ميمونة والأمين
وفيما هم في ذلك جاء الحاجب وقال: «إن رسول الوزير بالباب.»
فقال: «يدخل.» والتفت إلى الحضور وقال: «هذا رسولنا مع الجند إلى قصر المأمون، فلنسمع ما جاء به.»
ثم دخل الغلام، وهو من الشاكرية، فألقى التحية وتأدَّب، فقال له الفضل: «ما وراءك.» قال: «هل أقول؟» قال: «قل … هل أتيتم بالفتاة؟»
قال: «نعم، ولكنها لم تأتِ وحدها.» قال: «ومن جاء معها؟»
قال: «جاءت معها مولاتنا أم حبيبة بنت ولي العهد.»
فأجفل الفضل وقال: «أعوذ بالله! وكيف أتيتم بها؟ ومن قال لكم ذلك؟»
قال: «لم يقل أحد ولا نحن رضينا بمجيئها، ولكنها جاءت رغم إرادتنا؛ إذ تعلقت بالفتاة وأبت إلا أن نأخذها معها!»
قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ألم يكن في وسعكم اجتناب مجيئها؟»
قال: «كلا يا مولاي؛ لأنها تعلقت بالفتاة ولم تبالِ أقوالنا وتهديدنا، حتى لقد حدثتْنا أنفسنا أن نتركهما معًا، وقد جاءت معهما أيضًا القهرمانة دنانير؛ إذ عرَّضت نفسها للقتل وذكرت أنها تؤثر الموت على تسليم الفتاة، فأتينا بالثلاث معًا.»
فقال: «وأين هن الآن؟»
قال: «هنا في دار النساء، وأم حبيبة تطلب أن ترى عمها الخليفة.»
فاكفهرَّ وجه الفضل عند ذلك لبلوغ المسألة إلى هذا الحد، ولكنه كان واثقًا بسلطانه على الأمين، ولا سيما إذا أطلعه على سر الفتاة وأنها بنت جعفر البرمكي، وأنه إنما أراد القبض عليها ليُقدمها له فيرى رأيه فيها. فنهض وهمَّ بالخروج، ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «صدق من قال: «إن في العجلة ندامة.» فلو أطعنا الملفان ما وصلنا إلى هذه المشكلة، ولكن لا بأس.» ثم التفت إلى سلمان وأشار مُودِّعًا وكان هذا قد وقف وحيَّا شاكرًا، وقد اطمأن على ميمونة لمجيء أم حبيبة معها وطلبها مقابلة الأمين؛ فلا شك في أنه يحتفظ بالفتاة إكرامًا لبنت أخيه فتنجو من ابن الفضل.
ثم خرج من المجلس وقد غابت الشمس وأُضيئت الشموع الكبيرة المشهورة بشموع الأمين.
وكان الأمين ساعتئذٍ في مجلس غِناءٍ أمر بإعداده، وحشد له المغنين والندماء. فأُعد في إيوان كبير بين قاعات القصر، في وسطه بركة يتدفق فيها الماء من أنابيب على هيئة رءوس الثعابين، وحولها أغراس الرياحين ومقاعد الجلساء والمغنين. وكان الوصفاء من الخصيان يقومون بخدمته هناك وفيهم السقاة عليهم الألبسة الثمينة الباهرة وهم في زيِّ الجواري، وقد أرسلوا شعورهم جدائل مفردة ومزدوجة، وفي أيدي بعضهم الدفوف أو المزاهر أو العيدان يدقون ويُغنون، وإلى جوانبهم الجواري الحسان في زيِّ الغلمان وهن هدية إلى الأمين من أمه زبيدة.
وكان الأمين يغالي في اقتناء الجواري من أقاصي البلاد وينفق في استجلابهن الأموال. وقد ارتدى في ذلك المجلس لباس المنادمة، وهو غلالة صفراء مصقولة صقلًا شديدًا، وعلى رأسه عمامة خفيفة، وجلس على سرير من الآبنوس المنزل بالعاج، وبين يديه مائدة عليها أنواع الأطعمة والأشربة والرياحين، وقد فاحت رائحة المسك وغيره من الأطياب حتى ملأت الفضاء.
وبينما هو في مجلسه هذا جاءه الحاجب وقال: «مولاتي زينب أم حبيبة بالباب.» فبُغت الأمين وظن مُخبِره واهمًا فاستفهمه قائلًا: «ابنة أخي؟»
قال: «نعم يا مولاي.»
