الصفة الأشيع
أدار بيدج المحاكاة التي صنعها باستخدام مجموعتين من الأشخاص؛ تهدف المجموعة الأولى منها إلى تمثيل أفضل حلالي المشكلات وأذكاهم؛ سنطلق عليها مجموعة مينسا، فيما تألفت المجموعة الثانية من أشخاص لديهم نطاق واسع من المهارات المختلفة لحل المشكلات، وكان بعض الأشخاص موهوبين، لكن العديد منهم لم يكن كذلك. كان الأمر وكأنه مَرَّ بردهة بجامعة متوسطة المستوى وانتقى كل من يرتدون جوارب بنية. ولكن ما فجر دهشته أن تفوقت المجموعة التي ترتدي «الجوارب البنية» على مجموعة مينسا، وبما أنه لا يمكن توقع أن تتفوق مجموعة عشوائية من علماء الرياضيات على أذكى الأشخاص بمجموعة مينسا، قرر بيدج العبث بالمحاكاة التي صنعها وتغيير القواعد التي يتفاعل على أساسها الأشخاص، إلا أنه حصل على النتيجة نفسها. لكن الشكوك لا تزال تساوره، لذا أعاد كتابة البرنامج بلغة حاسوبية أخرى، ومع ذلك تفوقت المجموعة العشوائية مرارًا وتكرارًا، فأراد بيدج معرفة السبب.
إن ما بدأ كاستراحة قصيرة من الدراسة أثمر مشروعًا بحثيًّا استغرق ما يزيد على عشرة أعوام، وبلغ أوجه عام ٢٠٠٧ بكتاب بعنوان: «الاختلاف: كيف تخلق قوة التنوع مجموعات وشركات ومدارس ومجتمعات أفضل». يطبق كتاب بيدج التدقيق المنطقي والدقة الحسابية على مجال الذكاء الجماعي الآخذ في الازدهار، وفي غضون ذلك أنشأ بيدج إطارَ عمل نظريًّا لتفسير سبب تفوق المجموعات على الخبراء في أغلب الأحيان؛ لماذا يهزم «أصحاب الجوارب البنية» أفراد مجموعة مينسا باستمرار؟ لم يملكْ «أصحاب الجوارب البنية» الموهبة نفسها التي يملكها أفراد مجموعة مينسا، لكن كان لديهم شيء أفضل، وهو التنوع.
شكلت نتائج العديد من مثل هذه التجارب الأساسَ لنظرية «تفوق التنوع على المهارة»، وكتب بيدج أنه، في ظل ظروف معينة، «تتفوق مجموعة مختارة بعشوائية من حلالي المشكلات على مجموعة من أفضل حلالي المشكلات». في قلب فرضية بيدج تكمن ملاحظة أن الأشخاص الذين يملكون مهارة عالية هم مجموعة يتشابه أفرادها في أن العديد منهم قد تدربوا في المؤسسات نفسها، بالإضافة إلى أنهم ينزعون إلى تبني وجهات نظر متشابهة ويطبقون الأساليب أو المناهج التجريبية نفسها لحل المشكلات. إنهم بالطبع أفضل من الجمهور عامةً، ولكن في أشياء قليلة. لا تخضع العديد من المشكلات لمنهج تجريبي واحد، أو حتى مجموعة من المناهج المتشابهة، فهي تقتضي أن يجتمع أصحاب الجوارب البنية — إذا جاز التعبير — ويحاولوا استخدام منهج ليس باستطاعة «أذكى الأشخاص» التفكير في تطبيقه. وكتب بيدج: «إن هذه النظرية ليست كلامًا بلاغيًّا فقط أو طرفة تجريبية رائعة قد تثبت صحتها أو خطؤها بعد عشر سنوات من الآن، ولكنها حقيقة منطقية.»
