إبداعات الجمهور
إن الأنشطة التي يتألف منها تعهيد الأعمال للجماهير متنوعة كتنوع الجماهير نفسها، فعندما يبحث محامي براءات اختراع في موقع شركة إنوسنتف عن تحديات في الكيمياء يمكنه التعامل معها في معمله المنزلي البسيط، فهذا ما يسمى تعهيد الأعمال للجماهير. وعندما يصحح شخص خطأً إملائيًّا على الويكيبديا، أو يضع فيديو على اليوتيوب، أو يقترح تعديلًا على مؤلف (مثلي) نشر أجزاء من كتابه على الإنترنت، فإن هذا كله تعهيد أعمال للجماهير. بقدر ما تسيطر المفاهيم المعروفة على العديد من أوجه النشاط الإنساني، يغطي تعهيد الأعمال للجماهير مجالات متعددة للغاية؛ فمثلما تستغل أسواقُ التوقعات العقلَ الجماعي لانتزاع حلول جديدة، يمكن أن يستغل شكل آخر من تعهيد الأعمال للجماهير الطاقات الإبداعية لدى الناس وهي المورد الذي يثبت أنه دائم الإبداع والابتكار بقدر ما هو متجدد بلا نهاية.
تقع ثمرة هذه الطاقة الإبداعية في نطاق ذلك المسمى الواسع وهو المحتوى الذي ينتجه المستخدم، وهو المجال الآخذ في الانتشار بسرعة هائلة في الأعوام الأخيرة. إن تعهيد الأعمال للجماهير ليس مرادفًا للمحتوى الذي ينتجه المستخدم لكنه غالبًا ينطوي على الاستعانة بهذا المحتوى. ويحمل هذا المحتوى الوصمة المشئومة بكونه من إنتاج الهواة، أو بأنه يتسم بالتفاهة، أو بكلا الأمرين، وهناك سبب لذلك وهو أن معظم هذا المحتوى كذلك بالفعل.
في وقت ما في الماضي اعْتُبِرَتْ كل الجوانب الثقافية تقريبًا «محتوى ينتجه المستخدم»، وأشرت في موضع سابق إلى أن العديد من أعظم الإنجازات الفنية والعلمية تحققت على أيدي أشخاص نطلق عليهم الآن هواة، بيد أن هذه الملاحظة تقلل من الإسهامات التي قدمها من طواهم النسيان من شعراء غير متفرغين ورسامين يعملون في العطلات الأسبوعية وقدموا أعمالًا مجيدة — مع أنها اختفت سريعًا عن الساحة في النهاية — حظيت بالتقدير في عصرهم، حتى وإن كان من قدرها دائرة المعارف المقربة منهم.
قبل بدء عصر النسخ الشامل؛ وهو العصر الذي أطلق فيه التصوير الفوتوغرافي والأفلام والفونوغراف والراديو عملية واسعة النطاق لتحويل الإنتاج الثقافي إلى سلع، كان هناك اختلاف أقل كثيرًا بين الجمهور والمبدع. اتسمت القرون التي سبقت الثورة الصناعية بعلاقات أعقد وقدر أكبر من التفاعلية بين المبدعين وجمهورهم؛ فكانت المؤلفات الموسيقية الجديدة تُوَزَّعُ في صورة نوتات موسيقية يتسنى عزفها بعد ذلك وفقًا للتفضيل المحلي والأهواء الشخصية. وفي المجتمع الذي كان لا يزال زراعيًّا إلى حد بعيد، أخذت وسائل التسلية الشعبية في العصر الفكتوري أشكال المسارح المحلية والعظات الكنسية وحفلات الرقص أيام السبت، إلى جانب كافة أشكال فقرات تسلية الضيوف. كان الترفيه في ذلك الوقت، شأنًا خاصًّا بعائلة أو عشيرة — أو بإقليم ما على أقصى تقدير — يتولاه أشخاص يرفه بعضهم عن بعض، وكان يوجد عدد ضئيل للغاية من المنتجات الثقافية التي يمكن أن نصفها بأنها «أعمال ناجحة» بمعايير اليوم.
تغير هذا الأمر تغيرًا سريعًا ومثيرًا مع ظهور التقنيات الحديثة على غرار الفونوغراف والراديو والسينما. تطلب الإنتاج والتوزيع الثقافي واسعا النطاق شكلًا أكثر سلبية من أشكال الاستهلاك، كذا ظهر تقسيم بين المنتجين للثقافة ومستهلكيها. ومن وجهة النظر التاريخية هذه، فإن النمو الهائل في المحتوى الذي ينتجه المستخدم ليس ظاهرةً جديدةً بقدر ما هو إشارة إلى أن الحافز إلى التفاعل الهادف مع وسائلنا الإعلامية — أي المشاركة في إنشائها — لم يتلاش قط. لقد خلق الإنترنت — الذي تعزز بنيتُه اللامركزيةَ — حيزًا طبيعيًّا لظهور منهج قائم على المشاركة في الإنتاج الإعلامي واستهلاكه. ولا شك أن اللون الأدبي المزدهر المسمى «القصص الجماهيري» على الإنترنت — الذي يضع فيه القراء حبكات روائية جديدة لكل شيء بدءًا من فيلم «ستار تريك» إلى «هاري بوتر» — ليس سوى مظهر جديد للقص الشفهي التقليدي عتيق الطراز، الذي تتغير فيه القصة مع كل راوٍ لها.
قبل ظهور الشبكة العنكبوتية العالمية في أوائل التسعينيات بوقت طويل، أخذ الإنترنت صورة وسيلة اتصال بين مجموعات، في البداية من خلال البريد الإلكتروني، ثم من خلال مجموعات المناقشة العمومية غير المركزية المعروفة باسم «يوزنت»، التي كانت عبارة عن برامج محادثة نصية بسيطة لكافة أنواع منتديات المناقشة التي يمكن أن يجدها الفرد في أي موقع اجتماعي تقريبًا أو في مواقع على غرار مجموعات الياهو. وبطبيعة الحال كان أول من استخدم الشبكة هؤلاء الأشخاص الملمون بشبكات الإنترنت، لذا اتبعت المواقع الإلكترونية الأولى نموذجًا متشابهًا، قدَّر مجددًا الإسهامات الفردية حق قدرها؛ حتى وإن تضمنت — كما هو الحال اليوم — آراء مبالغًا فيها عامةً. وعلى شبكة الإنترنت، تحتل المدونة التي تسجل أقل عدد زيارات وأضخم موقع تسويقي لشركة ما المكانة الثقافية نفسها؛ فكلاهما على بعد نقرة واحدة منك.
يحمل تعهيد الأعمال للجماهير في طياته ما هو أكثر من استراتيجية فعالة لخفض التكاليف؛ إذ يحمل إمكانية توليد اقتصاد لا نصنف فيه جميعًا رغم أنفنا في فئات معينة مسبقًا، بحيث لا يتجه الطلاب ممن يحققون درجات عالية في الرياضيات إلى كليات الهندسة ولا تجد الطالبات اللواتي يطرحن مناهج خيالية في مشروعاتهن العلمية من يشجعهن بسرور على التركيز على مجال الإنسانيات. في صيف عام ٢٠٠٦ أمضيت بضعة أيام في التجول مع مهرجان البانك روك المتجول المعروف بالواربت تُور، وهو ليس فقط نمطًا من أنماط ثقافة الأقلية؛ إذ يحضر حفلات الواربت تور ما يقرب من مليون شخص كل عام، وهو عدد ضخم للغاية يؤكد أنها أكثر من مجرد مناسبة لعرض موسيقى لفرق الروك غير المعروفة على نطاق واسع؛ حيث تقدم حفلات الواربت تور مجالًا لتجارة ثقافية صاخبة تأتي من داخل الأكشاك والخيم المنصوبة حول أطراف المسارح نفسها. ووضع العديد من العازفين هنا أيضًا كتبًا في الشعر أو أداروا محلات صغيرة لرسم الوشم، أو مواقع إلكترونية. بيت القصيد هنا أن هؤلاء الشباب لم يشعروا بحاجة إلى وصف أنفسهم بأنهم ممارسون حرفة بعينها بالمعنى المتعارف عليه، ولكنهم فعلوا تلك الأشياء لأنها جذبتهم.
يعتمد تعهيد الأعمال للجماهير على استثناءات لهذه القاعدة، فأعطِ كاميرا لمائة شخص وستحصل على تسعة وتسعين لقطة مهتزة وصورة واحدة رائعة أو — بتعبير مرتبط أكثر بالسياق — يمكن بيعها. إن جوهر تعهيد مثل هذا العمل الإبداعي للجماهير يكمن في تمييز الرائع من العادي.
تختلف آليات محتوى تعهيد الأعمال للجماهير كثيرًا عن تلك التي تعتمد على الذكاء الجماعي. وفي سياق سوق توقعات أو شبكة بث تدويني للجماهير، فإن المهمة هي جمع معلومات متناثرة على نطاق واسع واستغلالها بطريقة جيدة، وهذا يطرح مجموعة التحديات المرتبطة به؛ إذ لا بد من أن يتسم الجمهور بالتنوع وأن يكون ملمًّا رسميًا بالمجال ذي الصلة، سواء أكان العلوم أم البورصة. لكن، بصفة عامة، الجمهور يجب ألا يتفاعل بعضه مع بعض، ففي واقع الأمر اكتشفت شركة ماركيتوكراسي أن التفاعل يؤدي إلى التشاور الذي يقلل بدوره من تنوع الأفكار الذي يزدهر من خلاله الذكاء الجماعي.
وعلى النقيض من ذلك، ينطوي تعهيد العمل الإبداعي إلى الجماهير عادة على تعزيز مجتمع قوي قوامه أشخاص يتسمون بالتزام عميق ودائم تجاه حرفتهم، والأهم من ذلك، أحدهم تجاه الآخر. ونظرًا لأن تعهيد الأعمال للجماهير يتحاشى الصور التقليدية للمقابل المالي — القاعدة أن المكافآت المالية تكون صورية أو لا توجد مكافآت من الأصل — فإن البيئة الاجتماعية توفر للإنتاج الإبداعي سياقًا يحمل فيه العمل نفسه أهمية، وتؤدي أفضل الأفكار — بصرف النظر عن الوسيلة التي يتم التعبير بها عنها — إلى تحقيق مكانة معززة لهؤلاء المبدعين، أما الأفكار الأخرى فتناضل من أجل الوصول إلى أو تجاوز معيار وضعه أكثر الأشخاص موهبة بين نظرائهم، وهو اتجاهٌ يزيد بشدة الجودةَ العامة للعمل الذي ينتجه المجتمع. ليس من المصادفة أيضًا أن جزءًا كبيرًا من التفاعل بين أفراد المجتمع يتمحور حول تحسين مهاراتهم؛ فالناس يحبون التعلم وتعليم الآخرين، كما يملك المجتمع قدرة لا تخطئ على تحديد الأفراد الأكثر موهبة بالمجتمع وتسليط الضوء على أعمالهم، ودون أداة الترشيح الفعلية هذه، تقع مهمة تصنيف الصالح والطالح على عاتق الشركة التي تعهد بالأعمال إلى الجماهير. وفي ضوء الكم الهائل من المرسلات التي تتسم بها مشروعات تعهيد الأعمال للجماهير، عادةً يمثل هذا عبئًا ثقيلًا بدرجة يصعب تحملها. ولكن في النهاية فإن العمل — حتى الذي نستمتع بالقيام به — يصبح أمتع في صحبة أصحاب الميول المشتركة.
إن حوافز تبني تعهيد الأعمال للجماهير جلية أمام الشركات، ومن أفضل مميزات تعهيد الأعمال أنه يقدم أيدي عاملة متفانية ستؤدي المهام الرئيسية — على غرار التحقيق في الأعمال غير المشروعة للحكومة في حالة قراء صحيفة نيوز برس بمدينة فورت مايرز، أو إبداع تصميمات جديدة للتي شيرتات بموقع شركة ثريدلس — بتكلفة ضئيلة أو دون تكلفة.
لكن تعهيد الأعمال للجماهير ليس سهل المنال؛ فمن الصعب تكوين مجتمعات والأصعب منه الحفاظ عليها، ويتطلب الأمر وجود مديرين للتفكير في سبل تسير في عكس اتجاه عقود من بروتوكولات التجارة المعتادة. فبدلًا من تقديم مقابل مالي، سيحتاج الناس إلى الشعور بملكيتهم لما يقدمونه من إسهامات، ويقتضى هذا الأمر في الغالب أن تتبنى الشركة منهجًا أقل تقييدًا فيما يتعلق بالملكية الفكرية، إما من خلال تقديم اتفاقيات اقتسام الأتعاب الأدبية أو التخلي عن حقوقها في ذلك العمل برمته. يتنامى لدى أفراد المجتمع حس ملكية نحو الشركة نفسها، وهذا يعني فتح عملية صنع القرار أمامهم، وهي ضريبة مريرة لأي شركة تعمل في إطار بيئة عالية التنافسية، مع ذلك فهذا هو السبيل الوحيد. إن المجتمعات لا يمكن توجيهها بل يمكن إرشادها فحسب، ولن يرضى المشاركون بشيء سوى الشفافية المطلقة؛ فالصدق يولد الثقة، لكن إذا تسلل إليهم أي شعور بأنهم يتعرضون للتسخير أو الاستغلال فسيؤدي ذلك إلى انصرافهم إلى موقع آخر تديره جهة منافسة على الأرجح.
