المنظر الأول
(في القصر … «جوكاستا» في حجرتها … ملقاة على فراشها …
ومن حولها «أوديب» وأولادها جزِعِين.)
أوديب
(هامسًا)
:
ابتعدوا عنها قليلًا، يا أطفالي … ولا تُراعوا … إنها
نائمة.
أنتجونة
:
أهدابُها تتحرك يا أبتاه!
أوديب
:
نعم … إنها تتنبه … إياكم أن تُظهروا لها الجزع … إنما
هو مرض عارض … لا يلبث أن يزول!
(«جوكاستا» تتنهد، وتفتح عينيها.)
جوكاستا
:
أين أنا؟ … أنتم هنا يا أولادي؟ … هذا أنت يا … «أوديب»!
… ويلي! … ويلي!
أوديب
:
تجلَّدي يا «جوكاستا»!
جوكاستا
:
ألم أزَل على قيد الحياة بعد؟! … أما ابتلعَتني الأرض؟!
أما طواني الفناء؟!
أوديب
(بصوت منخفض)
:
كُفي عن هذا الكلام في حضرة أولادنا!
جوكاستا
:
أولادنا … أولادنا … يا لبشاعة ما تقول!
أنتجونة
(مرتاعة)
:
أماه!
أوديب
:
اذهبي يا «أنتجونة» مع إخوتك … لا تزعجوا أمكم الآن
(يخرجهم برفق من المكان).
جوكاستا
(كالمخاطبة لنفسها)
:
أولادنا! … أولادنا!
أوديب
(يعود إليها)
:
«جوكاستا»! … أيتها العزيزة! … رفقًا بنفسك وبي!
جوكاستا
:
أولادنا! … من أي بطن خرجوا … كلهم … وأنت معهم يا …
«أوديب»! … بطن واحد … حملهم وحملك! … لن تقول بعد
اليوم إنهم أولادك! … بل هم أيضًا إخوتك … ولن تقول
إني زوجك بعد اليوم … فأنا أيضًا لك في عين الوقت …
أنا أيضًا لك … ماذا؟ … ماذا؟ … ماذا أقول؟!
أوديب
:
لا تقولي شيئًا يا «جوكاستا»!
جوكاستا
:
أعرفَت الدنيا من قبلُ إثمًا كهذا الإثم؟! ألَطَخ وجه
الأرض دنسٌ، مثل هذا الدنس؟! … أنزَلت على رأس بشر مثل
هذه اللعنة؟ … مع ذلك لم أزل حية … حية أتنفس … وأتكلم
… وأبصر أولادي … أولادي جميعهم … جميعهم!
(تبكي وتمزق شعرها.)
أوديب
:
رفقًا بنفسك وبي!
جوكاستا
:
«أوديب»! … زوجي و… ابني! … لماذا فعلت بنا السماء ذلك؟!
… أي جُرم استوجب علينا هذا العقاب؟! … أتُراها
جريمتي، يوم تركتك للهلاك صغيرًا؟! … ابني وزوجي! …
أهذا ممكن؟! … أهذا يمكن أن يحتمله كيان بشر؟ … دون أن
يصاب بالجنون … أو يُصعق من الفور! … لا بُدَّ أن أموت
يا «أوديب»! … لا بُدَّ أن أموت!
أوديب
:
لن تموتي يا «جوكاستا»! … سأذود عنك؛ كوحش أصابه سعار …
سأقف في وجه كل من ينال منك شعرة … سأصمد معك لصواعق
السماء … وضربات القدر … ولعنات البشر … لن تموتي! …
لن تموتي!
جوكاستا
:
وما قيمة الحياة الآن … يا «أوديب»! … ما قيمة حياتنا! …
عدونا الآن، ليسوا في السماء، ولا في الأرض! … عدونا
داخل أنفسنا … عدونا هو تلك الحقيقة المدفونة، التي
حفرتَ أنت عليها بيديك، وكشفت عنها ولا سبيل إلى
الخلاص منها … إلا بالقضاء على أنفسنا، يجب أن أموت
إذا أردتُ أن أخنق في أعماقي ذلك الصوت البشع للحقيقة
البشعة!
أوديب
:
لن تموتي … سأقضي على كل عدو لك … حتى وإن كان داخل
نفسك!
جوكاستا
:
كلَّا يا «أوديب»! … لا تفعل! … إنك بذلك تمدُّ في عذابي
ولا تريحني … لقد قضي الأمر وحلَّت علينا اللعنة من
الإله ومن الناس! … أينما سرنا … تبعتنا الأنظار؛
كأنها حجارة ترجمنا!
أوديب
:
تشجَّعي يا «جوكاستا» مثلما أتشجَّع … وتجلَّدي مثلما
أتجلَّد … واحتملي كل شيء لمواجهة الواقع!
جوكاستا
:
أي واقع نستطيع أن نواجهه بعد اليوم!
أوديب
:
كياننا الواحد … أسرتنا المتحدة … قلوبنا المتحابة …
نفوسنا التي تعمرها المودة، وتدعمها الرحمة! … مَن في
مقدوره أن يهدم كل هذا البنيان؟! … وأي قوة في إمكانها
أن تدكَّ هذا البرج المشيد، من حب وعطف وحنان؟!
جوكاستا
:
«أوديب»! … يا … لست أدري كيف أناديك!
أوديب
:
ناديني بأي وصف شئت! … فأنت «جوكاستا» التي أحبها … ولن
يغير شيء ما بقلبي … فلأكن زوجك أو ابنك … فما تستطيع
الأسماء ولا الصفات أن تبدل ما رسخ في القلوب من العطف
والود! … ولتكن «أنتجونة» وإخوتها أولادًا لي أو
أشقاء؛ فما يستطيع وضع من هذه الأوضاع أن يغير في نفسي
ما أكنُّه لهم من الحنان والحب! … أعترف لك يا
«جوكاستا» أني تلقيت الضربة؛ وكدت بها أنوء … ولكنها
ما استطاعت قط أن تجعلني أبدل شعوري نحوك لحظة واحدة!
