الفصل الثاني
(ساحة أمام القصر … جوقة الشعب محتشدة … وقف منها «أوديب»
و«الكاهن» و«كريون» موقف الماثلين بين أيدي قضاء.)
أوديب
:
يا أهل طيبة! … إنكم الآن أمام جريمة ضد شخصي وعرشي … اقترفها
هذان المتآمران! … ولقد قضيت فيها بالحكم الذي أراه عادلًا …
ولكني لن أنفِّذ حكمي، حتى أقوم بتحقيق جرمهما في حضوركم …
فأنا لا أحب أن يُعميني الغضب عن الحق! … سأكشف لكم عن وجه
الحقيقة بيدي الآن؛ لتُبصروا المجرم سافرًا!
الجوقة
:
من كان يظن — يا «أوديب» — أن «كريون» و«كبير الكهنة»، يتآمران
عليك؟!
أوديب
:
أنت في سذاجتك أيها الشعب لا ترى ما يُنسَج في الظلام! … ولكني
الساعة ممزِّقٌ لك الستار؛ لترى في النور تلك الأيدي الأثيمة
التي أرادت أن تلطخ عرشك بالإثم والدم!
الجوقة
:
الويل لكلِّ من يمس شعرة منك، أيها الملك! … نحن لن ننسى أبدًا
أنك البطل، الذي أنقذنا من «أبي الهول»! … اضرب أعداءك يا
«أوديب» بلا رحمة! … ونحن معك!
الكاهن
:
ما أبرعك يا «أوديب» في تأليب الشعب علينا! وزجِّك بنا في موقف
المجرمين! … وليس لنا من جرم إلا إخبارك بما أوحت به السماء من
أمرٍ؛ لتُزيل عن «طيبة» هذا الطاعون!
أوديب
:
ما زِلت — أيها الكاهن الخائن — تسمِّي هذه المؤامرة وحيًا من
السماء؟!
الكاهن
:
لا تغضب يا «أوديب»! … وأنت الذي قلت الساعة إنك لا تريد أن
يُعميك الغضب عن الحق! … تمسَّك بالحلم، وتوسَّل بالأناة،
واشرع في التحقيق الذي وعدت به … وأسرع فيه، حتى لا تشغل الشعب
به، عما يعانيه من شقاء!
أوديب
(للجوقة)
:
أترى حقًّا أيها الشعب أني أشغلك بهذا التحقيق عما أنتَ فيه من
شقاء؟!
الجوقة
:
امضِ يا «أوديب» فيما شرعت فيه … واكشف الستار … فنحن مشوَّقون
إلى رؤية ما وراءه من أمور!
أوديب
:
أرأيت — أيها الكاهن الآثم — كيف طاش سهمُك؟! … تلك هي إرادة
الشعب!
الكاهن
:
يا له من ساذج حقًّا! … هذا الشعب! … نعم … هذا الشعب، الذي
يُطعَم بالخيال لا بالحقائق! … لقد نسي الطاعون الذي يفتك به …
ونسي أنك لم تجد علاجًا لإنقاذه … ونسي وحي السماء، الذي كان
ينتظر مجيئه … ولم يذكر إلا شوقه إلى رؤية أوهام، تزعم له أنك
رافعٌ عنها الستار!
أوديب
:
لا تُهن الشعب، أيها الكاهن! … إنك ماثل أمام محكمته … وهو الذي
سيدينك، ويُقرُّني على عقابك، عند ما يرى جُرمك عاريًا، وقد
جردتك من سرِّك!
الكاهن
:
افعل يا «أوديب» وعجِّل! … إنك لم تزَل البطل الذي يفتن الناس،
يكشف الأسرار ويحل الألغاز، ولكن الشعب سوف يعلم أني لا أخفي
سرًّا، ولا أحمل لغزًا! … إنما أردتُ صادقًا أن أستعين بالإله
على طرد الطاعون من أرضنا! … ولقد بلَّغتك بما جاء به الوحي …
وتلك كل جريمتي عندك!
أوديب
:
كلَّا! … أيها الكاهن! … جريمتك أنت تعرفها، كما يعرفها «كريون»!
… ومن يُظاهر كما في الخفاء! … لن أتولى أنا عرضها أمام الشعب
… بل أترك لكما هذا الشرف … حتى لا يُقال إني أسأت النقل، أو
تعمدتُ التحريف! … تكلَّم أنت أيها الكاهن بما لديك … أو دَع
شريكك يتكلم! (الملكة «جوكاستا» تخرج من القصر.)
الجوقة
(ملتفتة)
:
الملكة «جوكاستا»!
جوكاستا
:
إلى أن أحضر هذه المحاكمة؟ … إن التهمة التي توجِّهها، يا
«أوديب»، إلى هذين الرجلين لخطيرة!
كريون
:
أتصدقين يا «جوكاستا» أن أخاك «كريون» يطمع في عرش زوجك؟!
أوديب
:
لست أنا الذي يحاكِم أخاك يا «جوكاستا» … بل الشعب هو المحكمة …
إنما أنا رجل، يتولَّى تحقيق الجريمة … وسترين الآن بعينيك؛
كما سيرى الناس مِن حولك، ما يُسفر عنه التحقيق!
كريون
:
لقد قضى في أمرنا بالموت أو النفي!
أوديب
:
ولن أرضى بأخفَّ من هذا العقاب أبدًا، لمن يتآمر على العرش! …
فهذه مؤامرة لو تمَّت؛ لكان من عواقبها النفي — لي أنا — أو
الموت!
جوكاستا
:
يجب أن يكون الدليل دامغًا يا «أوديب»، قبل أن تنفِّذ فيهما هذا
الحكم الصارم!
