مقدمة الترجمة الفرنسية١
محاكاة «سوفوكليس»، وإخراج «أوديب» الملك من جديد — إخراجه بالعربية — ومعالجة الموضوع القديم بل الخالد، دون ذهاب إلى وجوب التزام التقليد الحرفي، أو الترجمة الأمينة، أو مجرد الاقتباس البسيط، هو ذاك المطلب الجريء الذي قصد إليه «توفيق الحكيم».
جريء؛ لأننا إذا لم نتناول بالذكر غيره كمؤلفي المسرح الفرنسيين — مع أننا نستطيع أني نجد بين الألمان، والإنجليز، والإيطاليين، أقرانًا ﻟ «توفيق الحكيم» — ألفينا المؤلف المصري يتصدى لمطلب سبق أن حاوله، من عام ١٦١٤ إلى عام ١٩٣٩م بحسب التاريخ المسيحي، تسعة وعشرون مؤلفًا، نلاقي من بينهم «كورنيل» و«فولتير» و«م. ج. شنيه» و«كوكتو» و«جيد». وثَمة لا يطاول «توفيق الحكيم» «سوفوكليس» وحده، وإنما يطاول أعلامًا من المؤلفين المسرحيين، نشئوا في بلاد، للفن المسرحي فيها السيادة والرياسة، «وسوفوكليس» يخشى منه على من يسلك سبيله ويقفو أثره. وحسبنا أن نذكر ما جرى ﻟ «يوريبيدس»، حين جاء بعد مأساة ﻟ «حوريغورس» لسلفه «آشيلوس» ومأساة «إلكترا» ﻟ «سوفوكليس» يخرج على المسرح تاريخ انتقام، «أورستر» و«أختها» من أمها «كليتمنستر»، ومن «أجيست» غاصب عرش «أجاممنون»؛ فلقد جاءت مأساة «يوريبيدس» بعد مأساة «سوفوكليس» كما تجيء الهزيمة.
ومن يُنعم النظر في المعارضات الفرنسية، التسع والعشرين، ﻟ «أوديب» الملك ﻟ «سوفوكليس»؛ يتضح له جليًّا أنه إذا كان قد أمكن معارضة أبلغ المؤلفين الأثينيين في مأساته؛ فإن أحدًا لم يبلغ إلى التفوق عليه قط، ولا إلى مساواته فحسب!
ثم إن هذا لا يرجع إلى تفوق المسرح القديم، على المسرح الحديث عامة؛ فإن مأساة «فيدر» ﻟ «راسين» أجمل من بعض النواحي، وأصدق في التحليل النفسي، وأوثق في البناء من مأساة «هيبوليت» ﻟ «يوربيديس»، وهي مع ذلك — دون مراء — تقليد لها أمين، إلى حد كبير. فالأمر راجع إلى موضوع «أوديب» نفسه وهو موضوع موافق — تمام الموافقة — للوسائل المسرحية، التي يملكها المسرح اليوناني؛ لتأدية ما يجب تأديته، كما أنه موافق تمام الموافقة لروح هذا المسرح، الذي تخلع أصوله، المتصلة بأعياد إله الخمر، طابعًا دينيًّا فلسفيًّا في جوهره عليه وصميمه. وما من شك في أن أسطورة «أوديب» تثير موضوع القدر، القدر القاسي المحتوم، الذي لا اختيار فيه ولا مردَّ له، يجثم بكل وطأة ثقله، على امرئ من قبل ميلاده، قاضيًا عليه أن يقتل أباه ويتزوج أمه ويجتهد المرء جهد ما يستطيع؛ للخلاص من هذا القدر المحتوم، فلا يستطيع إلا ارتكاب هذين المنكرين الفظيعين، اللذين كتب له ارتكابهما.
أما في العالم المسيحي — وعلى الأخص في العالم الكاثوليكي — فإن فكرة قضاء محتوم أعمى، قضاء تدبره الآلهة؛ في خبث، ومكر، وإرادة للأذى والشر؛ فكرة لا يمكن ورودها على البال، بحال من الأحوال. ولقد كتب الأب الجزويتي «فولار» من أبناء القرن الثامن عشر رواية عن «أوديب» فلم يفتهُ التعارض بين الفكرة المسيحية الغربية … وبين الفكرة اليونانية؛ فحاول أن يفرق بين قضاء الله، وبين تصرفات الملك قاتل أبيه ومضاجع أمه، أن يلقي تبعة الذنب كله، على «أوديب» وحده. أما الوحي الذي ألقت به الآلهة إليه، فلم يكن أمرًا مقضيًّا من القدر، وإنما هو نذير وتحذير، شاء الله في لطفه أن يلقي به إلى الإنسان؛ تنبيهًا له إلى الأخطار التي هو واردٌ عليها، إذا اتبع شهواته ومضى في غلوائه. وعلى الضد من ذلك «كوكتو» في الآلة «الجهنمية»؛ فهو يشهدنا — في طريقة عريقة في اليونانية — على مطاردة الآلهة لبرئ من الأبرياء، وإنزال القصاص به؛ عفوًا من غير اقتضاء، على حين يحاول «جيد» أن يظهرنا — من وراء نفاذ أمر القضاء — على أن الإنسان ما برح مختارًا لأحواله، حر التصرف في أفعاله.
