في إيوان كسرى
صعدت عبادة وميمونة إلى الإيوان وهو في ظاهر المدائن من جهة الشرق، فخرجتا من البلدة وهما تحاذران أن يشعر أهلها بهما، وبالغتا في التقنع، فلما بلغتاه إذا هو قائم كالجبل العظيم وقد زاده الخراب وحشة. وكانت الشمس قد توارت وراء الأفق وتلاحمت الظلال وأخذت تتحوَّل إلى ظلام.
وساعة الغروب من أوحش الساعات على الإنسان لقرب خروجه إلى الظلمة فيشق عليه فراق النور فتنقبض نفسه ويستوحش حتى إذا كان في قصره بين أهله وذويه، فكيف إذا كان في بَرِّية يغشاها الخراب وينعق فيها البوم؟ وقد كان هذا البناء رهيبًا في إبان عمرانه فكيف به في خرابه؟ وللخراب وحشة في إبان النهار فكيف في الليل؟
على أن ميمونة شُغلت عن الخوف بلهفة المشتاق، ولولا ذلك لكان لها في منظر ذلك القصر عبرةٌ أي عبرة!
كانت خرائبه توحي بأن مصير الإنسان إلى الزوال، كما باد أهلوه وقد كان فيهم الأكاسرة والمرازبة والدهاقنة والأساورة ممن كان أحدهم لا تكاد الأرض تَسَع مطامعه؛ فكم ربطت خيولهم في باحة ذلك القصر! وكم دخلوه وعليهم الخزُّ والديباج وعلى رءوسهم التيجان وفي أيديهم الصوالجة! وكم جاء الملوك والأمراء يلتمسون الهدنة أو يتقربون بالهدايا؟ وكم خضع لهم القواد وسيقوا إليهم بالأغلال والأصفاد يوم كان القصر آهلًا بالنساء والأولاد وألوف من العبيد والجواري مما حُمل إليهم أسرًا أو هدية، وفيهم غلمان من أبناء الملوك وفتيات من بنات الأمراء … وكلهم يرفلون في ألبسة الحرير، ويتوسَّدون الرياش الوثير بين مُزركَش ومُطرَّز بألوانٍ تُبهج النظر وبين أنغام تُطرب السمع.
وكم كان على شرفات الإيوان من الستائر الموشاة، يُطِل من ورائها الجواري الحسان يتطلعن إلى ما كان يقام في باحة القصر من الألعاب على الخيول كالسباق أو لعب الصوالجة. والناس كلهم فرحون يحسبون الحياة نعيمًا دائمًا!
فلو رآهم راءٍ ثم جاء مع ميمونة في ذلك المساء ورأى الإيوان قد أصبح مقرًّا للحشرات، رياشه التراب وما نبت عليه من الحشائش والطحالب، ونمارقه الأشواك والأحجار، وقد تهدمت جدرانه وسقطت أساطينه وتصدعت أركانه، لاعتَبر وتهيَّب وغلبت عليه الوحشة والرهبة ولو كان من الأبطال، فكيف إذا كان فتاة رُبيت في مهاد الرخاء مثل ميمونة؟
فالتفتت إلى ما حولها فلم ترَ إلا خلاءً قد تولاه الخراب، فاستوحشت وندمت على مجيئها، ولكن رغبتها في لقاء حبيبها شجعتها وثِقتها بجدتها هوَّنت الأمر عليها.