أوديب
:
ها هو ذا التحقيق يجري علانية … أمامك يا «جوكاستا»، وأمام الناس
جميعًا … وسأذهب به إلى الأغوار وأنقب في الأعماق؛ لأُخرِج لكم
في نهاية الأمر، الحقيقة ناصعة لا يشوبها إبهام!
الجوقة
:
امضِ في عملك يا «أوديب»! … فأنت خيرُ من يُميط اللثام عن سر
الأشياء!
أوديب
:
وددت أن يجري الأمر في حضور «ترسياس» … وأنا أعرف منزلته فيكم …
ولقد بعثت في طلبه … قبل خروجي إليكم!
الجوقة
:
نِعمَ الذي صنعت يا «أوديب»! … إن وجود هذا الشيخ المقدس، بيننا
الساعة؛ … لَممَّا يزيد في اطمئناننا.
جوكاستا
:
ما من أحد مثلي يريد أن يدخل قلبه الاطمئنان … فأنا أعرف الناس ﺑ «كريون»
… فهو أخي الذي نشأت معه … وإن طباعه المستقيمة، وخلقه
السوي، وضميره النقي؛ لمما يلقي في نفسي الدهش لفعلته! … إني
لا أعرف بعد كيف تآمر ضد العرش! … كل ما انتهى إليَّ، هو أنه
موصوم بهذا الجرم … ولكني لست أرى، كيف أقدَم على ذلك؟!
أوديب
:
ستعرفين الآن! … لا من فمي، ولكن من فمه هو! (يظهر «ترسياس»
يقوده غلامه.)
الجوقة
:
ها هو ذا «ترسياس» قد أقبل!
أوديب
:
أفسحوا له طريقًا!
ترسياس
:
إني أعرف لماذا أنتم ها هنا محتشدون! … فحذار أن تسألني رأيًا يا
«أوديب»، أو تطلب إليَّ كلامًا!
أوديب
:
لن أفعل … إنما أردت أن تكون حاضرًا هذه المحاكمة، لأن مثلك لا
ينبغي أن يُنسى في الأحداث الجسام؛ فأصغ إلى ما سيقال الآن،
وافهم ما تنطوي عليه هذه الأقوال من مرمًى!
ترسياس
:
إني مُصغٍ يا «أوديب»!
أوديب
:
والآن إليكم أيها الناس كيف تآمر هذان الرجلان! … لقد وعدت أن
أترك المتهمين يبسطان الأمر؛ توخيًا للعدل، ولن أحنث بالوعد …
هلمَّ يا «كبير الكهان» … تكلَّم أنت أولًا!
الكاهن
:
ماذا أقول؟ … لقد قذفت بنا يا «أوديب» في هذا الموقف المخجل! …
وألحقت بنا وصمة التهمة … وعرضتنا لأنظار الشعب خونة آثمين،
قبل أن نعرف ما هو ذنبنا؟! … ليس عندي كلام غير ما تعرف ويعرف
الناس … لقد ارتفعت شكواكم يا أهل «طيبة»، من ذلك الطاعون الذي
فتك بكم، فلم نرَ حيلة لدفعه عنا إلا أن نطلب وحي السماء …
فرأينا أن يذهب إلى معبد «دلف» رجل من بيت الملك، مشهود له
بالحزم في الرأي، والصلابة في الحق، والاستقامة في المسلك! …
وكان هذا الرجل هو «كريون» كما تعلمون … فهل ترون في هذا العمل
بأسًا، أو عليه غبارًا؟
الجوقة
:
كلَّا!
الكاهن
:
ولقد ذهب «كريون» إلى معبد «دلف» … ثم عاد يحمل ما أوحى به الإله
من قول في هذا الطاعون وعلته … ولم أشأ أن يفضي بما جاء به …
إلا إلى الملك على انفراد … حرصًا منا على حبس الأمر في أضيق
حدوده، ورغبة منا في تجنب إثارتكم!
الجوقة
:
ما الذي جاء به «كريون» من وحي السماء؟
الكاهن
:
على «كريون» أن يفضي به إليكم، إذا شاء!
الجوقة
:
تكلَّم يا «كريون»!
كريون
:
إنه شيء مُروِّع! … لا يحق لي أن أذيعه فيكم … إلا بإذنٍ من
«أوديب»!
أوديب
:
إني آذن لك في أن تقول هنا كل شيء.
كريون
:
هاكُم ما جئت به … أنقله إليكم بنصه: «السماء غاضبة؛ لأن أرض
«طيبة» ملطَّخة بالدنس … ملكها «لايوس» مات مقتولًا … ولم
يُثأر بعدُ من قاتله … ولن يُرفع عن «طيبة» الغضب، إلا إذا
غُسل ذلك الدم!
الجوقة
:
ملكنا «لايوس» مات مقتولًا؟!
أوديب
:
ليس هنا وجه العجب … أيها الشعب! … ولكن سلوه عن القاتل!
الجوقة
:
من القاتل؟ … من القاتل؟
كريون
:
ثِقوا أنه يؤلمني أشد الألم أن ألفظ اسمه … وأني عندما عرفته —
أول مرة — أصابني من الرَّوع ما لا قِبل لي بوصفه … ولكن
«أوديب» قد أعماه الحرص والخوف، فنسي منزلته من نفسي، ومكاني
منه ومن أسرته؛ كما نسي غابر أيامي، التي أنفقتها في نصرته …
وخلقي، الذي يأبى ما رماني به … وطبعي، الذي ينفر مما توهَّمه
عني!
الجوقة
:
من قاتل «لايوس» يا «كريون»؟ … من القاتل؟
كريون
:
لا تُرهقوا فمي بذكر هذا الاسم العزيز! … اطلبوا إلى الملك
الماثل أمامكم أن يذكره لكم!
أوديب
:
بل اذكر أنت اسمه؛ بفمك يا «كريون»!
الجوقة
:
اذكر لنا يا «كريون» اسم القاتل!