إن فهم التنوع هو أمر غاية في الأهمية لفهم الذكاء الجماعي، والذكاء الجماعي مكون حيوي بإحدى الفئات الأساسية في تعهيد الأعمال للجماهير؛ وهي محاولة استغلال معرفة العديد من الأشخاص لحل المشكلات أو التنبؤ بالنتائج المستقبلية أو الإسهام في توجيه استراتيجية الشركات. إن الذكاء الجماعي هو نوع الإدراك الجماعي الذي نراه عمليًّا في مستعمرات النمل التي تتصرف وكأنها خلايا في كائن حي واحد، ونراه أيضًا في ممارسة التصويت في الاقتراعات التي تسفر فيها ملايين الاختيارات الفردية عن قرار واحد. درس علماء — من مجالات معرفية تتنوع بين علم الاجتماع وعلم النفس السلوكي وعلوم الحاسب الآلي — هذه الظاهرة منذ الأعوام الأولى من القرن العشرين، لكن ظهور الإنترنت أضفى أهمية جديدة على الذكاء الجماعي، لسبب بسيط وهو أن الإنترنت يَسَّرَ ذلك أكثر من أي شيء آخر على مر التاريخ.
وتأخذ أنواع تعهيد الأعمال للجماهير التي تستخدم الذكاء الجماعي ثلاث صور؛ الأولى سوق التوقعات أو سوق المعلومات، التي يشتري فيها المستثمرون «استثمارات محسوبة بأسعار مستقبلية» مستندين إلى ناتج متوقع على غرار الفائز في السباق الرئاسي أو جائزة الأوسكار لأحسن فيلم. تسير هذه السوق وفق آليات تشبه كثيرًا آليات البورصة؛ إذ يفتح الأفراد حسابات، ثم يشترون ويبيعون الأسهم بالقيمة السوقية الحالية، وإذا اشترى المستثمر أسهمًا (ربما راهن على ممثل غير معروف لنيل جائزة أحسن فيلم) بسعر بخس، يحقق ربحًا طائلًا اذا اتضح صحة توقعه. على سبيل المثال: لا تأتي أفضل رؤية للمستجدات والأحداث المهيمنة على المستوى السياسي في انتخابات الولايات المتحدة لعام ٢٠٠٨ من خلال اقتراع أو الاستعانة بمحلل سياسي، لكن من رسم بياني بموقع مجلة سلايت يوضح السعر النسبي للمرشحين في سوق إنتريد للاستثمارات المستقبلية. (أظهر موقع إنتريد تفوق باراك أوباما على هيلاري كلينتون بعد انتخابات الثلاثاء الكبير التمهيدية للحزب في فبراير (شباط) ٢٠٠٨، أي قبل أسابيع من إظهار الاستفتاءات الوطنية أن فرصه أفضل.) الصورة الثانية هي شبكة حل المشكلات أو البث التدويني الجماهيري؛ إذ يبث أحد الأفراد مشكلته على شبكة ضخمة غير محددة من حلالي المشكلات المحتملين. إن شركة إنوسنتف مثال على ذلك؛ إذ تضم مجموعة من العلماء قوامها ١٤٠٠٠٠ فرد موزعة على فئات تعالج المشكلات الشائكة الخاصة بالبحث والتطوير لأفضل خمسمائة شركة بتصنيف فورتشن. الفئة الثالثة هي «منتديات الأفكار»، وهي في جوهرها جلسات تبادل أفكار ضخمة على الإنترنت تحدث على مدار أسابيع بدلًا من ساعات، وتشبه «منتديات الأفكار» إلى حد بعيد البث التدويني الجماهيري، فيما عدا أن المطالبة بتقديم الاقتراحات تكون بلا نهاية. وبدلًا من محاولة حل مشكلة بعينها، تُسْتَخْدَمُ «منتديات الأفكار» لتوليد أفكار جديدة من أي نوع، وأوضح الناسُ أن هذا أكثر من كونه صندوق اقتراحات فقط على الإنترنت، ورأيهم هذا صحيح حقًّا. لم يجعل الإنترنت تعهيد الأعمال للجماهير ممكنًا فحسب، بل جعله فاعليته أشد كثيرًا.