أما عبادة فكانت في شاغلٍ بما نالها من التعب وكانت أقل خوفًا من ميمونة؛ فأسندت نفسها إلى أسطوانةٍ مُلقاة هناك من أنقاض الإيوان وقالت لميمونة: «هل ترين أحدًا أم تسمعين صوتًا؟»
فأصاخت بسمعها وقالت: «إني لا أسمع صوتًا ولا أرى شيئًا، لكن ذلك لا يمنع أن يكون بهزاد في داخل هذا البناء يبحث عن عشب أو عقار، وبما أننا وصلنا إلى هنا فلندخل الطاق فإذا لم نرَ أحدًا رجعنا سريعًا قبل أن يشتد الظلام. هل ندخل؟»
فلم تشأ عبادة مخالفتها، فمشتا وهما تجسان الأرض جسًّا بأقدامهما وتحاذران العثور بالأحجار أو الأشواك، وقد سكنت الطبيعة وأوَت الطيور إلى أوكارها. ولما أقبلتا على باب الإيوان هابتا سعته وارتفاعه؛ فقد كان عرض فتحته ٣٤ ذراعًا وارتفاعه ٣٢ ذراعًا، ولما مرَّتا تحت قنطرته سمعتا هبوب النسيم وأحستا ببرده، فأجفلت ميمونة وتراجعت وشعرت كأن يدًا باردة لمست وجهها فتلفَّتت فلم ترَ أحدًا فابتدرتها جدتها قائلة: «ما لكِ يا بُنية؟»
قالت: «ماذا أسمع؟ هل أسمع هبوب النسيم وأشعر ببرده؟ أم هي أنفاس الجن؟ قد كنا منذ لحظةٍ خارج الإيوان وكل شيء هادئ، فما بالي أسمع هبوبًا وأشعر بالبرد؟»
قالت: «كأنكِ لم تدخلي هذا الإيوان قبل الآن؟»
قالت: «كلا، وهل فيه جن؟»
قالت: «لا تخافي يا بُنية، ليس في المكان جن ولا إنس، وأما ما تسمعينه فهو أصوات مجاري الهواء الخارج من جدران الطاق.»
قالت: «قد كنا بقُربه الآن ولم يكن ثَمَّةَ ريح، فكيف هبت سريعًا على هذه الصورة؟»
قالت: «إن في بناء هذا الإيوان سرًّا لم ينكشف لأهل هذا العصر بعد؛ إنه مبني على هندسة تجعل الهواء يلعب في قاعته ولو كان الناس خارجه في حرٍّ شديد، فيخرج من منافذ في جدرانه مصنوعة على نمط عجيب حيَّر مهندسي هذا الزمان. وقد تأنَّق الذين بَنَوه في صُنْعه على هذه الصورة حتى لا يفارق النسيم مجالس الأكاسرة في أشد الأيام حرًّا؛ فلا تخافي، هل نرجع؟»
وكانتا قد دخلتا الباب وأقبلتا على القاعة الكبرى التي يُسمُّونها الطاق، ويُسمُّون الإيوان بها فيقولون طاق كسرى كما يقولون إيوان كسرى. وكانت مساحة هذا الطاق في أيام عمارته ستين ذراعًا في ستين، وقيل مائة في خمسين، وكانوا يفرشون أرضه ببساطٍ واحد مُزركَش ومُرصَّع.
وكان في صدر الطاق على عهد الأكاسرة عرش من ذهب مرصع بالحجارة الكريمة يجلس عليه كسرى، تعلوه قبة مُرصَّعة في داخلها مروحة من ريش النعام، وإلى جانبَي العرش مجالس الأعوان والمرازبة. وقد ذهب ذلك كله أثناء الفتح غنيمةً للمسلمين وهم يومئذٍ أهل باديةٍ حفاةٌ عراة لا يُفرِّقون بين الكافور والملح ولا بين الجوهر والحصى، فاقتسموا الآنية وقطعوا الأبسطة ومزَّقوا الستائر، وكان نصرهم من آيات تغلُّب البداوة على الحضارة؛ فلم يبقَ هناك إلا الأحجار وبعض الأساطين وقد تشوَّهت وتكسَّرت.