كريون
:
هو … «أوديب»!
الجوقة
:
«أوديب» هذا؟! … «أوديب» ملكنا؟! … هو قاتل «لايوس»؟!
جوكاستا
:
ماذا أسمع منك يا «كريون»؟!
كريون
:
هكذا أوحت السماء يا «جوكاستا»!
الجوقة
:
«أوديب» هو القاتل؟! … القاتل هو «أوديب»!
أوديب
:
أرأيتم يا أهل «طيبة» … كيف دُبرت المؤامرة؟! هل تتصورون أني
أقتل «لايوس» … وأنا لم أره؟! … ألا تذكرون أني عندما هبطت
أرضكم، كان عرشه خاليًا، ومكانه مجهولًا؟! … ولكنهم يريدون أن
أكون أنا القاتل وليحقَّ عليَّ بعدئذٍ الموت … أو النفي! …
لأنهم يضيقون بحكمي! … ويكرهون — لغرض في أنفسهم — أن ألبث
فيكم ملكًا!
كريون
:
أسأل السماء أن تصبَّ عليَّ اللعنة، لو كان في نفسي مثل هذا
الغرض الخبيث! … وإني لأقسم … أقسم أني ما زِدت شيئًا، على ما
سمعت، ووعيت من وحي «معبد دلف»!
جوكاستا
:
إلى أن أُدلي برأي، فيما شجَر بينكما من خلاف؟! … لست أرى فيكما
كاذبًا ولا باغيًا! … ما من شك عندي في أن «كريون» قد سمع ما
جاء به! … وقد نقله إليك يا «أوديب»، وهو خالص النفس، نقي
الضمير ولكن «وحي السماء»، أرفع مكانًا من أن يدركه البشر، في
كل حين! … قلما استطاع بشر أن يحسن فهم «الوحي الإلهي»! … إن
إرادة الإله لها من المرامي، ما لا يتسع له ذهن إنسان! … فلن
يكون إذَن لمخلوقٍ سلطانٌ كامل على الغيب، ولا قدرة كاملة على
التنبؤ! … وفي يدي الدليل: «لايوس»! … لقد خبَّرته نبوءة: أنه
سوف يموت بيد ابنه — ابنه الذي هو من صلبه، ومن بطني! … وإخال
«ترسياس»، الحاضر هنا يذكر خبر تلك النبوءة!
ترسياس
:
أذكر ذلك أيتها الملكة!
أوديب
(في تهكم خفي)
:
حقًّا … إنه خيرُ من يذكر ذلك!
جوكاستا
:
ما الذي حدث بعد ذلك؟ … لقد هلك ذلك الابن في المهد … فقد دفع به
أبوه، عقب ولادته بأيام ثلاثة، إلى راع حمله مغلولَ القدمين،
ليُهلكه على جبل أجرَد … أما «لايوس» فقد لقي حتفه، كما
تعلمون، خارج هذه الديار! … سطا عليه، كما أُنبئت يومئذٍ،
جماعة من اللصوص، قتلوه في موضع ناءٍ، عند ملتقى طرقٍ ثلاث …
هكذا مات الأب، بيدٍ غير يد ابنه! … فأين ذهبَت النبوءة إذَن؟
… إن الوحي — كما ترون — لا يصدُق في كل الأحول … والسماء لا
تهمس بكلامها لكلِّ الآذان! … إنها أحفظ لسرها مما تظنون …
ولغتها لا يفهمها كل إنسان … وهي تُؤثِر أن تُسفِر عن نواياها،
بالأفعال لا بالأقوال … إن القول هو لغتنا، نحن البشر … أما
لغة الإله فهي الفعل … إياكم أن تتخذوا مما جاء به «كريون»
دليلًا! … إنما هو شيء سمِعه … لا ينبغي أن يكون له أثر … أو
أن يُرتَّب عليه قرار!
أوديب
:
أرجو يا «جوكاستا» أن تكون أذني قد أساءَت السمع!
جوكاستا
:
لماذا … ما هذا القلق على وجهك؟!
أوديب
:
لا شيء … إنما هو الموقف من غير ريب … وما يثار فيه من غريب
الكلام، وعجيب الاتهام، قد أوقعني في الخلط!
جوكاستا
:
أفصِح يا «أوديب»! … واكشف عما خالجك … أتراني قلت شيئًا مسَّكَ
عن غير قصد؟! … إن كثيرًا من الكلمات الجوفاء، تَندسُّ
أحيانًا؛ كالغوغاء في مواكب المعاني!
أوديب
:
خُيل إليَّ أني سمعتك تقولين: إن «لايوس» قتل عند ملتقى طرق
ثلاث!
جوكاستا
:
حقًّا! … ذلك قلته!
أوديب
:
قلت ذلك؟ … قلت ذلك؟
جوكاستا
:
ماذا دهاك يا أوديب؟ … نعم! … ذلك ما انتهى إلى علمي في ذلك
الحين!
أوديب
:
وأين كانت تلك الطرق؟ في أي أرض؟
جوكاستا
:
في أرض يقال لها «فوكيس» … حيث يفترق الطريق إلى سبيلين: أحدهما؛
يؤدي إلى «دوليا»، والآخر إلى «دلف»!
أوديب
:
وفي أي عهد وقع ذلك؟
جوكاستا
:
كل الناس يعرفون أن ذلك حدث، قبل جلوسك على العرش بزمن
قليل!
أوديب
:
أيتها السماء! … أيمكن أن يكون ذلك حقًّا؟!
جوكاستا
:
ماذا يا «أوديب»؟ … ما الذي يشغَل بالك، ويلقي هذا الاضطراب في
نفسك؟!
أوديب
:
لا تسأليني شيئًا! أخبريني: كيف كان «لايوس»؟ … في أية سنٍّ
كان؟
جوكاستا
:
كان رجلًا فارعًا! … فضي الشعر أجعده! أما وجهه، ففيه منك بعض
شبه!
