطول جدًّا فتستغرق أربعين صفحة من الكتاب، ولكنها وقفة — على طولها — لم تخلُ من فائدة؛ إذ يتحدث فيها عن أدب اليونان فيقع الدكتور محفوظ فيما وقع فيه الدكتور حسين من المراجعة والتكرار والمط، فكأنه يريد أن لا يستقل طه حسين بهذا الاختصاص، بل يريد — ويا للجسارة! — أن يعلِّم طه كيف يدرس، وكيف تُدرس الآداب، وطه حسين كبر على العلم! …
وما كدنا نفلت من طه حسين ومنه حتى أعادنا في عشرين صفحة أخرى إلى ذلك المحيط، محيط التعليم، وتعليم درس لا علاقة له بالكتاب، وبأسلوب لا أحبه. إن أكره ما أكره أسلوب أولًا وثانيًا وثالثًا.
وبمناسبة الكلام على المدارس الأدبية يأتينا الأستاذ محفوظ بترجمة جديدة لكلمة رومنطيقي فيعرِّبها الأدب المطلق، ويحتج على تسمية الابتداعي والاتباعي. حقًّا؛ لقد كان القدماء أنبه منا، فعرفوا كيف يُعرِّبون الألفاظ، أما نحن فكل يُعرِّب على هواه، فقد قرأت اسم شاعر الألمان صاحب فوست أشكالًا متعددة، إن أصحَّ تعريب هو كلمة رومنطيقي، وهي مطبوعة على غرار العرب في التعريب.
ويحدثنا الدكتور محفوظ ويثير قسطلًا من الإعجاب حول هذا البيت:
فهذه الفكرة التي غالى في وصفها وتحليلها بسيطة جدًّا، وردت لغير الشريف وقد تَرِد كل يوم، وفي كل ساعة، عند ذوي العيون النهمة حتى صارت مبتذلة.
ويكتب فصلًا شائقًا قيِّمًا عما يلتبس بالشعر الرمزي، ولا عيب في هذا الفصل إلا أنه كلَّف نفسه فيه مناقشة الأستاذ الزيات حول شعر ابن الفارض؛ فيقول الدكتور محفوظ: إن البيتين والثلاثة في القصيدة لا تكفي لاعتبارها شعرًا رمزيًّا، فلو كان لابن الفارض ثلاث قصائد كاملة من مرتبة هذين البيتين المليئين بالصور الجميلة:
لجاز لنا أن ندعوه شاعرًا رمزيًّا، ولكن بكل أسف لا نجد له سوى أبيات متفرقة فقط غير كافية لإلباسه التاج الرمزي الصحيح.
قلت: وهل للشريف الرضي قصائد كاملة؟! أقول هذا وأنا مثل الدكتور محفوظ لا أرى الرموز الصوفية شعرًا رمزيًّا كما نفهم الشعر الرمزي الأوروبي.
ويقابل الدكتور محفوظ بين الشريف الرضي وشعراء الفرنجة الرمزيين فيُوفِّق توفيقًا حسنًا وإن تكلَّف، ويحاول تهشيم شعرائنا المتقدمين ليثبت قضيته التي أثارها حول شاعرنا الشريف، ثم يعجب حتى يفوق عجبه العجب باتفاق رنبو صاحب «المركب السكران» وشريفنا صاحب «العرف السكران» حتى كدت أقول إن كتاب محفوظ يدور كله حول هذا البيت دوران القمر حول الأرض:
ويعجب محفوظ ببيت آخر للشريف:
فيقابله بقول شعراء الغرب وينسى «نابغتنا» القائل:
ويغالي الدكتور محفوظ جدًّا في استخراج الصور كأنها كل شيء، مع أن الشعر الرمزي يقوم على الموسيقى قبل الصور. وهذا رأي العرب في الشعر أيضًا، فقالوا عن البحتري: أراد أن يُشعِر فغنَّى. وقال الجاحظ: الشعر لا يُستطاع أن يُترجم ولا يجوز عليه النقل، ومتى حول سقط موضع التعجب منه؛ ولهذا أتعجب كيف أن الدكتور لم يسهب في وصف موسيقى الشريف الشعرية، مع أنها موسيقى فائقة يضارع فيها البحتري شيخ النغم الشعري، ولكنها ويا للأسف غير موجودة في الأبيات التي طبقها محفوظ على الأصول التي وضعها «مشترع الرمزية» مالرمه …
أما «الدزينة» من الصور التي استخرجها محفوظ من بيت الشريف هذا:
فمدهشة حقًّا، وأدهش منها تفتيشه دائمًا عن بيت رديء أو وسط عند المتنبي ليقابله بما قاله الشريف، وإني لأعجب من الدكتور حين يطيل الثناء على هذا الشطر للشريف:
ثم يقول عن بيت المتنبي:
إن في استطاعة كل إنسان أن يقول: ملأت جيوبي ذهبًا، أو ملأت داري ذهبًا، وأنعلت خيلي ذهبًا وعسجدًا. ونحن نقول له: إن شطر الشريف، وإن أجاد نظمه، هو أيضًا نظم قولنا العامي: العين بصيرة واليد قصيرة …
ما هكذا تُقاس الفنون يا نطاسي، وما هكذا يُقابَل بين شاعرين عظيمين كالشريف والمتنبي؛ فكل فنان يَستقي من الواقع، ولكنه يخرج فكرته كما تخرج النحلة عسلها؛ أي مطبوعة بطابع نفسه، فرويدًا رويدًا. ولا تنسَ أن الشريف ترسَّم خُطى أبي الطيب.