فتحيَّر في أمره ولم يدرِ بماذا يجيب؛ إذ أكبر أن تقابله ابنة أخيه وهو في مجلس الشراب على تلك الصورة. ولم يكن سلطانه وقوة بطشه ليمنعا خجله من فتاة صغيرة يسترضيها الناس بتفاحةٍ أو لعبة؛ لأن سلطان الأدب والحشمة أغلب في النفس من سلطان السياسة والشدة؛ ولذلك كان الأدب قوة، ولأدب النفس هيبة يُجلها العقلاء وغير العقلاء، وصاحب الرذيلة مهما يعظم سلطانه وإن استغرق في المنكرات لا يزال في ضميره بقية من احترام الفضيلة وأهلها. ألا ترى أرباب المعاصي وإن تساهلوا في ارتكابها يستنكفون من أن ينتسبوا إليها أو يُقال إنهم من أهلها؛ فهم أذلاء وإن عزوا، ويغلب عليهم الجبن في مواقف الإنسانية وإن كانوا أبطالًا في مواقف القتال. إن مرتكب المعصية محكوم عليه بالمذلة والضَّعَة من عند نفسه لاعتقاده أنه يُخالِف السُّنن الأدبية فضلًا عن الدينية، وقد يكون سيدًا مطلقًا لا سلطان عليه ولا يخشى حُكمًا ولا قِصاصًا، وربما كان معطلًا لا يخاف عقابًا ولا يرجو ثوابًا، ولكنه يخاف شيئًا لا صورة له في الوجود، ويخاف ما قيل عنه وما يُقال له. وقد لا يضره ذلك ولا ينفعه، ولكنه فُطر على التماس حسن الأحدوثة أو «الشهرة». ولولا هذا لكان الناس كالبهائم يأكلون وينامون.
فهذا الأمين، مع تهتُّكه وسُكْره وعِلمه بانتهاكه حرمة الشرع والعُرف وصَمِّه الأذن عن النصح، لم يسعْه إلا أن خجل أن يقابل في مجلس لهوه فتاةً صغيرة؛ وما ذلك إلا حرصًا على كرامته، ولعلمه بطهارة قلبها وصفاء سريرتها.
فلما أُنبئ باستئذانها عليه تردَّد في الإذن وأكبر أن يُظهر خجله من مجلسه هذا فينهض لمقابلتها في غرفةٍ أخرى وهو الخليفة صاحب السلطان الأكبر مالك رقاب العباد، ولم يستطع ردَّها إذ لا عذر له في ذلك؛ فغلب عليه اعتزازه بالإثم فقال: «تدخل ابنة أخينا.»
وكان القدح بيده فوضعه على المائدة، واصطنع الوقار على قدر ما يستطيع، فلما رأى جُلَّاسُه ذلك جنحوا إلى التهيُّب وتولاهم السكوت، وألقَوا أدوات الشراب من أيديهم. وأشار الأمين إلى الغلمان والجواري فتباعدوا، واستولت الحشمة على الجلسة، وسكت القوم كأن على رءوسهم الطير.
فدخلت زينب وعليها مطرف من خزٍّ قد التفَّت به، وخمار مزركش يكسو رأسها إلا بعض وجهها. وقد أشرق ذلك الوجه حياةً وتجلت فيه الطهارة وسلامة القلب. وفي طهارة الأطفال رونق للناظر وهيبة للمتأمل وعظة للعاقل، ويستدل علماء الأخلاق من ذلك على ما فُطر عليه الإنسان من الميل إلى الخير، وأنه إنما يساق إلى الشر بما يعرض له من أسباب المطامع أو يمارسه من اختلاف المشارب، وإذا أتى شرًّا فإنما يأتيه للدفاع عن نفسه أو ماله، وقد يظهر أنه مهاجم متعدٍّ ولو فحصت ضميره واستطلعت خبايا قلبه لرأيت أساس ذلك التهجُّم هو الدفاع عن نفسه.
فالأطفال مثال للفطرة الساذجة، لا يعرفون الكذب أو التملق أو الخداع. يقولون ما يعتقدون لا يخافون ولا يحاذرون، ولا سيما إذا رُبُّوا كما رُبِّيتْ زينب على أيدي دنانير؛ حيث تثقفت واستنار عقلها على قدر ما تسمح به سِنُّها، واعتادت ألا ترد كلمتها. فلما رأت الجند يخالفونها ويُلحون في أخذ ميمونة شقَّ عليها الأمر وأكبرته، ولما زُجِرت إرادتُها بكت وجاءت معهم كما تقدم، فدخلت لساعتها على عمها وقد أبرقت عيناها وفيهما أثر البكاء.
فلما رآها الأمين رحَّب بها ونهض لاستقبالها، فلم يبقَ أحد من الحضور إلا وقف تهيبًا. ولم يرَوْا بُدًّا من إخلاء المجلس للخليفة وابنة أخيه، فخرجوا وغادروا المائدة وأباريقها وأقداحها وزهورها ورياحينها، وقد تبعثرت الفاكهة وأقداح الشراب ومنثور الأزهار وأضاءت منائر الشمع في جوانب الإيوان، وودَّ الأمين لو تنطفئ لتُخفيَ تهتُّكه.