يضرب تعهيد الأعمال للجماهير بجذوره في أعماق مبدأ جوهري هو المساواة بين البشر؛ إذ يتمتع كل فرد بقدر من المعرفة أو الموهبة سيراه شخص آخر ثمينًا. ومن منظور أوسع نطاقًا، ينطوي تعهيد الأعمال للجماهير على عمل صلة بين الاثنين؛ أي، بمعنى آخر منافٍ للمنطق: يمثل الفرد — بما يملكه من صفات استثنائية — محور تعهيد الأعمال للجماهير. بأسلوب أوضح، نشكل جميعنا المادة الخام للظروف: محل الميلاد والأسرة والجغرافيا والخبرة وغير ذلك الكثير من المتغيرات التي تتحد في تركيبة غريبة ينتج عنها شخص فذ. عندما يستمر التميز في مجموعات كبيرة نطلق عليه التنوع، وهو مصطلح أُثْقِلَ ببعض المعتقدات والتجارب البائسة على مدار عقدين من سياسة الهوية. ولكن بالقدر الذي يتعلق به الأمر بتعهيد الأعمال للجماهير، من الأهمية بمكان الفصل بين «مفهوم» التنوع و«سياسة» التنوع. يكتشف العلماء وأصحاب الأعمال الحرة أن مجموع اختلافاتنا يشكل قوة فعالة للغاية يمكن استخدامها في حل المشكلات، أو تطوير منتجات جديدة، أو ببساطة لجعل العالم — سواء أكان عالم الإنترنت أم العالم الواقعي — مكانًا أروع للعيش فيه. كتب فيلسوف القرن السابع عشر مايكل دي مونتين: «لم يكن في العالم رأيان متشابهان تمامًا كما لا توجد شعرتان أو حبتان متشابهتان، والميزة الأشمل المشتركة بينهما هي التنوع.» وإذا أعدنا صياغة قول مونتين، فسنقول إن الشيء الوحيد المشترك بيننا جميعًا أننا مختلفون تمامًا، وفي عالم شبكة المعلومات، من الممكن أن يكون ذلك أمرًا طيبًا للغاية.
(١) الفارق الذي يصنعه تعديل طفيف
كان هدف الشركة: «تقديم تسلية ممتعة لمجتمع مستخدمي برنامج ماتلاب وتشجيع تبادل التطبيقات السليمة للبرمجة في الوقت ذاته.» كانت مسابقات البرمجة جزءًا من ثقافة عباقرة الحاسب الآلي منذ الأيام الأولى للحوسبة وذلك للسبب الآتي تحديدًا؛ تجعل المسابقاتُ تطويرَ المهارات أمرًا يشبه اللعبة، وبدأت أقسام علوم الحاسب الآلي بالكليات عقد مسابقات عديدة منذ عام ١٩٧٠، وعقدت مباريات غير رسمية قبل ذلك بمدة طويلة. كانت ماثوركس إذن تساهم في تطبيق تقليد عريق.
بدت المسابقة التي اقترحها جَلي للوهلة الأولى عادية للغاية، فالمتسابقون مطالبون بحل ما تشيع تسميته ﺑ «مشكلة البائع المتجول»، النموذج التقليدي للمسابقات الذي يطلب العثور على أقصر طريق ممكن لرحلة ذهاب وعودة يستطيع بائع أن يسلكه خلال قائمة معينة من المدن. يقدم المشاركون حلًّا في صورة منظومة حسابية أو شفرة حاسب آلي ترشد البائع من خلال عدد من الخطوات، وتنتهي المسابقة بعد عشرة أيام. وفي هذه المرحلة يعلن عن الفائز صاحب أكفأ منظومة حسابية.