لقد أجاد الدكتور فأفاد حين حدد الشعر الرمزي وذكر أسسه وأصوله، ولم يَفُته ذكر عيوبه فحذَّر جماعة الرمزيين بقوله: فنقع في العيب الذي وقع فيه الأدب الرومنطيقي؛ حيث كانوا يعيبون على شعرائه تكرار بعض عبارات.
لقد وقعتم يا صاحبي — إن كنت منهم — وابتذل شعركم، كما قلت لكم غير مرة، وأصبحتم ترتطمون في تعملكم؛ فحذار!
وكأنه تصوَّر أن الشريف الرضي شاعر رمزي حقًّا، فقال (ص٩٦) بعد أن بيَّن العيوب التي وقع فيها الشعراء الرمزيون: إن عبقرية الشريف المدهشة لم تقع في واحد من العيوب المنسوبة إلى الأدب الرمزي وإلى أسلوب شعرائه … إنها لغريبة تلك العبقرية التي تتجرَّد من نفسها لتنتقد ذاتها بذاتها.
فالجواب: إن الشريف الرضي ليس بشاعر رمزي كما يشاء الحكيم أن يكون، ولكنه شاعر ملهم، له استعارات وتشابيه طريفة، أرشده إليها ذوقه الرفيع وأسلوبه الفذ ولغته الجزلة، وقد سبقه إلى هذا أبو تمام. أمَّا أنه واضع أسس الرمزية قبل بودلير فلا يا صاحبي، وهل للرمزية أسس تتجرد كل التجرد من المدارس التي سبقتها؟!
أما تعجب الحكيم من خاصة النقد عند الشريف فلا داعي له، فهذه خاصة لا بد منها لكل فنان في الأدب وغيره، وإن حُرِم منها فلا يقول شيئًا يُذكَر، بل يضع السكر والملح في طبخة واحدة.
تهيأ يا قارئي فنحن قادمون على «مأتم»، مأتم طويل يدوم خمسة أسابيع وأكثر، فلا تُرَع. مأتم حول بيتٍ قاله مولانا الشريف، وإليكه:
من عادة المأتم — حتى الملوكي منه — أن يدوم أسبوعًا، أما المأتم الذي أقامه الحكيم فظل خمسة وثلاثين يومًا، أي ٣٥ صفحة من القطع الكبير. راح، آجره الله، يُحدِّثنا عن «المأتم» في الشعر العربي من أبي تمام حتى شوقي، فخِلْنا نفسنا في مأتم حقًّا. لم ينسَ مأتم البحتري في إيوان كسرى، ومأتم شوقي في الحمراء، ولست أدري لماذا أتعب المؤلف نفسه كل هذا التعب وجاءنا بكل هذه المآتم؟! لا علاقة بين مأتم الشريف وبين أي مأتم آخر إلا المأتم الذي أقامه قبله حبيب الطائي، حيث يقع فيه الحافر على الحافر بين الشاعرين، كما عبَّر قبلنا ابن الأثير، وإليك قول أبي تمام:
وتعصب الحكيم لشاعره — وهو شاعرنا الذي نحبه لأنه عشير الصبا — فقال: إن الشريف لم يطلع على بيت أبي تمام هذا. قلت: إن اطلاع الشريف لا يضيره يا دكتور، فلا تعنِّ نفسك؛ فأبيات الشريف الأربعة التي أوردتها هي خير ما قيل في الشعر العربي إظهارًا للتحرق، وهي من الشعر «الناعم» جدًّا، كما تعبِّر عن شعركم الرمزي، ولا بد من إيرادها تبريرًا لمغالاتي:
فالشريف هنا وفي كل مكان يبذ أبا تمام ديباجةً، أما المعاني فذاك ربها، كما وصفه ابن الأثير. ولم يكتفِ الدكتور بنهاية المأتم العربي حتى نقله إلى أوروبا، فجاءنا بما قاله فرلين في هذا المعنى، وقال هو: إن القصد من هذه الأبحاث هو تحليل الأدب الدقيق. وقلت أنا: ولكنه تحليل طويل يحل المفاصل …
ومن عادة المأتم أن يعقبه البحث في زوال الدنيا، وهكذا كان، فشرح لنا الحكيم بيت الشريف العذب:
وحدثنا حديثًا قيمًا عن الصور الفارغة والمتناقضة، وليس هنا باب التحدث عنها، فالكتاب ضروري للمكتبة العربية، فليطالعه الراغبون في الفن الرفيع ليعرفوا الصور الفارغة والمتناقضة وكيف تُصنَع.
