ماذا يرى الجمهور؟
يمكنك العثور على أي شيء ترغب في معرفته عن تعهيد الأعمال للجماهير في شبكة فوكس التلفزيونية ليلتي الثلاثاء والأربعاء، هذا حين يضع برنامج «معبود أمريكا» — مسابقة الغناء التلفزيونية واسعة الشهرة التي تُبَثُّ عبر شاشات التلفزيون — أفضل (وأقل) المواهب الغنائية في الغناء العاطفي والأوبرالي والروك فوق خشبة مسرح عامة ويجعل الجمهور مسئولًا عن تحديد الأفضل. يجري آلاف المتسابقين تجارب أداء للبرنامج في كل موسم، وبعد أن تنتقي لجنة التحكيم التي تضم أشخاصًا مشهورين أفضل المواهب، يُصَوَّتُ للمواهب التي تأهلت للأدوار قبل النهائية إما بالتأييد أو بالاستبعاد عبر الرسائل النصية والمكالمات الهاتفية التي يجريها المشاهدون. يلخص برنامج «معبود أمريكا» بدقة، شأنه شأن شركة ثريدلس، أهم عنصرين في تعهيد الأعمال للجماهير؛ إذ يقدم الجمهور الموهبة الإبداعية جنبًا إلى جنب مع فطنة تصنيف تلك الموهبة.
لاقت أولى حلقات البرنامج في صيف عام ٢٠٠٠ تصنيفات ضعيفة، لكن الحلقات لم تعان الإهمال فترةً طويلة، فقد زاد عدد جمهور المشاهدين بثبات خلال الصيف؛ إذ شاهد الحلقة الأخيرة من البرنامج — التي تفوقت فيها كيلي كلاركسون على جاستن جواريني — ٢٣ مليون شخص، وهو جمهور لم يُسْمَعْ به من قبل لبرنامج صيفي. منذ ذلك الحين أصبح برنامج «معبود أمريكا» قوة تجارية ماحقة، مع عرض نسخ أخرى من البرنامج في ثلاثين دولة أخرى وعلى شاشات بعض من أهم القنوات الإعلانية التلفزيونية. لا تهتم الشبكات الأخرى بمحاولة منافسة البرنامج في الهيمنة على الجمهور خلال الليالي التي يُعْرَضُ فيها. يطلق فريق العمل بشبكة «إن بي سي» على برنامج «معبود أمريكا» «نجم الموت» وذلك لقدرته على محو أي منافسين محتملين. وفي الحلقة النهائية بالموسم السادس بلغ عدد الأصوات ٨٠ مليون صوت؛ أي تقريبًا نفس عدد الأصوات في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس عام ٢٠٠٦ في الولايات المتحدة.
من الواضح أن طرح مثل تلك القرارات للتصويت شكل من أشكال تعهيد الأعمال للجماهير، لكن الأهم من ذلك أن قدرة الجمهور على أداء دور أداة ترشيح أصبحت جزءًا لا يتجزأ من جهود تعهيد الأعمال للجماهير بدءًا من آي ستوك فوتو إلى اليوتيوب إلى مسابقة «أيديا ستورم» التي أطلقتها شركة ديل. بعبارة بسيطة، إن قدر الإسهامات التي يقدمها الجمهور هائل للغاية بدرجة يتعذر على أي شخص فرزها باستثناء الجمهور نفسه. على سبيل المثال، إذا بحثتُ على صور بموقع آي ستوك فوتو باستخدام كلمة مفتاحية للبحث هي «طبيب»، أحصل حينها على ما يزيد عن عشرة آلاف نتيجة. من الواضح أن آي ستوك لا تتوقع أن يتعامل عملاؤها مع آلاف الصور، فلحسن الحظ، رُتِّبَتْ بالفعل وفقًا «للتصنيفات» و«عدد مرات التنزيل»، ويمكن لأي مستخدم لموقع آي ستوك تصنيف أي صورة، ومع مرور الوقت تراكم آلاف من تلك التصنيفات، مما خلق ترتيبًا موثوقًا يسمح بوصول سهل لأفضل الصور بالموقع. إن «عدد مرات التنزيل» يقيس ببساطة الشعبية التجارية للصور الفردية، على غرار أي قائمة لأفضل الكتب مبيعًا. يخلق المقياسان معًا نظامًا فعالًا لتنظيم الأعداد الغفيرة للصور الفوتوغرافية والرسومات التوضيحية — التي يبلغ عددها مليونين وهو رقم يتغير باستمرار — بآي ستوك فوتو.