لكن جَلي أضاف تعديلًا طفيفًا؛ إذ صار من المسموح للمشاركين سرقة شفرة أحدهم الآخر في سبيل التوصل إلى حل أفضل. وفي كل مرة يُرْسَلُ فيها حل جديد، تُوضَعُ سريعًا درجته وتصنيفه ويُنْشَرُ على الموقع، وحينها يمكن لكافة المتسابقين رؤية شفرة البرمجة كاملة، ويمكنهم حينها قص ولصق أفضل أجزائها وإعادة إرسالها بعد إضافة أي تغييرات بصرف النظر عن مدى ثانوية هذه التغييرات. وإذا كانت التعديلات — كما يطلق عليها جَلي — توصلت إلى خوارزم منظومة حلول حسابية أكثر فاعلية، فإنها تدفع بالمتسابق إلى المركز الأول، حتى إن لم يغير سوى بضعة سطور من الشفرة.
يقول جَلي إن النتيجة تشبه بدرجة كبيرة عملية تطوير برمجيات الكمبيوتر ويضيف: «في مكتب يكتظ بمبرمجي الكمبيوتر، إذا حل شخص مشكلة، فسيتجمع جميع الأفراد حوله لمعرفة كيف فعل ذلك، ويفهمون ماذا فعل ثم يدخلونه في الشفرة الخاصة بهم. هناك أسطورة شائعة عن توماس إديسون في ثقافتنا وهي أن الشخص الذكي فقط هو الذي سيستطيع إخراجنا من هذه المشكلة، ويتوصل إلى الحل العبقري.» ولكن الحقيقة هي أن معظم الاكتشافات العظيمة تأتي ثمرة للعمل الجماعي، وأردف جَلي قائلًا: «أردت عمل مسابقة تجسد الطريقة التي تدور بها الأفكار حول العالم.» على سبيل التوضيح فإن مسابقة ماتلاب ليست من أمثلة تعهيد الأعمال للجماهير بقدر ما هي مثال توضيحي على المبادئ التي تجعل من تعهيد الأعمال للجماهير غايةً في الفاعلية. إنها في هذا المثال تشبه تجارب بيدج مع الأشخاص الافتراضيين أكثر من كونها تشبه منهج توب كودر الخاص بتطوير البرامج، الذي يستخدم بالطبع الجمهور في تصميم منتجات حقيقية.
ألهم تشجيع مستخدمي ماتلاب على سرقة الشفرات بغير تحفظ المتسابقين الوصول إلى مستويات متزايدة الروعة من بذل الجهود لا من انتشار العدائية بينهم. بعث ناثان، وهو متسابق من أيرلندا، برسالة إلى جَلي مفادها أنه أصيب «برعشة بدنية أثناء التحضيرات النهائية لإرسال الشفرة.» المتسابقون الأشد تفانيًّا يجعلون المسابقة أهم أولوياتهم في العطلات، حتى إنهم يتغيبون عن حضور الدروس أو يأخذون إجازات مرضية في سباق الوصول إلى المرتبة الأولى. يطلق جَلي على مسابقة ماتلاب: «التعاون الإدماني»، وهو تكرار رائع لوصف جاك هيوز لتجربة توب كودر ﺑ «التعاون التنافسي».
يقول جَلي: «سيمضي أحد المبرمجين ليلته في ابتكار منظومة حلول حسابية عبقرية تجعله في الصدارة، ثم يأتي شخص آخر ويضيف تعديلًا طفيفًا، ثم «يحتل» المرتبة الأولى، ويكون لسان حال المبرمج الأول: «يا له من حقير! لقد أطاح بي عن طريق نسخ شفرتي!» لذا يضيف المبرمج الأول تعديلًا آخر في سبيل استعادة الصدارة.» والهدف الجوهري كما يقول جَلي ليس الفوز، بل التوصل إلى تعديل رائع يبهر المتنافسين الآخرين، ويوضح قائلًا: «الأمر يشبه نظامًا خفيًّا لتقييم الأداء بالدرجات يقوم على السمعة.»