قد رأيت أن عند الدكتور أشياء لم يقلها، فعسى أن لا يحرمنا منها في جزء تالٍ، ولا عيب في كتابه هذا إلا التكرار واللف والدوران، وإخاله قد اضطر إلى ذلك اضطرارًا.
لقد طبق المفصل إذ اهتدى إلى الشريف، فهو وابن المعتز ملكان، والتأنق من صفات الملوك. وقد يصح هنا القول العربي المأثور: كلام الملوك ملوك الكلام.
إن للشريف خاصة موسيقية فريدة في شعره الذي يرسله عفو الخاطر، أما حين يتكلف الاستعارات البعيدة أو الرمزية، فقد رأيته يفقد كثيرًا منها. ناهيك أن هذه الاستعارات الجميلة هي في ديوانه الضخم كشذور في منجم، وقد أدرك بُعد غوره القدماء فأشاروا إلى ذلك، وما أخَّرهم عن وضعه مع المتنبي إلا لأن شعره يجري في مستوى واحد، فليس له وثبات أبي الطيب ولا إسفافه.
إن للشريف مقدرة عظمى على تحميل الكلمة ما تطيق، فتبرز فكرته ناتئة كأنها تفويف الرخام أخرجه إزميل نحات حاذق، وللشريف شخصيتان بدوية وحضرية، فللشريف البدوي كل صفات الشاعر القديم إلا الخشونة، وللشريف الحضري ليونة الأطلس ونعومة المخمل.
فبينا تسمعه يرثي بدويًّا تخالك أمام شاعر جاهلي؛ إذ يقول:
ثم يختمها بقوله:
وإذا تغزل قال:
إن الشريف من أحلى شعرائنا استعارة وأبلغهم تشبيهًا، ولو كنا من معاصريه، رضي الله عنه، لقلنا فيه بيته هذا:
عاشت العبقرية، والأخلاق الرضية! إنه لشريف حقًّا.
الموشحات
بشار بن برد أول شاعر تغنَّى بتسهيل الشعر، فقال معتدًّا بشعره:
أما الذين سهَّلوه حتى أسهلوه فأولئك هم شعراؤنا المغاربة، ثاروا على القوافي والأوزان وقالوا الشعر بالكلام الجاري على ألسنتهم، في جميع الأغراض التي قاله فيها المشارقة. تهافتوا على الشعر متعمدين السهولة الفائقة، فصحَّ فيهم قول الشاعر:
… لست أطيل الكلام، وحسبي نموذجان أخذتهما عن ابن خلدون، قال: «وذكر الأعلم البطليموسي أنه سمع ابن زهير يقول: ما حسدت قط وشَّاحًا على قول إلا ابن بقي حين وقع له:
ثم انتقل إلى رواية أخرى، فحدَّث عن الحكيم أبي بكر بن باجة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفوليت صاحب سرقسطة، فألقى على بعض قيناته موشحته:
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله:
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفوليت صاح: وا طرباه! وشق ثيابه، وقال: ما أحسن ما بدأت وختمت! وحلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب، فخاف الحكيم سوء العاقبة، فاحتال بأن جعل ذهبًا في نعله ومشى عليه.»
فليحكم القارئ في نفسه، ثم لا يظنن أن القريض الأندلسي كله من هذا الحوك، ففيه أنماط وضروب مختلفة. وقد كان في المغرب شاعر يضارع المشارقة ويجاريهم هو ابن هاني، كانت تتجاوب في نفسه أصداء الشرق فيحاكيها بكلام يقفز قفزًا ويجمز جمزًا، وما رأيت أبا العلاء عادلًا، إذ نقده، فشبَّه شعره برحى تطحن قرونًا، فللرجل موسيقاه وفنه، وليست مبالغاته من نوع المبالغة الشعرية المعهودة ولكن شاعر الفاطميين الأكبر يستوحي عقيدة راسخة فتحت مصر بقوة إيمانها وسيفها، والشاعر على دين ملكه.