ونظرت ميمونة إلى ما حولها من الجدران الهائلة فرأت عليها صُوَرًا مُلوَّنة منعها الظلام من تَحقُّقها. ولما سمعت جدتها تستخيرها في الرجوع وهي لا ترى في ذلك المكان إلا ما يبعث على الوحشة، ناهيك بما كانت تخافه من الحشرات التي تكثر في مثل تلك الخربة، عزمت على الرجوع وأرادت أن تُجيبها بالإيجاب فإذا بها تسمع دبدبةً خارج الإيوان ولا تسمع كلامًا؛ فاختلج قلبها في صدرها وأرادت أن تصيح فأُرتِجَ عليها ولصق لسانها بحلقها، وأدركت جدتها ذلك ولم تكن أقلَّ خوفًا منها، فأمسكت بيدها وأومأت إليها أن تتبعها إلى الداخل وهي تهمس في أذنها: «لعل أولئك العيارين أتوا للبحث عن بهزاد في الإيوان مثلنا، وهو والحمد لله ليس هنا، على أني أخشى أن يُبصرونا؛ فتعالي نختبئ وراء هذه الأساطين حتى إذا أطلُّوا ولم يجدوا أحدًا رجعوا.» قالت ذلك وصوتها يرتجف وهي تجرُّ ميمونة بيدها، فأسرعتا فوق الحجارة وما يتخللها من الأعشاب والأشواك، فسُمع لخطواتهما خشخشة وطقطقة رغم ما أرادتاه من التستُّر، ولم تنتبها لهول ما اعتراهما إلى ما كان يسرح بين أقدامهما من الجرذان والأورال وغيرها من الحشرات، حتى وصلتا إلى كوَّة واسعة لعلها كانت موضع العرش في إبَّان صولة الفرس. وعند الكوَّة أساطين متفرقة إذا دخل الطاقَ داخلٌ لا يفطن لمن يقيم وراءها. فدخلتا الكوَّة وانزوتا فيها وهما تمسكان أنفاسهما من الخوف، وأصغتا وعيونهما محملقة تنظران إلى الباب بلهفةٍ وجزع، وقد ندمتا على تلك المخاطرة.
ولم تمضِ لحظة حتى كفَّت الدبدبة وسمعت ميمونة همسًا عند الباب كأن المتكلم يحاذر أن يسمعه أحد، ثم سمعت صوت قدح زناد، ورأت أشعة النور اندفعت إلى الطاق من سراجٍ يحمله شخص طويل القامة ملثم بلثام أسود، وقد التفَّ بعباءة سوداء فلم يبدُ منه غير يده التي يحمل بها السراج. وما لبث أن دخل صامتًا وفي أثره بضعة رجال في مثل هيئته، فخفق قلب ميمونة وازداد اضطرابها حتى كاد الدم يجمد في عروقها، مخافة أن يتقدم الرجل بسراجه إلى مكانهما، فبالغت في الانزواء وهي ما زالت معانقة جدتها.
أما حامل السراج فلما توسط الطاق التفت يَمنةً ويَسرةً وقال: «ليس هنا أي أحد، وهل يُعقل أن يأتيَ هنا أحد في مثل هذا الوقت؟ فليس ما سمعناه إلا خشخشة بعض الحشرات التي فرت حين أحسَّت بقدومنا.» ثم نظر إلى ما بين يديه كأنه يبحث عن مكانٍ يضع السراج عليه، فرأى بقية أسطوانة قد ذهب معظمها وظلت قاعدتها قائمة، فوضع السراج عليها، وأخرج يده الأخرى من تحت العباءة وفيها صندوق أسود فوضعه بجانب السراج والتفت إلى رفاقه وهم ستة، وقال بصوت ضعيف: «هل نبدأ الحديث؟»
فقال أحدهم: «نعم، قل ما بدا لك.»
فلما سمعت ميمونة صوت الرجل الأول استأنست به، وخُيل إليها أنه يشبه صوت حبيبها، فاختلج قلبها وشاعت عيناها. ثم رأت الرجل الطويل ورفاقه قد خلعوا عباءاتهم فافترشوها وقعدوا عليها ما عدا أولهم فظل واقفًا، وبدت ثيابهم من تحت العباءات على غير المألوف في بغداد؛ إذ كان على كلٍّ منهم قباء أخضر وعلى رأسه قلنسوة حولها عمامة خضراء، وقد تمنطقوا بالسيوف وتقلدوا الأقواس كأنهم يتأهَّبون للحرب.