عندما تدرك الشركة الأمر على النحو الصحيح وتعمل في انسجام وتآلف مع مجتمعها الإلكتروني، يمكن أن تكون النتيجة نمطًا إنتاجيًّا فعالًا للغاية (ومنخفض التكلفة). لم تكن آي ستوك فوتو قادرة فحسب على تقديم أسعار أقل من منافسيها بنسبة تسعة وتسعين في المائة، بل عززت أيضًا مجتمعًا ضخمًا ونشطًا ومتحمسًا من الفنانين لديه القدرة على تجديد نفسه دائمًا وتطوير نفسه باستمرار، مما يزود شركة آي ستوك فوتو بمنتجات أفضل باستمرار دون أي تكلفة إضافية على الشركة. وعلى الرغم من تقاضي أفراد الشركة مبالغ ضئيلة، يرون أنهم يُعَوَّضُون جيدًا، وإن يكن من خلال مكافآت معنوية كتعلمهم من الأفراد الأعلى خبرة وتكوين صداقات جديدة. لم تغير آي ستوك فحسب من المجال، بل ابتكرت مجالًا جديدًا في مسعاها لتحقيق هذا الإنجاز غير المسبوق.
(١) تحذير من خطر قادم
هناك قصة يحب الناس روايتها عن بروس ليفنجستون؛ ففي أواخر عام ٢٠٠٥ كانت شركة جيتي إيميدجز — أكبر وكالة تصوير في العالم — تتطلع إلى الاستحواذ على شركة ليفنجستون؛ آي ستوك فوتو، لكن قبل إعداد العقود بفترة طويلة، رسم ليفنجستون شعار شركة جيتي على رسغه، ليظهر التزامه بالصفقة، ثم أرسل خطابًا إلكترونيًّا إلى الرئيس التنفيذي لشركة جيتي، جوناثان كلاين مرفقًا به صورًا للوشم مع رسالة مفادها: «لا تجعلني أكتب كلمة أخرى بعد هذه!»
هذه القصة ترمز إلى الإصرار والثبات مع القدر المناسب تمامًا من غرابة الأطوار، وهي من نوع القصص التي تميل إلى صقل شهرة موضوعها. وفي حالة ليفنجستون تتمتع القصة بالقيمة المضافة وهي أنها صحيحة على نحو يمكن إثباته.
في ضوء ولع ليفنجستون بالسيارات الرياضية الفارهة وتصفيفة روكابيلي والوشم، أميل إلى قول إن ليفنجستون لا يمكن أن يكون رئيسًا تنفيذيًّا، لكنني أفضل النظر إليه كرئيس ملائم تمامًا لشركة في عام ٢٠٢٠؛ شركة لا تختلف عن ستوك فوتو. لا يعمل في مقر شركة آي ستوك فوتو — وهو عبارة عن غرفة منفردة ورحبة داخل مصنع سابق في وسط مدينة كالجاري بمقاطعة ألبيرتا بكندا — سوى جزء ضئيل من الأيدي العاملة الفعلية بالشركة، ويجلس ليفنجستون، الذي يرتدي تي شيرت وبنطالًا من الجينز، على مكتب — اختاره عشوائيًّا على ما يبدو — في وسط الغرفة. يبدو أن المكاتب التي تحتل الأماكن المتميزة تفقد أهميتها في شركة تستمد نجاحها من اللامركزية.
شيد ويستييل روسكو المصنع عام ١٩٢٥ لصناعة المسامير والبراغي وغير ذلك من أجزاء المعدات. وعلى العكس من ويستييل روسكو، لا تُصنع منتجات آي ستوك — الصور الجاهزة والرسوم التوضيحية ومقاطع الفيديو — في المصنع، بل تبتدعها أيد عاملة عالمية ومرنة قوامها خمسون ألف مصور فوتوغرافي وفنان يعملون بدوام جزئي، يحقق ما يقل عن عشرة في المائة منهم مكاسب من آي ستوك كفيلة بتلبية احتياجاتهم. ومع ذلك لديهم تفان للشركة مقارنة بقليل من الشركات التقليدية، ويلعب أفراد فريق العمل الذين يعملون بدوام كامل داخل مصنع ويستييل العتيق دورًا ثانويًّا للمجتمع الإلكتروني — وكلمة «مجتمع» هي الكلمة الوحيدة المناسبة — الذي يصنع المنتج الذي تطرحه آي ستوك يوميًّا في السوق. كذلك كان ذلك المجتمع — يطلق أفراده على أنفسهم مواطني آي ستوك — ذا نفع للغاية لليفنجستون ومستثمريه. ومنذ نشأتها والشركة تحقق نموًّا مضاعفًا بمعدل شهري تقريبًا، وعندما اشترت شركةُ جيتي شركةَ آي ستوك في أوائل عام ٢٠٠٦ حصل ليفنجستون على ما يزيد عن نصف الخمسين مليون دولار التي دفعتها جيتي مقابل الشركة.
تأسست أول وكالة للصور الجاهزة عام ١٩٢٠، وطيلة أغلب فترات القرن العشرين كان المجال شيئًا أُعِيدَ التفكير فيه، يعتمد على المتاجرة في الصور المحذوفة من المجلات التجارية، وكان يحاول عدد محدود للغاية من المصورين الفوتوغرافيين كسب قوت يومهم من سوق الصور الموجودة مسبقًا وحده. لكن هذا الأمر تغير بعد أن أدت ثورة النشر المكتبي في منتصف الثمانينيات إلى نمو سريع في مجال النشر، وإلى طلب كبير على الصور. وفجأة بدأ المصورون يحققون مكاسب كبيرة سنويًّا من بيع الصور التي تلقوا أجرًا بالفعل على التقاطها، وبدا الأمر يسيرًا وكأنه مجرد إعادة إنتاج للصور. ومع ذلك ظلت الصور الجاهزة، من حيث المقارنة، مجالًا محدودًا؛ إذ يقدر الإجمالي السنوي العالمي للتجارة بأكملها بحوالي ٢ مليار، وهذا ما يجعله أكبر قليلًا من سوق سلات الهدايا، لكن أصغر قليلًا من المبيعات السنوية لأزهار الأوركيد.
في غضون بضع سنوات فحسب قلب تدفق الهواة الموهوبين المدعومين بكاميرات رقمية عالية الدقة ورخيصة الثمن اقتصاديات المجال رأسًا على عقب. في عام ٢٠٠٠ كانت لا تزال الصورة ذات الجودة الاحترافية موردًا نادرًا، الآن لم يعد الأمر كذلك، إلا أن هذا لا يعني أن سوق الصور فائقة الجودة قد تلاشى، فسيعثر المصور الموهوب على عمل دائمًا، لكن المصور المحترف لم يعد يفرض سيطرته الكاملة على مجال الصور الجاهزة. فمع قدر قليل من التدريب، يمكن لأي فرد تقريبًا التقاط صورة جيدة، وتقوم الكاميرات الدقيقة وبرامج تحرير الصور بباقي المهمة. تستغل شركة آي ستوك هذه الحقيقة، سرعان ما اعتنقت شركات التصميم — وغيرها من الشركات الصغيرة التي تعمل في نطاق ميزانيات محدودة — ما عُرِفَ بنموذج «المايكروستوك»، وأخبرني أحد مصممي الجرافيك أنه تحول من دفع مئات الدولارات في الصورة الواحدة إلى ما يقل عن عشرة دولار في الصورة الواحدة «أقدم بعض المال الذي أوفره إلى عملائي وأحتفظ بالباقي، وكلانا يشعر بالرضا.»
قد تمثل آي ستوك فرصة عظيمة للمشترين، إلا أنها تسببت في كافة أنواع الضرر لمصوري الصور الجاهزة المحترفين؛ فقد اضطر مارك هارميل — مصور فوتوغرافي يقطن بلوس أنجلوس متخصص في صور الرعاية الصحية — إلى التأقلم مع الواقع الجديد جذريًّا، ففي عام ٢٠٠٥ حقق هارميل ما يقرب من ٦٠٠٠٠ دولار من صوره الجاهزة، كان معظمها عبر شركة جيتي. وبحلول عام ٢٠٠٧ انخفض ذلك الدخل إلى ٣٥٠٠٠ دولار، ويقول هارميل: «إذا نظرت إلى اتجاه السهم سنراه في انخفاض مستمر. أركز الآن حقًّا على الحصول على مهام. لقد عدت مؤخرًا من لندن ومعي سبعون صورة رائعة حقًّا، سأستخدمها على الأرجح على موقعي، لكن لا يستحق الأمر إهدار وقتي في إرسالها إلى وكالة صور جاهزة، فلن تحقق مبيعات.» يكشف سعر سهم شركة جيتي أن هارميل ليس المصور الفوتوغرافي التقليدي الوحيد الذي يعاني، ففي آخر أسبوع بشهر يوليو (تموز) عام ٢٠٠٧ عندما كنت أزور شركة آي ستوك بكالجاري، أعلنت جيتي — شركتها الأم — أنها قد تخفق في تحقيق تقديرات الأرباح ربع السنوية الخاصة بشركة آي ستوك فوتو، وعندما عدت إلى البلاد بعد بضعة إلى أسابيع، انخفض السهم بنسبة ٣٢ في المائة. وفي يناير (كانون الثاني) عام ٢٠٠٨ وصل السهم إلى أقل نقطة عند ٢١٫١٨٠ دولار، أي انخفاض بنسبة ستين في المائة عن فبراير (شباط) السابق. بعد ذلك بفترة وجيزة أعلنت شركة جيتي بيع آي ستوك فوتو إلى شركة الأسهم الخاصة هيلمان آند فريدمان مقابل ٢٫٤ مليار دولار. وفي وثيقة أرسلتها شركة جيتي لهيئة الأرواق المالية والتداول بالولايات المتحدة الشهر التالي، قدرت الشركة أن مكاسب موقع آي ستوك ستتضاعف أربع مرات تقريبًا لتصل إلى ٢٦٢ مليون دولار بحلول عام ٢٠١٢، في حين أن مكاسبها من عروض الصور الجاهزة التقليدية ستنخفض من خمسين في المائة من مكاسبها الكلية إلى ما يقل عن ثلاثين في المائة.
بالرغم من تسبب تعهيد الصور الفوتوغرافية الجاهزة للجماهير في مثل هذا الارتباك الاقتصادي في المجال، فقد ألقى الضوء أيضًا على الآفاق الهائلة التي تَعِد بها هذه الظاهرة. فشأنها شأن شركة التي شيرتات ثريدلس، صادفت آي ستوك فوتو نموذجًا تجاريًّا مربحًا منخفض التكلفة إلى حد لا يصدق. ووفقًا لجارث جونسون، رئيس تطوير الأعمال بشركة آي ستوك، فإنهم فقط في بداية عجلة نمو، ونظرًا لأن صور آي ستوك رخيصة للغاية، يؤمن جونسون أن الشركة ستكون قادرة على البدء في استغلال سوق هائلة في تطوير اقتصاديات بالخارج. وبالفعل فإن ما يقرب من ٤٠٪ من عملاء الموقع يعيشون خارج أمريكا الشمالية، لكن في عام ٢٠٠٧ أطلقت آي ستوك مواقع منفصلة في فرنسا واليابان وإسبانيا وألمانيا إلى جانب بلدان أخرى، وتُكْتَبُ هذه المواقع بلغات محلية وتعرض محتوى للمصورين المحليين. ويقول جونسون: «لم نبدأ حتى في تطوير هذه المواقع، لكن هذا العام سنكرر ما حققناه هنا، وننمي مجتمعات محلية في كافة أنحاء العالم.» ويرى جونسون أن قيمة التعاملات في السوق العالمية للصور الجاهزة قد تعادل ما يبلغ خمسة مليارات دولار، ويقول إن القطاعات التقليدية من الصناعة تنظر إلى شركات المايكروستوك باعتبارها هجومًا بربريًّا وشيكًا. يقول جونسون إن هذا المنظور يفتقر إلى بعد النظر، ويضيف: «إنهم فقط ينظرون إلى السوق الحالية قائلين: «إنهم يسلبوننا الجزء الخاص بنا من الكعكة المقدر بملياري دولار» بدلًا من قول «يمكننا الحصول على شريحة أصغر من كعكة أضخم كثيرًا».»
إن أسواق التوقعات وشبكات حل المشكلات شيء إضافي في طبيعتها؛ إذ تقدم للشركات سُبلًا جديدةً لأداء مهام قديمة، سواء أكان ذلك بوضع حل علمي أم بالتنبؤ بصورة أدق بأفضل سبيل لتوزيع الموارد التصنيعية. لا تتنافس شركة إنوسنتف مع شركة بروكتر آند جامبل، بل تساعدها في صنع منتجات أفضل، لكن تعهيد الأشياء التي يصنعها الأشخاص — مقارنة بالأشياء التي يعرفونها بالفعل — يهدد بإرباك الشركات الكبرى واستبدالها في النهاية. نحن نعرف ذلك لأنه يحدث بالفعل في مجال الصور الجاهزة، وتدل المؤشرات على أن هذا الأمر قد يمتد إلى غير ذلك من مجالات وسائل الإعلام والترفيه أيضًا. السؤال هنا هو هل يمكن تطبيق الوصفة السرية لآي ستوك على مجالات كالتلفزيون والصحافة وربما ما هو أبعد من ذلك على أي تجارة تتاجر في البت والبايت؟
(٢) المجتمع الإلكتروني هو الشركة
قورنت شركة آي ستوك بطائفة دينية، لكن هذه المقارنة ليست ظالمة كلية، فليس من المصادفة أن أكثر الشركات نجاحًا في الجيل الثاني للويب — التي يتاجر معظمها في الإنتاج الإبداعي للجماهير — يقودها شخصيات واسعة الشهرة. يعلق جارث جونسون قائلًا: «يمثل بروس لآي ستوك ما يمثله توم لشبكة ماي سبيس»، فاسم توم يرمز إلى توم أندرسون، رئيس شبكة التواصل الاجتماعي العملاقة ماي سبيس وأول «صديق» يرحب بأي مستخدم جديد، فيما يخص هؤلاء القراء الذين تزيد أعمارهم عن الثلاثين عامًا. وفي إطار هذا النموذج المثالي للشركة — التي يكون فيها للمجتمع الأولوية — يلعب الالتفاف حول شخصية بعينها دورًا رئيسيًّا في بناء المجتمع، ولعب ليفنجستون دورًا حيويًّا في نمو مجتمع آي ستوك مثل أندرسون مع موقع ماي سبيس، يقول جونسون: «يتمتع بروس بشخصية قوية ذات كاريزما عالية على الإنترنت.»