وإذا استعرضنا شعراء الأندلس رأينا فيهم شعراء لم يتناهوا في هذا الشطط؛ كابن زيدون، وابن خفاجة، وابن عبد ربه، وابن الخطيب. وإذا قرأت موشح هذا الأخير «جادك الغيث إذا الغيث هما» هبت عليك منه رائحة الشرق، وأدركت أنهم لم يُبتَلوا جميعًا بالفالج الأدبي الأندلسي.
لست أنعى على الأندلسيين سهولتهم، ولا صورهم الحلوة، ولا ألوانهم المتآلفة، ففي شعرهم حلاوة السحر البياني وخِفَّته ورشاقته كما في هذا المقطع الرشيق:
ولكني أنعى عليهم ما أنعاه على شعرنا الشرقي، وهو هذا التشابه، فلا تكاد تقرأ موشحًا أو موشحين حتى تعلم أنك أتيت على كل ما عند القوم، ولست تخرج من هذا الجو الشعري مهما قرأت، وهكذا أُصِيب شعرنا الغربي بما ابتُلِي به شعرنا الشرقي.
أما المأثرة التي لا تُنسَى فهي سبقهم الناس أجمعين إلى هذا النمط من الشعر. جاء في مقدمة مجموعة الأزجال والموشحات للشيخ فيليب الخازن: «إن القافية لم تكن معروفة في أوروبا، قبل عهد العرب، فإنما هم الألى أدخلوها إسبانيا في بدء القرن الثامن، كما حقق العالم السيد هويت أسقف أفرانش، ولم تنتشر في ألمانيا إلا في القرن التاسع على يد الراهب أوتفريد الألماني. أما القول بأن القافية كانت معروفة قبل ذلك العهد استدلالًا بقصيدة لاتينية التزم فيها ناظمها القافية، على كونها منسوبة إلى القرن السادس، فليس ذلك بحجة واردة على أسقف أفرانش ولا يقدح في صحة قوله المار ذكره؛ إذ ليس في كتب العروض عند اللاتين من إيماض إلى القافية في ذلك التاريخ. وفضلًا عنه فإن المنظومة اللاتينية المستشهد بها لم تكن معروفة حتى المائة الثامنة عشرة، وباعثها من مدفن جهالتها وخمولها إنما هو العالم لويس أنطون ميراطوري.»
فلو سلمنا بتعارف القافية في أوروبا منذ المائة السادسة لورد علينا الاحتجاج بعدم استعمالها حتى القرن التاسع، فبطل الأول لثبوت الثاني، ولا عبرة ببعض مزدوجات جاءت في شعر «أوفيد وفرجيل وأنيوس وهوراس وفادر» فإنه من النادر أو النزر القليل الذي لا يصلح حجة للقائل بغير قول السيد هويت، خصوصًا وإن نقدة الكلام قد حملوا ما ورد من الشعر المُقفَّى لأولئك الشعراء على قصد الافتنان الخاص بهم دون غيرهم، يؤيِّده أن شعراء أوروبا لم يحتذوهم فيه على المثال، وإنما لزموا سنن الشعر اللاتيني حتى جاء العرب إسبانيا مستصحبين كتاب عروض شعرهم، ومداره القافية، فأخذها عنهم الفرنج وجعلوها أساسًا لكتب عروضهم.
لا شك أن الموشحات طراز معلم من الشعر، وها هو الشعر الأوروبي اليوم يمشي في تلك الجادة التي اختطوها ومهدوها في دنيا الشعر منذ عشرة قرون، لقد تبعهم العالم الأدبي العالمي وتخلف عنهم إخوانهم في الجلدة واللسان، وكانت اليقظة اللبنانية، فسمعنا في فجر القرن التاسع عشر صدى هذه الأنغام في قصر أمير لبنان. مد شعراء الأمير بشير أيديهم إلى تلك القيثارة فاهتزت أوتارها، سمعنا نقولا الترك يهتف: بأبي عهد التهاني والصفا، إلخ. وسمعنا بعده بطرس كرامة ينشد مهنئًا بقدوم مياه الصفا إلى دار الأمير:
إلى أن يقول مادحًا أميره:
ثم انتشر أبناء لبنان في أقطار المسكونة ضاربين في مناكبها مترنمين بلسان عربي مبين، فخلقوا في كل قطر من أقطار العالم أندلسًا جديدة. أطلقوا الشعر العربي من أقفاصه، ولقحوه بدم جديد.