ليست آي ستوك شركة فريدة من نوعها في هذا الصدد، لكنها نموذج له؛ فموقع يوتيوب يعتمد على مزيج مماثل من «عدد مرات المشاهدة» (التي تقيس عدد الأشخاص الذين شاهدوا الفيديو) والتصنيفات. كذلك يسهم جمهور شبكة كارنت الإلكتروني في تحديد برامج الشبكة من خلال كل من التعليقات والتصويت الإلكتروني، حتى إن مشروع مراجعة النظراء لبراءات الاختراع — مشروع المراجعة الشعبية لبراءات الاختراع — يستخدم نظام تصنيفات لإبراز التعليقات الأنفع والأوثق صلةً بالموضوع في طلبات الحصول على براءة اختراع. إن هذه الخصائص حيلة أقل ذكاءً بكثير لجذب مجتمع مستخدمين (مع أنها تؤدي هذه الوظيفة بصورة رائعة) من آلية استمرار. لن يتمكن أبدًا حارس المبنى التقليدي — بعبارة أخرى موظف يتقاضى أجرًا — من معالجة وتصنيف ملايين الأغاني وأفلام الفيديو والأشعار وألعاب الفيديو وتصميمات المنتجات وبرامج العمل والصيغ العلمية التي تفيض بها الشبكات. إن الاهتمام الجماعي للجمهور وحده، واعتناقه الحماسي لنظام النجوم الخمس للتصنيف هو ما يمتلك القدرة — وهي الطاقة البشرية المطلقة — على خلق أداة ترشيح فعالة. فبدونه سيكون موقع يوتيوب شيئًا معقدًا غير مميز يحوي حيلًا للحيوانات المنزلية، وفي وجوده يمثل موقع يوتيوب أكبر تهديد لهوليوود منذ اختراع التلفزيون.
يرتبط تعهيد الأعمال للجماهير بالكم: وهو مدين في حد ذاته إلى قاعدة بديهية للمحتوى الذي ينتجه المستخدم تدعى قانون سترجيون، وتقضي هذه القاعدة بأن تسعين في المائة من أي شيء (لا سيما المحتوى الذي ينتجه المستخدم) هو بإيجاز لا معنى له. كان ثيودور سترجيون مؤلف قصص خيال علمي يحظى بالتقدير والإعجاب، وقد وضع نظريته بعد «عشرين عامًا من الدفاع المرهق عن الخيال العلمي ضد انتقادات الأشخاص الذين يستخدمون أسوأ الأمثلة بالمجال بوصفها براهين لدعم حجتهم.» استنتج سترجيون أنه في حين أنه من المؤكد أن تسعين في المائة من قصص الخيال العلمي لا تستحق حتى الورق الذي طُبِعَتْ عليه، يمكن أن تنطبق هذه القاعدة نفسها على كافة الأشياء الأخرى. توفي سترجيون عام ١٩٨٥، لكن من الواضح أنه توقع ظهور ثورة اليوتيوب.
لا شك أن الوجه الآخر من قانون سترجيون هو أن عشرة في المائة من كافة الأشياء «ليست» هراء. وفي حالة البث التدويني الجماهيري — على سبيل المثال — إذا كنت تبث مشكلة، فإن احتمالات العثور على حل تزداد جنبًا إلى جنب مع حجم المجموعة التي تعرض المشكلة عليها. تنطبق هذه المعادلة الرياضية البسيطة بالمثل في تعهيد الأعمال الإبداعية للجمهور؛ إذ كلما ازداد عدد الاقتراحات المرسلة، ازدادت معها احتمالات أن تكون قيمة (أو يمكن تسويقها أو ببساطة قابلة للتطبيق). يثير هذا بالطبع مشكلة غربلة الجيد من الرديء، هل ترغب في فرز عشرة آلاف صورة للأطباء؟ بالطبع لا؛ فمن يرغب في ذلك؟ لكن مع توزيع تلك المهمة على مجموعة كاملة من الأشخاص الذين يزورون موقع شركة آي ستوك فوتو — المطلوب منهم ببساطة تصنيف الصور التي تقابلهم — تصبح المهمة ليست ممكنة التنفيذ فحسب، بل ممتعة نوعًا ما.
خصصت الفصل السابق للحديث عما يفعله الواحد في المائة، أما هذا الفصل فأفحص فيه دور فئة من المشاركين على القدر نفسه من الحيوية، وهي فئة العشرة في المائة. لا يستطيع الجميع تصميم تي شيرت يكون ممتعًا ومبهجًا ويحمل دلالات ثقافية من المرة الأولى، كما لا يمتلك الجميع صوتًا عذبًا، لكنك لست مضطرًا لأن تكون مصممًا موهوبًا أو مطربًا بالفطرة لتمييز تلك السمات، ولهذا السبب يبلغ عدد مجتمع ثريدلس الإلكتروني مئات الآلاف وليس عشرات الآلاف. من الواضح أن شعبية برنامج «معبود أمريكا» تمتد إلى ما وراء المؤدين الطموحين كثيرًا. يقتضي الأمر وجود الكتلة الحرجة من الأشخاص لتقديم مساهمات كافية لتضمن أن جزءًا معينًا منها جدير بالاستخدام، لكن من الأهمية بمكان بالمثل بناء نوع آخر من الكتلة الحرجة من الأشخاص وهي مجتمع نشط من المصوتين الذين سيبذلون الجهد بحماسة للكشف عن بضع ماسات ثمينة.