فلما دنت زينب من عمها ترامت على ذراعيه وغلب عليها البكاء، فضمَّها إلى صدره وقبَّلها وقال: «لا بأس عليكِ يا ابنة أخي، ماذا أصابك؟»
أما هي فلما شمَّت رائحة الخمر في فيه نظرت إلى ما حولها مستغربة، فأراد أن يُلهيَها عن الاستفهام فقال: «ما بالكِ يا أم حبيبة ماذا تريدين؟ لماذا لم تدخلي دار النساء؟»
فقالت: «قد كنتُ هناك وأحببتُ أن أراك ولم أكن أعلم أنك على مائدة الطعام.»
فسره أنها تحسبه على مائدة الطعام فقال: «هل من حاجةٍ نقضيها لكِ؟»
قالت: «نعم لي حاجة …» والتفتت إلى الباب وقالت: «نعم لي حاجة، أين دنانير؟ هي تقصُّ عليك خبري.»
فتجلَّد الأمين وهو يَحسِب لهذا المجيء ألف حساب، لِما يعلمه من إساءته إلى أبيها. ولكنه استبعد أن تطَّلع هي على شيءٍ من ذلك فتجاهل وقال: «هل القهرمانة معك؟»
قالت: «نعم، كانت معي في دار النساء، وقد أرادت ألا تفاجئك في هذا المجلس.» ثم نظرت فيما على الأرض من الأدوات وقالت: «أرى مائدتك يا عماه تختلف عن مائدتنا، لعل مائدة الخلفاء هكذا.» قالت ذلك بسذاجةٍ وإخلاصٍ فأصاب قولُها قلبَ الأمين لِما حواه من التوبيخ الصريح عفوًا، فقال: «إنها مائدة بعض الأضياف كانوا عندنا الليلة. هلمي بنا إلى دار النساء.» قال ذلك ولم يَعُد يصبر على البقاء هناك، فنهض وأخذ بيدها وهي تتوكأ عليه حتى دخلا قاعة في دار النساء مفروشة بالبُسُط والنمارق ليس فيها أحد، وأجلسها بجانبه وهو مشتاق إلى سماع شكواها ليطَّلع على جلية الخبر، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «ادع القهرمانة دنانير.»
وبعد قليل دخلت دنانير وهي مُطرقة وقد غطت رأسها بالنقاب وهمَّت بتقبيل يده ثم وقفت متأدبة، فقال: «ما الذي جاء بكما يا دنانير؟»
قالت: «يسوءُنا أننا أزعجنا أمير المؤمنين وكدرنا عليه مجلسه، ولكن سيدتي أم حبيبة أبت إلا أن تجيء الليلة ولم أستطع منعها.»
فقال: «وما الخبر؟» قالت: «ألم ترسل إلينا في طلب ضيفتنا؟»
قال: «وأيَّ ضيفة تَعنين؟» قالت: «ضيفتنا ميمونة.»
قال: «لم أفهم مرادكِ، أفصحي.»
فأدركت دنانير أن الفضل فعل ذلك من عند نفسه فقالت: «نزلت عندنا منذ يومين فتاة غريبة اسمها ميمونة، ألِفَتْها سيدتي زينب وأحبَّتْها، فجاءني كتاب من الفضل وزيرك يطلبها باسمك، فاعتذرت من تسليمها لأنها ضيفة ولها حق الجوار، فأرسل إلينا جندًا ليأخذوها قسرًا، فلما رأت مولاتي إصرارهم على أخذها تعلقت بها وأبت إلا أن تأتيَ معها، فلم أستطع التخليَ عنها فجئت معها.»
فأطرق الأمين وقد أكبر انتحالَ الفضل اسمه بغير إذنه، ولكنه تجلد وقال: «من هي ميمونة هذه؟ لعلها من موالينا؟»
قالت: «هي فتاة يتيمة لا ملجأ لها ولا مُعين، وقد يكون في قصر أمير المؤمنين عشرات أو مئات مثلها.»
قال: «وأين هي الآن؟»
قالت: «في هذه الدار يا مولاي.»
قال: «عليَّ بها لأراها.»
فلما خرجت دنانير وضع الأمين يده على كتف زينب وضمَّها إليه تحبُّبًا وقال: «تحمَّلتِ المشقة لأجل هذه الجارية؟»
قالت: «إني أحبها يا عمَّاه لأنها لطيفة وحلوة، وستراها الآن، وقد قلت للجند أن يتركوها فأبَوا، ألا تريد أن تعطيَني إياها؟»
فاستلطف الأمين سذاجتها ولُطْف تعبيرها وقال: «سأفعل ما تريدين. طيبي نفسًا.» وبعد قليل عادت دنانير وميمونة تتبعها مطأطئةً رأسها تذللًا، وقد تورَّدت وجنتاها وتكسَّرت أهداب عينيها من البكاء.