ألبسوه حللًا طريفة دون أن يطمسوا ملامحه أو يخفوا العروق الأصلية التي تمتاز بها كل أمة من غيرها؛ فكانت له الملاحة الأندلسية دون أن ينزلوا به إلى الميوعة التي ابتلاه بها بعض شعراء الأندلس.
ابن الفارض
وتمر قرون ينقطع فيها صدى الموسيقى العربية الضخمة، ويركض الشعر ركضًا نحو السهولة، فتسمع الأقطار العربية صوت شاعر رخيمًا ناعمًا.
كان شعر ابن الفارض نموذجًا للشعر السهل المتماسك، يرينا أن للسهولة حدًّا يجب أن لا تتعداه. والشاعر، في هذا النحو من الشعر، طائر لم تألفه دوحة الشعر العربي، وإن لم يكن غريبًا عنها. يُحكى عن هذا الشاعر «الرباني» أنه بلغ في تصوفه ذروة «الوجد»، ويروون عنه أحاديث غيبوبات لا محل لذكرها في كتابي، ولكن الذي أستشفه من شعره السهل الرصين يحملني على تصديق جميع تلك الروايات؛ فأي «وجد» يجده القلب البشري في شعر الشعراء أكثر مما يجد في ديوان شرف الدين، العارف بالله، ابن الفارض:
أرأيت أن «نعم» ذات حظ سعيد عند كل الشعراء؟! فهي حتى عند ابن الفارض، أكبر حظًّا من سعدى وجمل، لقد قدمتها الصناعة التي عِيبَ بها شعر الشيخ، ولكنها صناعة قلَّما يحس بها القارئ؛ لأن جراح الشاعر سخنة، والجرح لا يُشعَر بألمه إلا متى برد.
حقًّا؛ إن ابن الفارض شاعر الوجد، وسواء عندي أإلهيًّا كان أم إنسانيًّا … فهو وَجْد لا نظير له في كل حال، والأعمال بالنيات. لمت هذا الشاعر، وهو حموي الأصل مصري الدار، وعجبت منه، وهو الشاعر الحاد الشعور، كيف لا يحن إلى «العاصي» ولا يذكر النيل؟! فيقول:
إن الجمرة لا تحرق إلا حيث تقع، وقد تكون أرواح نعمان وماء وجرة — في عرفهم — كمدامة هذا الشاعر التي شربها على ذكر الحبيب، فسَكِر بها من قبل أن يُخلَق الكَرْم.
القليل من الصوفية يستملح ويستحلي في الشعر؛ لأن المادية الصاخبة كمادية الشعر الجاهلي تجففه، ولكنه يستهجن أيضًا متى صار صوفيًّا كله وبلغ الحد الذي بلغه مع هؤلاء الشعراء، فيقول ابن عربي مثلًا:
ومع ذلك أرانا نستسيغ هذا الشعر ونقبله متى سمعنا قول شيخنا العارف بالله، قدس الله سره:
إن هذه «الشطحات» تُبكي وتُضحك، وإليك قول أحد شعرائهم، فاسمع كيف يعتذر عنها:
وعلى ذكر هذا العشق العنيف نروي بيتين موجهين إلى هذه «الجماعة»:
رحم الله شيخنا فقد كان رجلًا صالحًا. إن الحب — على جميع أنواعه — مستبد جائر، وقد أدرك هو ذلك فوصفه أدق وصف، ولكنه وإن أعمى وأصمى، فهو وحده يخلق مثل هذا الشعر، أما الآن فلننتقل إلى ساحة شاعر آخر، أحب مثلما نحب، ولم يحدثنا أحاديث غريبة لا يفهمها إلا الراسخون في العلم …
بهاء الدين زهير
الشعراء كالطيور، منها الكناري والحسون ومنها الغراب ومنها الحجل والحمام، لم يستطع الفرزدق أن يكون كجرير، ولا أبو تمام كالبحتري. في الاستطاعة التكيف والتجويد، وليس في الإمكان خلق شيء من لا شيء؛ فهذان شاعران معاصران جريا في ميدان واحد، ميدان الحب والغزل؛ الأول وهو ابن الفارض تغنَّى بوجده العنيف بصوت رخيم وسهولة عظيمة، ولكنه في كل حال يختلف اختلافًا كبيرًا عن بهاء الدين زهير الذي جاء شعره كأنه الكلام الجاري لولا الوزن والقافية، ومع ذلك فقد فُتِن الناس بهذا الشعر الخفيف، ولا عجب، فليس للفن عيارات ثقيلة أو خفيفة.