(١) هل ستصدق هذا؟
هناك ميزة أخرى لوجود ١٠٪ من المجتمع الإلكتروني يتفاعل مع الموقع بنشاط. يتلقى موقع شركة ثريدلس مئات التصميمات أسبوعيًّا، لا يُطْبَعُ على التي شيرتات ويُباع للمستهلكين سوى حفنة قليلة منها. منذ تأسيس الشركة عام ٢٠٠٠ حققت ثريدلس نجاحًا باهرًا في أحد أخطر الأسواق المحتملة، وهي السوق التي تسيطر عليها أذواق شريحة شبابية تشتهر بتقلباتها المزاجية. تتميز منتجات ثريدلس بأن فيها المتميز وفيها الضعيف، وهي بذلك تتبع النوع نفسه من التوزيع القائم على قانون الاستطاعة الذي شاهدناه في مجال الموسيقى، والذي تعوض فيه بضعةُ نجاحات آلافَ الإخفاقات. مع ذلك لم تقابل شركة ثريدلس أي إخفاقات؛ فقد باعت كل الكميات من التي شيرتات التي أنتجتها.
إنها خطوة تطورية طبيعية من عدة زوايا؛ فإذا كان العميل على حق دائمًا، فلماذا لا نقدم له أدوات أفضل للتعبير عن تفضيلاته؟ إننا ننعم الآن بتكنولوجيا قادرة على تحديد ما يريده العميل بدقة ويسر كبيرين. كذا أصبحت الفائدة التي يجنيها المصنع أو بائع التجزئة أو مزود الخدمة واضحة أيضًا: كلما فهمت طلب العميل أفضل، وفرت له طلبه على نحو أفضل. يمكن للمرء النظر إلى آليات تصويت الجمهور على أنها بحث سوقي ضخم، فلماذا تدفع مالًا لجلب مجموعات بحث باهظة التكلفة وتتطلب جهدًا شاقًّا وفي النهاية تأتي بنتائج مشكوك فيها في حين أنه يوجد قطاع أعرض من المستخدمين الذين سينقلون تفضيلاتهم بدقة أكبر كثيرًا عبر الإنترنت بكل سرور؟
في ضوء ما سبق، لم تكن أدهى خطط سايمون فولر عند إطلاق برنامج «معبود أمريكا» ترسيخ نظام التصويت الجماهيري، بل كان في الطلب من كل متسابق التوقيع على عقد يشترط أن تمثله الشركة الإدارية التي يتبعها فولر، وهي شركة ١٩ إنترتينمنت. سايمون كاول، حَكَم معروف بقسوته، يعمل لدى شركة سوني بي إم جي للإنتاج الفني التي تطبق شرطًا مشابهًا يقضي بتوقيع كل متسابق على عقد تسجيل. يربح الفائز في كل موسم عقدًا بمليون دولار جائزةً كبرى، لكن الفائزين الحقيقيين هما شركتا سوني بي إم جي و١٩ إنترتينمنت. حققت أول أغنية فردية أطلقتها الفائزة بالمسابقة — «لحظة كهذه» لكيلي كلاركسون — أكبر قفزة في تاريخ تصنيف بيلبورد عندما قفزت من رقم اثنين وخمسين إلى رقم واحد في قوائم أغاني البوب الأمريكية في أسبوع واحد، محطمةً بذلك الرقم القياسي لفريق البيتلز.
أثبت الفائزون التالون أنهم على نفس القدر من النجاح، وقدر كاول أن شركة سوني بي إم جي باعت ما يقرب من مائة مليون ألبوم لمتسابقي برنامج «معبود أمريكا» وحده، فيما باعت الشركة لكلاركسون وكاري أندروود — وهي فائزة أخرى بالبرنامج — ٢٠ مليون نسخة. ذكر كاول في حوار له ببرنامج «ستون دقيقة» في مارس (آذار) عام ٢٠٠٧ أن «اهتمامه الوحيد بمسابقة «معبود أمريكا» كان باعتباره وسيلة لإطلاق ألبومات غنائية.» إنها استراتيجية بارعة؛ فلا يلعب البرنامج دور قناة ترويجية فحسب — مع تحقيقه عدد مشاهدين يأتي بين أكبر أعداد المشاهدين الدائمين في تاريخ التلفزيون — بل يقدم التصويت أيضًا لكاول وفولر وغيرهم من المسئولين الفنيين بشركتي ١٩ إنترتينمنت وسوني بي إم جي مقياسًا مثاليًّا لطلب المستهلك للمواهب الغنائية. في ضوء ما سبق، لا يعد برنامج «معبود أمريكا» برنامجًا تلفزيونيًّا، بل يمثل أضخم مجموعة دراسة في التاريخ. إن الاستهلاك هو النتيجة المنطقية لعملية تعهيد الأعمال للجماهير، والمصوتون هم ببساطة العملاء الذين لم يفتحوا محافظهم بعد.