واسترعى انتباهها طول الرجل الأول وكان قد ولَّاها ظهره، فرجَّحت أنه بهزاد، وحدَّقت فيه، وكادت تناديه ولكنها أمسكت وأشارت إلى جدتها أن تنظر إليه فعرفته على ضعف بصرها، وأومأت إلى ميمونة أن تصبر وتبقى صامتة، وأخذت تتفرَّس في القوم، وعرفت من وجوههم ولِحَاهم أنهم من الفرس ولكنها لم تعرف أحدًا منهم. ثم رأت بهزاد قد تحوَّل نحو قاعدة الأسطوانة وأخذ الصندوق فوضعه بين يدي الجماعة وقعد القُرفُصاء وقال: «أقسموا على ما في الصندوق أنكم تكتمون ما يدور بيننا.»
فتصدَّى رجل منهم رقيق البدن خفيف العضل تدل سحنته على مزاجه العصبي وحِدَّة ذهنه وجرأته فقال: «ولكنك لم تخبرنا بما فيه، وقد وعدتنا أن تُطلِعنا على ذلك قبل كل شيء.»
فتناول بهزاد مفتاحًا من جيبه وفتح الصندوق وقال: «انظروا ولا تتكلموا.»
فنظروا في الصندوق وتراجعوا وقد تولتهم الدهشة وقالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون. ما هذا؟»
فقال: «هذا شعارنا منذ اليوم؛ هذا رأس القتيل المظلوم، فهيا أقسموا أن نكتم أمرنا، وأن ننتقم له ولمن قُتل قبله.»
قال ذلك وأغلق الصندوق وهو جاثٍ، فقرءوا الفاتحة معًا، ثم أقسم كلٌّ منهم ليبذلن ماله ودمه للانتقام.
وقف بهزاد عقب الانتهاء من القسم، فأعاد الصندوق إلى موضعه وحمل المصباح وتقدَّم نحو جدران الطاق والسراج مرفوع بيده ليَبدوَ ما على الحائط وقال: «أترَوْن ما على هذا الجدار من الرسوم؟»
قالوا: «نرى كسرى أنو شروان يُحاصِر بجنده أنطاكية.»
فقال: «ألم يفتحها؟» قالوا: «بلى.»
قال: «ألم يكن أنو شروان عادلًا؟» قالوا: «بلى.»
قال: «ألستم خلفاءه وأبناءه؟» قالوا: «بلى.»
قال: «ألم تنصروا هؤلاء العرب وتُملكوهم رقاب الناس؟»
قالوا: «بلى.»
قال: «ألم يبذل أجدادكم أرواحهم ودماءهم وأبلَوْا بلاء الرجال في طاعة إمامهم الأول، فقَتلوا على الشك وغدروا وخانوا رغبةً في رفع منار تلك الدولة، فكيف كان جزاؤهم؟» فقالوا جميعًا: «لقد جوزينا جزاء سنمار. رحم الله أبا مسلم.»
قال: «ليس أبو مسلم أول شهيد قتله العرب غدرًا بعد أن أيَّد سلطانهم، وسلَّم الدولة إليهم؟ أترضون أن يذهب دمه هدرًا فضلًا عن دماء آبائكم؟»
فقال رجل منهم كبير السن جليل الطلعة: «إنك تدعونا إلى أمر عظيم، ولكنك لم تُخبرنا من أنت؛ نعم إنك فارسي مثلنا وشريك لنا في هذا الأمر، غير أننا نحب أن نعرف الغرض من مجيئنا إلى هذه الخرائب وقد كنا في غِنًى عن ذلك بالاجتماع في بيت أحدنا.»
فقال بهزاد: «يَعُد الناس هذا المكان خرابًا وما هو كذلك؛ إنه أثر حي لعظمة دولتنا، وقد عجز المنصور بعد أن غدر بأبي مسلم عن هدمه. إن بقاء هذا الإيوان رمز على بقاء دولة أصحابه؛ فأحببت أن نتعاهد على الانتقام بين جدرانه، وهذا أنو شروان العادل كأنما يرانا ويسمعنا، فإذا تعاهدنا أمام صورته كان عهدنا وثيقًا.»