من الممكن القول إنه لم تعد هناك حاجة إلى ليفنجستون، على الأقل بقدر ما يتعلق الأمر بقيادة الطائفة، ومن الصواب القول إن آي ستوك تخطت مرحلة بناء المجتمع فهناك الآن ما يقرب من خمسين ألف مشترك بالموقع، فيما لا تستخدم كافة الشركات الأخرى التابعة لشركة جيتي «مجتمعة» سوى ألفين وخمسمائة مصور فوتوغرافي، يقول جارث جونسون: «نحن لا نملك أي شيء، بل المجتمع هو ما يملك كل شيء؛ فكل شيء نقوم به يؤثر على هؤلاء الأشخاص، سواء أكانوا يكسبون مالًا كافيًا لتغطية تكلفة معداتهم، أم يسددون أقساط الرهن العقاري من مبيعات صورهم، جميعهم يرغب في منبر للتعبير عن نفسه، وعلينا أن نوفر لهم ذلك، لأن مجتمع الموقع هو الشركة حقًّا.»
إن الجوانب الإيجابية لهذه الأوضاع جلية للغاية، لكن هناك جوانب سلبية أيضًا: حتى إن أصغر التغييرات قد تكدر صفو المجتمع الشغوف المتغير من أتباع آي ستوك. في مارس (آذار) عام ٢٠٠٦ أطلقت آي ستوك خاصية جديدة بمنتديات الموقع، وهي «مقياس الشعبية» التي من شأنها قياس شعبية أحد أتباع آي ستوك من خلال — وفقًا للبيان الصحفي الساخر الذي أعلن عن إطلاق الخاصية — «مناهج علمية معقدة على نحو مثير للارتباك»، بما في ذلك البيانات وأعداد الرسائل التي تنشر على المنتدى. تظهر هذه الخاصية نتائجها من خلال مجموعة من شرائط حمراء أو صفراء أو خضراء، لكن الأمر لم ينجح كثيرًا، إذ أبدى المشاركون شكوكهم في المبادئ التي يعتمد عليها قياس شعبية أحد أفراد المجتمع، إلى جانب التشكيك في جدوى الخاصية. ولم يمض وقت طويل بعد إطلاق هذه الخاصية، حتى أزيلت. من الممكن أن يمثل الموظفون مصدر إزعاج للنفقات العامة، لكنهم يتقاضون أجرًا مقابل تقبلهم لكل شيء تقريبًا حتى أكثر السياسات قسوة بإيماءة مهذبة، ولكن على الجانب الآخر، لا تتقاضى مجتمعات الإنترنت مالًا مقابل التمسك بالشركة، ولا شيء يمنعهم من بيع صورهم لإحدى الشركات المنافسة لآي ستوك. يضحك ليفنجستون ويقول: «إنهم لا يعملون لحسابنا، بل يعملون لحساب أنفسهم.»
إذا شعر أحد أتباع آي ستوك بملكيته للموقع، فهذا الأمر مفهوم: إذ يسبق وجود مجتمع آي ستوك وجود الشركة نفسها. شأنه شأن جيك نيكل وجايكوب ديهارت بشركة ثريدلس، لم يعتزم ليفنجستون تغيير المجال جذريًّا، بل جل ما أراده تلبية احتياج شخصي ومساعدة القليل من الأصدقاء في الوقت نفسه. في عام ٢٠٠٠ كان ليفنجستون يدير شركة تصميم جرافيك واستضافة مواقع صغيرة في كالجاري، وكان بروس نفسه مصورًا فوتوغرافيًّا متحمسًا، وعلى مدار السنوات طور شبكة واسعة النطاق من المصورين والمصممين. وفي وقت سابق من ذلك العام، أخذ ألفي صورة من صوره ووضعها على الإنترنت، وكان بإمكان أي شخص تحميل صوره مقابل تقديم عنوان بريد إلكتروني. قرر أصدقاء ليفنجستون أنهم يريدون تبادل صورهم مع الناس أيضًا. في يونيو (حزيران) من ذلك العام أسس المجتمع الناشئ نظام ائتمان يمكن للمستخدم فيه تنزيل صورة واحدة مقابل كل صورة تخصه نزلها شخص آخر.
كان ذلك نموذجًا نمطيًّا للاقتصاد المجاني؛ التبادل غير النقدي الذي نمى جنبًا إلى جنب مع الشبكة العنكبوتية العالمية. أثناء السنوات الأولى لشركة آي ستوك حصل كل فرد على شيء وقدم شيئًا بدوره، وكما صاغ ليفنجستون الفكرة: «المزودون والمستهلكون هم نفس الأشخاص.» انتفع الجميع من خلال الحصول على صور جديدة، على الرغم من عدم كسب أي شخص (أو إنفاقه) لعشرة سنتات. سرعان ما سمع أصدقاء الأصدقاء بفكرة بروس الرائعة وبدءوا في تحميل صورهم أيضًا. وفي عام ٢٠٠٢ تقريبًا علم جمهور أوسع نطاقًا بموقع آي ستوك، ثم وصل جمهور الموقع إلى أعداد هائلة، وسرعان ما بدأ يدفع ليفنجستون ١٠٠٠٠ دولار شهريًّا مقابل عرض النطاق الترددي لدعم الموقع. كان من الممكن أن يقبل بالإعلانات لتغطية تكلفة استضافة الموقع، لكنه شعر بأن ذلك قد ينتهك روح الموقع، ويقول: «كان التركيز على مجتمع الموقع والتصميم الجيد، لذا كان من الممكن أن تسبب الإعلانات فوضى في الموقع.»
بدلًا من ذلك بدأ ليفنجستون في طلب رسوم تقدر بخمسة وعشرين سنتًا مقابل كل صورة، وفتح النظام أمام عامة الناس. بدأت حركة الدخول إلى الموقع — الذي صار يُسَمَّى الآن آي ستوك فوتو — في الازدياد بسرعة هائلة. رفع ليفنجستون السعر إلى دولار مقابل كل صورة، «فكرت في أنها قد تصبح تجارة ثانوية» لكن سرعان ما أصبحت أكثر من ذلك بكثير، لم تكن جودة الصور دائمًا عالية (أو ملائمة) مثل صور وكالات الصور الجاهزة التقليدية، لكن هذه الاختلافات كان يتعذر على أي شخص تبينها باستثناء المستهلك شديد الدقة، كما لا يمكن مقاومة الأسعار. وبحلول عام ٢٠٠٤ ظهرت مجموعة أخرى مما يطلق عليها شركات مايكروستوك باستراتيجيات مشابهة لاستراتيجيات آي ستوك. اعترى المحترفين الذعر، فصور شركات المايكروستوك التي اتسمت بالرداءة قد تحدث انهيارًا بالمجال من خلال إغراق السوق بصور أقل من السعر المتوسط. في البداية وحدت صناعة الصور الجاهزة صفوفها في وجه آي ستوك فوتو وغيرها من الوكالات التي تسمى المايكروستوك على غرار شاترستوك ودريمز تايم. لكن في أوائل عام ٢٠٠٦ غيرت شركة جيتي — كانت حتى ذلك الوقت أكبر وكالة في المجال — مسارها واشترت شركة آي ستوك فوتو. وأخبرني جوناثان كلين الرئيس التنفيذي لشركة جيتي بعد فترة وجيزة من بيع الشركة: «إذا استحوذ أحد على تجارتك، فمن الأفضل أن يكون لك مجالاتك التجارية الأخرى.» استمرت المجلات الصغيرة والمنظمات غير الربحية وكافة أنواع المواقع في الالتفاف حول نموذج آي ستوك الذي يقوم على الإنتاج بكميات كبيرة وبتكلفة منخفضة. واعتبارًا من فبراير (شباط) ٢٠٠٨ كان لدى آي ستوك مليون عميل منتظم يشتري الصور ومقاطع الفيديو والرسوم التوضيحية والرسوم المتحركة. مع أن جيتي لن تفصح عن الإيرادات التي جلبها موقع آي ستوك إلى الشركة بالضبط، فالربح تضاعف ثلاث مرات منذ الاستحواذ عليها، مما جعل آي ستوك أحد المجالات التجارية سريعة النمو لدى جيتي. لقد قال لي جوناثان كلاين ذات مرة: «تظهر عبقرية بروس في أنه حول المجتمع إلى التجارة.»
ويضيف ليفنجستون عندما ذكرت قول كلاين أمامه أثناء زيارتي إلى كالجاري: «وأنا حولت التجارة إلى المجتمع.» وهذا الأمر صحيح، تقدم آي ستوك للمصور الناشئ كافة أشكال البرامج التعليمية المجانية وكذلك تعج المنتديات بأسئلة حول مقاس العدسات، ومرشحات الاستقطاب وضبط نسب التركيز. لا تقدم آي ستوك فرصة للاغتناء فحسب، بل تقدم فرصة لتكوين صداقات وفرصة لأن تكون مصورًا أفضل.
مضى ليفنجستون وطاقم عمله أغلب أسبوع زيارتي في الإعداد لبيان صحفي، ففي أول يوم لي في المكتب، اجتمع ليفنجستون وما يقرب من اثني عشر موظفًا آخر في غرفة اجتماعات صغيرة؛ إذ كانت جيتي تضغط على آي ستوك لرفع أسعارها، وبعد شهور من المقاومة وافق ليفنجستون على زيادة محدودة. وهذا الأمر ليس من الأمور التي يمكن إعلانها في بيان صحفي تقليدي، فأي تحول في الطريقة التي تسعر بها المنتجات أو تباع أو تسوق يجب التعامل معه بدقة فائقة. لا يزال ليفنجستون يأخذ موافقة مجتمع الموقع على أي خطوة في إدارة شركته، وعندما يقول أنه يعمل لدى المجتمع يضحك، لكنه لا يمزح.
عاد ليفنجستون إلى طريقة الحديث الهادئة وخاطب أفراد طاقم العمل المجتمعين، الذين يشاركونه جميعهم حبه لملابس العمل غير الرسمية والثقافة الشعبية، بالنظر إلى الملصقات المثبتة على أجهزة اللاب توب. «حسنًا، لدينا عدة أشياء ستحدث يوم الجمعة، أولًا تغير السعر، ثم لدينا كل هذه الأشياء الرائعة التي تحدث.» تتراوح الأشياء الرائعة التي ستعلن عنها آي ستوك من طريقة سهلة لتمكين أكثر أتباع آي ستوك مبيعًا من بيع أعمالهم من خلال موقع جيتي الإلكتروني (الذي لا يزال يبيع صور فائقة الجودة مقابل مئات من الدولارات) ويوم «مبيعات المائة في المائة» الذي يحصل خلاله المشتركون على المبلغ كاملًا مقابل بيع صور، مقارنة بنسبة ٢٠٪ و٤٠٪ التي يتلقاها المشتركون عادة.
ما يثير حيرتي سبب بذل ليفنجستون وموظفيه هذا القدر الهائل من الجهد في الالتفاف حول ما يبدو أنه خطوة لا جدال فيها، إذ سيرفع سعر الصور قريبة المدى بمقدار خمسة وعشرين سنتًا، لكن ليفنجستون يشرح الأمر بقوله: «نخشى أن ينخفض حجم المبيعات، فدائمًا يقول شخص ما إن الشركة ستنهار، فهم يخشون أن يهرع عملاؤنا إلى الشركات المنافسة.» وهذا الخوف ليس عاريًا من الصحة كلية، ففي حين أن شركة آي ستوك أنشأت بلا جدال — وبمفردها — مجال المايكروستوك، أصبح المجال مزدحمًا للغاية، ثم إن هناك العملاء، المليون فرد جميعهم «سيقولون «أنت تدمر تجارتي لأن شراء خمس وعشرين صورة سيكلفني ثلاثة دولارات إضافية.» حسنًا، أعتذر، لكن إذا كانت الحال كذلك فربما تجارتك ليست رابحة للغاية.» أعقب ذلك بعض مناظرات حول كيفية تقديم خبر تغير السعر، أفصح ليفنجستون عن القدر المحدد من الزيادة، وعلت أصوات التذمر والضحك حول الطاولة. «أتعرف إنه يمكن أن نجلس هناك ونحاول تفسير الرسوم التوضيحية التي لم تخضع لأي زيادة في السعر في غضون عامين، ومقاطع فيديو لم يزد سعرها أيضًا، لكننا سنفعل ذلك مع أنه أمر مؤلم لكن علينا فعله، «الأشياء تتغير من حولنا، وهذا هو الجانب السيئ في الأمر».»