… فأنت هي «جوكاستا» دائمًا … ومهما أسمع من أنك لي أم
أو أخت … فلن يغير هذا من الواقع شيئًا … وهو أنك عندي
دائمًا: «جوكاستا»!
جوكاستا
:
«أوديب»! يا من أعزه أكثر من نفسي! … لا تحاول أن تخفف
عني وطأة المصيبة! … إن الواقع هو كما وصفت … ولكن
الحقيقة يا «أوديب»! … ماذا نفعل بصوت الحقيقة
الصارخ؟!
أوديب
:
الحقيقة؟! … إني ما خفت يومًا من وجهها … ولا ارتعت من
صوتها!
جوكاستا
(كالمخاطبة لنفسها)
:
لطالما حذرتك من ذلك! … وأشفقت عليك منها … أنت الذي
قضيت خير أيامك تجري خلفها … من بلد إلى بلد … لتمسك
بنقابها … حتى التفتت إليك، آخر الأمر … وكشفت لك
قليلًا عن وجهها المروع، وصرخت بصوتها المدوي … فهدمت
صرح سعادتنا … وصَيَّرتنا إلى ما ترى … حطامٍ من أسرة،
لا تعرف لها وضعًا بين الأسر … ولا نعتًا بين
البشر!
أوديب
:
كان ينبغي لي يا «جوكاستا» أن أعرف الحقيقة!
جوكاستا
:
لقد عرفتها … فهل استرحت؟!
أوديب
:
حقًّا … ليتني ما عرفتها … وهل كنت أتخيل أنها بهذا
الهول؟ … وهل كان يخطر لي أنها شيء، قد يقضي على
هنائي؟! … الآن فقط أدركت … بعد أن انتقمت مني … لأني
عبثت بنقابها!
جوكاستا
:
انتقمت منا جميعًا يا «أوديب»! … انتقامًا لا قيام لنا
من بعده!
أوديب
:
لا تقولي ذلك يا «جوكاستا» في وسعنا أن نقوم انهضي معي …
ولنضع أصابعنا في آذاننا … ولنعش في الواقع … في
الحياة التي تنبض بها قلوبنا الفياضة بالمحبة
والرحمة!
جوكاستا
:
لا أستطيع يا «أوديب»! … لا أستطيع البقاء معك! … إن حبك
لأسرتك قد أعماك … إنك لا ترى الناس، وما هم قائلون …
لو استأنفنا هذه الحياة الشاذة بعد اليوم … لم أعُد
أصلح للبقاء … أيها العزيز … ليس هنالك من مخرج إلا …
ذهابي!
أوديب
:
لن تذهبي! … سأرغمك على الحياة … سأحرسك الليل والنهار …
لن أسمح لشيء أن يحطم سعادتنا … ويقوِّض أسرتنا …
سأترك الملك والقصر … ونرحل معًا بصغارنا عن هذه
البلاد.
جوكاستا
:
نرحل معًا! … كلَّا … بل أرحل أنا وحدي.
أوديب
:
«جوكاستا»! حذارِ أن تُقدمي على أمر يلقي في قلبي اليأس!
… أنت تعرفين أني لا أستطيع لك فراقًا … تجلَّدي
وانهضي معي نواجه الحياة … ثقي أنه ما دامت لنا قلوب،
فنحن صالحون للبقاء!
جوكاستا
:
لم نعُد نصلح للبقاء معًا!
أوديب
:
ما هي تلك القوة التي تحُول بيني وبينك؟!
جوكاستا
:
لا تستطيع أنت تحطيمها يا «أوديب» … مهما تكن لك تلك
البطولة التي قضت على «أبي الهول»!
أوديب
(كالمخاطب نفسه)
:
يا له من مصير! … إني بطل لأني قتلت وحشًا … زعموا أن له
أجنحة! … وإني مجرم لأني قتلت رجلًا … أثبتوا أنه أبي،
الذي جئت من صُلبه! … وما أنا بالبطل، ولا بالمجرم! …
ولكني فرد من الأفراد … ألقت عليه الناس أوهامها.
وألقت عليه السماء أقدارها … فهل ينبغي لي أن أختنق،
تحت وقرِ هذه الأردية التي ألقيَت عليَّ؟!
هذا قلبي ما زال ينبض … إني حي … إني أريد أن أعيش، أريد
أن أعيش يا «جوكاستا» … وأن تعيشي معي … ما هذه الهوة
التي تفصلنا الآن؟! … ما هذا العدو الخفي والخصم
المستتر، الذي يقوم بيننا كعملاق؟!
الحقيقة! … ما هي قوة هذه الحقيقة؟! … لو أنها كانت
أسدًا ضاريًا، حاد المخلب والناب؛ لقتلته، وألقيت به
بعيدًا عن طريقنا … ولكنها شيء لا يوجد … إلا في
أذهاننا … إنها وهم! … إنها شبح. إنَّ ضربتي لا تنفذ
في أحشائها … ويدي لا تنال من كيانها … وحش مجنح
حقًّا! … رابض في الهواء … لا نصل إليه بسلاحنا …
ويقتل سعادتنا بألغازه!
«جوكاستا»! أنت ترتعدين من طيف يا «جوكاستا»! … إن
الواقع الذي نعيش الآن فيه، يجب أن يبقى … ويجب ألا
نسمح لشيء لا نراه أن يهدمه … دعك من حقيقة ما سمعنا
أيتها العزيزة! … أصغي إلى نبضات قلبك الساعة … ماذا
هي قائلة لك؟ … أهي تقول لك: إن شيئًا قد تغير؟ … هل
حبك لصغارك قد تغير؟ … هل حبك ﻟ «أوديب» قد
تغيَّر؟
جوكاستا
:
لا … ولن يتغير أبدًا هذا الحب … أبدًا … أبدًا … ولكن
…
أوديب
:
ما هذه الدموع في عينيك! قولي إنك تريدين الحياة من
أجلنا!
جوكاستا
:
«أوديب»!