ثم رفع السراج إلى رأس كسرى في الصورة وقال: «انظروا، إنه ينظر إليكم بعينيه نظرة عاتبٍ كأنه يقول: «لقد تقاعدتم عن نصرة أُمتكم ورضيتم بالرضوخ لقومٍ استخدموكم وأذلوكم وقتلوكم غدرًا، فكيف تصبرون على الذل وفيكم العظماء والحكماء والقواد، ومنكم رستم وقورش ودارا وسابور وبرويز وأنو شروان وبزر جمهر، وقد حاربتم الإغريق والرومان والهند والصغد وفتحتم بلادهم. كيف يغلبكم على أمركم أعراب كانوا يَفدون علينا للاستجداء فنُنعم عليهم بالطعام واللباس، وكان أحاسنهم من جندنا وموالينا، فتسلطوا عليكم بالسيف، ثم نصرتموهم فقتلوا كباركم غدرًا وملكوا رقابكم وأنتم صابرون، ولو لم تصبروا لكنتم الملوك وهم عبيد لكم. ومع هذا أليست مقاليد الأحكام في أيديكم، ومنكم وزراؤهم وقوادهم ورجال العلم والسياسة فيهم؟ فكيف تَحنون رقابكم لرجالٍ ما فيهم إلا الضعيف، وإنما غلبوكم بالحيلة والمداجاة. إن الصبر إذا طال أصبح مذلة وعجزًا.» هذا خطاب أنو شروان، ولأجله جئت بكم إلى هذا المكان. أما أنا فإذا كنتم من الناقمين لأبي مسلم فاعرفوني؛ إني رسول إخوانكم في خراسان، فما قولكم؟»
وكان بهزاد قد ارتفع صوته ونسي التكتُّم والتستُّر وأشرق وجهه حماسةً وشهامة؛ فرقص قلب ميمونة فرحًا لرؤيته وسماع خطبته، ولكنها ظلت متشوقة لمعرفة ما في الصندوق، وقد فهمت من حديثهم أن فيه رأس رجل مظلوم، فتلهفت لمعرفته.
ولما انتهى بهزاد من كلامه وهو ينظر إلى القوم والسراج في يده، نهض أحدهم وقال: «هل أنت رسول إلينا من إخواننا الخرمية في خراسان؟»
فقال: «إني رسول إليكم منذ بضعة أعوام.»
قالوا: «وما الذي عاقك إلى الآن؟»
قال: «تربصت حتى جاءت الساعة وسنحت الفرصة؛ لأن الأمور مرهونة بأوقاتها؛ فالآن مات الرشيد.؛ ذلك الذي غلبنا بمبادرته وكيده، فقتل كبيرنا وعمدتنا وعرقل مساعينا، أما خليفته فغلام غِرٌّ همُّه أكله وشربه و…»
فقطع الرجل كلامه قائلًا: «ولكننا أقمنا دولة فارسية أساسها الآن في خراسان، وهذا أخوه المأمون ولي العهد لا يلبث أن يتولى العرش بعده، وهو آلة في يد الفضل بن سهل، وهذا إنما أسلم وتقرَّب منه رغبةً في نصرة الفرس وتطلعًا إلى هذه الفرصة؛ فإذا أفضت الخلافة إلى المأمون بلغنا الغرض المطلوب على أيسر سبيل؟»
فقال بهزاد: «ألم أقل لكم إنكم غافلون عن منافعكم؟ إن مساعيَ الفضل أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بما هيَّأه هذا الغلام وأنصاره من أسباب الغدر؛ فكما أسس المنصور دولته بقتل أبي مسلم غدرًا، وأنقذها الرشيد بقتل جعفر غدرًا، فإن هذا الغلام عرقل مساعيَ الفضل بن سهل بخلع المأمون غدرًا!»