في النهاية يوافق ليفنجستون على إصدار بيانين منفصلين، تبدو الاختلافات بين الاثنين ضئيلة للغاية، لكنها في واقع الأمر تكشف عن أشياء كثيرة في كيفية تعامل آي ستوك مع المجتمع. يذهب أول بيان إلى الإعلام، ويختبئ فيه زيادة السعر في نهاية الصفحة. أما الرسالة الإخبارية التي أرسلت إلى المجتمع فتجعل من الزيادة الخبر الأساسي، ويظهر بها رابط اتصال بارز إلى سلسلة المنتدى التي ستتيح لهم على الفور التنفيس عن مشاعرهم. تقول روبيرتا ماكدونالد، مسئولة العلاقات مع المجتمع الإلكتروني: «إذا وضعناه في أي مكان آخر فسيقولون: «لماذا يحاولون إخفاء الزيادة؟ ماذا يخفون لنا؟» «إنهم بارعون في ذلك» (من الجلي أنهم لا يعتبرون الصحافة بارعة في ذلك)، ويضيف ليفنجستون: «يدرك المجتمع تغير السعر ويملأ المنتديات برسائل حوله، وكل ما نفعله أننا نفكر فقط في تيسير هذا الأمر أمامهم.» كان لهذه الاستراتيجية النتيجة المرجوة منها، في تمام الساعة الرابعة وثمانٍ وثلاثين دقيقة مساءً، نشر البيان على الموقع، انحنيت نحو جهاز ماكدونالد لمشاهدة كيف سيتفاعل المجتمع مع الخبر، في تمام الساعة الرابعة وست وأربعين دقيقة، كان هناك بالفعل ست عشرة رسالة تتعلق بزيادة السعر، معظمها إيجابي، مما جعل فريق العمل يتنفس الصعداء.
(٣) خدع بارعة
في الليلة التي سبقت إعلان آي ستوك المهم، قام ليفنجستون بدعوة عدد من الشخصيات المهمة الزائرة على العشاء بمطعم فاخر بوسط مدينة كالجاري. ناقش جارث جونسون وهو يتناول شريحة لحم الظبي والنبيذ الأحمر الجوانب السلبية لنجاح آي ستوك. يتضمن جزء من وظيفة جونسون لعب دور المراقب في مهرجانات آي ستوك فوتو الشهيرة بآي ستوكاليبسيز. «إن مهرجانات آي ستوكاليبسيز جنونية يا صديقي، لن تصدق مستوى الحماس الموجود بها، يأتي الناس إلى المهرجانات وكأن لسان حالهم: «أنتم من آي ستوك فوتو! يا إلهي! أنا أحبكم يا رجال» ويعانقوننا، والفتيات …» هدأت نبرة صوت جونسون وهو يأخذ رشفة من النبيذ الأحمر «لو لم أكن متزوجًا …»
إن مهرجانات آي ستوكاليبسيز وسيلة أخرى تبذل فيها الشركة جهودًا شاقة لتجعل التصوير لمصلحة آي ستوك يبدو كلعبة كبيرة وممتعة أكثر من كونه عملًا. لا تتجلى روح آي ستوك بهذا القدر كما في المهرجانات. وبخصوص شركة ومجتمع يتمحور حول موقع إلكتروني، أصبحت هذه الأحداث خارج نطاق الإنترنت هامة على نحو هائل.
خطة المهرجان واضحة: تحجز الشركة غرفًا بفنادق وفتيات استعراض ومواقع للتصوير في مدينة محددة سلفًا (أُقِيمَتْ مهرجانات آي ستوكاليبسيز في براغ وأوستن بتكساس وبرشلونة) وتبيع التذاكر إلى ما يقرب من خمسين إلى ستين من أتباع آي ستوك، الذين جاءوا للاندماج في مجتمع آي ستوك وللاستمتاع بالمناظر الطبيعية، ولتكوين ملفات صور. في البداية ساعد مهرجان آي ستوكاليبسيز على تلبية احتياج بسيط: الأشخاص الذين يعرف بعضهم بعضًا من منتديات الإنترنت أرادوا التعارف وجهًا لوجه، لكن انتهى الأمر بهم إلى إظهار إحدى أهم ديناميكيات مجتمع آي ستوك: أراد أفضل المصورين تعليم الآخرين وأراد المستجدون قليلي الخبرة التعلم.
قال ليفنجستون وهو يستدير تجاهي أنا وجونسون: «هناك ذلك الرجل الذي يطلق على نفسه سَبمان، يحضر إلى كل مهرجان من مهرجانات آي ستوكاليبسيز، وهو شخص بارع للغاية، فهو يصور لمجلة دويل» — مجلة تصميم مرموقة تعرض صورًا رائعة وعالية الدقة — «وغير ذلك من المجلات الشهيرة. وهو يأتي إلى هذه المناسبات ليجهز للتصوير ويخرج الصور فنيًّا، وهو شخصية مذهلة حقًّا. بيت القصيد هنا، أنه القاعدة وليس الاستثناء. تريد نخبة المصورين لدينا تبادل ما يعرفونه»، الكثير منه تعلموه بدورهم من أشخاص آخرين من أبناء آي ستوك.
كانت مهرجانات الآي ستوكاليبسيز شائعة للغاية حتى إنه منذ بضع سنوات بدأ أتباع آي ستوك استضافتها بأنفسهم. أخبرني جونسون: «كان هناك رجل في لندن منذ بضع سنوات رسخ هذه الممارسة بالفعل، وتولى الإدارة بالكامل أتباع آي ستوك.» فسر جونسون: «تعرف هذه الاحتفالات ﺑ «مينيليبسيز»، على النقيض من الاحتفالات التي تطلقها الشركة، وذلك لأنها من صنع المستخدم وحده. في البداية كانت تضم حفلات المينيليبسيز عشرين فردًا، أما هذا الحفل فيضم ما يقرب من الخمسين، ويأتي الناس إليه من أمريكا والسويد وروسيا وأفريقيا. كان أحد الأفراد على علاقة بمتحف دالي، لذا استخدمنا المتحف مكان إقامة للحفل. ما كنت أستطيع عمل ذلك، لكن ما لا يمكن تصوره أن أبناء آي ستوك لديهم علاقات مهمة.»
ليست المهرجانات وحدها التي تربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض، بل الروح التي تكمن في هذه المهرجانات. هناك انطباع عام أن العمل لدى آي ستوك جائزة في حد ذاته. إن أبناء آي ستوك يحافظون على روح الجماعة التي تهيمن على كل رسالة بمنتدى وتعليق بمدونة وتعقيب على صورة، وليس هناك شك أنها كانت ميزة هائلة لعشرات الآلاف من المصورين الفوتوغرافيين المتطلعين. فمنذ خمس سنوات مضت كان من الممكن أن ينظر المصور المتطلع إلى أن شغفه بالتصوير هواية باهظة التكلفة على نحو سيئ، لكن بفضل آي ستوك ومنافسيها، أصبحت هذه الهواية تمثل الآن فرصة للانضمام إلى مجتمع قوي يضم متحمسين آخرين، وأحيانًا، فرصة لكسب إيراد إضافي ضخم. إضافة إلى ذلك، حتى الدخل الإضافي في بلد مثل الولايات المتحدة يمكن أن يعادل دخلًا كبيرًا في بعض من الأسواق التي بدأت آي ستوك اقتحامها، على غرار الهند.
أجادت آي ستوك فوتو الخدع البارعة التي تكمن في صميم تعهيد الأعمال للجماهير، وهي استراتيجية تحقق فاعلية التكاليف، وسوف تجني الكثير من الشركات أموالًا طائلة من خلال تطبيق نماذج تعهيد الأعمال للجماهير. وصل الهامش الربحي لآي ستوك إلى ٥٥ في المائة، ومع ذلك تحقق هذا من خلال خلق سياق — مجتمع — يكون فيه المال شأنًا ثانويًّا. سل أي شخص يعمل بشركة آي ستوك وسيخبرك: «الأمر لا يتعلق بالمال.» سل أحد أبناء آي ستوك وسيخبرك بالأمر نفسه. في واقع الأمر إذا كان الأمر يتعلق بالمال، فلن ينجح، وهذا الأمر يجب أن تنتبه إليه الشركات التي تتطلع إلى تعهيد الأعمال للجماهير. ووفق تعبير أحد المصممين بآي ستوك: «الغريب أن الأشخاص المهتمين بالمال، سرعان ما يُنحَّون بعيدًا في المنتديات من قبل الأشخاص الأصليين، أو لن يجدوا مساحة للتعبير عن آرائهم، سيتجاهلهم الناس، ولسان حالهم: «يا إلهي! لقد جاءوا إلى هنا لكسب مال فحسب».»
هذا لا يعني أن المصلحة الذاتية ليست ما يحرك أبناء آي ستوك كلية؛ فكلما زاد تنزيل صور خاصة بأحد المصورين، زاد تقديره بين أفراد المجتمع الإلكتروني، وزادت الامتيازات التي يحصل عليها والتي تسمح له بتنزيل صور أشخاص آخرين لاستخدامها في تصميماته الخاصة، وبالطبع فإن الدخل الإضافي ضيف مُرَحَّبٌ به. من الأهمية بمكان أن الناس في المجتمعات الإلكترونية على غرار أبناء آي ستوك يتفاعلون بعدوانية كبيرة مع فكرة أن تعهيد الأعمال للجماهير يعادل توفير التكاليف. لا يريد أي فرد أن يشعر بأنه يتعرض للاستغلال، في النهاية ما تقدمه آي ستوك هو عملة لا تقدر بثمن، إن لم يستحِلْ قياسها وهي، القيمة. سيتبرع الجمهور بوقته — وطاقته الفائضة — بحماسة، لكن ليس مجانًا. لا بد من وجود تبادل هادف. لا بد أن يكون الربح في المرتبة الثانية، أو لن يأتي أبدًا.
(٤) تعميم وسائل الإعلام
يتحدث عِزرا كوبرشتاين بطلاقة حول موضوع الفن العظيم الذي يأتي من مصادر بعيدة الاحتمال. شأنه شأن ليفنجستون، ساهم كوبرشتاين — رئيس قسم «محتويات ينشئها المشاهد» في شبكة كارنت تي في — في بناء شركة عن طريق تعهيد الأعمال للجماهير. مع ذلك، على العكس من آي ستوك فوتو، حاولت شبكة كارنت إعادة تنشيط مجتمعها، لكن النتائج التي حصلت عليها كانت مشوشة. إذا كانت آي ستوك تقدم فرصة لرصد تعهيد الأعمال للجماهير في الظروف الطبيعية — ينمو المجتمع نموًّا طبيعيًّا على مدار فترة من الزمن — فكارنت تقدم فرصة لرؤية كيف ينجح أو يخفق تعهيد الأعمال للجماهير عندما يولد في الأسر.
انطلقت الشبكة في أغسطس (آب) عام ٢٠٠٥ بمهمة نبيلة وهي فتح البرامج التلفزيونية أمام عامة الناس. نجحت كارنت وفقًا لذلك المعيار على الأقل، فكارنت، «شبكة الأخبار والمعلومات» غير التقليدية التي تأسست على يد نائب الرئيس السابق آل جور ومجموعة من المستثمرين، تدخل ٥١ مليون بيت في الولايات المتحدة وبريطانيا، ويتكون ثلث كامل من برنامجها مما تطلق عليها محتويات ينشئها المشاهد (في سي ٢). وعلى العكس من شبكات أخرى قدمت محتوى ويب على الهواء، لا توجد أفلام من النوعية التي تصور قططًا تعزف على البيانو أو سلوكيات مثيرة لأطفال تعلموا المشي حديثًا على كارنت؛ ففي واقع الأمر، تحاكي برامجها بنجاح البرامج الاحترافية بالقنوات الكبلية الأخرى.
بدأ بث كَارَنْت في أغسطس (آب) عام ٢٠٠٥؛ في عدد محدود من المناطق بجمهور متوقع يبلغ ١٧ مليون بيت. وضعت الشبكة فواصل إعلانية تحث فيها المشاهد على إرسال مقطوعات فيديو خاصة به، وبدأ كوبرشتاين وبضعة موظفين آخرين في التردد على مهرجانات الأفلام وكليات السينما بحثًا عن مرشحين محتملين. وفي غضون ستة أشهر بدءوا في استكمال ثلث الخطة بمقاطع فيديو أرسلها مشاركون إلى قسم «محتويات ينشئها المشاهد» الذي صممه كوبرشتاين الذي يقول: «أظن أن الناس قللوا من أهمية الإبداع والقدرة والحماسة التي كانت موجودة وفي انتظار استغلالها.»
هذا لا يعني أن الأمر أثار دهشته مع ذلك؛ فقد كانت هذه جماعته، فتعيينه رئيس قسم محتويات ينشئها المشاهد وعمره لا يتعدى الخامسة والعشرين يعني أن كوبرشتاين يعيش في قلب الشريحة العمرية المستهدفة لشبكة كارنت التي تتراوح أعمارها من ثمانية عشر عامًا إلى أربعة وثلاثين عامًا. يقول كوبرشتاين: «هؤلاء هم الشباب الذين نضجوا وهم يستخدمون برنامجي فاينَل كت برو وفوتوشوب منذ أن كانوا في الثانية عشرة من عمرهم، وكذلك يصورون الأفلام في الفناء الخلفي للمنزل ويتعلمون كيفية تبادلها عبر الإنترنت. من المؤثر للغاية فتح نظام مغلق فجأة كالتلفزيون أمام ذلك الأمر.»
ولعل ذلك كان مؤثرًا لهؤلاء ممن لديهم الاهتمام والمهارات. نجح كوبرشتاين وفريقه في العثور على مواهب شابة في مجال صنع الأفلام ونشر مقاطع الفيديو التي يصورونها أمام الجمهور على المستوى الوطني. كان ذلك إنجازًا رائعًا، إلا أنه يشبه قليلًا الرؤية الأصلية لشبكة كارنت المتعلقة بتعميم وسائل الإعلام. طبق موقع كارنت الإلكتروني استراتيجية «إذا أنشأنا الموقع فسيتوافدون إلينا»، وصُمِّمَ الموقع بإتقان ودقة كما أنه يعج بالبرامج التعليمية التي تصور صناع الأفلام المشاهير على غرار روبرت ريدفورد وشون بن. كان من المفترض أن يذهب المشاهدون إلى الموقع لتحميل مقاطع فيديو ونقد أعمال أصدقائهم والمساعدة في اختيار المقاطع التي تبث على موقع كارنت، لكن لم ينجح الأمر كثيرًا بهذه الطريقة.