تقرأ ديوان زهير من الجلد إلى الجلد، فلا تلتقي وجهًا غريبًا تنكر معرفته من وجوه اللفظ، يجري الشاعر في نظمه كله على نمط واحد، ولا تمل حديثه؛ لأنه حديث كل قلب، ولأن قائله خفيف الروح ظريف، لا يكلف نفسه فوق طاقتها. وقد أدرك أنه الطائر الفريد في جنان الشعر العربي، فقال يخاطب مولاه الملك الصالح، نجم الدين أيوب:
وإذا تحدث متوسلًا إلى الحبيب فبهذه اللهجة الحلوة العذبة:
وإذا كتب إليه لائمًا على الهجر فبهذه الرقة والافتتان:
وإذا مال هذا الحبيب عن خياله أرسل إليه البهاء يعنفه، ولكن تعنيف البهاء كما يقول مثلنا: ضرب الحبيب زبيب وحجارته رمان. فانظر إلى هذه الحجارة:
وله في هذا الصدد كلام يستحق الذكر لسهولته وخفته وسرعة جريه، قال:
وأخيرًا يخطو شاعرنا الخطوة الأولى نحو الصلح، فيستسفر إلى الحبيب من يحمل إليه هذه العروض الأخيرة:
وكأن هذه الخطوة نحو السلام الزهيري قد كُلِّلت بالنجاح فتسمعنا البهاء يتغنى:
ثم عادت حليمة إلى عادتها القديمة، فعاد الشاعر إلى بث شكواه، مطاردًا ذلك الغزال كأنه يطلبه بدين:
ولا يخلو شعر الوزير من الصنعة، ولكنه نمش لا يضير ذلك الوجه الجميل؛ كقوله:
وكقوله هاجيًا:
والبهاء كان ككل عاشق مبتلى بالثقلاء الذين لا يعرفون متى ينصرفون، فاسمعه يئن منهم:
وخير ما نخص بالذكر في هذا المقام قوله أيضًا:
وأخيرًا يلتقي الشاعران الروحاني والجسداني — ابن الفارض والبهاء — وكل منهما يدعي عقد لواء الحب له. قال ابن الفارض:
ويقول أيضًا:
أما الوزير فلا يخطر بباله أن يصور لنا زعامته بتعابير العلماء بل بلغة الدول، ولا عجب في هذا، فهو وزير ملك قال:
فما قول صديقنا الشاعر بشارة عبد الله الخوري؟ أيعترف بالإمامة للبهاء؟! البهاء يقول إنه لم يدع للقوم شيئًا، ووحده شرب ذاك الباقي في الزجاجة، وبشارة يقول إنه أفرغ كأسه وحطمها على شفتيه — انكسر الشر — فلمن نحكم؟! حقًّا؛ إن لبنان علم يتماثل أمامي أين اتجهت؛ ففيه كل مَطْلَب. ولكن، ليس هنا مجال هذا البحث فنطيل الكلام.
وبعدُ، فيلوح الشيب في رأس زهير، فيقول:
ثم رأى أن المراح والأخيل تراجعه، فقال:
قلت: ما أشبه شاعرنا بذاك المنادي على بضاعته: ترمس أحلى من اللوز! …
وقد مدح شاعرنا — ولا بدع في ذلك — فهو شاعر ملك، ورثى أيضًا وأجاد الرثاء، وله فيه قصيدة لم يُوفَّق إلى مثلها في قوة العاطفة إلا التهامي في رثاء ابنه، ومطلعها:
أما البهاء، فإليك بعض ما قاله في هذا المرثي، ولا تعجب فالبهاء هو هو في كل أغراض شعره، تظهر شخصيته بارزة ناتئة:
إن ديوان البهاء — على صغره — جامع لجميع أغراض الشعر حتى وصف الخمرة، أما اختصاصه ففي الناحية التي ذكرناها، فهو شاعر الحب في هذه الحقبة الجافة، وقد ملأ صوته الرخيم هذه الصحراء القاحلة من التاريخ الأدبي فأنعشها وآنسها.
فشاعرنا، بخلاف ابن الفارض والمتنبي وغيرهما من الشعراء النازحين، قد ابتُلِي بداء «الحنين إلى الوطن» وقال فيه، وإليك شيئًا من ذلك:
إنك عندنا في أحسن حال، ولا نعدل بك الكثيرين من الشعراء. حسبك أنك وجدت ذاتك، ولم تنسحب على ذيل غيرك، فطب نفسًا وقر عينًا.