أوديب
:
لماذا تنظرين إليَّ هكذا … كما لو كنت طفلك!
جوكاستا
:
«أوديب»!
أوديب
:
ماذا بك يا «جوكاستا» العزيزة؟! … إنك ترثين لي! … تشبثي
بهنائنا الضائع يملؤك بالأسى … أقرأ في وجهك ألمًا
وعذابًا … تألمي قليلًا … بل أمعني في الألم … فإن
أعظم القوى تضافرت على هدم هذه الأسرة السعيدة! كل
القوى! … تفكير الإنسان المتمرد، وتدبير الإله الساخر،
وتقاليد الناس، وأوهام البشر!
كل شيء تحالف على شقائنا … حتى عقلي الذي لبث الأعوام
يبحث عن حتفي … إلى أن أخرج لنا ذلك الشبح، الذي استوى
في الفضاء، يعصف بحياتنا الباسمة، ويزلزل واقعنا
الجميل، ويمنعنا من التلاقي في عش نسجناه، من ريش
تآلفنا الطويل!
«جوكاستا» فلنتألم من لطمة الكارثة التي نزلت بنا …
وانقبضت لها نفسانا معًا عند دنوها … ألا تذكرين؟ …
ولكن إيانا أن نستسلم للنازلة! كل شيء يمضي … ما دمنا
نذود عن بيتنا! … إن حرارة القلوب تذيب كل الذنوب! …
حتى ذنوب العقل وأخطائه!
إني مؤمن بطهر قلبي وقلبك؛ لأنَّا لم نرتكب إثمًا
عامدَين … ولم نُرد كل هذا الشر، الذي تحملنا تبِعته …
فليس لأحد علينا سبيل … وليس لقوة أن تطلب إلينا ثمنًا
باهظًا، لجرائم لم نسعَ إلى ارتكابها … وإذا كان علينا
أن ندفع ثمنًا … فليكن هذا المجد، وهذا الملك وهذا
الثراء! … أما أنت يا «جوكاستا» … وأما أولادنا فكلَّا
… كلَّا … كلَّا.
جوكاستا
(تهمس)
:
أولادنا! … أولادنا!
أوديب
:
بمَ تهمسين؟
جوكاستا
:
لا شيء!
أوديب
:
أرى في عينيك أمرًا … إني خائف منك يا «جوكاستا»!
جوكاستا
:
لا تخَف! … هو قليل من التعب … دعني الآن!
أوديب
:
أراكِ منهوكة القوى!
جوكاستا
:
نعم!
أوديب
:
لو نمتِ قليلًا! … لو استغرقتِ في نوم طويل، أيتها
العزيزة؟!
جوكاستا
:
هذا ما عولتُ عليه!
أوديب
:
ولكني لن أدعك الآن، حتى تعديني أن نرحل معًا، عن هذه
البلاد … إلى مكان بعيد!
جوكاستا
(كالمخاطبة لنفسها)
:
إلى مكان بعيد! … نعم … أعدُك!
أوديب
:
سأطلب ذلك من فوري، إلى الشعب، وإلى «كريون» … استريحي
الآن … ولا تفكري في شيء … حتى أعود.
جوكاستا
:
اذهب … يا … «أوديب»!
أوديب
(ينظر إليها مليًّا)
:
لن أتركك بمفردك! … سأنادي الأولاد يمكثون إلى جانبك،
ريثما أرجع … (ينادي) «أنتجونة»! … «أنتجونة»!
(تظهر «أنتجونة» بالعتبة.)
أنتجونة
:
أبتاه!
أوديب
:
ادخلي أنت وإخوتك … واعنوا بأمكم … وسرُّوا عنها … حتى
أعود.
(يضع يده على أعناق أولاده … وتتأملهم
«جوكاستا» وهم مجتمعون على هذه الصورة … ويقودهم «أوديب» إلى
أمهم.)
أنتجونة
:
ما مِن أحد يستطيع التسرية عن أمي إلا أنت يا أبي. حسبُك
أن تقص عليها قصة «أبي الهول»! … إن أمي كما تعلم تحب
سماعها منك دائمًا!
أوديب
:
الشعب في انتظاري يا «أنتجونة»! … تولِّي أنتِ عني هذا
الأمر! … إنك تجيدين سرد القصة … أكثر مني … أُوصيك
بالعناية بأمك! … ريثما أعود! … إياك أن تتركيها فريسة
للتفكير!
(يخرج مشيعًا بنظرات «جوكاستا»
الوالهة.)
جوكاستا
(هامسة)
:
زوجي! … ولدي!
أنتجونة
:
أماه! … يبدو عليك حقًّا أنك تفكرين في شيء محزن!
جوكاستا
:
لن يطول أمدُ ذلك يا بنيتي!
أنتجونة
:
لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟!
جوكاستا
:
إنك تحبين أباك كثيرًا يا «أنتجونة»! … إني واثقة أنك
ستكونين دائمًا بجانبه … إذا قدر لي يومًا أن أذهب إلى
مكان بعيد.
أنتجونة
:
أذاهبة أنت يا أماه إلى مكان بعيد؟!
جوكاستا
:
ربما … يحدث ذلك يومًا.
أنتجونة
:
أي مكان بعيد تعنين؟
جوكاستا
:
مكان بعيد … يعيش فيه القلب طليقًا؛ كاليمامة الآمنة …
لا يطير في سمائه ذلك الطائر ذو الأجنحة والمخالب،
الذي يفترس الحب!
أنتجونة
:
لست أفهم ما تقولين يا أماه!
جوكاستا
:
لا بأس … لا تحاولي الفهم الآن … كل ما أرجو منك أن تعني
بأبيك … إذا رأيته يومًا وحيدًا … أوصيك به يا
«أنتجونة» … فهو يستحق كل محبتنا … وإذا رأيت يومًا
دموعه تنحدر من عينيه … فبكفيك الصغيرتين الطاهرتين،
امسحي تلك الدموع!
أنتجونة
:
لماذا تقولين لي هذا الكلام يا أماه؟!