أوديب
:
أتُرى حقًّا لعنة السماء قد صُبَّت عليَّ؟!
جوكاستا
:
ما هذا الذي تقول يا زوجي؟! … إنك لتخيفني!
أوديب
:
أتُرى فيما جاء به الوحي بعض الحقيقة؟! … أخبريني أيضًا بشيء
أخير … حتى لا يبقى في نفسي خلجة شك!
جوكاستا
:
إنك تفزعني! … سأفضي إليك بكل ما وصل إلى علمي!
أوديب
:
كيف كانت حاشية «الملك لايوس»؟ … كم كان عدد حراسه؟
جوكاستا
:
لم يكُن يحرسه في رحلته أكثر من خمسة رجال … ورائد في الطليعة …
ولم تكن هنالك غير مركبة واحدة، ركب فيها الملك!
أوديب
:
كفى يا «جوكاستا»! … كل شيء اتضح لعيني الآن واستبان … لكن … من
الذي أخبرك بكل هذا؟
جوكاستا
:
خادم! … هو الوحيد، الذي عاد حيًّا، من ذلك السفر!
أوديب
:
ألم يزل قائمًا بالخدمة هنا؟
جوكاستا
:
كلَّا! … لقد سألني أن أعفيه، من خدمة القصر، عندما رآك قد حللت
في مكان سيده، وجلست على عرش ملكه … ولقد ذهب فيما أعلم إلى
البرية؛ ليعمل راعيًا، بعيدًا عن هذه المدينة!
أوديب
:
أنستطيع إحضاره في الحال؟
جوكاستا
:
نستطيع … ولكن لماذا تريد ذلك؟
أوديب
:
آه … يا زوجتي العزيزة! أخشى أن أكون قد بحتُ بأكثر مما يجوز …
يجب أن أرى ذلك الرجل أولًا.
جوكاستا
:
ستراه! … ولكن! ألا يحقُّ لي يا «أوديب» أن أعرف ذلك الذي يُشيع
في نفسك، كل هذا القلق والاضطراب؟!
أوديب
:
ستعرفين! … أرسِلوا في طلب الراعي!
الجوقة
:
لينطلق أحدنا؛ أرسلوا في طلب ذلك الراعي!
الجوقة
:
لينطلق أحدنا؛ كالريح إلى البرية، في طلب الراعي!
(يجري بعض الحاضرين من الشعب، إلى الخارج.)
جوكاستا
:
ما الذي تريد أن تعلم منه يا «أوديب»؟
أوديب
:
هذا الراعي هو أملي الوحيد! … أرجو أن أسمع منه قولًا، يخالف ما
تفوهتِ أنتِ به!
جوكاستا
:
يخالفه في أي موضع؟!
أوديب
:
لقد قلتِ إن القاتل جماعة من اللصوص … وإنه هو الذي ذكر لك ذلك …
لا بُدَّ لي من سماع شهادته؛ ليجلو هذا الأمر المهم: أكان
القاتل جماعة حقًّا، أم كان فردًا واحدًا؟! … على هذه الشهادة
يتوقف الحكم ويتقرر المصير!
جوكاستا
:
مصير من؟ … مصير من يا «أوديب»؟
أوديب
:
مصيري! … هنالك شيء أخفيته عنك يا «جوكاستا» … كما أخفيت أنت عني
خبر هذه الظروف التي مات فيها «لايوس»!
جوكاستا
:
إني لم أخفِ عنك شيئًا … تلك تفصيلات ما كانت تخطر على البال إلا
أن يدعونا إلى ذكرها داعٍ، أو يدفعنا إلى تقليبها دافعٌ، وما
هي بعد بالموضوع الذي يجمل بي أن أحادثك فيه بلا ضرورة!
أوديب
:
أنا أيضًا ما تعمدت إخفاء شيء! … ولكنها حادثة عبرت، ما علقت
عليها أهمية في حينها، وما ألقيت إليها بالًا؛ لأني ما عرفت
شخصَ مَن قابلت.
جوكاستا
:
من قابلت يا «أوديب»؟
أوديب
:
رجل في مركبة … يحرسها نحو خمسة رجال … اعترضوني في أرض «فوكيس»
… في مفترق الطرق بين «دوليا» و«دلف» … فنشب بيننا خلاف فيمن
يمرُّ أولًا … وتطور الخلاف إلى شجار … ودفعتني حماسة الشباب
يومئذٍ وفورته؛ إلى العنف، فرفعت هراوتي في وجه الرجال
واشتبكنا في معركة … ظهرتُ فيها عليهم، ولكن ضربةً من هراوتي،
فيما يبدو، طاشت فأصابت رأس من كان في المركبة … وانطلقت أنا
بعدئذٍ في سبيلي حتى دنوت من أسوار «طيبة»، ولقيت الوحش … وكان
من أمري ما تعلمون؟ … فإذا كان ذلك الرجل صاحب المركبة هو
ملككم «لايوس» … فأنا إذَن ضاربُه وقاتلُه!
جوكاستا
:
إلهي! … إلهي!
أوديب
:
ولكني كنت بمفردي … وأنتم تقولون: إن قاتل «لايوس» جماعة من
اللصوص … لا بُدَّ من إيضاح هذا الأمر … قبل أن أصدر في نفسي
حكمًا!
الجوقة
(تلتفت)
:
ها هو ذا الراعي، قد جاءوا به!
(يدخل بعض الناس ممن ذهبوا في طلب الراعي، وهم يقودون
شيخًا هرمًا.)
أحد الناس
:
ما كدنا نخطو قليلًا، حتى صادفناه مقبلًا؛ فقد بلغه — فيما قال —
خبر المحنة، فجاء يصلي مع أهل «طيبة»، ويضرع معنا إلى السماء؛
كي تُذهِب عن أرضنا هذا الوباء!