رءوس صغيرة
في عالم الأدب كما في كل العوالم حظوظ وبخوت، فبعض الشعراء خُلِّدوا بقصيدة كما خُلِّد غيرهم بديوان، أما وللموت سنته أيضًا في عالم الأدب، فمنهم من يحيا أجيالًا بعد موته، ومنهم من يموت «أدبيًّا» ساعة تنطفئ حياته، ومنهم من يموت وهو حي، كما قال برنارد شو في زميل له: كتب خير ما عنده في الأربعين، فليُكتَب على قبره: مات في الأربعين وأجَّل دفنه إلى الثمانين. لقد صدق شو، فالذين يُؤجَّل دفنهم كثيرون …
أما الذين عُرفوا بقصيدة تدور أبياتها على أغلب الألسن، أو يذكرها الناس، فالطغرائي عاش بلاميته المعروفة بلامية العجم، كما عاش الشنفرى باللامية المعزوة إليه ويعرفها الناس بلامية العرب، والسموأل اشتهر بلاميته، كما عُرِف ابن النبيه وابن سناء الملك بالناس للموت كخيل الطراد، وبسواي يهاب الموت أو يرهب الردى. وطار صيت: «علو في الحياة وفي الممات»، حتى كدنا ننسى اسم صاحبها، وكذلك قصيدة «لا تعذليه»، كما اشتهر البوصيري ببردته الرائعة، وأبو البقاء الرندي ﺑ «لكل شيء إذا ما تم نقصان»، والتهامي ﺑ «حكم المنية في البرية جار». وكما بقي ذكر ابن الوردي بلاميته الشهيرة: «اعتزل ذكر الغواني والغزل»، وهناك قصيدة: «هل في الطلول لسائل رد»، التي لا يُعرَف لها حسب ولا نسب، حتى صح فيها قول الشاعر:
لقد ارتفعت أصوات من خلال العصور، بعد البهاء زهير، ولكنها أصوات محاكاة أكثر منها أصوات إبداع. لم يكن كلامهم غير تقليد للذين تقدموهم، استوحوا القدماء لا الحياة والمحيط، فقُضِي على أقوالهم بالفناء كما يقضي القيظ على النبات الضعيف الأصول، ولا يدع إلا ذا الجذور المنسلَّة إلى الأعماق والفروع المتسامية إلى الأعالي.
اسمع ما يقول أحد هؤلاء الشعراء — ابن زيلاق — واصفًا الربيع، وقابله — إذا شئت — بقول أبي تمام، وإن كان قليلًا:
ألا تقول مثلي، بعد سماع هذه الأبيات من قصيدته الطويلة، إن الشاعر ابن خباز؟!
إن خير ما سمعنا من الأصوات، في هذه الحقبة، صوتان ارتفعا في آن واحد. أولهما في العراق، وهو صوت صفي الدين الحلي، الشاعر الذي استعبدته الصناعة اللفظية حتى اجتمعت في شعره جميع معايبها. كان صفي الدين كالطفيليات يعيش على جذوع الأقدمين، فخمَّس وضمَّن، ثم حاول اجتراح العجائب في الشعر — كما كان يظن — فراح ينظم لسلطانه الذي فزع إليه من ظلم المغول قصائد سماها «درر النحور في مدائح الملك المنصور» وهي تسع وعشرون قصيدة، على كل حرف من حروف المعجم، يبدأ بالحرف البيت ويختمه. وإليك نموذجًا منها:
أرأيت كيف يبدأ بالميم التي هي قافية قصيدة؟ ثم أرأيت «الرفع والجزم»؟ إن صفي الدين الحلي لم يَدَع جريمة أدبية في النظم إلا ارتكبها، قال القصائد طويلة وقصيرة، والموشحات والأزجال، وكما نظم ابن مالك النحو والصرف نظم الحلي «بديعية»، مطلعها:
وكما اتبع ابنَ مالك ابنُه، وأخيرًا الشيخ ناصيف اليازجي، كذلك اقتفى عز الدين الموصلي، وابن حجة الحموي، وعائشة الباعونية، وعبد الغني النابلسي، آثار الحلي في نظم البديعيات، وإذ كان لا بد للبنان من أن يجاري في كل شوط فقد سمعنا في القرن الثامن عشر صوت الخوري نيقولاوس الصائغ يرتفع ببديعيته متعمدًا ذكر النوع، كما فعل ابن حجة الحموي، ويغني — على ليلاه — كما غنى البديعيون قبله، فيقول:
وبعد قرن يقوم شاعر آخر لبناني هو الخوري أرسانيوس الفاخوري، فينظم ثلاث بديعيات لا واحدة. وإليك مطلع إحداهن:
وهكذا لا نرى للحلي شيئًا جديدًا — إن كان هذا شيئًا — إلا سبقه إلى نظم فنون البديع في قصيدة، ولكن بديعيته لم تصب من السيرورة ما أصابته «بديعية» الحموي فركدت ريحها.