لم تهمل باقي الشركات بأمريكا هذا المنطق الجذاب والمُرْبِك في الوقت نفسه. كانت شركة فريتو لاي تستكشف بدأب أشكالًا عديدةً من تعهيد الأعمال للجماهير؛ إذ استغلت الجمهور عمليًّا في اقتراح أسماء نكهات جديدة، إلى جانب اختيار أي من هذه النكهات ينبغي أن يدخل في إنتاج طويل المدى. في عام ٢٠٠٦ عقدت الشركة مسابقة لعمل إعلانات تلفزيونية جديدة لمنتج دوريتوس التابع لها، ثم طلبت من زوار الموقع اختيار أفضل مقطع فيديو من بين خمسة مقاطع اختارتها شركة فريتو لاي. عرض الفيديو الأكثر شعبية — الذي يصور فأرًا ضخمًا بحجم إنسان يخترق جدارًا بعنف ليصل إلى مقرمشات دوريتوس بنكهة الجبن — في نهائي «سوبر بول» عام ٢٠٠٧، أما في نهائي «سوبر بول» عام ٢٠٠٨ فبثت الشركة مقطع فيديو مدته ستون ثانية للمغنية ومؤلفة الأغاني كينا جرانيس البالغة من العمر اثنين وعشرين عامًا، التي اعتلى الفيديو الخاص بها قمة السباق من بين عدة مشاركات. وفي وقت إرسال هذا الكتاب إلى الطباعة، هناك ما لا يقل عن سبع عشرة مسابقة على موقع يوتيوب لتصميم إعلانات لكل شيء، بدءً من شفرات حلاقة ماركة شيك إلى شيء بعيد الاحتمال قليلًا وهو برامج تيربو تاكس.
تتبع هذه الأساليب معادلة آخذة في الانتشار: سل الجمهور أن يُحَمِّلَ فيديو يوضح شغفه بالمنتج، وقدم جائزة كبرى تقدر بعدة آلاف دولار، وبالطبع خمس عشرة دقيقة من الشهرة، ثم اطلب بعد ذلك من الآخرين التصويت لاختيار الفائز. تُبْدِي شركة شيك في مسابقتها الحالية مدى إيمانها بأهمية عملية التصويت في الدعاية العامة: «ألا ترغب في تحميل فيديو، أم أنت مهتم فقط بمشاهدة المقاطع المرسلة؟ ساعدنا إذن في اختيار من سينتقل إلى النهائيات من خلال تصنيفك لمقاطع الفيديو وفقًا لمستوى إبداعها «التجريبي». ستدرج الخمسين في المائة من مقاطع الفيديو التي حصدت العدد الأكبر من الأصوات ضمن التصفيات النهائية!» وعادة ما يحتفظ الراعي بسلطة مطلقة في شأن تحديد أي مقطع فيديو سيظهر بالتلفزيون.
بالطبع ما كان بوسعي نشر هذا الكتاب المتعلق بتعهيد الأعمال للجماهير دون ممارسة التعهيد بنفسي. ففي ديسمبر (كانون الأول) الماضي تعاونت مؤسسة راندم هاوس يو كيه للنشر وشركة آبت للتصميمات التي تتخذ من لندن مقرًّا لها لتعهيد تصميم الغلاف الورقي للجماهير وذلك في الطبعة البريطانية لكتاب «الجماهير بين المشاركة والإبداع». وبالتوافق مع النمط المتبع، لم يرسل الجمهور التصميمات فحسب بل صوت أيضًا لاختيار التصميم الفائز، أو بالأحرى، أُحْصِيَتْ الأصوات لإعداد قائمة قصيرة بعشرين تصميمًا، اختير التصميم الفائز من بينها. إن مثل هذه التجربة — أطلقت عليها دار «راندم هاوس يو كيه» اسم «تعهيد تصميم الغلاف للجماهير» وهو الاسم الملائم — نادرة في عالم نشر الكتب الذي يتسم عامةً بالتحفظ، كما أنها أدت الغاية الأساسية المرجوة منها — تصميم غلاف بارع وجذاب — بروعة. أُرسل ما يزيد عن ثلاثمائة تصميم، وبلغ عدد الأصوات عشرين ألف صوت. من خلال فتح عملية التصميم أمام الجمهور، استشففنا درجة ملحوظة من القدرة على الابتكار والأصالة نادرًا ما نجدها واضحة على أرفف محلات بيع الكتب الضخمة المحلية. لقد برهن الجمهور في الأغلب على فطنته في الحكم بتصويته على أفضل المقترحات واعتبارها ضمن أفضل عشرين تصميمًا.
(٢) التصويت بالنص التشعبي
في الأعوام العشرة الأخيرة، زادت المعلومات المتاحة عبر الإنترنت منذ ذلك الحين بمعدل سريع للغاية؛ فيوجد الآن ما يقرب من ١٥ مليار صفحة ويب، ناهيك عن الصور والموسيقى والفيديو وغير ذلك من أشكال الوسائل الإعلامية التي انتشرت بإفراط على الإنترنت. وفي واقع الأمر، نمى هذا البحر الزاخر بالمعلومات للغاية إلى حد جعل من مهمة فرز المحتويات وتنظيمها الشغل الشاغل لبعض من أبرع العقول في مجال علوم الكمبيوتر، فهي مهمة ذات ضرورة ملحة للشركات التي تعتمد على قدرتها على خلق النظام من الفوضى التي يحدثها اختيار لا محدود تقريبًا.
لا يزال تعهيد الأعمال للجماهير ظاهرة ناشئة في العموم، ومع ذلك أصبح تعهيد الأعمال للجماهير بالفعل قوة مهيمنة في ثقافتنا وهذا جانب مهم فيه. إن قدرة الجمهور على أداء دور أداة الترشيح يجعل من وجود شركة على غرار آي ستوك فوتو أو مشروع فريتو لاي الدعائي في نهائي سوبر بول أمرًا ممكنًا. لكن المبدأ نفسه ينطبق على نطاق أضخم كثيرًا وهو أن رأينا الجماعي هو القوة الأساسية عمليًّا في تنظيم محتوى الويب، أكبر مخزن معروف للمعلومات. والمحرك الذي يجعل كل ذلك ممكنًا؟ إنه محرك جوجل.