في النهاية جاء عدد قليل إلى الموقع، وعندما جاءوا، لم يكن هناك شخص للترحيب بهم. وبعد عام من إطلاق الموقع، أصبحت وجهة الفيديو عبر الإنترنت موقع يوتيوب وليس كارنت. وفي الوقت الذي ذهبت فيه إلى مكاتب شركة كارنت في صيف عام ٢٠٠٧ تقريبًا، كان الموقع لا يزال مدينة أشباح على الإنترنت. تتلقى آي ستوك فوتو ٣٧٫٤ رسالة على منتدياتها «كل دقيقة»، أما بعض مواضيع المنتديات التي زرتها بموقع كارنت تي في فلم ينشر عليها شيء على مدار أيام. وعندما راجعت موقع آلكسا المتخصص في قياس حركة المرور بالمواقع الإلكترونية، لم تكن هناك حركة كافية بموقع شبكة كارنت تؤهله لأن يكون ضمن أهم مائة ألف موقع في العالم.
إحقاقًا للحق، كان موقع شبكة كارنت يواجه بعض التحديات المثبطة للعزيمة؛ يقتضي صنع فيلم — بما في ذلك الأفلام القصيرة التي تبث عبر الشبكة — أن يتجاوز الجمهور حواجز لوجستية بعينها ليس على المصور أن يقلق بشأنها مطلقًا، على غرار العثور على طاقم العمل، وعدم تجاوز الميزانية المحددة، والتعامل مع عملية ما بعد الإنتاج المعقدة. كل ذلك لا يتطرق حتى إلى قضية التدريب والمهارة، التي تتنوع على نحو هائل، وهو ما ستثبته بوضوح أي جولة قصيرة بموقع يوتيوب.
إن حقيقة أن شبكة كارنت كافحت كثيرًا لإنشاء تلفزيون قائم على المشاركة لا تجعل من تجربتها أقل إلهامًا على الإطلاق. تقدم الأخطاء المبدئية التي ارتكبها موقع شبكة كارنت عبرة لأي شخص يأمل في تطبيق تعهيد الأعمال للجماهير بشركته. بالمثل، يقدم النجاح الأخير للشبكة — بعد إعادة إطلاق الموقع في أواخر عام ٢٠٠٧ إذ استطاعت الشبكة أخيرًا استقطاب جمهور عريض نحو إنشاء برامجه الخاصة — إطار عمل لإنجاح تعهيد الأعمال للجماهير في ظل ظروف صعبة. إن مجال الصور الجاهزة صغير ويتضاءل حجمه بسهولة مقارنة بالسوق العالمية للتلفزيون المقدرة ﺑ ٦٥ مليار دولار، لكن إذا كان ممكنًا أن ينتقل تعهيد الأعمال للجماهير إلى مجالات على غرار التلفزيون — وإذا كانت شبكة كَارَنْت مؤشرًا، فهذا ممكن إذن — فسيكون لهذا الأمر تداعيات مهمة على مجال الترفيه برمته.
تشغل شركة كارنت عدة طوابق ببناية صناعية تغير نشاطها في حي سوما (ساوث أوف ماركت) الراقي في سان فرانسيسكو، كذا يلوح ملعب إيه تي آند تي بارك — مقر فريق سان فرانسيسكو جاينتس — في الأفق على الجهة المقابلة من الشارع. يصلح المقر الرئيسي لشركة كارنت — وهو مبنى أنيق من الزجاج والقرميد — موقعًا لمتحف فنون، ولكن بدلًا من ذلك، يوجد خلف الجدران الزجاجية الضخمة صفوف من أجهزة الماكنتوش الحديثة، وغرفة تحكم تستخدم التكنولوجيا الحديثة تظهر بوضوح أمام المشاة المارين بالشارع، مما يمثل واجهة ممتازة لشركة تخصصت في فتح مجال التلفزيون أمام عامة الناس.
في اليوم الذي زرت فيه مبنى شركة كارنت، كان كوبرشتاين وأحد موظفيه يواجهان معضلة: هناك عدد ضخم من فهد الجليد. تسأل فاي آرسيو، وهي امرأة نحيلة في ريعان شبابها ترتدي نظارة سميكة تتماشى مع خطوط الموضة: «ما الجزء الذي نبحث فيه؟ فهد الجليد الروسي؟»
يجيب كوبرشتاين: «كلا، هناك جزآن: «فهد الجليد» و«بحث عن فهد الجليد».» تجمع كل من آرسيو وكوبرشتاين حول مكتبه يفرزان المواد التي أرسلها المشاهدون لتحديد «أفلام الفيديو القصيرة» — تلك المقاطع التي تتراوح من دقيقتين إلى سبع دقائق والتي تشكل برامج شبكة كَارَنْت — التي تعرض على القناة البريطانية التابعة للشركة. يقول كوبرشتاين: «إن المقطع الذي سنشاهده الآن يتعلق ببحث أب وأبنائه عن فهد الجليد، الأمر يتعلق بالأب وليس بفهد الجليد.»
شغل كوبرشتاين الفيديو وانحنى هو وآرسيو في اتجاه شاشة الكمبيوتر لسماع الصوت. يبدأ مقطع الفيديو بمشهد واسع لجبال الهيمالايا من مروحية، فيما يصف الراوي سعي أبيه لرؤية الفهد الذي يشتهر بندرته ومراوغته. وبعد أن قام بعدة رحلات سابقة، تعلم العائلة أن هذه الرحلة ستكون فرصته الأخيرة. وبعد مرور أربعة أيام في أجواء جليدية والمعاناة من دوار المرتفعات، رأت العائلة فهدًا جليديًّا قبل دقائق من نزولهم الأخير من أعلى الجبل. يعد مقطع الفيديو طويلًا بمعايير كَارَنْت — إذ يبلغ ثماني دقائق تقريبًا. لو كانت الصورة بهذا المقطع أقل وضوحًا؛ كأن تكون نتاج عمل شخص غير محترف، فربما شعر المشاهد أن ذروة الأحداث بالقصة جزء من نص تلفزيوني معد مسبقًا، لكن بوجود صور الكاميرا المهتزة والسرد الوثائقي الصادق، فالمقطع مؤثر بصدق.
يمكن للمرء تخيل كيف سيستقبل موظف مسئول بشبكة ما فيديو بعنوان «بحثًا عن فهد الجليد»، هذا إذا خرج من غرفة البريد في الأساس. إذا كنت لا تعلم، فالأفلام القصيرة أو تلك المتعلقة بفهد الجليد لا تلقى رواجًا كبيرًا في معظم الشبكات. على النقيض من ذلك، يتحدد محتوى شبكة كَارَنْت إلى حد بعيد من خلال مزيج من طلب المشاهد ونزوات شباب مبدع وعصري ككوبرشتاين وآرسيو. إذا قلنا إن شبكة كَارَنْت ليست خاضعة لتصنيفات نيلسن، فسيكون ذلك تقليلًا من الأمر؛ فالشبكة لم تأت في الأساس ضمن تصنيفات نيلسن.
بعد أن قرر كوبرشتاين وآرسيو نشر فيديو فهد الجليد يعترف قائلًا: «نضع البرامج وفقًا لحدسنا لأننا لا نملك تلك المعلومة، بل نملك شبكة عريضة من الأصدقاء، وشبكة عريضة من المبدعين، وسوف يتصلون بنا أو يبعثون إلينا برسالة بريد إلكتروني ليقولوا: «هذه الحلقة كانت رائعة، أو «لم تكن هذه الحلقة رائعة».» تعهد شبكة كَارَنْت بصنع المحتوى للجماهير، وتعهد كذلك بقرارات تنظيم البرامج إلى الجمهور أيضًا، وكذلك تعهد بتصنيفاتها إلى الجمهور، بدرجة كبيرة، وإن كانت غير رسمية. هنا درس مستفاد: إذا كنت ستدعو الجمهور إلى حفلة، فمن الأفضل كثيرًا أن تطلب منهم مساعدتك في التخطيط والتنظيف بعد الحفل، فالجمهور يحب أن يشارك في الأمر.
انطلقت شبكة كَارَنْت بطموحات كبيرة لكن توقعات متواضعة؛ إذ صرح جور في ٤ مايو (أيار) عام ٢٠٠٤: «نحن نطلق شبكة تلفزيونية مثيرة لاهتمام الشباب من الرجال والنساء الذين يرغبون في معرفة المزيد عن عالمهم والذين يجدون متعة في قصص من واقع الحياة صنعها جيلهما وبواسطته ومن أجله.» على الرغم من البلاغة الرفيعة في التصريح، توقع المسئولون بصورة شخصية أن عشرة في المائة فحسب من جدول برامجها سيصنعه المستخدم. ويتذكر كوبرشتاين، أحد أوائل الموظفين بالشركة: «كان ذلك قبل ظهور اليوتيوب، ولم تكن هناك ثقة كبيرة في إمكانية ملء محتوى شبكة تلفزيونية بمنتج يصنعه المشاهدون.»
مع ذلك توصل قسم «محتويات ينشئها المشاهد» إلى معادلة مثمرة واقتصادية إلى حد بعيد بلا جدال. يرسل المشاهدون أفلام الفيديو القصيرة المحتملة إلى الموقع، وفي كل أسبوع يصوت مشاهدون آخرون على أفلام الفيديو القصيرة، بعد ذلك يُبث فيلما الفيديو اللذان حصلا على أعلى عدد أصوات على الشبكة، يحصل الفائزون على جائزة مالية تتراوح من ٢٠٠ دولار إلى ١٠٠٠ دولار، ما يمثل جزءًا ضئيلًا من تكلفة تقدر تقريبًا ﺑ ٦٠ ألف دولار للدقيقة في فيلم كوميدي، حتى بعد دمج تكاليف الشبكة الإنتاجية، أما باقي البرامج التي يصنعها المشاهد فتفوض في العموم إلى كوبرشتاين وفريق عمله، لكن في مقابل مبالغ مماثلة.
يقول كوبرشتاين: «نحن نرى أنفسنا كشركة هوم بوكس أوفيس لكن للمحتوى الذي ينتجه المستخدم، نحن لا نبحث عن أفلام فيديو عن القطط أو محاكاة تهكمية ساخرة لما يحدث داخل غرفة بمدينة جامعية.» ورغم المبالغ الضئيلة التي يتقاضها المشاهد مقابل مساهمته، نجح كوبرشتاين في إنتاج بعض من أكثر البرامج التلفزيونية الكبلية ابتكارية، وإن كانت في بعض الأحيان غريبة. غالبًا ما تكون أفلام الفيديو القصيرة رائعة للغاية حتى إنها تصبح — فيما يبدو بالضرورة مفارقة قاسية لفريق مبيعات إعلانات الإنترنت بشبكة كَارَنْت — أفلام فيديو ناجحة ورائجة على موقع اليوتيوب.
(٥) جمهور محدود
في التاسعة صباحًا من كل يوم يجتمع فريق عمل المحتوى الذي ينشئه المستخدم التابع لكوبرشتاين داخل غرفة اجتماعات صغيرة ذات جدران زجاجية لعقد اجتماع تباحثي. نظرًا لأن قسم كوبرشتاين لا يمكنه الاستمرار في الاعتماد على أفلام الفيديو التي يرسلها المشاهدون وحدها، يعتمد اعتمادًا كبيرًا على المساهمين المنتظمين، الذين يرسلون أفكارهم الابتكارية لأفلام فيديو قصيرة جديدة يفحصها بعد ذلك فريق العمل. إن حضور أحد هذه الاجتماعات يشبه قليلًا الاستماع إلى جهاز تصنت على المحادثات مغروس في اللاوعي الجماعي لشريحة الشباب المعاصر. تضمنت بعض الأفكار التي طرحت في اليوم الذي حضرت فيه الاجتماع جزءًا عن مسابقة تناول الطعام بسرعة في فيلادلفيا (يشير إليها أحد أفراد فريق العمل بأنها «المدينة الأقل كفاءة في أمريكا»)، وآخر عن رابطة لمصارعة الوسادات للفتيات فقط؛ وآخر عن سعي عازف جيتار على الهواء محلي لنيل البطولة الوطنية.
في وقت ما اقترحت فيلم فيديو قصير عن ثقافة أقلية اعتبرتها في السابق ذروة الغموض: كهنوت للتزلج على اللوح، يتضمن قساوسة شبابًا يحاولون تحويل الشباب الصغار إلى المسيحية عن طريق عروض متنقلة لمتزلجين محترفين على الألواح، مروا بتجربة الولادة الثانية. يجيب أحد أفراد فريق العمل قائلًا: «وهو كذلك»، بينما يحاول الآخرون كبح أنفسهم من النظر شزرًا، وهذا يشير إلى الصعوبة التي تواجهها شبكة كَارَنْت باستمرار. يلي ذلك عدة اجتماعات تباحثية لمناقشة أفلام فيديو قصيرة حول كليات الكوميديا والآباء غير التقليديين وأول محطة إذاعية مستقلة بنيبال، وينفض الاجتماع وقد وضح أنهم لم يستقروا على أشياء كثيرة.