ومعلوم للكافة — ولا حاجة بنا إلى معاودة ذكر الأسباب — أن هذه المعارضات الفرنسية الثلاث، ﻟ «سوفوكليس» دون مستوى النموذج اليوناني، على الرغم من أن هؤلاء الثلاثة المؤلفين — دون مواطنيهم أجمعين — قد أدركوا أن موضوع «أوديب» يقوم، في صميمه وجوهره، على هذه المشكلة الفلسفية، يكاد يكون منحصرًا فيها.
ويطالعنا اليوم «توفيق الحكيم»، وهو — من حيث هو مسلم ينتمي إلى عالم، لا يرفض فكرة القدر، على أنها سخيفة باطلة، ولا يدين بما يدين به الغرب، في تصوره للعلاقة بين الرب والعبد — يبدع على الخصوص في موضع أوفق وأدعى للنجاح في مجال كان الإخفاق فيه نصيب عامة المؤلفين المسيحيين، من مقلدي «سوفوكليس».
وﻟ «توفيق الحكيم» — كما يعرف الذين قرءوا له «مشكلة الحكم» — طريقة خاصة به، في تصوره لمحاكاة القديم. فهو لا يعرض للنموذج في ظاهر مبناه، بتعديل أو تبديل، إلا بالقدر الذي يقتضيه المعنى الجديد، المراد صبُّه في هذا القالب، ولكنه يتوفر على تحويل المسائل القديمة، إلى أغراض حديثة عصرية، وأن يجعلها أقرب إلى الإنسانية، ويردها إلى نطاق أكثر عمومًا. ومن ثمة كانت بينه وبين «أنوى» آصرة وقربى. ولكنه يختلف عن «أنوى» في أن مؤلف «أنتيجون» الحديثة يجعل من هذا التجديد عملية قائمة على قواعد مقررة، ونهج مرسوم. فلا يكاد يمضي فيها حتى يضيق بها المتفرج. أما «توفيق الحكيم» فهو في: أرابته، وسخريته، ويقظة رشده، يخلع عن الأبطال الأقدمين تلك العظمة التي أضفتها عليهم الأساطير؛ ليعيرهم عظمة غيرها، عظمةً تصدر عن فضيلتهم البشرية، دون سواها. فلم يُلقِ «أوديب» «توفيق الحكيم»، ذلك «الاسفنكس»، الذي تتحدث عنه الأسطورة، وما من وحش مفترس، ألقى عليه لغزًا لم يسلم إلا بحله. بل قنع المسافر البطل بأن صرع أسدًا، كان يجول في سفح جبل «سنيرون»، ويفتك بأهل البلاد؛ شأنه شأن الوحش الأسطوري، الذي كان يفتك بالغنم في إقليم «فاليه» الموحش في سويسرا، واتضح عام ١٩٤٦م أنه لم يكن إلا ذئبًا من الذئاب الضارية في تلك الناحية.
أما الذي لفَّق قصة «الاسفنكس» الخيالية فإنما هو «ترسياس» العرَّاف، ذلك السياسي البارع، والخبير العارف بالناس، الذي فطِن إلى ما يمكن أن تستخرجه الدعاية، من هذا الحادث الصغير. فقد كان عليمًا بمبلغ ميل العوام، إلى كل ما فيه إيهام وتهويل. فعمد — وقد اجتمع في شخصه «ميكيافلي» و«جوبلز» — إلى الفتى الساذج، صارعِ الوحوش، فأجلسه على عرش «ثيبا»، فكان كل ذنبه أن قبِل الدور، الذي أراده العرَّاف على لعبه … وهكذا بات «أوديب» رهنًا أسيرًا لأكذوبة سياسية لا معدى له عن العمل على تقريرها في أذهان الناس وفي أذهان ذويه «جوكاست» وأولاده، الذين كانوا لا يملُّون من سماع هذه القصة البديعة، التي يقوم عليها ما يباشره الملك من سلطان على «ثيبا».