الجوقة
:
يا له من شيخ هرم!
أوديب
:
ادنُ مني أيها الرجل! … وأجب عما أطرحه عليك من أسئلة! … أكنت في
خدمة الملك «لايوس»؟
الراعي
:
نعم! … وفي بيته وُلدتُ، ونشأت!
أوديب
:
وماذا كان عملك لديه؟
الراعي
:
أرعى ماشيته!
أوديب
:
أتذكُر كيف قُتل «لايوس»؟
الراعي
:
ذاك حادث قديم! … وقد ضعفت مني الذاكرة! … ووهن الذهن!
أوديب
:
تذكَّر! … تذكَّر! … من قتل «لايوس»؟
الراعي
:
قتله — فيما أذكر — فتًى قويٌّ جلد!
أوديب
:
كيف؟
الراعي
:
زحم مركبة الملك عند مفترق الطرق، بين «دلف» و«دوليا» … وقام
شجار بينه وبين الحراس من الحاشية، فتغلب عليهم، وقتلهم،
وأصابت ضربة منه رأس الملك فأصمَّته ومات! … وهربت أنا بجلدي
من المعركة … ولم ينجُ غيري!
أوديب
:
أما كانوا جماعة هم الذين اعتدوا على الملك؟
الراعي
:
كلَّا يا مولاي! … كان رجلًا فردًا.
أوديب
:
لقد انجلى الآن كل شيء لي ولكم، وانحسر النقاب عن وجه القاتل …
صدقت يا «كريون»! … وصدق الوحي الذي جئت به من «معبد دلف»! …
ألتمس منك المغفرة! ومن كبير الكهنة؛ فقد أثمت بسوء ظني فيكما،
وبتوجيهي إليكما ذلك الاتهام الباطل! … قاتل «لايوس» بين
أيديكم! … أيها الناس! لن أحاول دفاعًا عنه، فاحكموا فيه بما
ترون … وأنزلوا به ما يستحقه من عقاب!
جوكاستا
:
«أوديب»! … «أوديب»! … لا تسرف هكذا، في اتهام نفسك! … فأنت لم
تتعمد القتل … ولم تكن تعرف من المقتول؟!
أوديب
:
لا تدافعي عني يا «جوكاستا»! … فأنتِ بضعة مني … وما يحسن بنا أن
نقيم من أنفسنا، مدافعًا عما اجترحنا من ذنوب!
جوكاستا
:
ما دمتَ تأبى عليَّ وعلى نفسك هذا الحق … فها هنا «ترسياس»،
يتولى عنك الكلام!
ترسياس
:
إذا احتجت إليَّ يا «أوديب» فأنا منك غير بعيد!
أوديب
:
كلَّا! … بل ابقَ في مكانك يا «ترسياس»! … ولا تتدخل! … أمري
بيَّن! لقد ارتكبت جريمة ونسيتها … ولكن السماء لم تنسَها …
إنها تريد الآن الثمن! … وتطالب بالجزاء! … ومهما يشك «العقل»
في حقيقة الصلة، بين تلك الجريمة، وهذا الوباء؛ فإن الشرف، لا
يشك في حقيقة الواجب، الملقى على كتفي! … واجبي الآن هو أن
أتخلَّى عن عرش رجل، مات بيدي!
جوكاستا
:
مات بيدك؛ على كرهٍ منك! … ما أحسب السماء تطالبك فيه، بهذا
الثمن الفادح!
أوديب
(كالمخاطب نفسه)
:
إن السماء لا تظلم أبدًا؛ لأنها ميزان لا يعرف الخلل، ولا الميل،
ولا الانحراف ولا الهوى! … وما نراه منها جورًا، ليس إلا عجزنا
عن رؤية ما توارى في الضمائر، ولهوَنا عن تذكر ما علينا من
حساب! … إنها تضيف إلى الذنب الظاهر وِزر الذنب الخفي! … لقد
كذبت على الشعب! … لقد خدعت الشعب!
ترسياس
(صائحًا مقاطعًا)
:
كفى! … كفى!
(يظهر عندئذٍ شيخ أحنى ظهره الهرم.)
الشيخ
(صائحًا)
:
أيها الناس!
الجوقة
(تلتفت)
:
من هذا الشيخ الصاعد من البرية؟!
الشيخ
:
دُلوني على قصر «أوديب»!
الجوقة
:
هذا هو قصره أمامك! … من أنتَ أيها الغريب؟ … وماذا تريد؟
الشيخ
:
أنا رسول من «كورنت» … جئت برسالة إلى «أوديب»!
أوديب
:
ها أنا ذا أيها الرجل! … اقترب! … ما خبرك؟
الشيخ
:
خبر سار! … وإن كان فيه ما قد يثير فيك بعض الشجن!
أوديب
:
تكلَّم أيها الرسول! … وأخبرنا بما تحمل إلينا من نبأ!
الرسول
:
أهل «كورنت» يُهدون إليك التحية، ويسألونك أن تكون عليهم
ملكًا!
الجوقة
:
ملكًا! … على أهل «كورنت»؟!
جوكاستا
:
يا للسماء! … التي تقطع وتصل! … أرأيت كيف تظلم نفسك يا «أوديب»!
… لقد أردت التخلي عن عرش «طيبة» … فها هو ذا عرش يأتيك من
السماء!
أوديب
(للرسول)
:
وأين ذهب ملككم «بوليب»؟
الشيخ
:
مات وثُوي في التراب!
أوديب
:
«بوليب» مات؟ … كيف؟ … أبِمرضٍ مات، أم بحادثٍ عرَضٍ؟
الشيخ
:
بمرض الشيخوخة!