جوكاستا
:
لأني لا أريد لأبيك أن يتألم … يجب أن يعيش قرير العين …
وأن يجد فيك عزاءً يا بنيتي، عن كل شيء.
أنتجونة
:
تبكين يا أماه؟
جوكاستا
:
أوصيك به يا «أنتجونة»! … أوصيك به يا «أنتجونة»! …
أوصيك به يا «أنتجونة»! (تضمها طويلًا.)
المنظر الثاني
(في الساحة أمام القصر … الجوقة محتشدة كما كانت … وقد
وقف بين الجمع «الكاهن» و«كريون».)
الجوقة
:
مَن كان يتخيل أن الستار سيرتفع عن هذه الأشياء
المروعة؟! … ومن كان يتصور أن «أوديب» يجهل من حقيقته،
ما كان يجهل! … هذا البطل الذي لجَّ في البحث … وحذق
حل اللغز، يعمى عن شأنه، فلا يرى أي امرأة في فراشه،
ولا أي ولد أنجب، ولا أي رجل قتل؟!
لكأن هذا الإنسان الذي قبض على أكثر مما ينبغي له من
سرٍّ، قد أفلت منه أصغر ما يلتصق بشخص الإنسان من أمر
… لقد تطاول حتى هاجم «أبا الهول» ينتزع سره … وتضاءل
حتى خفي عليه ما في بيته، وما في قدمه! … ما أتعس هذا
الإنسان، الذي جعل ينقب في الأعماق، فما انبثق له غير
نبع شقائه!
ترى ماذا يفعل الآن؟! … وماذا جرى ﻟ «جوكاستا»؟ … هل
أفاقت؟ … ترى ما عساهم يصنعون بعد اليوم؟! … هؤلاء
الذين يحتويهم هذا القصر في جوفه؛ كما يحتوي الحيوان
في أحشائه القذر والنتن! … لسنا ندري أنرثي ﻟ «أوديب»،
أم نغضب عليه؟!
إنه مع ذلك ملكنا وبطلنا، قبل أن يكون الآثم في حق نفسه
وذويه!
الكاهن
:
حسبك أيها الشعب حديثًا في أمر «أوديب»! … دعكم الآن من
شقائه … واشغلوا أنفسكم بشقائكم أنتم!
الجوقة
:
وهل نملك لأنفسنا حيلة؟! … سل «أوديب» … فهو الذي يرى
لنا دائمًا ما ينبغي.
الكاهن
:
إنكم ما زلتم تضعون «أوديب» في الموضع الذي جعلتموه فيه،
وتتخيلونه على الصفة التي عرفتموها عنه! … وليس في
مقدوركم أن تتحرروا سريعًا، من سحر صورة ألفتموها …
ولا أن تُجروا فيها تعديلًا مفاجئًا، لأن ذلك يستلزم
قدرة على سرعة الإدراك … ما أجمد تفكيرك أيها الشعب! …
وما أبطأ يدك في وضع تمثال مكان تمثال! … ولكني أنبهكم
إلى أن «أوديب» الآن في همٍّ من أمره يكفيه، وفي بلاءٍ
يُضنيه، وفي محنةٍ تستغرقه، وشغلٍ يصرفه عن التفرغ
لأمركم!
الجوقة
(ناظرة إلى باب القصر)
:
ها هو ذا «أوديب» قد ظهر!
أوديب
:
إنه لشاقٌّ على نفسي أن أتعرض لأنظاركم … بعد أن غطاني
الخزي، ودثرني العار! … ولكني جئت أتلقى حكم الشعب على
أيها الناس! … ارحموني قليلًا، إذا كان حكمكم الذي
أصدرتموه الساعة في غيبتي، أقسى مما أحتمل!
الكاهن
:
إنهم لم يصدروا عليك حكمًا يا «أوديب» ولا تنتظر منهم أن
يفعلوا … ولكن تذكَّر أنك وعدت أن تصدر أنت حكمك على
قاتل «لايوس» فلا تُخلف وعدك!
أوديب
:
لن أخلف وعدي أيها الكاهن! … ماذا قدرتُ لكما من عقاب،
يوم وجهت إليك وإلي «كريون» الاتهام؟
الكاهن
:
الموت أو النفي!
أوديب
:
أما الموت فإني أجبن الآن عنه؛ لأني أحب أهلي! … فلتكن
الثانية أيها الكاهن! … دعوني أرحل بأسرتي عن هذه
البلاد … إلى غير رجعة!
كريون
:
إنك يا «أوديب» تسأل شططًا! … ما أسرتك إلا أسرتي … كيف
ندعك تشرد هذه الأسرة في غريب البلاد! وتذهب بها إلى
غير عودة؟!
أوديب
:
أوَتستطيع هذه الأرض أن تحملنا بعد اليوم؟!
كريون
:
ليس من حق أحدٍ هنا يا «أوديب» أو يجيز لك هذا الرحيل …
ولسنا نملك أن نقضي فيه بأمر، قبل أن نستلهم
الإله!
أوديب
:
ما هذا الذي تقول يا «كريون»؟ … ألست أنت الذي جاء من
معبد «دلف» بالوحي؟ … أليس هو الذي قال بتطهير هذه
الأرض ممن لطخوها بالدنس؟!
كريون
:
إن ما طلبت يا «أوديب» لأخطر من أن أقرَّه بغير إذْن …
إن الوحي قد يغمض أحيانًا علينا … لا بُدَّ في أمرك من
بعض التريُّث … ليس من اليسير أن يخرج أسرة «لايوس» من
منبتها … إنها لتبِعة … لا يجوز فيها العجلة ولا
التسرع!
الجوقة
(تلتفت)
:
هذا هو «ترسياس» قد أقبل … ربما كان لديه رأي … إن في
مقدوره أن يطالع الوحي!
أوديب
:
ادنُ يا «ترسياس» … وافصل فيما نحن فيه من خلاف! … لقد
عرفت ما وقع من أحداث … وما هبط على رأسي من نوازل …
أعرض ترك هذا الملك الغائص في الوحل والدم … أريد
الفرار بأسرتي من هذه الأرض … ولكن هؤلاء القوم يأبون
إلا إطالة تعذيبي وإذلالي.