لكن الجانب الفريد بمسابقة ماتلاب ليس في الحماسة التي تلهمها المسابقة، بل في حقيقة أن المسابقة التي تمتد عشرة أيام من الهرج والمرج — التي يلقى خلالها بحقوق الملكية الفكرية في ميدان عام لاستخدامها وإعادة استخدامها كما يشاء الفرد — اتضح أنها منهج شديد الفاعلية لحل المشكلات. كانت تُعْقَدُ المسابقة مرتين سنويًّا منذ تأسيسها عام ١٩٩٩، ويشير جَلي أن أفضل منظومة حسابية تتفوق في نهاية فترة انعقاد المسابقة على أفضل منظومة اختيرت في اليوم الأول بعشرة آلاف مرة في المتوسط.
هنا تحديدًا يبدو أن الممارسة تتفوق على النظرية بمراحل. ولكن كيف يمكننا تفسير هذا التفوق الهائل؟ من الواضح أن وجود جمهور الإنترنت قد أفاد كثيرًا؛ إذ استطاع العديد من المبرمجين الأذكياء إيجاد حلول أفضل من أي حل استطاع أي فرد من بينهم تقديمه. ومن الواضح أيضًا أن كل تبادل حرٍّ للأفكار دعم العملية؛ إذ إنه عزز بيئة تعاونية يمكن في إطارها تعديل الأفكار الجيدة إلى أفكار أفضل، لكن لا يفسر أيٌّ مما سبق المنحنى الطرديَّ الذي سلكته بالتتابع المنظومات الحسابية التي تزيد فاعلية كل منها على سابقاتها. إن اللافت للنظر في الأمر أن أفضل المبرمجين ليسوا بالضرورة الأشخاص الذين يقدمون الإسهامات الأعلى قيمة، فغالبًا ما يقدم المبتدئون تعديلًا غاية في الأهمية يؤدي إلى تقدم في المعرفة، أو كما صاغ جَلي الفكرة: «أحيانًا ما يشترك فتية الشفرات» — وهو تعبير عامي في مجتمع الإنترنت يُقْصَدُ به عديمو الخبرة في مجال اختراق الحواسيب الذين يكونون عادة من اليافعين — «ويضيفون تعديلًا طفيفًا يذهل العقول، بما في ذلك عقول العباقرة.»
(٢) التنوع والسوق
إن أبرز ما نذكره لعالم الاقتصاد إف إيه هايك — وليس بالضرورة بإعزاز شديد — هو وضع النظريات التي هيمنت على سياسات السوق الحرة الخاصة بمارجريت تاتشر ورونالد ريجان. كان هايك — الذي ولد في فيينا بدايات القرن العشرين — عالمًا اقتصاديًّا ذا صيت شديد الذيوع حينما وصل هتلر وستالين إلى السلطة. أيد هايك بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وجهة نظر جد خطيرة عن الاقتصاديات المخططة التي يستخدمها كل من الدولة النازية والسوفيتية في ذلك الحين؛ فقد آمن هايك أن السوق كان آلية عالية الكفاءة، وقدرته على تنسيق النشاط الاقتصادي تتدهور فقط بقدر ما يحاول أي فرد أو خبير التدخل فيه. بذل هايك شأنه شأن أي عالم اقتصادي معاصر جهدًا وفيرًا للدفاع عن نظرية آدم سميث الشهيرة «اليد الخفية»، وفي عام ١٩٧٤ حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لأسباب ترجع جزئيًّا إلى أبحاثه في هذا الموضوع. ولمَّا كان لدى هايك أصدقاء مثل تاتشر وريجان، فقد كان له الكثير من الأعداء، إلا أن الجدال المثار حوله نزع إلى التقليل من شأن النطاق الواسع لإسهاماته.