أما شعر الحلي فجارٍ حين يتبع سجيته، ولكنه لا يخرج أبدًا من دائرة التقليد، فهو يعارض قصيدة المتنبي ليقول من الجناس:
ثم شاء أن يكون له شعر مثل شعر البهاء زهير، فقال ناحيًا نحوه:
وشاء أيضًا أن «يتعنتر» فقال قصيدة معارضًا بها قصيدة «حكم سيوفك»، ومد يده فيها إلى نجم الشعر العربي، فأخذ قوله:
فقال، وقصر تقصيرًا شائنًا:
أما الباقي على الألسن من شعر هذا الفاضل؛ فقصيدته النونية المشهورة:
أما الصوت الثاني فهو صوت تعالى في الشام ومصر، هو صوت الشاعر ابن نباتة، معاصر الحلي وصديقه الحميم. وكانت الحال في مصر، حيث نشأ، مثلها في العراق، حال مخاوف واضطرابات ودسائس واستبداد. إن ابن نباتة ضريب الحلي في شعره، وهو مثله يستوحي الكتب لا الحياة.
وكما ارتحل الحلي، كذلك هاجر ابن نباتة، فجاء سوريا ثم عاد إلى مصر، ولكن رحلات كلا الشاعرين عقيمة، لم تتأثر بالمحيط؛ فظلت تتسكع في ظلال دواوين القدماء فلم تُورِق بخير لنرجو الثمار الشهية. ولكن هناك أثمارًا، في كل حال، أثمارًا أشبه ما تكون بالتي تستقبلها الأسواق في سني المحل.
وفي أثناء مروري في ديوان ابن نباتة سمعت أنينًا متصلًا، وشكوى مرة، فهو يندب حظه دائمًا، ويشكو جهل الناس قدره، فقير مسكين يطلب حينًا بيتًا يسكنه حتى بلغ به نكد العيش أن طلب الحبز. إن أحوال ابن نباتة تشبه كثيرًا حالات ابن الرومي وخصوصًا في موت بنيه، أما شعر ابن نباتة فكشعر صفي الدين، يتلهى بالألفاظ ملتمسًا الغذاء الفني عندها، وإذا عجز عن معنى يخلقه من لفظة مهَّد بشيء من عنده لشطر أو بيت من شعر القدماء أرضى به نفسه وسامعه. ومن أمثلة تضمينه قوله:
ومن أمثلة تضمينه أيضًا ما كتبه لشاعر صديق أرويه للتفكهة:
فأجابه صديقه صلاح الدين هذا، وهو أبو الصفاء خليل بن أيبك الصفدي، الكاتب المؤرخ الشاعر:
قد سردنا لك المنظومتين لنريك أن الجماعة كانوا يتلهون بالشعر ويتسلون به عن الملوك الذين ذهب ذهبهم مع دولهم، وسيطغى بعد هذا سيل تمادح الشعراء حتى يمسي طوفانًا يلقي بصحراء العبيط بعاعه … أما الآن فلندع هذا عائدين إلى ابن نباتة فنريك ولو قليلًا جدًّا من أمثلة تعليله وتوريثه، قال:
إن استلهام العلوم اللسانية بدأ مع المعري. أكثر أبو العلاء من استخدامه حتى كاد يستعبده الذين جاءوا بعده كما ترى.
وكما اشتهرت نونية الحلي كذلك طار صيت ميمية ابن نباتة لأجل هذا البيت:
وإذا سألتني أيهما أسبق؛ أصفي الدين الحلي أم ابن نباتة؟ قلت لك كلاهما مقصِّر، ولكن الحلي يسبق صاحبه بضع خطوات …
وبعد هذين الشاعرين تظهر في عالم النظم امرأة هي عائشة الباعونية، ولكنها لا تمتُّ بنسب إلى شاعرات العرب، ولولا «بديعيتها» ما كانت تستحق الذكر.
ثم ظهر بعدها شاعر هو ابن معتوق، ففاقها قليلًا وقصر عمن تقدموه كثيرًا، هكذا خلا غاب الأدب العربي من أسده.