فصاح الرجل: «هل خلعه؟»
قال: «نعم، خلعه ولا يلبث أن يقتل أنصاره وأنتم نيام. إن مساعيَ الفضل مؤسسة على الدهاء والسياسة، فإذا لم تبادروا إلى تأييدها ذهبت عبثًا، فلا ينفعنا إسلامه ولا تقرُّبه من المأمون.»
فقال الرجل: «هل أنت واثق من خلع المأمون؟»
قال: «لست نائمًا مثلكم، ولكني ساهر على صوالحكم منذ بضعة أعوام، وقد بثثت العيون والأرصاد حتى في بلاط الخليفة، وأعرف كل حركة تجري في بيت الأمين، وأعرف أهواء العامة وأغراض الخاصة، وقد علمت يقينًا أن الأمين خلع أخاه المأمون، ولا ندري ما يفعله بعد ذلك. أما العامة فقوم طغام يُباعون ويُشرون وهم لا يعلمون، وأما الخاصة فأنتم عمدتهم؛ فبادروا إلى العمل؛ فقد بلغ السيل الزُّبى.»
فأطرق القوم هنيهة ثم وقف الرجل الجليل وقال بصوتٍ هادئ: «أما وقد ثبت خلع المأمون، فالأمر خطير، ولكننا لا نفوز إلا بالتؤدة؛ فإن هؤلاء العامة لا يُقادون إلا بالدين، وهذا أمر كان أوله في خراسان ولا يقوم إلا من هناك.»
قال: «إن تدبير ذلك سهل علينا، وخراسان سيفنا وذخيرتنا. وأما الدين فهو الوسيلة لجمع كلمة العامة، وهذا في أيدينا وسندبر ذلك في خراسان. إن هذه الأقبية الخضراء ستملك أمر الدين بإذن الله؟»
ففهم الرجل مراده من اتخاذه مذهب الشيعة سلاحًا لنقل الخلافة فقال: «متى صارت الخضرة شعار الخلافة وذهب سواد العباسيين نلنا المراد، ولكن أنَّى لنا ذلك؟»
قال: «يكون لنا ذلك إن شاء الله في خراسان، ولا بد من إعمال السيف، فكونوا أنتم في يقظة من أمر شيعتنا في بغداد. وإذا أتت الساعة يُحاسَب كلٌّ منا على عمله.» ثم أشار إلى الصندوق وقال: «وأما شعارنا الحقيقي فهو ما رأيتموه في هذا الصندوق، وسأضيف إليه رأسًا آخر إذا رأيتموه علمتم أنكم إذا بذلتم أموالكم وأنفسكم فإنما تبذلونهما في سبيلٍ قويم. إذا كنتم من الخرمية فإنكم تنتقمون لإمامٍ قديم ورجلٍ عظيم؛ تنتقمون لأبي مسلم صاحب الرايات السود مؤسس الدولة العباسية، وهو يناديكم من أعماق قبره أن تقلبوا هذه الدولة وتُعيدوا دولة الفرس وتؤيدوها بالشيعة العلوية أصحاب الدعوة الأصلية التي أضاعها المنصور بغدره ودهائه. وسيعلم الذي ظلموا أيَّ مُنقلَب ينقلبون.»
•••
كان بهزاد يتكلم والعرق يتصبَّب من جبينه، وقد أخذت منه الحَمِية مأخذًا عظيمًا، فاستنهض عزائم رفاقه وسحرهم بحماسته وبلاغته حتى تراءى لهم أن الإيوان عاد سيرته الأولى آهلًا بالجيوش يُزجيها كسرى أنو شروان. وكانوا يعرفون بهزاد طبيبًا فارسيًّا ناقمًا على العباسيين، ولم يكن يخطر لهم أنه رسول «الخرمية» — من الأحزاب السرية القائمة في خراسان — وهم طائفة ظاهرها ديني واختلفت الأقوال في حقيقة مذهبها، ولكنها كانت حزبًا سياسيًّا يستخدمها ذوو المطامع في طلب السيادة، ومنهم أصحاب أبي مسلم وأهله ولا سيما ابنته فاطمة؛ فإن الخرمية كانوا يُقدسونها ويذكرونها في أدعيتهم. وللخرمية أثر كبير في تاريخ الإسلام، وكانوا إذا اشتدوا ظهروا وإذا ضعفوا اختفَوا، وكانت لهم مخابرات سرية في المدن الإسلامية، يتعاونون ويتكاتفون، وفيهم المسلمون والزرادشتيون والمجوس، وإنما تجمعهم العصبية الفارسية.