ترسياس
(يدفع عنه غلامه)
:
إليك عني أيها الغلام! … أرى الآن طريقي … لقد لطمني
الإله على عيني فأبصرت!
أوديب
:
«ترسياس»! … أصغ إليَّ …
ترسياس
:
من هذا الذي يناديني؟ … أبشر أم إله!
أوديب
:
أنا «أوديب»!
ترسياس
:
«أوديب»! … من «أوديب»؟!
أوديب
:
ألا تعرف الآن من «أوديب»؟ … دعني أذكِّرك به … إنه ذاك
الذي جررت عليه أنت كل هذه النكبات … أنت الأحمق الذي
أراد أن يتدخل، فيما لا قِبل له به …
أنت الأعمى الذي ظن أنه يبصر للناس خيرًا مما تبصر لهم
السماء! … أنت الذي أردت، فكانت إرادتك وبالًا على
الأبرياء … لو أنك تركت الأمور تجري؛ كما قدِّر لها أن
تجري طبقًا لنواميسها المرسومة … لما كنتُ أنا اليوم
مجرمًا!
أردت أن تتحدى السماء، فأبعدت «أوديب» صغيرًا عن الملك،
ووضعت على العرش رجلًا من صنعك … فإذا بهذا الرجل الذي
وضعت، هو عين «أوديب» الذي أبعدتَ … لطالما زهوتَ
بإرادتك الحرة! … نعم … كانت لك حقًّا إرادة حرة …
شهدتَ آثارها … ولكنها كانت تتحرك دائمًا، دون أن تعلم
أو تشعر، داخل إطار من إرادة السماء!
الجوقة
:
لسنا نفهم شيئًا من هذا القول العجيب، الذي يتفوه به
«أوديب»!
الكاهن
:
دعوا «أوديب» يتفوه بما يشاء … فهو يودُّ أن يبدو في ثوب
البريء وأن يُلقي الجرم على عاتق هذا الشيخ الضرير! …
وما كان هذا الشيخ إلا ناقلًا لوحي عُلوي … وقد صدقت
النبوءة!
أوديب
:
نعم! … صدقَت! … وهو مما يدعو إلى العجب! … ومما يعجب له
هو نفسه في دخيلته … هذا الشيخ الناقل للوحي! … وإني
إذ تفوهت الساعة بذلك القول لم أرِد أن أبدو بريئًا …
فأنا ما دافعت قط عن نفسي أمامكم … إنما هو كلام يفهمه
«ترسياس» … ولا شأن لكم به، ولو اطلعت أيها الشعب على
ما أعنى لامتلأت عجبًا!
أما أنت أيها «الكاهن» … فمن يدري؟ … ربما كنت ﻟ «كريون»
دون أن تشعر؛ مثلما كان «ترسياس» لي!
إن الإنسان هو الإنسان … لا بُدَّ له من أن يعمل، ويريد،
ويسير؛ بما تدفعه إليه ملكاته وخيلاؤه، دون أن تتبين
لبصيرته القاصرة، إرادته من إرادة الإله!
ترسياس
:
ما هذا اللغط حولي؟! أكاد لا أسمع شيئًا من حديث الناس!
… أذني ممتلئة بضحكات آتية من أعلى!
أوديب
:
نعم! … لقد أرادت السماء أن تجعل منك أضحوكة! … أنت يا
من ظننت أنك تناصبها حربًا … وقمت تشرع من إرادتك
سيفًا … وتخيرت أنت هذا القصر بسكانه الوادعين ميدانًا
للنزال … وضربت ضربتك … ولكن الإله اكتفى بأن هزَأ بك،
ولطمك على عينك العمياء؛ لتبصر حُمقك وغرورك! … أما
القصر فقد اندكَّ بأهله، تحت ضربتك الحمقاء، وسخرية
السماء!
على أن من المروءة يا «ترسياس» أن تفكر قليلًا في أمر
الضحايا … تكلَّم واقضِ بما ترى! … إني لا أسأل شيئًا
غير الرحيل بأسرتي عن هذه الأرض … حاملين خِزيَنا …
لعلنا نوفق في أرض أخرى إلى رمِّ حالنا! …
ترسياس
:
أيها الغلام! … ما هذا الذي يطن من أعماق الصمت؟ طنين
الحشرة من أعماق الطين؟!
أوديب
:
هو مخلوق قتل أباه، وتزوج من أمه، وأنجب أولادًا هم له
أشقاء! … الحشرة في أعماق الطين تفعل ذلك؛ إنها عمياء
… ولقد فعلت ذلك؛ لأن مصيري، منذ وجودي، أراد أن يقوده
أعمى! … أيها المجرم الحقيقي … لو كان دمك طاهرًا
لسفكته، وغسلت به جراحي! … ولكن كُتِب لك أن تعيش
مبجَّلًا، تخدع الناس، وأن أدفع أنا ثمن أخطائك،
وأرتدي خزي أوزارك!
الكاهن
:
رفقًا بالشيخ يا «أوديب»! رفقًا بالشيخ.
الجوقة
:
تحمل قدرك وحدك يا «أوديب»؛ كما يليق ببطل أن
يتحمله!
أوديب
:
أصبتم أيها الناس! … إنه لمن الخطَل أن نناقش فيما ألقِي
على كواهلنا من أقدار … ربما كان بعضها من صنع أيدينا
… أسامعٌ أنت يا «ترسياس»؟ … عينك المغلقة لم تستطع أن
تبصر يد الإله في هذا الكون! … هذا النظام المقرر
للأشياء كالصراط، كل من خرج عليه، وجد حفرًا يقع فيها
… صراط، لك أن تسير فيه بإرادتك أو تقف، ولكن ليس لك
أن تتحدى أو تنحرف، وقد فعلت يا «ترسياس» فوقعت …
ولكنك جرفتنا معك … غير أن السقطة لم تصِبك إلا في
كبريائك … لقد ردَّك الإله بها إلى موضعك … أما نحن
فقد أصابتنا في قلوبنا … وما من أحد يبذل لنا الساعة
عونًا … حتى أنت، تلزم الصمت، ولا تنطق إلا بالهراء
والخلط! … لم يبقَ لنا من أمل إلا قلوب الناس، نسألها
بعض الرحمة بنا … والآن اغرب عني أيها الشيخ! ما عدتَ
تصلح بعد اليوم لشيء فيما أرى … اذهب به بعيدًا أيها
الغلام.