جلست بعد الاجتماع مع كوبرشتاين بمكتبه، الذي يشغل مكانًا بجانب الحائط ولا يختلف كثيرًا عن المكاتب الخمسة عشر الأخرى في قسم محتويات ينشئها المشاهد. ألح عليَّ سؤال؛ فخلال الاجتماع أشار أفراد فريق العمل إلى منتجي المحتويات التي ينشئها المشاهدون بأسمائهم الأولى، مما يدل على أن الكثير من أفلام الفيديو القصيرة التابعة لكوبرشتاين ينشئها مساهمون دائمون. يقول كوبرشتاين: «على الأقل نِصف منتجي أفلام الفيديو القصيرة التي ينشئها المشاهد على علاقة بصورة احترافية بمجال الأفلام والفيديو.» هل يمكننا حقًّا أن نطلق على ذلك محتويات ينتجها المستخدم؟ فهؤلاء ليسوا هواة تمامًا، ومع ذلك ليسوا محترفين تمامًا أيضًا، ويعترف كوبرشتاين: «إنها في الواقع شبكة من أشخاص يعملون على مسئولياتهم الخاصة. إننا بحاجة إلى شبكة آمنة لما نقوم به بما يُتيح لنا معرفة أننا نملك شبكة يمكن الاعتماد عليها من أشخاص يمكننا التواصل معهم في أي وقت وفي أي مدينة.»
يشير كوبرشتاين بالفعل إلى أنه اكتشف عددًا ضخمًا من صناع الأفلام هؤلاء بعد أن أرسلوا أفلام الفيديو الخاصة بهم إلى الموقع. هذا يثير سؤالًا مشوقًا، وليس فقط فيما يخص شبكة كَارَنْت: هل يمثل حقًّا تعهيد العمل الإبداعي إلى الجماهير — العمل الإبداعي المعقد على غرار التلفزيون على وجه الخصوص — تعميم الإعلام؟ أم هل هو بدلًا من ذلك منهج جديد لمشكلة قديمة: التعرف على المواهب الشابة وتنميتها؟ إذا نظرنا إلى شبكة كَارَنْت وغيرها العديد من الأمثلة الأخرى من السينما والتلفزيون، فستكون الحال كذلك مع التلفزيون. قام الجميع بدءًا من شركة فريتو لاي إلى إم تي في إلى كَارَنْت بتعهيد الدعاية والإعلان ومقطوعات الفيديو والأغاني المصورة، وغالبًا ما تأتي أفضل المُدخلات على نحو موثوق من صناع الأفلام الشباب الذين يملكون الموهبة أكثر من التقدير، حتى إن موقع يوتيوب نفسه ليس نظامًا للبحث عن المواهب. لا يقلل أي من هذا أهمية تعهيد الأعمال للجماهير، فوجود نظام عادل يُقَدَّرُ في إطاره صناع الأفلام وفقًا لجدارتهم سيكون تطورًا كبيرًا في النظام الحالي، الذي يتطلب في الأغلب الحظ والقرب والعلاقات الصحيحة. لكن لا يشكل أي من هذا تلفزيونًا يقدمه الناس وللناس.
قبل أن أغادر شركة كَارَنْت للمرة الأخيرة، طلب مني كوبرشتاين أن أتبعه إلى غرفة مجاورة. جلس في الداخل عدة موظفين ملتحين تتدلى أطراف قمصانهم خارج السراويل يقومون بعملية ضبط الأفلام على شاشات الكمبيوتر، يقول كوبرشتاين: «نحن نحاول التوصل إلى كيفية تقليل المعايير لتيسير المشاركة في وضع البرامج أمام الناس.» وأردف وهو يشير إلى إحدى الشاشات: «هذا أحد التصميمات الجديدة التي نعمل على تطويرها.» يصور الفيديو الذي يظهر على الشاشة ولدًا يبدو أنه تجاوز سن المراهقة بقليل يقف في غرفة غير مجهزة بأثاث يتحدث عن الألبوم الغنائي الجديد لمغني الروك كونر أوبرست الذي يتبع شركة إنتاج غير شهيرة. يخاطب الصبي الكاميرا قائلًا: «في واقع الأمر كنت أحد المعجبين بأول ألبومين، وفي ألبوم «كاساداجا» أعتقد أنه خبا بريقه.» لا يوجد بمقطع الفيديو أي رسوم جرافيك زاهية أو استخدام مذهل للكاميرات أو فهود جليدية إلا أن الفيديو ممتع ويجذب الانتباه إلى حد ما. إذا كنت أهتم بكونر أوبرست بنفس قدر الشاب الذي يبلغ أربعة وعشرين عامًا في المتوسط، فربما يكون الفيديو مستفزًّا لي. «إنه نقد عن أسطوانة غنائية يُعرض على التلفزيون. تتمثل الفكرة في أن أي شخص يمكنه أن يعبر من خلال كاميرا الويب عن نقده لألبوم غنائي ثم نضعه بعد ذلك في نموذج لتعزيز القيمة الإنتاجية قليلًا.»
يتجه كوبرشتاين نحو شاشة أخرى ويقول: «سأريك شيئًا آخر»، وخلال الدقيقة التالية يتحرك مونتاج لصور ثابتة فوق الشاشة، تظهر كل صورة شابًّا عصريًّا شاحب الوجه للغاية يستعرض أزياء أمام الكاميرا في أحد شوارع أوربا، ويقول النص أسفل الصور: «أزياء الشارع: أوسلو.» يقول كوبرشتاين إن الفكرة هنا خلق لقطة تستغرق دقيقة واحدة لأزياء الموضة كما في المدن حول العالم. «يوجد هذا الكم الكبير من المصورين لأزياء الشارع، لن يصنعوا أبدًا فيديو لنا، لكنهم سيقومون بتحميل صورهم على الموقع.»
يقول كوبرشتاين إنه حتى هذه اللحظة اعتمدت شبكة كَارَنْت على ما عرف بعد ذلك ﺑ «كبار المشاركين»؛ وهو جزء ضئيل — يبلغ واحد في المائة تقريبًا بصورة عامة — من مجتمع إلكتروني مسئول عن نصيب الأسد من النشاط، وذكرت إحدى الدراسات التي أجراها مركز أبحاث بالو ألتو أن ١٪ من كافة المساهمين بويكيبديا مسئولون عن كتابة ما يقرب من مليار كلمة تضمها النسخة الإنجليزية من ذلك العمل المرجعي الإلكتروني.
يقول كوبرشتاين إن الهدف من هذين المشروعين التجريبيين هو جذب عدد أكبر من الأشخاص نحو الاشتراك، ويضيف: «تؤدي هذه النظم الجديدة أمرين؛ أولًا: تقدم محتوى مثيرًا، وثانيًا: تضم مجموعة جديدة من المبدعين الذين لم تتسنَ لهم الفرصة للهو بالفيديو ومشاركة المحتوى في التلفزيون»، ويقول كوبرشتاين إن القيام بهذا الأمر سيخلق في النهاية مجموعة متتابعة من التأثيرات و«سيؤدي انتشار هذا الاتجاه للمشاركة عبر الإنترنت إلى حركة ضخمة للمحتوى الذي ينتجه المشاهد، وإلى مستوى جديد كلية لوجود الويب.» إن موطن جمال القاعدة النشطة والضخمة للمستخدمين التابعة لشركة آي ستوك يكمن في أنها تصبح متجددة باستمرار وتنشر الفكرة بين الناس، فهي باستمرار تجذب مزيدًا من المشتركين. ومن الواضح إذن أن الرجوع إلى منتجي الفيديو الذين تعرفهم شخصيًّا لن يحقق هذا الأمر.
رغم أنني لم أكن أعرف ذلك حينها، كانت المشروعات التجريبية جزءًا من مبادرة أضخم. بعد مرور بضعة أشهر على رحلتي إلى شبكة كَارَنْت، أطلقت الشبكة موقعًا معدلًا تمامًا. وأُخفي الموقع القديم — كَارَنْت تي في، الذي يدور حول تحميل أفلام فيديو والتصويت عليها — في ركن من الموقع الجديد. مثّل الموقع الجديد منهجًا جديدًا للشبكة: بدلًا من أن تطلب الشركة من الناس المشاركة بالفيديوهات، طلبت الآن المشاركة بأي شيء؛ صور أو تعليقات أو روابط أو مجرد نصيحة متعلقة بتطوير الاتجاه الجديد. حاكى الموقع الجديد بوعي ذاتي مواقع التواصل الاجتماعي، فسمح للمستخدمين بإنشاء شبكات من الأصدقاء، على غرار موقع الفيسبوك، وصفحات شخصية. مزجت الاستراتيجية الجديدة بين الدروس المستفادة بعد جهود مضنية، وحققت نجاحًا. ووفقًا لموقع آلكسا، فقد زادت حركة المرور بالموقع بقدر هائل في غضون بضعة أسابيع، وكان مستمرًا في حركته التصاعدية وقت إرسالي هذا الكتاب إلى الطبع. وعلى أقل تقدير، أصبح موقع كَارَنْت على الخريطة الآن.
توسع نسق نقد الألبومات الغنائية التي أراني إياها كوبرشتاين خلال الصيف إلى فئة كاملة من برامج شبكة كَارَنْت يسمى «وجهة نظر». يمكن لزوار الموقع تسجيل فيديو قصير عن أنفسهم عبر كاميرا الويب، والتعليق على أي موضوع يحلو لهم. صممت شبكة كَارَنْت هذه الخاصية بحيث لا يستدعي إرسال تعليق على فيديو أي جهد إضافي يحتاجه إرسال تعليق على منشور بمدونة أو مقال بصحيفة. يتم تحرير أفلام الفيديو بعد ذلك وتحول إلى مقالات تظهر بين الفيديوهات الأطول على القناة. يستغل الموقع الجديد حقيقة أن سبعين في المائة من مشاهدي الشبكة يستخدمون أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم أثناء مشاهدتهم للشبكة، وذلك وفقًا لبحث داخلي بشبكة كارنت، من ثم يمكن للمشاهدين تحميل صورهم الشخصية وأسمائهم على الهواء إلى التلفزيون من خلال التعليق على فيديو أو اقتراح رابط.
تكمن مشكلة الاستراتيجية الأصلية لشبكة كَارَنْت في أنها غالت في تقدير قدرة الجماهير على إنشاء فيديوهات مبتكرة تفي بمعايير صارمة لشركة تعتبر نفسها «شركة هوم بوكس أوفيس لكن في مجال المحتوى الذي ينتجه المستخدم». في الوقت نفسها استخفت بقدر الاهتمام داخل الناس تجاه الإسهام بطريقة أخرى. يتذكر روبن سلون، مخطط الويب الذي لعب دورًا حيويًّا في إعادة إطلاق موقع كَارَنْت: «كانت فكرة إعادة تشغيل الأخبار وإتاحة القدرة على المساهمة أمورًا مثيرة للناس، كان من الممكن أن يدخلوا إلى الموقع، لكنهم ليسوا منتجي أفلام فيديو، لذا لم يكن هناك شيء يفعلونه، فقد يضيفون شيئًا في المنتدى ويختفون بعد ذلك. كانت هذه فرصة ضخمة للغاية مهدرة، لقد بددنا تلك الحماسة الكبيرة.»
يشعر سلون أن شبكة كَارَنْت بدأت في السير في اتجاه استرداد بعض من تلك الحماسة الأَوَّلِيَّة، ويبدو أن الأرقام تؤكد صحة كلامه، ويقول سلون: «الدرس المستفاد هنا هو أن الأمر لا يتعلق كثيرًا بتزويد الجمهور بمهمات أسهل بقدر ما يتعلق ببناء استراتيجية تقوم على حقيقة أن الأشخاص المختلفين يجيدون القيام بأشياء مختلفة، ولديهم مساحات مختلفة من الوقت للالتزام، أو ببساطة لديهم اهتمامات مختلفة.»
(٦) تفادي صواريخ الكاتيوشا
في صيف عام ٢٠٠٦ أذاعت شبكة كَارَنْت فيديو بعنوان «تفادي صواريخ الكاتيوشا» أرسله مشارك شاب يدعى جارون جيلينسكي. يظهر الفيديو جيلينسكي والمصور يسافران إلى مدينة حيفا جنوب إسرائيل. قبل بضعة أيام لاقى ثمانية إسرائيليين حتفهم لدى إطلاق صاروخ كاتيوشا من لبنان سقط على محطة قطار. وبينما يحاور جيلينسكي أحد العمال بمحطة القطار، يسمع صاروخ كاتيوشا آخر يسقط في مكان بعيد عن الكاميرا. يتحرك جيلينسكي إلى مخبأ مجاور، وفي تلك اللحظة يسقط صاروخ آخر في المكان نفسه تحديدًا الذي كان يقف فيه جيلينسكي الآن.
لاقى فيلم الفيديو «تفادي صواريخ الكاتيوشا» شهرة ونجاحًا بشبكة كَارَنْت، للسبب الرائع أنه فيلم تلفزيوني مثير للانتباه. إن اللافت للانتباه في ذلك الفيلم بعيدًا عن عامل الإثارة الكامن في الخطر المباشر — مع أن ذلك بلا شك جزء من جاذبية الفيلم — هو صدق سرد جيلينسكي، والسلوك العفوي للأشخاص الذين يحاورهم. بعد سقوط الصاروخ الأول، يسأل جيلينسكي في صوت يشوبه الذعر: «ماذا كان ذلك؟» ينظر الشخص الذي يحاوره، وهو عقيد متقاعد، إلى جيلينسكي دون أن يغير تعبير وجه ويقول: «كان ذلك صاروخًا حقيقيًّا … هل لنا أن نذهب إلى المخبأ.» وكأنه يوصيه برقة بتناول وجبة سوفلاكي بلحم الحمل في مطعم محلي. إنها تلك التفاصيل التي تقودنا إلى شعور أننا شاهدنا فيديو منزليًّا منتجًا بإتقان شديد لهجوم صاروخي، فهو يمحو تمامًا التدخلات التي تستخدمها البرامج الإخبارية لتخفف وطأة الخبر كي تجعلنا نشعر بالأمان. ساهمت مقاطع الفيديو على غرار «تفادي صواريخ الكاتيوشا» في كسب شبكة كَارَنْت للاحترام من قبل مؤسسة التلفزيون. كتبت كارولين بالمر، محررة بشبكة برودكاست آند كابل، بعد بث الفيديو بفترة وجيزة: «تمثل شبكة كَارَنْت ما ينبغي أن يكون عليه المحتوى الذي ينشئه المشاهد: أفلام فيديو ذكية بارعة ومنتجة بإتقان تقدم لي نافذة على قصص قد لا تتسنى لي فرصة مشاهدة تقارير إخبارية حولها بالتلفزيون.»