«من الممكن أن يمتلك كل فرد في المجتمع جزءًا ضئيلًا من المعرفة التي يمتلكها الجميع، ومن ثم سيكون كل فرد جاهلًا بمعظم الحقائق التي ترتكز عليها آلية عمل المجتمع … ترتكز الحضارة على حقيقة أننا جميعًا نستفيد من المعرفة التي لا نمتلكها، ومن بين السبل التي تساعدنا بها الحضارة على التغلب على ذلك القيد المفروض على مقدار المعرفة المادية أن نقهر الجهل، لا بأن نحصل على مزيد من المعرفة بل عن طريق الاستفادة من المعرفة التي تظل متناثرة على نحو واسع النطاق بين الأفراد.»
كتب هايك هذا البحث قبل ظهور الإنترنت، الذي أثبت قدرًا من الكفاءة في جمع المعلومات المتناثرة على نطاق واسع واستغلالها استغلالًا أكبر مما تصور هايك. قد تكون مسابقات ماتلاب بقدر كبير ممارسة تحاول برهنة صحة ملاحظة هايك الرئيسية وهي أننا قد يكون لدينا بالفعل حلول لأعقد معضلاتنا، وأن المهمة الماثلة أمامنا هي ببساطة جمع كافة المعلومات في مخزن رئيسي. ليست بمصادفة أن يتبنى جَلي لغة هايك الاقتصادية عندما يتحدث عن التصميم المفتوح لمسابقة ماتلاب كطريقة «تحفز الأفراد للحصول على المعلومات الخاصة بعضهم من بعض.»
من الممكن أن تصف الرسوم البيانية التي وضعها جَلي مسار التطور في أنواع الحيوانات بالسهولة نفسها. إن الطفرة الوراثية لا تتبع منحنى خطيًّا كذلك، لكنها تتميز بدلًا من ذلك بالطفرات الكبيرة والتعديلات الضئيلة، وهي ملاحظة محورية في نظرية «التوازن المتقطع» التي وضعها عالما الأحياء النشوئيان ستيفن جاي جولد ونايلز إلدريدج. يدرك جَلي المتوازيات ويؤمن — استنادًا إلى بعض الدلائل المقنعة — أن بياناته حول مسابقة ماتلاب قد تكشف عن حقيقة أعمق تتعلق بكيفية حدوث التقدم من الناحية الاجتماعية وكذلك البيولوجية. «لقد تعلمنا قراءة للتاريخ يكون فيها رجال عظماء — مثل نابليون — أبطال العمل الوحيدين، لكن الواقع أعقد وينطوي على تفاعل معقد بين هؤلاء الذين يصنعون الطفرات وهؤلاء الذين يصنعون التغييرات الطفيفة.» يحتاج التاريخ إلى أن تنضم خدمات فتية الشفرات — أصحاب الجوارب البنية — وتُوَظَّفَ وجهةُ نظرهم الفريدة لإعادة توجيه الجميع إلى وجهة نظر جديدة.
«لدينا مشتركون أذكياء حقًّا، سيصنع أحدهم تطورًا عظيمًا، كان من الممكن أن يكون وحده أفضل حل في مسابقة تقليدية قديمة. لأنهم عباقرة فحسب. لكن في إطار مسابقة ماتلاب، يستطيع الأشخاص في الحال الانضمام وإضافة تعديل طفيف. لا يستطيع فرد وحده فعل ذلك، إنها قوة الحشود، هذا العقل الجماعي العظيم الذي نستطيع الوصول إليه. ما سيكون مذهلًا حقًّا أن نستطيع استغلال هذا العقل في العثور على دواء للسرطان.»