ترسياس
(للغلام)
:
اذهب بي إلى الإله؛ لأسأله: متى أعدَّ سخريته ودبرها؟ …
قبل خلقنا؟ … أو بعد تفكيرنا؟ … اصعد بي إلى السماء
أيها الغلام، وأدخلني على الإله … لأعلم هل هو يضحك
الساعة حقًّا مني؟ … أو هو لا يعرفني، ولا يحفل
بأمري!
إنما هو قد ضحك سلفًا منذ مبدأ الخليقة … منذ خلق هذه
المزاحة … وأطلقها في الزمان، تصيب من يتعرض لها …
وتلبس من يتحداها … وتلحق من يقف في طريقها!
اصعد بي إلى السماء أيها الغلام؛ لأعلم … فإذا وجدت
الإله يضحك مني، فسأضحك أنا أيضًا في حضرته … هكذا …
هكذا.
(يدفع الغلام أمامه، وهو يضحك، إلى أن
يخرجا.)
الجوقة
(وهي تشيع «ترسياس» بأنظارها)
:
ماذا جرى اليوم ﻟ «ترسياس» الجليل؟! … لكأن الأحداث قد
أذهلته عنَّا، وأخرجته عن طوره!
الكاهن
:
دعوه يذهب … ما أراه اليوم على خير حال!
(صيحة تدوي في داخل القصر … فيلتفت الجميع إلى
بابه … وعندئذٍ تظهر «أنتجونة» صائحة.)
أنتجونة
:
أبتاه! … أبتاه!
أوديب
:
ماذا حدث؟ … ماذا حدث؟
أنتجونة
:
أمي … أسرع إلى أمي!
(يقفز «أوديب» إلى الدرج قفزًا … ويدخل القصر
ملهوفًا فزعًا … وخلفه ابنته … والجميع ينظرون إليهما جامدين
من الروع، كالتماثيل.)
كريون
(يفيق ويتحرك)
:
ماذا حدث لأختي؟!
(يهم بدخول القصر.)
الكاهن
(يمسك به ويبقيه)
:
ابقَ يا «كريون»! … مكانك الآن بين هذا الشعب … الذي
انصرف عنه رُعاته … وشغل عنه حماته.
أنا نقدر ما يمضك من ألم، وما يخالجك من شعور! … فما أنت
إلا غصن من هذه الشجرة المالكة، وعضو في هذه الأسرة
المنكوبة … يهزك ما يهزها من أنواء وأرزاء!
وإن إخلاصك ﻟ «أوديب» ولأختك؛ ليدفعنا أن نطلب إليك أن
تضع في يدك دفة هذه السفينة، قبل أن تغرق بنا جميعًا …
فقم في هذا الشعب القلق الحائر، وثبِّت مركبه في شاطئ
أمين!
كريون
:
ومن يمنحني هذه السلطة؟
الكاهن
:
الظروف المحيطة … والحوادث الطاغية، تمنحني من حق القيام
على مصلحة الشعب، ما تمنحه الأمواج الجارفة للملاح
الحازم عند دوار الربابنة، من حق النهوض بالعبء وإقرار
الطمأنينة والثبات والإيمان!
كريون
:
أما رأيت كيف اتهمت بالطمع في العرش؟
الكاهن
:
قد سقط عنك ذلك الاتهام؛ لأن الحق كان في جانبك … لا تصغ
أبدًا إلا إلى صوت واجبك!
كريون
(يصيخ بأذنه)
:
صه! … (تنطلق صيحات من داخل القصر.)
الجوقة
:
ما هذه الأصوات المفزعة، الصاعدة من جوف هذا
القصر؟!
الكاهن
(يلتفت نحو القصر)
:
ماذا وقع؟! … إن الأمور فيما أرى تزداد سوءًا!
كريون
(يهم بالذهاب)
:
دعني أذهب لأرى ما حدث!
الكاهن
(يبقيه)
:
مهلًا! … هذا خادم يخرج إلينا من القصر!
الجوقة
:
انظروا إلى هذا الخارج من القصر، وفي عينيه آيات
الهلع!
الخادم
:
يا أهل «طيبة»! … لقد ماتت الملكة «جوكاستا»!
الجوقة
:
ماتت؟!
كريون
:
أختاه! … (يهرع إلى داخل القصر.)
الخادم
:
مِيتة ارتعدت من هولها الفرائص … وإليكم ما حدث … إذا
كان يعنيكم أن تعلموا.
الجوقة
:
تكلَّم … تكلَّم … قُص علينا كل ما حدث!
الخادم
:
لم نرَ شيئًا في أول الأمر … ولكنا سمعنا «أنتجونة» تصيح
قائلة: (أين أبي؟ … أين أبي؟)
فلما سألناها عما بها قالت إن أمها نهضت من فراشها،
وقبلتها وقبلت إخوتها … وزعمت لهم أن التعب قد نال
منها، وأنها تريد نومًا … وجذبتهم إلى خارج حجرتها …
ثم دخلتها وأوصدت الباب عليها من الداخل، وقد شعت
عيناها ببريق يثير الخوف، ويبعث على القلق!
بعدئذٍ لم يسمع الصغار من خصاص الباب، إلا صيحات مكتومة
وزفرات مخنوقة!
ثم كان سكون مطبق رهيب … وانطلقت «أنتجونة» خارجة إليكم
كما رأيتم، تخبر أباها! … فبادر «أوديب» في أثرها إلى
الحجرة الموصدة يطرقها كالمجنون: ولا من مجيب … فجأر
كالوحش المخوف، وحمل على الباب بكتفيه حتى أسقطه …
وهنا رأينا مشهدًا جمدت له في عروقنا الدماء!