أوديب
:
لن أنسى أبدًا أنه كان لي، في مكان الأب الرحيم! … وماذا جرى
للملكة «ميروب»؟
الشيخ
:
لقد أقعدها الكبر! … وهي في طريقها إلى اللحاق بزوجها!
أوديب
:
لقد أحبتني هي الأخرى؛ كما لو كانت لي أمًّا … يا لهما من
بارَّينِ كريمَينِ! … إني لأذكر فجيعتهما، يوم أخبرتهما بكشفي
حقيقة الصلة، التي تربطني بهما … وإني لست سوى طفل لقيط تبنياه
… لقد حاولا جاهدَينِ أن ينتزعا من رأسي هذه الحقيقة! … ولكني
أبيت أن أقبل حنانهما؛ كما تُقبَل الصدقة! … أرجو أن يكونا قد
نسياني، بعد فراري من «كورنت»، وأن تكون الأيام قد شغلتهما
عني!
الشيخ
:
كلَّا! … لم ينسياك! … ولقد أرسلا خلفك، في ذلك الحين، من يبحث
عنك، ولكنك اختفيت … لقد مات «بوليب» وهو يذكر اسمك … ويوصيني
أن أجدَّ في البحث عنك، وأن أعرض عليك من بعده الملك!
أوديب
:
وكيف عرفت أنت مكاني؟
الشيخ
:
خطر لي، آخر الأمر، أن أبحث عنك في مسقط رأسك! … فسرتُ قُدمًا
إلى «طيبة» فلما دنوت من أسوارها، علمت أنك أنت اليوم
ملكها!
أوديب
:
ومن قال: إن «طيبة» هي مسقط رأسي؟!
الشيخ
:
إني أعرف ذلك؛ لأني أنا الذي التقطتك، وأنت طفل، وسلمتك إلى
«بوليب»!
أوديب
:
أنت؟! … التقطتني؟! أيها الشيخ؟!
الشيخ
:
في جبل ذي شجر … بالقرب من «سيتايرون»!
أوديب
:
وماذا كنت تصنع هنالك؟
الشيخ
:
كنت أرعى الماشية!
أوديب
:
وكيف وجدتني؟
الشيخ
:
تلك الندوب التي في قدميك تخبرك!
أوديب
:
حقًّا! … تلك ندوب قديمة، نشأت عليها، وما أخبرني أحد قط بشيء عن
أمرها، وسرها، ومنشئها!
الشيخ
:
إنها من قيد! … لقد كنت مقيدًا من رسغيك! … وأنا الذي فكَّ قيدك!
… لهذا سميت «أوديب» أي مُورَّم القدمين!
أوديب
:
يا للسماء! … ومن ذا الذي كان قد فعل بي ذلك؟! … أهي أمي التي
ولدتني، أم أبي الذي لفظني؟!
الشيخ
:
لست أدري من ذلك شيئًا … سَل ذلك الذي سلَّمك إليَّ!
أوديب
:
سلَّمني إليك؟! … أوَلست أنت إذَن الذي عثر بي؟!
الشيخ
:
بل راعٍ آخر! … هو الذي عهِد بك إليَّ، ووضعك في يدي على تلك
الصورة!
أوديب
:
راعٍ آخر؟ … من هو؟! … أتستطيع أن تخبرنا من كان ذلك
الراعي؟!
الشيخ
:
أذكر أنه قال لي في ذلك اليوم: إنه من رجال «لايوس».
أوديب
:
«لايوس»؟! … ملك «طيبة» السالف؟!
الشيخ
:
أجل … الملك «لايوس» … لقد قال لي ذلك الراعي إنه من
خُدَّامه!
أوديب
:
خدامه كثيرون من غير ريب … أوَلم يزَل حيًّا، ذلك الخادم الذي
تعنيه؟ … أفي إمكاني أن أراه وأسأله، وأعلم منه؟
الشيخ
:
هذا أمر يجيبك عنه أهل «طيبة»!
أوديب
:
أيها الناس! … خبروني! … ألم يسمع أحدكم شيئًا عن ذلك الخادم
الذي نتحدث عنه! … أما من واحد منكم، رآه في المدينة، أو في
المروج؟ … فليتكلم منكم من يعلم! … لا تلزموا الصمت! … ها نحن
الآن أولاء، قد وصلنا إلى مفتاح السر … سر مولدي! … سر حقيقتي!
… الذي طالما نقبت عنه، وجريت خلفه!
الجوقة
:
سلِ الملكة «جوكاستا» … فربما كان لديها علم بأمر ذلك الخادم، في
بيت «لايوس»؟!
أوديب
:
زوجتي العزيزة! … ألا تعلمين شيئًا عن ذلك الخادم؟
جوكاستا
(شاحبة الوجه)
:
أي خادم تتحدثون عنه؟ … لست أعلم شيئًا … ولا ينبغي أن نعلم …
إنك يا زوجي كثير الإصغاء إلى كل ما يقال … دع هذا الأمر،
وأغلق هذا الباب؛ فلن تظفر من ورائه بطائل!
أوديب
:
عجبًا يا «جوكاستا»! … كيف أغلق هذا الباب، وقد بدأ يتفتح عن
السر الذي أتوق إلى معرفته؟!
جوكاستا
:
لا … لا يا «أوديب»! … لا تحفر كل هذا الحفر بحثًا عن سرٍّ …
إنما أنت تحفر الآن قبر سعادتك! أتوسل إليك أن تكفَّ … إني
خائفة … إن لعنة أبدية تتجمع لتنقض على رءوسنا … بحق السماء
كفَّ يا «أوديب»؟!