أدت المجلات العلمية المتخصصة وظيفة أخرى بخلاف نشر التطورات العملية في مجالات على غرار الأنثروبولوجيا الطبيعية والكيمياء العضوية؛ إذ إنها الوسائل التي يضمن بها الأساتذة الجامعيون شغل منصبهم الوظيفي وتعزيز مكانتهم بين زملائهم. فعند كتابة مقال للنشر، يبني الأستاذ الجامعي فكرته التي يجادل بصحتها بعناية من خلال الاستشهاد بالمواد المطبوعة في المجال، كما يفعل المحامي عندما يعزز من موقف قضية ما من خلال الاستشهاد بحادثة سابقة مماثلة عند كتابته مرافعة قانونية. تعج المجلات العلمية المتخصصة الواحدة باستشهادات مرجعية من أبحاث علمية أخرى، وتشكل المنشورات الأكاديمية إجمالًا شبكتها الخاصة من الاستشهادات المرجعية.
ابتكر عالم لغوي أمريكي يدعى يوجين جارفيلد في الخمسينيات منهجًا لتحديد الأهمية النسبية لبحث معين. يتضمن تحليل الاستشهادات المرجعية — كما عُرِفَ هذا المنهج فيما بعد — إحصاء عدد مرات استشهاد أبحاث أخرى ببحث ما؛ من ثم، يأتي مقال أينشتاين الشهير الذي نشر عام ١٩٠٥ والذي يقدم فيه نظريته حول النسبية كخامس «أهم» بحث نُشِرَ قبل عام ١٩٣٠؛ إذ استُشهد به أربعمائة وخمسين مرة.
تبدو هذه الملاحظة — أن الرابط في جوهره استشهاد مكتوب بصيغة النص التشعبي — ملاحظة عادية عند إعادة النظر إلى تلك الفترة الزمنية، إلا أنها كانت ملاحظة رائعة في ذلك الوقت. في عام ١٩٩٥ كان قد مضى على ظهور الويب عام واحد فحسب، وكانت «محركات البحث» في طور البداية. في ذلك الوقت لم يكن محرك ياهو — الذي أصبح الآن أحد أشهر المواقع على الويب — سوى دليل للمواقع التي ينشئها مؤسسا ياهو جيري يانج وديفيد فيلو. صنف فيلو ويانج والموظفون التابعون لهم محتويات الإنترنت بأنفسهم، وليس من خلال الأفعال المستقلة للمستخدمين الجماعيين للويب (أضاف موقع ياهو وظيفة بحثية منفصلة في أواخر عام ١٩٩٥). أما محركات البحث الأخرى على غرار آلتا فستا فكانت تعمل من خلال إرسال «عناكب» تزحف عبر الإنترنت وترسل قوائم من صفحات الويب، التي تنظم فيما بعد، إلى فهرس مركزي، لكن لم يكن هناك طريقة فعالة لتصنيف النتائج وفقًا لارتباطها بالموضوع وأهميتها. فإذا كان شخص ما يبحث عن «النفايات السامة»، فمن المحتمل أن يجد صفحة خاصة بالحديث عن فرقة بانك أيرلندية مجهولة تحمل ذلك الاسم جنبًا إلى جنب مع قوائم «وكالة حماية البيئة» للمواقع السامة في الولايات المتحدة، ولم تسهم هذه التكنولوجيا كثيرًا في تحجيم الفوضى التي صارت سمة أساسية للإنترنت.
تأسست شركة جوجل رسميًّا في سبتمبر (أيلول) عام ١٩٩٨، واستخدمت الشركة نظام الحلول الحسابية الذي توصل إليه المؤسسان (أُطْلِقَ على هذا النظام «بيدج رانك» — أو ترتيب الصفحة — وهو تلاعب لفظي بارع للاسم الأخير للاري بيدج) الذي فعل بالدرجة الأولى في الويب ما فعله جارفيلد في مجال النشر الأكاديمي. كان نظام الحلول الحسابية «ترتيب الصفحة» يقرر مدى علاقة الموقع بالموضوع وأهميته من خلال إحصاء عدد المواقع التي تتضمن روابط له، إضافة إلى عدد المواقع التي تتضمن روابط «لتلك» المواقع. لنقل — على سبيل البرهنة — إن لكل من صفحة «وكالة الحماية البيئية» الخاصة بالنفايات السامة وصفحة معجبي فرقة «النفايات السامة» عشرة روابط، لكن الروابط المؤدية إلى صفحة «وكالة الحماية البيئية» موجودة بمواقع العديد من الجامعات والعديد من الصحف والصفحة الرئيسية لسناتور ما، وجميع هذه المواقع بدورها لها روابط بمئات المواقع الأصغر. يحدد الرقم الإجمالي للروابط في هذه الشبكة الممتدة ترتيب الصفحة الخاص بالموقع، أو موقعه بين التصنيفات. في هذه الحالة، تتفوق الصفحة الخاصة بوكالة الحماية البيئية كثيرًا على صفحة المعجبين الخاصة بالفرقة الغنائية، التي يؤدي إليها عدد من الروابط من مواقع مجهولة مثل هذه الصفحة تمامًا. تتضمن خاصية «ترتيب الصفحة» متغيرات أخرى أيضًا — تُقَدَّرُ بما يزيد عن المائتين وفقًا لجون باتيل في كتاب «البحث: كيف أعادت جوجل ومنافسوها كتابة قواعد الأعمال وحولت ثقافتنا» — لكن يبقى مقياس الروابط هو العنصر الرئيسيّ. كانت وظيفة جوجل البحثية فعالة للغاية في تحديد مدى صلة الموقع بالموضوع — الشرط الضروري لمحرك البحث الفعال — حتى إن الموقع أصبح سريعًا الجهة المهيمنة في مجال البحث على الويب.