ولا بدع إذا كان منهم جماعة في بغداد كالذين جاءوا مع بهزاد، وهم من وجهاء القوم وأصحاب الثروة والنفوذ، وفي نفوسهم أشياء على الخلفاء كقتل أبي مسلم وجعفر البرمكي وغيرهما. وكانوا يتحدثون بذلك سرًّا وينتظرون تبدُّل الأحوال وآمالهم عالقة بالمأمون إذا تولى الخلافة، ولم يكونوا يعلمون أن الأمين قد خلعه؛ فلما أنبأهم بهزاد بذلك ثارت الغيرة في نفوسهم وتحمَّسوا ونهض أحدهم وقال: «إننا على ما أقسمنا عليه، لا ندَّخر مالًا ولا رجالًا، ولكن لا بد لنا من التؤدة.»
فقال: «ذلك ما عزمنا عليه، فأقيموا أنتم على أعمالكم حتى تأتي الساعة، وأنا أعرف أماكنكم فكونوا على استعداد، وقد آن لنا أن ننصرف، وهذا آخر اجتماع لنا على هذه الصورة. وسنجتمع في غير كلفةٍ أو حذرٍ قريبًا إن شاء الله!»
فنهض رفاقه وأخذوا يتأهَّبون للخروج، فالتفُّوا بعباءاتهم وهمُّوا بالانصراف، وتناول بهزاد عباءته فالتفَّ بها وانطفأ السراج وتركه في مكانه وخرج. فلما أظلم الطاق لم تعد ميمونة تستطيع ضبط نفسها والصبر على التستُّر فهمَّت بأن تُناديَ بهزاد، فأمسكت جدتها بيدها وطلبت إليها أن تصمت ريثما يتفرق القوم، ونهضت وأشارت إليها أن تتبعها بخفةٍ وهدوء، فأطاعتها ومشت وركبتاها تتلاطمان ولا تكادان تحملانها، وكذلك اصطكَّت أسنانها كأنها أُصيبت بتشنُّج.
ولم تتوسطا الطاق حتى رأتا القوم قد امتطَوْا خيولهم بعد أن صافحوا بهزاد وودَّعوه وانصرفوا، وبقي هو وحده فاتجه إلى مربط جواده ليركبه، ولكنه سمع وقْع خطواتٍ تتبعه، فالتفت فرأى شبحين بلباس النساء، فاتجه إليهما بهدوءٍ ورباطة جأش وقال: «من أرى؟»
فركضت ميمونة نحوه وأمسكت بذراعه وصاحت: «أنا ميمونة، وهذه جدتي عبادة.»
فشعر بهزاد برعدتها فتجلد وقال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان؟»
فقالت عبادة: «جئنا للبحث عنك؛ فقد بلبلت خاطرنا بغيابك، وقد أصيبت مولاتنا بنت المأمون بحُمَّى ولا تقبل آسيًا غيرك، فلما أبطأتَ لم نرَ أحدًا أولى منا بالبحث عنك؛ لأننا نعرف منزلك وطرقك.»
فأطرق وهو ممسك لجام الفرس بيده والصندوق باليد الأخرى ثم قال: «وما الذي جاء بكما إلى هذا المكان بالذات؟ وكيف عرفتما أني أجيء إليه؟»
فقالت ميمونة: «قد ساقتنا إليه العناية، والحديث في ذلك يطول، وأنت الآن في حاجةٍ إلى الراحة ونحن كذلك.»