أوديب
:
لا تخافي! … لقد قلت لي يومًا: إنك لا تحفلين بحقيقة مولدي! …
فلأكن ولدت من صُلب عبد، من عبيدك الأرقاء … فهل هذا يخيفك؟ …
أو يورثك من الخجل ما يذل نفسك أو يسحق كبرياءك؟ … سأمضي في
بحثي عن حقيقتي … تلك رغبة أقوى مني … ولا يستطيع أحد أن يحُول
بيني وبين رغبتي، في أن أعرف من أنا … ومن أكون؟!
الجوقة
:
امضِ في طريقك، أيها الملك العظيم! … واكشف الستار عن مولدك! …
فمهما يكن أصلك ومنبتك؛ فنحن بك فخورون!
أوديب
:
لا أريد أن أعيش في ضباب … حتى ولو كان له الملك ثمنًا … لقد
تركت «كورنت» وعرشها بحثًا عن الحقيقة … والآن — وقد كدت أضع
يدي على مفتاحها — أحجم، وأتراجع، وأكفُّ؟! لن يكون ذلك أبدًا!
… لن يكون ذلك أبدًا!
الجوقة
(تلتفت إلى الخلف)
:
ما لهذا الراعي خلف الصفوف، يتسلل كمن يريد الهرب؟!
أوديب
:
أي راع؟!
الجوقة
:
ذلك الذي كان في حاشية «لايوس»!
أوديب
:
أمسكوا به وأحضروه! … لا بُدَّ أنه يعلم شيئًا.
(يدفع بعض الناس الراعي إلى حيث يقف «أوديب».)
الجوقة
:
لماذا تهرب أيها الراعي؟
الراعي
:
لم أهرب … ولكني ما رأيت موجِبًا لبقائي!
أوديب
:
ما انصرافك هكذا إلا لعلة … سنعرفها الآن … ربما كنت تعرف من
نطلب.
الراعي
:
لست أعرف أحدًا … ولا شيئًا.
أوديب
:
اقتربوا به أولًا من رسول «كورنت» … وأنت أيها الرسول، تفرَّس في
وجهه جيدًا … فربما أدى ذلك إلى أمر … (يدفع بالراعي إلى جوار
الشيخ.)
الجوقة
(تنظر إلى الرجلين)
:
شيخان هرمان لكأنهما في عمر واحد!
الشيخ
(صائحًا بعد أن يحدق في الراعي)
:
هو بعينه … هو بعينه!
أوديب
:
من؟ … من؟
الشيخ
:
الراعي الذي سلمني الطفل!
أوديب
:
أسمعت أيها الراعي؟
الراعي
:
لست أفهم شيئًا مما يقول هذا الشيخ!
أوديب
:
أما سبق لك أن لقيت هذا الشيخ في بقعة من البقاع؟!
الراعي
:
لست أذكر!
أوديب
:
وكيف استطاع هو أن يذكُر؟
الشيخ
:
دعني يا «أوديب» أشحذُ ذاكرته … ما إخاله ينسى تلك الأيام التي
نعمل فيها متجاورين، في منطقة «سيتايرون» … كان هو يرعى قطيعين
… وكنت أنا أرعى قطيعًا واحدًا، ولقد تعاقبت علينا ثلاثة فصول
… من الربيع إلى الخريف … حتى إذا أقبل الشتاء، سُقت قطيعي،
عائدًا إلى «كورنت» … وساق هو قطيعيه، راجعًا إلى «طيبة» أما
كنا نفعل ذلك أيها الراعي؟!
الراعي
:
هذا حقًّا ما كنا نفعل … ولكن مضت على ذلك سنون كثيرة.
الشيخ
:
أجل! … مضت سنون كثيرة … ولكن ذلك لا يمنع من تذكُّر ذلك الطفل
الرضيع، الذي وضعته بين ذراعي ذات يوم، وتوسلت إليَّ أن أربيه؛
كما لو كان ابني!
الراعي
(مرتجفًا)
:
ماذا تعني؟ … وماذا تبغي مني أن أقول؟
الشيخ
:
ما أبغي منك إلا أن تنظر أمامك، أيها الصديق القديم … ها هو ذا
طفلك الرضيع!
(يشير له إلى «أوديب».)
جوكاستا
(تلفظ بغير وعي همسة كالحشرجة)
:
كفى! … كفى! (تهم مندفعة نحو القصر … ولكن «أوديب»
يمنعها.)
أوديب
(صائحًا)
:
أين تذهبين يا «جوكاستا»؟!
جوكاستا
:
أيها الإله! … رُحماك!
أوديب
:
مكانك لحظة! … لتسمعي بأذنيك، حقيقة منبتي!
جوكاستا
:
لا أستطيع البقاء لحظة أخرى … لا أستطيع … لا أستطيع.
أوديب
:
لا تستطيعين أن تتحملي حمرة الخجل، تصبغ وجهك، وأنت تسمعين أمام
كل هذا الملأ، من أي بطن وضيعٍ خرج زوجك … إني ما أرغمتك قبل
الآن على شيء قط … ولكني أرغمك، الآن إرغامًا على البقاء في
مكانك؛ لتعرفي عني ما سيعرف الساعة هذا الشعب المحتشد! … حتى
وإن كان في ذلك إذلال لجلالك الملكي، وجرح لعزة أسرتك
العريقة!
الجوقة
:
ابقي معنا أيتها الملكة! … واسمعي ما نسمع … ولن يضيرك شيء … فإن
«أوديب» فينا، ملك ببطولته لا بأسرته!
أوديب
:
أصغي يا «جوكاستا» إلى حكمة الشعب ورغبته!
جوكاستا
(تخفي وجهها بغلالتها)
:
رحماك أيتها السماء!
أوديب
(للراعي)
:
والآن أيها الراعي! … صارحنا بجواب مستقيم … ليس في التواء … عن
حقيقة ذلك الطفل، الذي سلمته إلى صاحبك هذا!
الراعي
:
صاحبي هذا يا مولاي، لا يدري ما يقول … إنه ولا ريبَ
مخطئ.