ما أثبتته جوجل أن القرارات الفردية للأشخاص، عند جمعها بصورة صحيحة، قادرة على تنظيم كم هائل يصعب التحكم فيه من المعلومات، وتجلت قوة صنع القرار الجماعي لدى الجماهير في صورة الروابط التي وصفها بيدج وبرين في بحثهما الأكاديمي الأساسي ﺑ «الأصوات». بالاعتماد على الأفعال غير المنسقة لملايين الأفراد — بدلًا من الخبراء — في تصنيف المحتويات على الإنترنت وترتيبها، قلبت جوجل بمفردها تقريبًا قرونًا من الحكمة التقليدية رأسًا على عقب.
تكمن روعة نظام جوجل في أنه لا يتطلب أي جهد إضافي من جانب المستخدمين الفرديين؛ فالجمهور يعبر عن حكمه كجزء من سلوكه الطبيعي، وفي غضون ذلك، تصبح تصرفاته المجمعة قاعدة بيانات معرفية في حد ذاتها، كذا لا تضطر جوجل إلى تعيين أفراد لقراءة الخمسة عشر مليار صفحة ويب وتحليلها، فالجمهور يفعل كل ذلك وحده.
في حين أن نظام ترتيب الصفحة قد يكون النظام الأوسع انتشارًا في استخدام القرارات الجماعية للجمهور كآلية تنظيمية، فهو ليس التطبيق الوحيد للفكرة، فموقعا أمازون ونتفليكس يستخدمان البيانات التي ينتجها الجمهور لترشيح كتب وأفلام لعملائهما، والمصطلح الحالي لهذه العملية هو «عملية الترشيح التعاوني»، إلا أنها عملية عتيقة الطراز. كتب مؤلفو كتاب «التسويق بالتداول عبر الإنترنت: القوة التسويقية للترشيح التعاوني»: «عملية الترشيح التعاوني في جوهرها هي أي آلية يتسنى لأفراد مجتمع ما بواسطتها التعاون معًا لتحديد الغث من السمين.» أو بصورة أدق، ما له علاقة بالموضوع وما ليس له علاقة من وجهة نظر الفرد. تسمح لنا أجهزة الكمبيوتر ببساطة بأداء هذه المهمة بقدر أضخم كثيرًا من المعلومات ولعدد أضخم كثيرًا من المستخدمين.
لكن يعود الفضل إلى شركة أمازون لبيع الكتب الإلكترونية العملاقة في نشر أدوات الترشيح التعاوني. استهدف ابتكارُ شركة أمازون تحليلَ الصلات بين العناصر بدلًا من المستخدمين، بعبارة أخرى، يمكن لشركة أمازون — من خلال تتبع ما يشتريه كل عميل بعناية — استخدام القدر الهائل من البيانات الناتجة عن ذلك في استنتاج أوجه صلة بين كتاب السيرة الذاتية لرالف إليسون التي كتبها أرنولد رامبرساد، ورواية «الحياة القصيرة الرائعة لأوسكار واو» لجونو دياز. ليس هناك أي رابط مشترك بين الكتابين، ومع ذلك من يشتري أحدهما يشتري الآخر، لماذا؟ لا تقدم شركة أمازون أي تخمينات، فهي ليست بحاجة إلى ذلك، فقد وجدت أن مجرد إبراز العلاقة بين الاثنين، يحرك عجلة المبيعات. برهنت ترشيحات أمازون على فاعليتها الشديدة حتى إن عددًا كبيرًا من المواقع تبنى نظمًا مشابهة.
على النقيض من ذلك، كان نظام بارك التجريبي أداة ترشيح إيجابية، وذلك لأنه اعتمد في تقنيته على الأفعال الواعية للمستخدمين الذين يصنفون مادة بين أيديهم. كذا استخدم نظام شركة نتفليكس أداة ترشيح إيجابية، مع أن الشركة لها نفس هدف شركة أمازون وهو بيع (أو إيجار في حالة نتفليكس) منتجات أكثر من خلال خيارات ترشيحية أُعِدَّتْ خصيصًا لملاءمة الميول الخاصة لكل مستخدم. لكن في حين أن شركة أمازون بنت أداة الترشيح التعاونية الخاصة بها على أساس أنماط شرائية لعملائها، اعتمدت شركة نتفليكس على أعضائها في تصنيف الأفلام التي يشاهدونها في سبيل تشغيل نظام الترشيحات الخاص بها «سينيماتك». بالمثل، يعتمد نظام التصنيف الذي يتبعه موقع إي باي على المشترين في تصنيف البائعين وفقًا لإمكانية الاعتماد عليهم ومصداقيتهم.