كما اتضح، هناك بعض الأسباب الوجيهة لذلك الأمر، فعلى مدار نصف قرن، نظمت البرامج التلفزيونية وفقًا لوحدة القياس الأساسية للبث، «أقسام اليوم». من الساعة الثمانية إلى الثمانية والنصف مساءً، ساعات ذروة المشاهدة وهو قسم ذو أهمية، أما الساعة الرابعة صباحًا إلى الخامسة صباحًا، فليس كذلك. تبني الشبكات جدول البرامج على أساس أقسام اليوم. هل ينبغي أن تنقل شبكة إن بي سي المسلسل الكوميدي «اسمي إيرل» من أيام الخميس في الساعة الثامنة لتضعه أيام الثلاثاء وقت عرض برنامج «معبود أمريكا» الذي تعرضه شبكة فوكس؟ أم هل سيجذب ذلك الكثير من المشاهدين بعيدًا عن برنامج «٣٠ روك» الذي يلي عرض مسلسل «اسمي إيرل» يوم الخميس؟
على النقيض من ذلك، فإن شبكة كَارَنْت حلقة مستمرة من أفلام فيديو تبلغ مدة عرضها من خمس إلى سبع دقائق تقوم على نسق شديد التنوع من الموضوعات. ليس هناك ثمة «برامج ترفيهية»، ولا أسباب لعرضها في الثامنة مساءً بدلًا من الرابعة صباحًا؛ ولا يمكن لأحد معرفة ماذا قد يعرض على شبكة كَارَنْت أبدًا. هذا يشجع المشاهدة العابرة، ولا يشجع بقدرٍ كبير على «تنظيم المشاهدين أوقاتهم لمشاهدة برامج بعينها»، وهو الهدف الجوهري لدى كل محطة تلفزيونية؛ جعل المشاهد ينظم أسبوعه وفقًا لجدول برامجها. وبذلك يتناقض منهج شبكة كَارَنْت في وضع برامجها مع كافة التقاليد المتعارف عليها. هناك نموذج سابق لهذا المنهج بالطبع: شبكة إم تي في. لكن تعذر تطبيق جدول غير موجود تجاريًّا هو بالضبط سبب اتجاه شبكة إم تي في بعيدًا عن الأغاني المصورة إلى إنتاج برامج على غرار «العالم الحقيقي» و«دلع سيارتك».
هل يمكن أن تنجح شبكة كَارَنْت الصغيرة المملوكة لجهة مستقلة فيما أخفقت فيه شبكة إم تي في التي يملكها عملاق التلفزيون الكبلي شركة فياكوم؟ هذا يعتمد على تعريف النجاح. في سبتمبر (أيلول) عام ٢٠٠٧ فازت الشبكة بجائزة إيمي «الإنجاز الإبداعي في التلفزيون التفاعلي»، (في حيلة إعلانية بارعة، اختار منتجو حفل جوائز الإيمي توم أندرسون رئيس شبكة ماي سبيس لتسليم الجائزة لآل جور وشريكه الممول جويل هايت عبر بث تلفزيوني عبر الويب). يمكن القول دون خطأ إن الشبكة قد تتاجر بالجائزة مقابل الحصول على عدد أكبر من المشاهدين.
(٧) عملية إقصاء
إذا بدا أنني متعاطف مع المأزق الذي واجهته شبكة كَارَنْت في محاولاتها الأولى، فهذا لأنني أمضيت النصف الأول من عام ٢٠٠٧ وأنا أرتكب الأخطاء نفسها؛ ففي ذلك الوقت كنت أساهم في تنظيم مشروع صحفي تجريبي يدعى «المهمة صفر»، وهو محاولة لاستخدام تعهيد الأعمال للجماهير في إجراء تحقيق صحفي شامل وواسع المدى. كان جهدًا رياديًّا، وصدق ما يقال عن الرواد: هم من تكبدوا عناء المبادرة. في النهاية انتهى بي الحال إلى النظر إلى مشروع «المهمة صفر» على أنه إخفاق مُرْضٍ للغاية. فمن ناحية، أخفقنا في تحقيق أهدافنا التفاؤلية. ومن ناحية أخرى، من خلال التعامل بعدم اكتراث مع مجال غير مدروس، تعلمنا الكثير عن كيف يمكن للجمهور الالتحام معًا لخلق صحافة رائعة. لا تختلف المبادئ الأساسية التي تقف وراء الصحافة التي تقوم على تعهيد الأعمال للجماهير الناجحة كثيرًا عن تلك التي تقف وراء التلفزيون أو التصوير الفوتوغرافي الذي يعتمد على تعهيد الأعمال للجماهير.
غير أن استراتيجياتنا، كما حدث مع شبكة كَارَنْت وقت إطلاقها، كشفت عن سوء فهم كبير لاهتمامات الجمهور وقدراته. باختصار، كنا ساذجين. لكن من باب الإنصاف يجب أن أقول إننا وضعنا تصور المشروع أثناء مرحلة بلغ فيها الإيمان بقدرات الجمهور ذروته، لا سيما قدرتهم على «إعادة تشغيل الأخبار» وفق تعبير روبن سلون بشبكة كَارَنْت. لم تأت بعض من أشد اللحظات إثارة في عالم الصحافة على مدار الأعوام القليلة السابقة بفضل حفنة من المراسلين الصحافيين الجسورين، بل بفضل حشد من المصورين والمدونين ومستخدمي كاميرا الفيديو الهواة. عندما أغرقت موجات تسونامي شواطئ المنتجعات بتايلند وإندونيسيا، من أظهر الحدث إلى باقي العالم؟ الهواة. عندما شن الإرهابيون سلسة من التفجيرات على الحافلات ومترو الأنفاق بلندن، من أنتج الصور والمقاطع الصوتية الأشد لفتًا للانتباه؟ الركاب وكاميرات الهاتف المحمول. إعصار كاترينا ساهم كذلك في تعزيز هذه النقطة؛ فبينما ارتفعت المياه وانحسرت بعد ذلك، اعتمد الصحفيون المحترفون — ناهيك عن عائلات الضحايا — على المعلومات والصور التي أحضرها أشخاص كمن الاعتراف بهم كصحفيين في موقعهم الجغرافي الذي تصادف أن وقعت فيه هذه الكارثة. كان الإسهام الأساسي للإعلام الجديد هو تقديم منتدى على الويب يلتف حوله الناس لتوزيع المعلومات والصور المتعلقة بما كان يحدث داخل المدينة. بدت الصحافة التقليدية نموذجًا باليًا وعتيقًا. بعبارة أخرى كان الوقت الأمثل للجمهور. إننا لم نظل ساذجين وقتًا طويلًا.
(٨) مثل إقامة حفل
من بين أولى العقبات التي واجهتنا العقبات التكنولوجية؛ إذ تعين علينا بناء موقع يسمح لعدد ضخم من المشاركين بالتسجيل والمساهمة بطرقة هادفة. استخدمنا نظام دروبال، وهو نظام للنشر مفتوح المصدر أصبح واحدًا من بين النظم الرائدة في المشروعات التي يوجهها المجتمع. نقلنا تفاؤلنا إلى تصميم الموقع على الفور من خلال إنشاء ما يقرب من ستين صفحة موضوع (مثل «تعهيد الرواية إلى الجماهير»)، تحتوي كل صفحة على ما يصل إلى عشرة مهام منفصلة (مثل «حوار مع خبير حول هذا الموضوع»). وبعد مرور بضعة أشهر من التصميم والاختبار، أصبحنا مستعدين في النهاية للانطلاق.
على غرار شبكة كَارَنْت، كان لدينا ضيوف أكثر مما توقعنا، وعلى غرار شبكة كَارَنْت أيضًا، لم نضع أي شخص للترحيب بهم عندما جاءوا إلى الموقع، فبدلًا من توظيف الأشخاص مقدمًا لإدارة كل موضوع — توزيع المهام أو التراسل مع كل مساهم متوقع أو الترحاب الودود — قررنا تأجيل بناء هذه الطبقة الأساسية من مديري المجتمع حتى بعد البداية الفعلية للحفل، وكان ذلك خطأ كارثيًّا، فالعدد الوفير من زوار الموقع جعل عيوب تصميم المشروع واضحة سريعًا. وُجه المشتركون المحتملون — الذين وصل عددهم خمسمائة فرد تقريبًا بعد الأسبوع الأول — إلى موظف واحد بالمشروع وهو ستيف فوكس، محرر سابق بموقع جريدة الواشنطن بوست، الذي لم يستطع التراسل معهم جميعًا.
كانت النتيجة النهائية وضع العبء التنظيمي على كاهل المتطوعين أنفسهم؛ وبعد أن شعروا بالحيرة جراء المفهوم الشامل لتعهيد الأعمال للجماهير والارتباك نتيجة لتصميم الموقع، وعدم القدرة على الاتصال مباشرة بمدير أو منظم، انسحب ببساطة معظم المتطوعين الأوائل. على مدار الأسبوعيين التاليين، كُلِّفَ ما يقرب من ثلاثين محررًا متطوعًا بإدارة موضوعات مختلفة، إلا أن هذا الأمر طرح مجموعة عقبات أخرى؛ إذ احتاج كل محرر أن يتلقى تدريبًا على استخدام نظام دروبال، حتى إنه بعد أن ألموا بالأمر، كان لا يزال هناك نقص في فهم طبيعة المشروعات مفتوحة المصدر. ويقول ديفيد كوهِن، أحد المحررين بمشروع «المهمة صفر»: «ما احتجناه فعلًا هو أشخاص يدركون التنظيم الإلكتروني، لكن العديد من المحررين لم يكن لديهم خبرة كثيرة بالإنترنت.»
كان تعهيد الأعمال للجماهير موضوع بحثنا، وأيضًا منهجية كيفية تطبيقنا له. ثبت أن هذا الأمر خطأ آخر، فالموضوع ببساطة كان شديد الإبهام والغموض و«الحداثة» إلى حدٍّ يتعذر معه كسب ذلك النوع من الاجتذاب الفوري الذي احتجناه في ضوء الميعاد النهائي البالغ اثني عشر أسبوعًا. إضافة إلى ذلك، كانت توجيهاتنا حول ما أردناه غير واضحة، فمن الممكن أن يكون الجمهور متحمسًا، لكنهم ليسوا قارئي أفكار، فلم يعرف المشتركون هل من المفترض بهم كتابة تقارير على غرار أسلوب أسوشيتدبرس أو رسائل بمدونة أو مقالات رأي أو ذلك النوع من المقالات الجدلية واسعة الانتشار على الإنترنت.
تقول روزين: «ما تعلمناه أنه يجب علينا أن نكون أشد وضوحًا بشأن ما نطلبه من المشتركين، وذلك لأن قدومهم إلى الموقع مرة لا يعني أنهم سيأتون مرارًا وتكرارًا، لذا عليك الاستحواذ على اهتمامهم على الفور.» لا بد أن تلهم كافة المشروعات التطوعية — سواء أكانت صحافة شعبية أم مشروع برمجة مفتوح المصدر أم ببساطة مسيرة خيرية لمكافحة مرض الإيدز — المتطوعين الشغف. فالصراع في الشرق الأوسط يلهم الشغف. كذلك مساعدة المصورين في تطوير مهنتهم. أما استخدام الجماهير في البحث في تعهيد الأعمال للجماهير فقد ألهم فقط الحيرة.
بعد مرور ستة أسابيع تقريبًا — أي في منتصف فترة المشروع — وصل مشروع «المهمة صفر» إلى أسوأ حالاته؛ إذ انسحب معظم المتطوعين الأصليين، وتُرِكَت أغلبية صفحات الموضوعات، وكان التواصل بين الموظفين والمحررين المتطوعين والمشتركين المتبقيين غير متكافئ، مما نتج عنه حالات إساءة فهم متكررة. كانت هناك حاجة لتغيير جذري، ومع أن الكثير من الأشياء انحرفت عن المسار المخطط، كانت لا تزال لدينا ميزة واحدة في مصلحتنا: المعرفة التي اكتسبناها بمشقة من ستة أسابيع من التجربة والخطأ.
كان أول شيء يجب معالجته هو إعادة تصميم الموقع؛ فرغم أن أيًّا منا لم يكن على اتصال بشبكة كَارَنْت في ذلك الوقت، كنا نبتكر منهجًا مشابهًا لزيادة المساهمة، وهو تبني خصائص شبكات التواصل الاجتماعي الشائعة كما في الفيسبوك أو ماي سبيس. وضعنا صورة المحرر وعنوان بريده الإلكتروني أعلى كل صفحة موضوع — والأهم من ذلك — قدمنا منتدى يمكن للمشاركين الاجتماع فيه ومناقشة المشروع، وحاولنا نحن أيضًا تأسيس علاقة رأسية مع كل مشارك؛ إذ كنا قد أخفقنا نحن أيضًا في استيعاب أن الجمهور لم يرد التحدث معنا فحسب بل أرادوا أيضًا التحدث فيما بينهم. شعرنا بأثر إعادة التنظيم على الفور؛ إذ تسنى للمشاركين الآن التعاون بسهولة أحدهم مع الآخر ونقد كل منهم أخبار الآخر. استغلت صحيفة سينسيناتي إنكوايرر هذا المنهج ببراعة: لا تحاول التحكم في المناقشة، كل ما عليك هو توفير غرفة تُجري فيها المناقشة.