وهذا تصرف بارع، وفيه مصلحة وخدمة تامة للغرض العميق، الذي يتوخاه المؤلف. فقد نزل «أوديب» من قاعدته المنصوبة في الأساطير، وتورط في أكذوبة ثقيلة الوطأة عليه، وبالجملة أصبح إنسانًا، مثل سائر الناس. ولن يصبح عظيمًا إلا بمسلكه، ونوع موقفه أمام الكارثة. ولا يتساءل «توفيق الحكيم» عن الموجب لهذه الكارثة؟ … ويقنع بأن «أوديب» الذي جعل منه إنسانًا، قد قتل أباه، وتزوج بأمه. وعندما يمتثل «أوديب» للمقتضيات السياسية، التي تضطره إلى البحث عن قاتل «لايبس»، فإنه يؤدي على النحو الواجب صنعته كملك: ويدير التحقيق بالذكاء والعناد العاتي، اللذين جعلهما «سوفوكليس» من نصيبه؛ فإذا هو يواجه شيئًا فشيئًا، فظاعة الكارثة وهنا يتجلى مسلكه رائعًا عظيمًا؛ إذ يُنزل بنفسه أفظع العقاب فيسترد في المجال الخلقي تلك العظمة، التي نزعها عنه «توفيق الحكيم» في المجال الأسطوري، ثم إن الشخصيات الأخرى: «جوكاست» و«أنتجون» و«أولاد أوديب» الآخرون؛ هم في مسرحية «توفيق الحكيم» أعلى سنًّا منهم في مأساة «سوفوكليس»، ومن ثمة كان اشتراكهم في القصة العصرية أكثر حركة، وقد تناولهم «توفيق الحكيم» مثل تناوله ﻟ «أوديب»، فهم أيضًا مخدوعون بأكذوبة «ترسياس»، يخلعون على الملك عظمة مكذوبة، عظمة الأسطورة، ولا يتبينون عظمته الحقيقية، وهي عظمة محض إنسانية، إلا حين يواجهون رزءه، حين يواجهون نوع إدراكه، لما يجب أن تكون عليه العاقبة، ولا يبقى غير «ترسياس»؛ ترسياس، الذي يمثل هادم الأساطير، والذي يشقُّ الإهاب، وينزع القناع الذي أعجب به الزمن القديم في غرارته، أجل «ترسياس» وحده، هو الذي يبقى سليط اللسان، قارص الكلام، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة حتى النهاية.
والمحاولة ممتعة، وليس هناك ما يمنع الكاتب العصري مقدَّمًا، من أن يستخدم لمراميه الخاصة تلك الخرافة، التي استخدمها «سوفوكليس»؛ لتصوير جبروت القدر، وفزعات الإنسان الواقع في حبائله، يجاهد للفكاك على غير جدوى بل تفضي كل حركة من جهاده إلى توثيق الشباك، وتوكيد انتصار القدر! … ولكن، أترى هذه الخرافة على الخصوص، تقبل كما تقبل الكثيرات غيرها تغييرًا غير التعبير القديم؟ … إن المحاولات الفرنسية، التسع والعشرين التي أسلفنا الإشارة إليها تجيب — فيما يظهر — على هذا السؤال بالنفي!
فهل تُرى نجح «توفيق الحكيم» في إقامة الدليل على أن خرافة «أوديب» يمكن تحويلها إلى مقاصد، غير التي كانت ماثلة قيد نظر «سوفوكليس» حين كتب مأساته؟
إن القارئ — والمتفرج فيما أرجو — قد يقضي بما يخالف رأيي. فأنا من ناحيتي أرى أن «أوديب» هذا الذي ولد على ضفاف النيل؛ كأمثاله المولودين في فرنسا، لا يسلم من تناقض، وذلك أن الخرافة هنا أقوى من المؤلف الذي يستخدمها. فلا غرو إذا كان «توفيق الحكيم» وقد توخى استخدام الموضوع القديم؛ للتعبير عن أفكار نفسانية وسياسية لم يستطع — شأنه في ذلك شأن «فولتير» وشأن «جيد» — أن يمنع مسألة القدر المحتوم، من معاودة الظهور في أكثر من موضع. فلقد بلغ من قوة هذه الخرافة أنها لا تدع لمن أراد استخدامها، إلا النزر القليل من حرية التصرف … وهذا الجانب من الحربة قد استخدمه المؤلف المصري، جهد ما في المستطاع استخدامه، وعلى نحو يطرب له كل من تشغله هذه المسألة، التي عرضت ﻟ «روما» المتثقفة باليونانية، كما تناولتها من بعدها أوروبا الناهضة، وما زالت حتى اليوم ماثلة تشغل الأذهان، وهي مشكلة من أعظم المشاكل وأصعبها: مشكلة محاكاة القديم.