في الآونة الأخيرة، امتدت أدوات الترشيح الجماهيرية إلى مجالات أبعد من تقنيات البحث والتجارة عبر الإنترنت؛ فمثلما أنشأ أمناء المكتبات في السابق فهارس لتنظيم محتويات المكتبات تقوم على الموضوع، تتزايد فهرسة مستخدمي الويب لكل من المحتوى الذي ينشئونه ويستهلكونه باستخدام «علامات». على سبيل المثال: أحدد علامات لكل رسالة أكتبها بمدونة، وفي رسالة نشرتها عن استخدام شركة فريتو لاي لتعهيد الأعمال للجماهير في إنشاء إعلان تجاري يظهر في نهائي سوبر بول، استخدمت علامتي «دوريتوس» و«إعلان»، لذا سيعثر أي شخص يبحث عن «تعهيد الأعمال للجماهير» و«دوريتوس» على رسالتي في قمة النتائج. تسمى مثل هذه العلامات — سواء بطاقة فهرس بمكتبة من الخمسينيات أو علامات مستخدمة لوصف رسالة بمدونة — «بيانات وصفية».
تخطى تبني مثل أدوات الترشيح الجماهيرية هذه نمو أشكال أخرى من تعهيد الأعمال للجماهير، حتى إن الأخبار التي نحصل عليها تشكلت وفقًا للقرارات المجمعة لملايين القراء؛ فمعظم الوسائل الإعلامية — بدءًا من الإذاعة الوطنية العامة إلى صحيفة نيويورك تايمز — تظهر شريطًا جانبيًّا في موقعها يصنف القصص وفقًا لشعبيتها لدى القراء. ويشير ديفيد كار، كاتب عمود مختص بشئون الإعلام بصحيفة تايمز: «من الممكن المخاطرة بفعل ذلك. إن بإمكان حيوان ما — والأفضل أن يكون دولفين — أو مسلسل درامي يدور حول علاقة عاطفية، إحداث فارق ملحوظ، وحينها ينتبه المحررون إلى الأمر، ويدرك المراسلون الصحفيون عندما يتحقق النجاح.»
هذا كله تحول جوهري في كيفية تعاملنا مع العالم من حولنا. إذا حدث أن كان هناك مجال هيمن عليه الخبراء في السابق دون منافس، فهو اختيار المعرفة العالمية وتنظيمها. ومع ذلك وفي غضون بضع سنوات وجيزة، عُممت هذه الوظيفة بدرجة كبيرة، وكما في كافة أشكال الديموقراطية، لا تأتي النتائج الإيجابية دون بعض العواقب المزعجة.
(٣) اضطرابات موقع ديج الكبرى عام ٢٠٠٧
ليست شعبية الموقع وحدها ما تجعل منه موقعًا مهمًّا، بل حقيقة أن الروابط التي تنجح في الوصول إلى الصفحة الرئيسية لموقع ديج تنعم بحياة أخرى في أخبار ورسائل بمدونات أخرى. بعبارة أخرى، لموقع ديج تأثير تضخيميّ كما للمواقع المنافِسة ردِت وستَمْبل أب أون. يمكن لهذا التأثير المتضاعف أن يحقق النجاحَ أو الفشلَ لفرد أو شركة؛ وهو سلطة كانت مقصورة في السابق على وسائل الإعلام العامة.
من يمتلك هذه السلطة؟ ليس كيفن روز أو جاي أديلسون، مؤسسا موقع ديج. يظهر بموقع ديج الكلمات التالية: «لن تجد محررين بالموقع؛ فهدفنا خلق مساحة للناس حيث يمكنهم تحديد قيمة المحتوى معًا. إننا نغير طريقة استهلاك الأفراد للمعلومات إلكترونيًّا.» لكن التغيير سلاح ذو حدين، كما اكتشف روز وأديلسون.
فسر جمهور موقع ديج الإلكتروني قرار روز على أنه نوع من الرقابة، وأعيد إرسال الشفرة، وأزيلت من الموقع مرة أخرى، وأرسلت ثانية وأعيد إزالتها مرارًا وتكرارًا، وسرعان ما اتحد أفراد المجتمع معًا للتصويت على الرسالة التي تحتوي على الشفرة المثيرة للاستياء. لقد نظم جمهور الموقع انقلابًا. ونظرًا لأن المجتمع هو الذي يحدد ما يظهر بالصفحة الرئيسية، فهو يملك بذلك سيطرة مطلقة على ما ينشر. لم يتمكن روز وطاقم العمل من مسح الرسائل بسرعة كافية، وفي غضون بضع ساعات امتلأت أهم خمس صفحات بالموقع بالمقالات التي تحوي الشفرة. لقد أراد جمهور الموقع أن يعرف: هل سيقف روز في صفهم أم في صف مصالح شركة أسطوانات الفيديو الرقمية فائقة الدقة؟
وطيلة فترات اليوم، ظل موقع ديج يلعب في المنطقة الآمنة، كما أشار جاي أديلسون الرئيس التنفيذي لموقع ديج في رسالة بمدونة: «سواء اتفقتم أم لم تتفقوا مع سياسات أصحاب وجمعيات الملكية الفكرية، فلا بد أن يلتزم الموقع بالقوانين من أجل أن يستمر. إن شروط الاستخدام الخاصة بالموقع — وشروط استخدام أغلب المواقع الشائعة — تقضي بموجب القانون أن تتضمن سياسات ضد انتهاكات الملكية الفكرية.» كان ذلك مناشدة منطقية للغاية، لكنها لم تلفت انتباه مجتمع الموقع، الذين استمروا في التصويت للرسائل التي تحوي الشفرة، في النهاية، أجبر روز وأديلسون ذلك المساء على إيقاف موقعهما الإلكتروني.