الملكة «جوكاستا» معلقة من عنقها بحبل تدلَّى في الهواء
… وكل شيء من حولها ساكن سكون القبر … فما كاد «أوديب»
يراها على هذه الحال حتى اندفع إلى الحبل فجذبه … وإذا
جثة الملكة تهوى باردة على الأرض!
عند ذلك أبصرت عيوننا أبشع منظر وقعت عليه عين بشر! …
فقد جن جنون «أوديب»، وانحنى على جثمان «جوكاستا» يمرغ
خديه على خديها، ويمسح رأسه بقدميها … ويصيح: إليَّ
بسيف … سيف! … إني ما تحملت هذه الحياة الشقية إلا من
أجلك! … «زوجي وأمي! …» فلما جمدنا في مكاننا وذهلنا
عن ندائه، زأر كالأسد الجريح … وصاح:
«يبطئون عليَّ بأداة الموت أيضًا! … لا حاجة بي إلى
السيف … هاكُم ما هو أفظع من الموت وأشد وأوجع!»
وامتدت يده كمخلب الباشق، إلى صدر الثوب الملكي، الذي
ترتديه «جوكاستا»، فانتزع منه مشابكه الذهبية، وطعن
بها عينيه طعنًا عنيفًا متصلًا! … وهو يقول:
«لن أبكيك إلا بدموع من دم! …» ومضى يخرق بالمشابك
أجفانه ويمزق أهدابه … والدماء تسيل من عينيه مدرارًا
… صابغة بلونها القاتم، صفقة خده … كأنها أسطر سوداء
لحكم قدر صارم!
الجوقة
(ومن بينها أصوات نساء)
:
كفى! … كفى!
الكاهن
:
وأين هو الآن هذا الملك التعس؟
الخادم
:
يتخبط في أرجاء القصر؛ ويتلوى من آلامه!
الكاهن
:
أما من أحد يخفُّ إلى إسعافه؟!
الخادم
:
وماذا يجدي في علاجه الآن؟ … انظروا … أرى ذراعيه تضربان
الفضاء، متلمسة طريق الخروج من القصر!
(«أوديب» يظهر مكفوف البصر، والدم في وجهه وعلى
ثيابه.)
الجوقة
(في صيحة فزع)
:
ويلاه!
أوديب
(يتقدم متعثرًا)
:
أين ساقتني قدماي؟!
الجوقة
:
لماذا أحدثت بنفسك يا «أوديب» هذا الأمر، الذي يؤذي
منظره النفوس!
أوديب
:
هذا أنت أيها الشعب الكريم! … ألتمس العفو منك والمعذرة
لي … ما كنت أودُّ أن أوذي أبصارك بمنظرٍ كريه! …
ولكني أتلمس طريقي الذي لم يبقَ لي سواه.
الجوقة
:
ما هو هذا الطريق يا «أوديب»؟
أوديب
:
طريق الموت! هناك خارج أسوار «طيبة» … سأهيم على وجهي في
البرية … حتى أصادف وحشًا يفترسني، ويحطَّ طير يطعم من
بقايا أشلائي.
الكاهن
:
لن ندعَك تذهب إلى حتفك!
أوديب
:
رحمة بي! … لا تسدوا في وجهي السبل بعد الآن لقد أبيتم
علينا النفي، حتى فات أوانه … فلم يبقَ لي إلا ملاقاة
الحتف.
الكاهن
:
لن تخطوَ إليه بقدميك!
أوديب
:
مَن يمنعني؟
الكاهن
:
الإله … إذا رأى أجلك لم يحِن بعد!
أوديب
:
وما حظ الإله من الإمعان في تعذيبي؟! … أما استوفى حقه
من عقابي بعد؟!
الكاهن
:
ربما يريد بك خيرًا؟!
أوديب
:
أي خير يمكن أن يحل بي بعد اليوم؟ … وقد انطفأ من حولي
النور! … كل نور قد انطفأ … في عيني وفي قلبي … لقد
دثَّر حياتي ظلام أبدي … كأنه رداء حداد لن يُخلع عني
أبدًا.
الكاهن
:
لو أنك أردتَ أن تدنو من الإله، فأشعلتُ له في نفسك
«مسرجة»؛ لأضاءَت لك في أحلَكِ لياليك … ولكنك آثرت أن
تولد في «عقلك» «مصابيح» … انطفأت كلها عند عصفة من
عصف الريح!
أوديب
:
لا تلُمني أيها الكاهن … ولا تنتقم مني! … لقد أضأت
حقًّا تلك «المصابيح» لأبحث عن «الحقيقة»! … ولقد
حذرني يومًا «ترسياس» من أن تلمس أصابعي وجهها … وتدنو
من عينيها!
إنها لا تحب من يحدِّق إليها أكثر مما ينبغي! … نعم …
لقد دنَت هذه الأصابع منها أكثر مما ينبغي حتى اقتلعت
عيني أنا!
لقد انتقمت هي … فخفِّف عني أنت أيها الكاهن! … إني في
حاجة إلى رثائك ورحمتك!
الكاهن
:
وما تنفعك رحمتي؟! … وقد نزلت بك كل هذه الخطوب؟! …
ولكني أستنزل عليك رحمة السماء!
الجوقة
:
هذا «كريون» يخرج من القصر شاحب الجبين!
أوديب
:
«كريون» قادم؟ … سلوه العون لي، والتخفيف من
آلامي؟!
كريون
(وقد ظهر)
:
لماذا فعلت بنفسك هذا يا «أوديب»؟! وما الذي ترجوه مني
تخفيفًا لآلامك؟!
أوديب
:
دعوني أذهب بعيدًا عن «طيبة» … اطردوني من أرضكم؛ كما
تُطرد اللعنة!
كريون
:
لا تسألني ذلك يا «أوديب»!