أوديب
:
حذارِ أيها الراعي! … إذا أبيتَ أن تُجيب بالحسنى، فإنا نعرف كيف
نرغمك على الكلام!
الراعي
:
ترفَّق يا مولاي برجل هرم مثلي!
أوديب
:
إذا أردتَ الرفق بك، فتكلَّم!
الراعي
:
ماذا تريدون أن تعلموا أكثر مما علِمتم؟
أوديب
:
ذلك الطفل الذي تحدث عنه صاحبك هذا، أهو أنت الذي سلمته
إليه؟!
الراعي
:
أجل يا مولاي … أنا … وإني لأتمنى لو كنت متُّ في ذلك
اليوم!
أوديب
:
إني مُذيقك الموت اليوم، إذا امتنعت عن الإفضاء بالحقيقة!
الراعي
:
الويل لي! … إن في هذه الحقيقة موتًا لي، وأي موت!
أوديب
:
أما زلت تنوي أن تتهرب وتروغ؟!
الراعي
:
لم يبقَ إلى ذلك سبيل! … أوَلم أعترف بأني أعطيته الطفل؟ … ماذا
يُراد بعدئذٍ مني؟
أوديب
:
من أين جئت بذلك الطفل؟ … مِن بيتِك، أو من بيت آخر؟
الراعي
:
ليس من بيتي … بل … من بيت آخر!
أوديب
:
من أي بيت؟
الراعي
:
ويلاه! … ويلاه! … أستحلفك بالسماء يا مولاي … أن تكفَّ عن
سؤالي!
أوديب
:
أجِب … أجب إذا أمسكت الآن عن الإجابة، فإني منزل بك كل عذاب،
وملقٍ بك في شر ممات! … تكلَّم!
الراعي
:
كان ذلك الطفل من بيت … «لايوس»!
أوديب
:
أكان ابن عبدٍ من عبيده؟ … تكلَّم!
الراعي
:
ألا يمكن أن تعفيني من القول؟! … مولاي … رفقًا بي!
أوديب
:
يجب أن تتكلم … ويجب أن أسمع … وإلا حطمت رأسك الأبيض! … بلا
رحمة … وسحقت جسمك الواهن!
الراعي
:
كان الطفل … ابنه هو.
أوديب
:
ابن مَن؟
الراعي
:
ابن … «لايوس»!
أوديب
:
ابن الملك «لايوس»؟!
الراعي
:
نعم!
(يحدث هرج بين الشعوب … ويكاد «أوديب» ينهار، ولكنه
يتماسك.)
أوديب
:
ما تقول فظيع أيها الرجل … فظيع ما تقول! … لا يكاد عقلي يصدِّق
… حذار أيها الرجل أن تكون في قولك كاذبًا أو واهمًا … لقد
فهمتُ الآن العلة في هروبك مني … ما أنت في واقع الأمر إلا
منبع الخبر! … منك أنت — ولا ريب — عرف كهان المعبد! … فما من
سر يُدفن في الصدر سبعة عشر عامًا، دون أن تنتشر له في الهواء
رائحة! … أنت إذَن مصدر الوحي في «دلف»! … حذار أن تكون
مفتريًا عليَّ بالزور، أو موحيًا بالإفك!
الراعي
:
بل هي الحقيقة … وفي مقدورك أن تسأل الملكة «جوكاستا» … فقد كان
كل شيء في حضورها وبعلمها … لقد دفعوا إليَّ بالطفل لأهلكه …
ولكن قلبي لم يجرُؤ على إهلاكه … فسلَّمته إلى هذا الرجل …
ليذهب إلى بلاده، ويتخذه ولدًا … فأخذه، وأنقذ بذلك
حياته!
أوديب
:
أكان طفلًا حملته الملكة «جوكاستا»؟
الراعي
:
أجل يا مولاي … وقد قيل يومئذٍ إن هلاكه ضروري لنبوءة مشئومة
لحقَت به … هي أن هذا الابن سوف يقتل أباه!
أوديب
(صائحًا)
:
«لايوس»! … «جوكاستا»! … يا للسماء! … يا للسماء! … انقشع الضباب
من حولي … فرأيت الحقيقة … ما أبشعَ وجه الحقيقة! … يا لها من
لعنة! … لم يسبِق أن صُبَّ نظيرها على بشر … «ترسياس»! …
«ترسياس»! ولكنك جامد كتمثال … لقد شعرت بطيف الكارثة … وانقبض
لها صدري … قبل أن تنقضَّ … ولكني ما تصورتها قط بهذه الفظاعة!
… كذلك انقبضت لها أنتِ يا «جوكاستا» … «جوكاستا»!
(«جوكاستا» وكأنها كانت طول الوقت ماثلة، بغير رشد …
تسقط على الأرض، فاقدة الصواب.)
الجوقة
(في صياح)
:
أسرعوا إلى الملكة! … الملكة «جوكاستا» تنوء تحت وقر الكارثة! …
أنجدوها … أسعفوها. أدخلوها القصر!
(يجتمع الناس حول جسم الملكة … يحملونها برفق، يعاونهم
«أوديب» وقد أذهلته الفجيعة … ويدخلون بها القصر … تاركين «ترسياس» في
موضعه.)
ترسياس
:
اذهب بي أيها الغلام بعيدًا عن هذا المكان! فقد راقَ للسماء أن
تتخذه ملعبًا! … نعم! … إن الإله يلهو ويُنشئ فنًّا … ويصنع
قصة … قصة على أساس فكرتي … هي بالنسبة إلى «أوديب» و«جوكاستا»
مأساة … وبالنسبة إليَّ أنا ملهاة! … عليكما إذَن يا صاحبَي
هذا القصر أن تذرفا العبرات … وعليَّ أنا أن أرسِل
الضحكات!
(يضحك كالمجنون.)