وبوقوفه إلى جانب مجتمعه الإلكتروني، اتخذ روز بذلك موقفًا أخلاقيًّا، وحسب موقفك من حقوق النشر، لعله بطولي. غير أن اضطرابات موقع ديج تشكل أيضًا درسًا عمليًّا للوقائع الجديدة للإعلام الذي يحركه الجمهور: عندما «يحدد الناس قيمة المحتوى معًا»، يمتلكون أيضًا سلطة اتخاذ القرارات التحريرية المهمة التي ظلت فيما سبق في أيادي القليل من الصحفيين المتميزين بالفكر الجاد والخبرة العالية. إن محرر الصحيفة هو جدارها الواقي الأخير، فهو الشخص الذي يقرر هل سينشر موضوعًا يثير ضجة كبيرة كما في فضيحة تقارير البنتاجون، ومن ثم يُعرض الصحيفة لدعاوى قضائية تلحق بها الكثير من الضرر أم لا. كما اكتشف روزين وأديلسون، لا يتمتع موقع ديج بهذا الجدار الواقي، فلم يكن هدفهما جعل الجمهور يحدد نشر شفرة فك تشفير أسطوانات الفيديو الرقمية فائقة الدقة من عدمه، لكن من ناحية أخرى، لم يكن لديهما خيار، فقد اتخذ الجمهور القرار نيابة عنهما.
بذل موقع ديج ما في وسعه لإنشاء نظم حلول حسابية من شأنها إدراك الأنماط المتشابهة المتكررة من التصويت ومنع مستخدمين بعينهم إذا شكت في تبعيتهم لشركات مثل سَبفيرت آند بروفت، لكنها معركة لا تنتهي.
يكره كين موقع ويكيبديا، ويمقت كذلك عالم المدونات، ويرى أن موقع يوتيوب يدمر الفن السينمائي، ويؤكد كين في كتابه بأننا نتجه بسرعة البرق نحو عصر من ضعف الجودة الجماعية تحل فيه الجماهير الغوغائية محل الخبراء ونصبح جميعًا حينها أكثر حماقة. أتفق مع كين في مخاوفه، ولكن ليس في إدانته العامة للإعلام الاجتماعي. إن مواقع جوجل ويوتيوب وديج شكل من قاعدة الجماهير الغوغائية، وبينما تزداد أهميتها، يزداد من ثم نفوذ الجماهير، إلا أن هناك فارقًا طفيفًا بين حكم الغوغاء والديمقراطية، فتحقيق الديمقراطية يتطلب قدرًا من التساهل مع حكم الغوغاء. إن تعهيد الأعمال للجماهير — وآليات التصويت الجماهيري بالأخص — يصحح وضعًا مُجحفًا امتد فترة طويلة من الزمن؛ إذ تحكمت في المجال الثقافي فترةً طويلة نخبةٌ — وهو ما يمكن للمرء أن يكتشفه من خلال جولة في القنوات التلفزيونية وقت ذروة المشاهدة — لم يجد أفرادها أي صعوبة في إرضاء الذوق العام بأيسر الطرق. على أي حال قد يمثل قدر من الديمقراطية العنصر المنشط الذي يحتاجه المجال الثقافي.
ولكن على النقيض من ذلك تقف الرؤية القائلة إن هناك ارتباكًا في الوضع، وإن تلاشي دور الخبراء ليس وشيكًا. حقًّا إن الجمهور الآن يهدد النخبة، لكنني على قناعة من أن هذا الموقف سوف يتوازن، مما سيؤدي إلى نظام أعقد يتعايش فيه الإعلام الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع الإعلام التقليدي في تآلف وانسجام. أما وجهة النظر التي يذكرها كين الخاصة بمواقع على غرار ديج وردِت ويوتيوب فهي غير محتملة تقريبًا؛ فخلال الأعوام التي عملت فيها لدى مجلة وايرد، رأيت أن مصادر الحصول على المعلومات أو وجبات المعلومات أصبحت أشد تنوعًا، وأزعم أنها أصح. وفيما يخص الغالبية العظمى من المستخدمين، فإن كلًّا من موقعي يوتيوب وديج أطباق جانبية جذابة وإن كانت حريفة المذاق أحيانًا. وبعد، فإن لحكم الغوغاء ميزته، فهو يتيح للناس الاستغناء عن استخدام الوسطاء، وهذا ليس بالأمر السيئ، حتى عندما يتصل الأمر — بوجه خاص — بتوحيد سلطة القرار الجماعي مع السلطة المالية الجماعية.