أوديب
:
لن أطلب إليك يا «كريون»، الرحيل بأهلي … كما طلبت أول
مرة … فالظروف قد تغيرت الآن؛ كما تعلم … سأذهب بمفردي
… تاركًا لك أولادي … ترعاهم بعنايتك … فأنت لهم خير
أب … وأوصيك بالبنتين خيرًا يا «كريون» … و«أنتجونة»
على الأخصِّ … لقد كانت شديدة اللصوق بي … فحاجتها إلى
حنانك أشد وأكثر.
ها أنت ذا ترى أن الأمر هين عليك إقراره … فقد عهدت إليك
بأسرتي وأسرتك … أي ما تبقى منها … أما أنا فما في
بقائي من نفع … لم أعُد أصلح للبقاء!
لقد صدقت «جوكاستا» العزيزة … حملتها عبئًا على الحياة …
وقد قاومتُ كما قاومَت … ولكن شيئًا أعظم بأسًا وأقوى
بطشًا قد انتصر … وبذهاب «جوكاستا» أدركتُ قوة ذلك
الشيء، الذي أرغمها على الموت … وفهمتُ أن حياتي أمسَت
هي الأخرى عدمًا من العدم … فكَفتها من الفور في
الظلام! …
كريون
:
ألَك من مطلب آخر يا «أوديب»؟
أوديب
:
نعم! … لا تنسَ أن تُجري الطقوس الجنائزية اللائقة بدفن
تلك المسجاة في حجرتها! … إنها أختك! … وإني مطمئن إلى
حسن قيامك بواجبك!
ليس لي بعد ذلك من مطلب، إلا أن أوصيك مرة أخرى بأطفالي
… وإني لأطمع في نُبلك يا «كريون» … وأسألك أن تبعث في
طلبهم الساعة؛ لألمسهم بيدي!
كريون
(يشير إلى الخادم قرب باب
القصر)
:
كانت قد رأيت إقصاءهم، عن هذه المشاهد المؤلمة!
أوديب
:
مرة ربما كانت هي الأخيرة … لو أذنت أيها الرحيم
«كريون»! … ألمس وجوههم البريئة بأصابعي … وأتخيل
ملامحهم … وأتأمل في رأسي صورهم … ماذا أسمع؟ … ذلك
وقع أقدامهم الصغيرة وذلك نشيج أعرفه من «أنتجونة» …
إنهم آتون … أتراك رحمتني يا «كريون» وأرسلت في
إحضارهم؟
(«أنتجونة» خارجة من القصر تقود
إخوتها.)
كريون
:
لقد أمرت بإحضارهم لك يا «أوديب» … فأنا أعلم مقدار حبك
لهم … ها هم أولاء على مقربة منك!
أوديب
(يمدُّ يده في الهواء)
:
شكرًا لك يا «كريون»! … أين أنتم يا أولادي؟! لست أراكم
… ولن تبصركم عيناي بعد اليوم!
أنتجونة
(وهي تكفكف دمعها)
:
هون عليك يا أبتاه! … ما دامت لي عينان، فهما لك. لن
تكون وحيدًا … سأكون إلى جانبك حيث تكون …
أوديب
:
«أنتجونة» بُنيتي! لا يرضى قلبي أن أجرَّك معي في طريق
الشقاء! … مكانك هنا إلى جانب خالك وإخوتك!
أنتجونة
:
لا مكان لي إلا بالقرب منك يا أبتي … أبصر لك! … ألا
تذكُر أني تُقت يومًا أن أرى الأشياء بعينك … أراها
كما تراها أنت … سأحاول أن أبصر الأشياء كما تبصرها …
لن أُشعرك يومًا أنك فقدت ناظريك!
أوديب
:
بل أنا الذي كنت أتوق أن أرى الوجود صافيًا طاهرًا من
عينيك! … ولكني لم أعد أستحق ذلك … ابقي يا بنيتي
بعيدة عني! … إن شبابك النضر هو ملكك؛ لا ملكي! … لن
آخذه منك … فأرتكب جنايةً أخرى.
عيشوا حياتكم يا أولادي! … وانفضوا أيديكم مني. فما أنا
لكم إلا وصمة! … وما أنا عليكم إلا عبء … يكفيكم مني
ما سوف يلقيه على غدكم ظلي المشئوم! … ستكونون أمثولة
الدهر، ومضغة الأفواه وألعوبة الألسنة! … وما دام
الناس في حاجة إلى أوهام تُغذي خواء أيامهم، فستكونون
أنتم أسطورة الناس!
لا أمل لكم إلا في شخص واحد: «كريون» خالكم … اجعلوه لكم
أبًا … ستجدون في كنفه العطف والحنان … وقد عاهدني على
العناية بكم … وها أنا ذا أمدُّ لكم يدي تأكيدًا للعهد
… أين يدك أيها الصديق؟
(كريون: يتناول يد «أوديب» ويشدُّ
عليها.)
أوديب
:
اتخذوا لكم يا صغاري من «كريون» مثلًا وقدوة! … هذا
الرجل السوي الخلق، النقي السريرة. المؤمن النفس! …
وإياكم … إياكم أن تتخذوا من أبيكم مثلًا … بل اجعلوا
لكم من مصيره موعظة!
(أنتجونة: تتساقط عبراتها على يد «أوديب» بلا
شهيق ولا صوت.)
أوديب
:
ما هذه الدموع على يدي؟! … دموع من هذه؟
أنتجونة
:
«منفجرة» لا تقُل ذلك يا أبتاه! … لن أتخذ غيرك مثلًا
أبدًا … أبدًا … إنك بطل «طيبة».
أوديب
:
هذه أنت يا «أنتجونة» العزيزة! … ما زلت تؤمنين بأني
بطل؟! … (يبكي) لا … لم أعد كذلك اليوم يا بنيتي! … بل
إني ما كنت يومًا بطلًا قط!
(«أنتجونة» تمسح دموع «أوديب» بكفيها.)
أنتجونة
:
أبتاه! إنك لم تكن قط بطلًا؛ مثلما أنت اليوم!