(٣) عندما لا تكون الجماهير جماهيرًا
إن التنوع أمر حيوي لتعزيز الذكاء الجماعي الذي يظهر في نماذج على غرار مسابقة ماتلاب، لكن وجود التنوع ليس كافيًا، فلا بد من الحفاظ عليه أيضًا. حينما يجتمع عدد كاف من الأشخاص معًا — ليكن في حانة أو غرفة دردشة — وتبدأ آلية غامضة في التحرك بينهم، إما أن يبرز الناس اختلافاتهم وينقسموا إلى معسكرين متقابلين، أو يقللوا من شأن اختلافاتهم كافة في سبيل التوصل إلى اتفاق جماعي. يكون لكلتا الظاهرتين التأثير النهائي نفسه: يتقلص التنوع بين الأشخاص. تطور الإنسان عبر آلاف السنين إلى مخلوق اجتماعي رفيع. وفي العديد من الظروف، كانت قدرتنا على التوصل إلى اتفاق ودي تقود إما إلى الحياة أو الموت: «هناك ماموث يهاجمنا، هل ينبغي أن نركض أم نغرس رماحنا في جسده؟» لكن عندما يدخل الذكاء الجماعي في الأمر، كما هو كذلك في نماذج تعهيد الأعمال للجماهير على غرار أسواق المعلومات وشبكات حل المشكلات، يصبح الاتفاق الجماعي عامل إعاقة.
في واقع الأمر ليس هناك شيء سحري في حكمة الجماهير، والمصطلح نفسه مضلل قليلًا. في هذه الأمثلة لم تكن الجماهير حكيمة أو حتى أدت دور الجماهير في حد ذاته. يشير مصطلح «الجماهير» إلى مجموعة من الناس تؤدي كوحدة واحدة، كما في «اقتحمت الجماهير الحاجز وانقضت على المؤلف في هيستيريا». حسنًا، عادة لا يلهم المؤلفون الناس إلهامًا يجعلهم يفقدون صوابهم من الإعجاب، لكنك استوعبت الفكرة. إن تعريف كلمة «الجماهير» هو «مجموعة من الأشخاص المتحدين معًا تجمع بينهم صفة مشتركة.» على النقيض من ذلك، يتقلص الذكاء الجماعي مع وجود صفات مشتركة أكثر من اللازم، ويزدهر في تناسب مباشر مع مقدار التنوع الموجود بين مجموعة من الأفراد وقدرتهم على التعبير عن وجهات نظرهم الفردية. إذن كي يتسم الجمهور بالحكمة، لا يمكن أن يتصرف كجمهور على الإطلاق.
هناك شروط أخرى يجب الوفاء بها كي يتفوق التنوع على المهارة؛ أولًا: يجب أن تكون المشكلة شديدة التعقيد، فلا أحد يحتاج إلى مجموعة متنوعة من الأفراد لمساعدته في مشكلات تافهة. ثانيًا: لا بد أن يتمتع الجمهور ببعض المؤهلات التي تؤهله لحل المشكلة المطروحة، فمن غير المتوقع أن تتفوق مجموعة عشوائية من المسافرين بمترو الأنفاق على مجموعة من مهندسين نوويين في تصميم مفاعل نووي أكفأ، حتى إن مجموعة بيدج التي اختارها «ذات الجوارب البنية» كانت من ردهة في كلية، وليس من دليل الهاتف. لا بد أيضًا من وجود وسيلة ما لتجميع ومعالجة مساهمة كل فرد، على غرار محرك تسجيل الدرجات والتصنيف الخاص بمسابقة ماتلاب. لكن في النهاية، لا بد أن يُنتقَى المشاركون من بين مجموعة كبيرة من الناس لضمان وجود نسق متنوع من المناهج، ولا يجب إعاقة قدرتهم على التعبير عن شخصيتهم الفردية؛ أي «معرفتهم المحلية».
وبعد وضع كل ما سبق في الاعتبار، لنناقش ثانية بعضًا من تلك الأمثلة التي بدت للوهلة الأولى شديدة التنافي مع المنطق. لنأخذ حالة برطمان الجيلي. ستختلف أي مجموعة عشوائية من الطلاب تمامًا حتى إنها ستستخدم مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لحل المسألة. في هذه الحالة، تكون آلية التجميع هي ببساطة قدرة المعلم على جمع كافة التقديرات وحساب متوسطها، لكن هناك أمرًا حاسمًا وهو أنه يُطْلَبُ من التلاميذ تدوين تخميناتهم دون استشارة زملائهم؛ ومن ثم يصبحون قادرين على التفكير والتصرف باستقلالية. (لا يتشاور المتنافسون بمسابقة ماتلاب التي وضعها جَلي كثيرًا، لأن بعضهم يسرق من بعض، وعزلتهم النسبية تتيح لهم الحفاظ على تنوعهم.)