مع ذلك، لم تجذب أغلب صفحات الموضوعات قاعدة من المتطوعين المهتمين بعد، وكنا قد أنشأنا موضوعاتنا من منطلق اعتقادنا أن الناس سيعملون بسرور على أي مهمة نطرحها، لكن كما يدرك ليفنجستون وكوبرشتاين جيدًا، لا يمكنك إصدار توجيهات إلى المجتمع، بل يمكنك تقديم اقتراحات فحسب. إذا اتبعك الناس، فهذا رائع، أما إذا لم يتبعوك، فعليك أنت اتباع المجتمع. تعلمنا هذا الدرس من منطلق الضرورة القصوى، ومع ما يقل عن ستة أسابيع متبقية من فترة المشروع، كان علينا التخلص من معظم صفحات الموضوعات، مما اقتضى إزالة تلك الموضوعات (ونحن يعتصرنا الألم) التي اعتبرتها الأهم، وركزنا بدلًا من ذلك على موضوعات جذبت الانتباه بين المجتمع الإلكتروني بما في ذلك موضوعات على غرار «روايات قائمة على تعهيد الأعمال للجماهير» التي لم أفكر مطلقًا في وضعها. لكن ذلك لم يكن الفصل الأخير من تنازلاتنا: قد يرغب الناس في إعادة بث الأخبار، لكن ذلك لا يعني أنهم يريدون كتابتها. استجبنا لذلك بأن غيرنا أولوياتنا مجددًا وطلبنا من المشاركين إجراء أسئلة وأجوبة مع الأشخاص المشتركين في جهود تعهيد الأعمال للجماهير.
كان للتغييرات أثر فوري وإيجابي، فلاقى طلبنا من المتطوعين «كتابة موضوع حول تصميم سيارة كمشروع مفتوح المصدر» استحسانًا كبيرًا كما في طلب إعادة كتابة بحث نصف العام بكلياتهم، أما طلبنا منهم التحدث إلى شخص يحوز إعجابهم واحترامهم فقوبل باستجابة حماسية أكثر، تركزت كافة الجهود الآن على ما أطلقنا عليه «أسبوع المحاورات» — الذي كان مستهدفًا أن يكون خمسة أيام مليئة بالنشاط — وفيه يجري المشاركون حوارات مع مصادر، ويدونون الحوارات لإنشاء خمسين سؤالًا وجوابًا. زاد نشاط المجتمع طرديًّا، حتى إن المشاركين كشفوا عن موضوعات إضافية لإجراء حوار حولها، وسرعان ما تجاوزت قائمة موضوعات الأسئلة والأجوبة التي وضعناها خمسة وسبعين سؤالًا وإجابة، وبعد أن صار لديهم التوجيه الواضح والمهمة الجذابة للعمل على إنجازها، تجمع المتطوعون بمشروع «المهمة صفر» سريعًا، ويعلق كوهِن قائلًا: «أخيرًا انطلقت عربة تعهيد الأعمال للجماهير.»
في الأسبوعين الأخيرين في مشروع «المهمة صفر» بدأ أداء العاملين في المشروع يعادل أداء فريق عمل الصحافة الاحترافية، فقد راح المحررون والمشاركون يناقشون الأسئلة المحتملة، كما وُضِعَتْ جداول زمنية للحوارات وأجريت تلك الحوارات ودونت وأُرْسِلَت وحُرِّرَت. ولما بدأت هذه الموضوعات في التدفق علينا، أصبح من الواضح أن العديد منها قد يفوق توقعاتنا. وفي تقديري، فإن على الأقل ستين من الحوارات الثمانين سترقى إلى مستوى المعايير الاحترافية، وهو ما كان المحاور ملمًّا به جيدًا، فطرح أسئلة صعبة واستطاع استخراج تعليقات مثيرة (وأحيانًا مذهلة) من محاوره. ظهر تبنٍ متبادل للتجريب في كافة الحوارات، وهو إقرار مبهج بأن تلك الأنواع من الجهود التعاونية التي أدى الإنترنت إلى وجودها فعالةٌ مع أنها لا تزال في أطوراها الأولى. قالت سوزان جاردنر، المدونة السياسية الشهيرة، لأحد المشتركين: «نحن بحاجة إلى تجريب أشياء مختلفة، إن عملية الإقصاء يُستخف بها، فما العيب في تجريب شيء وتقييمه والتعامل معه كمعلومة إيجابية تفيد بأن هذا النموذج بعينه لا يعمل بنجاح؟ هذا ليس بإخفاق، بل معلومة مهمة.»
ما أظهرته الحوارات أيضًا أن المشاركين تطوعوا لمعالجة موضوعات شغوفين بها وملمين بها. وفي هذا الصدد كان لديهم ميزة كبيرة تفوقوا بها على المحترفين، الذين يجب عليهم غالبًا إنهاء الحوارات في وقت قليل (أو بميل قليل) لا يسمح بدراسة أعمق للموضوع محل الحوار. إنها قدرة المجتمع على توزيع الموارد الفكرية بصورة طبيعية بهذه الطريقة مما يمكن أن يجعلها آلة أكثر فاعلية من مؤسسة تقليدية تقوم على التسلسل الهرمي للسلطة. إنها تحديدًا معجزة التنظيم الذاتي التي تجعل تعهيد الأعمال للجماهير، في أفضل الظروف، غايةً في الفاعلية. في التحليل النهائي تمكن مشروع «المهمة صفر» من تحقيق إنجاز بارز: فقد جسد أفضل صور تعهيد الأعمال للجماهير وفي الوقت نفسه دراستها.
(٩) عيون وآذان: الصحافة في عصر الشبكة
لم يمر وقت طويل بعد الانتهاء من مشروع «المهمة صفر» حتى نشر جاي روزين الأستاذ بجامعة نيويورك مجموعة من «المعايير» للصحافة القائمة على تعهيد الأعمال للجماهير، وكتب أن أولها: «تنفيذ تقسيم العمل بصورة صحيحة». بعبارة بسيطة، معظم المشتركين لن يكون لديهم إلا مساحة محدودة للغاية من الوقت للمشاركة، فأحيانًا يكون الوقت المتوفر عشر دقائق أسبوعيًّا، وأحيانًا أخرى عشر ساعات، بيد أنه لا بد من أن تنظم المهام بحيث تلائم مستويات مختلفة من الالتزام. هذا ينطبق بالمثل على مجالات أخرى من تعهيد الأعمال للجماهير كما في الصحافة، وهذا يفسر سبب تغيير شبكة كَارَنْت لمنهجها لبث صور وأفلام فيديو قصيرة عبر كاميرا الويب إلى جانب «أفلام الفيديو القصيرة» الأساسية، التي يمكن أن تستغرق أسابيع لتصويرها وإعدادها.
ثانيًا: فهم دوافع المشتركين قبل طلب المشاركة منهم، كتب روزين: «إن الاختلاف بين إنتاج الصحافة على يد الهواة ومنظومة القيادة والسيطرة كما في صالة تحرير الأخبار عميق وحاسم.» لهذا السبب يؤمن روزين — وهو محق في ذلك — أن إنتاج الهواة لن يحل أبدًا محل نظام المراسل الصحفي الذي يتلقى راتبًا، لكن من المحتمل جدًّا أن يكون مكملًا له.
ذكر روزين أن مشروع «المهمة صفر» لم يكن سوى تجربة، واستمر في استخدام موقع نيوأساينمنت منبرًا لإطلاق مشروعات صحفية بنظام تعهيد الأعمال للجماهير، إحداها يدعى «مدونات للمراسلة المتخصصة». من شأن هذا المشروع مساعدة الصحفيين المحترفين في استغلال برامج الشبكات الاجتماعية لتجميع جمهور متخصص يمكنه الإسهام في الارتقاء بفهم المراسل الصحفي لموضوعات معقدة مجبر على التعامل معها.
هذا على وجه التحديد نوع الصحافة التي سيثبت فيها الجمهور على الدوام تفوقه على المحترفين، لسبب بسيط هو أن الجمهور يفوق عدد المحترفين. إن الصحافة أرض خصبة لتعهيد الأعمال للجماهير للعديد من الأسباب نفسها التي تجعل من العلوم أرضًا خصبة كذلك؛ فجزء كبير من العمل الأساسي الذي تنطوي عليه المراسلة الصحفية — كما في البحث العلمي — يكمن في نوع جمع البيانات الذي يتطلب تدريبًا قليلًا. نادرًا ما تستطيع صحيفة تحمل تكلفة إرسال خمسة وعشرين مراسل صحفي عبر المدينة لتحديد حالات الانحراف عن السعر المحدد لرأس من الخس؛ فهذا لا يقع ضمن اهتمام الصحيفة، لكنه يمثل معلومة مهمة للمواطنين. وعلى غرار تجربة السيارات الرياضية متعددة الاستخدامات، برهن مسح الأسعار أنه أمر جذاب للغاية لمستمعي إذاعة دبليو إن واي سي.
إن هذا الإدراك الأساسي — وهو أننا جميعًا نحصل على استفادة أفضل عندما يستكمل الجمهور ما يفعله الصحفيون — هو ما يحرك شركة ناو بابليك التي تتخذ من مدينة فانكوفر بكندا مقرًّا لها. يقول ليونارد برودي، الرئيس التنفيذي للشركة: «ننظر إلى أعضائنا كجيش من العيون والآذان، لكننا لا نطلب منهم أن يكونوا صحفيين، فمصطلح «الصحافة الشعبية» له وقع مشابه لمصطلح «طب الأسنان الشعبي».» ولكن بدلًا من ذلك، تطلب شركة ناو بابليك من شبكة المستخدمين لديها — البالغ عدد أفرادها ١٣٠٠٠٠ مستخدم ينتشرون في ربوع ١٤٠ دولة — ببساطة تحميل صور وأفلام فيديو، وفي بعض الحالات عمل تحقيق صحفي بسيط في أي وقت يشهدون فيه حدثًا ذا أهمية إخبارية. تبيع الشركة بعد ذلك المحتوى للمؤسسات الإخبارية على غرار وكالة أنباء أسوشيتد برس، التي وقعت مؤخرًا اتفاقية توزيع مع شركة ناو بابليك. يقول برودي: «ما تعلمناه من تجارب الصحافة الشعبية أن الناس يجيدون تسجيل ما يرونه أو التقاط الصور، لكنهم ليسوا بارعين في التحليل، وسيئون للغاية في تقديم ووضع اللمسات الأخيرة. نحن على الأرجح أقرب إلى نموذج آي ستوك فوتو.»
تمتلك وكالة أسوشيتد برس شبكة من المراسلين — ثلاثة آلاف مراسل صحفي ومصور فوتوغرافي ومصور فيديو — أوسع من أي وكالة إخبارية أخرى في العالم، لكن هذا الرقم ضئيل للغاية مقارنة بعدد المشتركين بشركة ناو بابليك، وهي حقيقة يعترف بها جيم كينيدي، مدير التخطيط الاستراتيجي بوكالة أسوشيتد برس دون حساسية إذ يقول: «إنه عالم ضخم؛ لذا نستخدم شركة ناو بابليك للحصول على خريطة تغطية أشمل، وهو ما يمثل نظام رادار إضافي إلى جانب المراسلين التابعين لنا.» ويشير كينيدي إلى أنه في ظل الويب لم يعد هدف الوكالة الإخبارية الحصول على صورة أو صورتين جيدتين ببساطة، ولكن «نحن نريد أكبر قدر من التغطية بالصور يمكننا الحصول عليه. عندما نتحدث عن تعهيد الأعمال للجماهير، يتركز الحديث على العثور على معلومة قيمة تضيف إلى تقريرنا، لكنني أرى أنها ستسفر عن شيء أكبر من ذلك في النهاية. بوسعي تخيل قدر هائل من الإسهامات — من هواة ومحترفين أيضًا — يمكن نسجه داخل التغطية.»
يمر تعهيد الأعمال للجماهير بفترة من التأقلم، لذا سيكون في النهاية من التهور لوم الجمهور على أي من عثرات مشروع «المهمة صفر»؛ فالإخفاقات كانت بسبب التنظيم والتوقيت وإدارة المجتمع الإلكتروني، وليس لعيب في تجاوب المتطوعين. إن الأمر الذي كان واضحًا بدرجة كبيرة، حتى في تجربتنا المحدودة، هو أنه يوجد قدر لا محدود من الحماسة للمشاركة في مشروع يراه الناس هادفًا وجديرًا بالاهتمام.
من المفارقة أن هذه الحماسة بعينها — التي تجلت في تجربة آي ستوك والمهمة صفر وشبكة كارنت أيضًا، حتى وقت إرسالي هذا الكتاب للطباعة — هي التي أوجدت أكبر معضلات تعهيد الأعمال للجماهير: يستجيب الجمهور بقدر هائل — فكر في المليوني صورة بآي ستوك أو الثمانين مليون فيديو التي نشرت بموقع يوتيوب — بدرجة تجعل من فرز الاستجابات جميعها عملية تستغرق وقتًا طويلًا للغاية من أضخم عدد من الموظفين. لحسن الحظ، هنا يؤدي الجمهور أعظم حيله على الإطلاق: فالجمهور — كما سنرى بعد ذلك — هو أفضل أداة ترشيح وتنقية لأدائه.