فقال: «هلم إلى المنزل.» ثم التفت إلى عبادة وقال: «أظنك أكثرنا تعبًا فاركبي الفرس ونحن نمشي بجانبه.»
فقالت: «لا يركب فرسك سواك، لكن إلى أين نذهب؟»
قال: «إلى المنزل.»
فقالت: «إلى المنزل في المدائن؟» قال: «نعم.»
فأمسكت يده بكلتا يديها وقالت: «لا بالله، لا تذهب إلى هناك.»
قال: «ولماذا؟» قالت: «لأن في الذهاب خطرًا عليك.»
فأجابها وهو لا يزال ماشيًا: «وأي خطر؟»
قالت: «رأينا الجند والعيارين قادمين للبحث عنك في منزلك.» وقصت عليه ما شهدتاه إلى أن قالت: «فأخاف أن يصيبك سوء.»
فقال: «أنتِ تخافين، وأما أنا فلا أخاف!»
فقالت: «بالله أطعنا، وتعال نذهب معًا نحو الشاطئ فإن الحراقة في انتظارنا هناك.»
فقال: «لا بد لي من الذهاب إلى منزلي يا خالة.»
وهمَّت ميمونة بأن تتوسَّل إليه أيضًا ليرجع عن عزمه، فإذا بهم يسمعون وقْع أقدام مسرعة، فالتفتوا جميعًا فرأَوا شبحًا قادمًا نحوهم من جهة المدائن، فأجفلت ميمونة وصاحت: «ويلاه، أظنه واحدًا من العيارين.»
فسمعت الرجل يقول: «كلا، لست منهم.»
فعرفوا صوت سلمان فدُهشوا، وصاح بهزاد: «سلمان؟»
قال: «نعم يا مولاي.» وكان قد وصل إليهم وهو يلهث من سرعة الركض فابتدره بهزاد قائلًا: «ما وراءك؟»
فقال بصوتٍ متقطع: «إن المنزل يا مولاي محاط بالجند والعيارين وهم جماعة كبيرة أرسلهم الأمين ليأخذوك.»
قال: «وكيف أتيت المدائن ورأيت ذلك، وعهدي بك في بغداد.»
قال: «علمت بهذا العزم من مصدره، فاحتلت في الخروج بأسرع ما يستطيع الناس حتى أدركت المنزل وقد سبقوني إليه، ورأيتهم محيطين به يتشاورون في فتحه، فعلمت أنك لست في داخله، وتذكرت أنك تأتي الإيوان في بعض الأحيان فأتيت لَعلِّي أراك وأنذرك بالخطر.»
قال: «وهل أفر؟»
قال: «وهل تُلقي بنفسك إلى التهلكة؟»
قال: «هذا لا يكون، فاذهب أنت بهذه الخالة وميمونة إلى الحراقة. أما أنا فلا بد من ذهابي إلى المنزل لأمرٍ مهم، فإذا لقيتُ فيه جندًا فالله يحكم بيني وبينهم.»
فلم تَعُد ميمونة تقوى على السكوت وكتمان ما في خاطرها فقالت: «وهل نحن خائفون على حياتنا؟ وحياتك هي العزيزة. إن حياتك عزيزة يا سيدي … أتظننا لم نسمع حديثك؟ لقد عرفنا مهمتك وفي نفسي من هذا الصندوق شيء أحب الاطلاع عليه.»
فقال: «ربما أطلعتك فيما بعد، وأما الآن فلا بد من الذهاب إلى البيت، إني لم أتعوَّد الفرار.»
فازدادت ميمونة إعجابًا به، ولم يرَوْا بُدًّا من إطاعته فقالوا: «نسير جميعًا حيثما تشاء ويصيبنا ما يصيبك.»
فمشى وسلم زمام الفرس إلى سلمان، وأراد هذا أن يحمل الصندوق عنه فأبى، ومشت عبادة تتثاقل في خطاها وتبالغ في إظهار عجزها وكذلك سلمان وميمونة، كأنهم مساقون إلى القتل مكرهين، وبهزاد يجاريهم ويتأنى في خطاه.