يبدو هذا الأمر مبهرًا حقًّا، فالجمهور أفضل كثيرًا مما يقوم به أفضل المتسابقين، ويبدو أن هذا يقدم دلائل وفيرة على أن المجموعة أذكى من أذكى أفرادها، لكنها في الواقع عملية حسابية من أبسط ما يكون، توضح أنه حتى إذا عرف عدد ضئيل من الأفراد الإجابة الصحيحة، فستتنبأ المجموعة نفسها بالإجابة بدقة. كتب بيدج أن ذلك سببه أن «الإجابات الخاطئة يستبعد بعضها بعضًا، والإجابات الصحيحة تطفو على السطح كالقشدة.» يمكن توضيح ذلك بسهولة، فعلى سبيل المثال: إذا استخدمنا مثالًا واقعيًّا من البرنامج، لنقل إن السؤال المطروح أمام الجمهور هو هل شيرباس وجورخاس مواطنان بدولة: (أ) نيبال. (ب) المغرب. (ﺟ) إكوادور. (د) روسيا. إذا كان أربعة في المائة فقط من الجمهور يعرف الإجابة الصحيحة وهي (أ) نيبال، يمكن توقع أن باقي الجمهور يستطيع التخمين عشوائيًّا بين الأربع إجابات. والنتيجة هي ٢٤ في المائة من الجمهور سيخمن المغرب و٢٤ سيخمن الإكوادور، و٢٤ سيخمن روسيا، لكن ٢٨ في المائة سيخمن نيبال.
هناك فارق ضخم بالطبع بين تخمين إجابات أسئلة تافهة وتطوير منظومة حل حسابية، فالأخيرة ليست فقط عملية هائلة، بل تفوق الوصف في صعوبتها، لكن الظروف نفسها — التنوع والظروف المواتية التي نعبر في إطارها عن التنوع — حاضرة في المثالين السابقين.
قد تبدو مسابقة ماتلاب في ظاهرها أنها تجذب المبرمجين من مجموعة مينسا في الغالب، بعبارة أخرى، تجذب لحل تلك المسائل مجموعةً اختارت نفسها وفقًا لكفاءتها. من ناحية أخرى، يُخْتَار الجمهور الذي يحضر البرنامج بالاستديو عشوائيًّا. ومن الصحيح بالطبع أن عددًا من أكثر المبرمجين موهبة بماتلاب يشاركون في المسابقة، ومع ذلك تعلم أفضل المبرمجين وربما جميعهم الحيل والاختصارات نفسها على مدار أعوام من استخدام لغة الحاسب الآلي الخاصة بماتلاب، لكن المبرمجين ممن يفتقرون إلى الخبرة — الغرباء عن المجال الذين توصلوا إلى اختصاراتهم الخاصة بهم — هم من أتاح وجود الطفرات المعرفية الكبيرة التي سمحت للحل الفائز بإدخال تطويرات هائلة على الحل المبدئي. إذا فكر العباقرة بالطريقة نفسها — وفي العديد من الحالات يفعلون ذلك — فهم يشكلون إذن عقلًا واحدًا، أو كما صاغها بيدج: «عقلان ليسا أفضل من عقل واحد عندما يكونان في الواقع عقلًا واحدًا.» تنتج مجموعة متنوعة من حلالي المشكلات العديد من المناهج لحل المشكلة، لكن كيف يطبقون ذلك على مشكلات واقعية أكثر تعقيدًا من توجيه بائع متجول عبر مجموعة من المدن؟ هذا هو موضوع الفصل القادم.