فلما أقبلت عليه ترامت على قدميه وصاحت: «إني جارية أمير المؤمنين.»
فلما رأى الأمين جمالها أُعجب بها ورقَّ لبكائها، فأمرها بالنهوض وقال: «لا بأس عليكِ يا بُنية طالما كنتِ في ضيافة بنت أخينا ولكِ هذه المنزلة عندها، قومي.» والتفت إلى دنانير وقال: «خذيها إلى دار النساء وامكثا الليلة عندنا ريثما أنظر في أمرها. وأنتِ يا زينب ضيفتنا الليلة. واطمئني أننا لا نرد لكِ طلبًا.»
فاستأنست الفتاة بعمِّها وهي في معزلٍ عن السياسة لا تعلم شيئًا مما جرى بعد وفاة جدها بين ابنيه، ولما رأت عمَّها يضمها ويبشُّ لها تذكرت أباها فقالت: «متى يأتي أبي يا عمَّاه؟»
فلما سمع سؤالها انقبضت نفسه وقال: «قريبًا إن شاء الله.» ولم يزد وكأنها شعرت برغبته عن التوسُّع في هذا الموضوع، فأمسكت ونظرت في الأرض وهي لا تستطيع التعبير عن شعورها؛ وهو شأن النساء في أحكامهن، فإنها مبنية على الإحساس بقطع النظر عن الحكم العقلي، فإن المرأة إذا سألتَها عن عملٍ أنت عازم على الشروع فيه هل هي تتوسم فيه النجاح أو تخاف الفشل أجابتك عن رأيها، وإذا طالبتها بالدليل على صحته ذكرت أنها لا تستطيع ذلك ولكنها تشعر به شعورًا قويًّا. ويغلب أن يَصدُق شعور المرأة كما يَصدُق عقل الرجل، على تفاوتٍ في شعور النساء وعقول الرجال. فكما تتفاوت عقول الرجال من حيث قوة الاستنتاج واستنباط الأحكام وتمييز الصحيح من الفاسد، يتفاوت شعور النساء باختلاف ما فُطرت عليه كلٌّ منهن من دقة الإحساس وسلامة الذوق. ولا يكون هذا الشعور مستقلًّا عن العقل، ولكنه يغلب في المرأة كما يغلب العقل في الرجل. والرجل إذا جُرد من ذلك الشعور كان ضربةً على الإنسانية؛ لأن الإنسان يعامل عملاءه بالعقل ويعاشر أصدقائه وأهله بالإحساس. ويتفاوت الإحساس في الناس؛ فمن قلَّ إحساسه ساءت عشرته واستثقل الناس روحه وإن كان راجح العقل قوي الإرادة؛ ولذلك ترى بين جماعةٍ من الأذكياء المجتهدين مَن يستثقلهم الناس ويتجنَّبون معاشرتهم، فيكون ذلك عثرة في سبيل نجاحهم؛ لأن الإنسان يحتاج في اكتساب ثقة الناس إلى شعورٍ حيٍّ يجتذب قلوبهم بحُسن العشرة ووضع الشيء موضعه.
وكانت زينب بنت المأمون — على صغر سنها — كبيرة العقل رقيقة الشعور، فما إن سمعت تلك الإجابة الجافة من عمِّها الأمين حتى شعرت بانقباضٍ وامتنعت عن الخوض في ذلك الحديث. وكأنما أدرك هو ذلك فصفق يدعو غلامه، فلما جاءه قال له: «ادعُ لنا قَيِّمة الجواري.» ولما جاءت هذه قال لها: «خذي ابنة أخينا إلى قصرنا، وأكرمي مثواها واحتفظي بالجارية ميمونة وعامليها معاملة جوارينا.» ثم التفت إلى زينب وقال لها: «أظنك تحتاجين إلى الراحة والطعام، ولن يكون إلا ما تريدين، فاطمئني.» وربَّت على كتفها ووقف، فوقفت ومضت مع القهرمانة إلى دار النساء.
فلما خلا الأمين إلى نفسه عاد إلى التفكير فيما سمعه عن الفضل وكتابه إلى بنت أخيه وفي شأن تلك الفتاة، وأحبَّ أن يستقدمه ليسأله عن حقيقة الخبر، على أنه تذكر ما كان فيه من الأُنس قبل مجيء زينب، فعاد إلى مجلسه. ولم يكد يستقر فيه حتى عاد إليه من كانوا فيه واستأنفوا الغناء والشرب والمنادمة، والغلمان والجواري في خدمتهم كما كانوا.
•••
تركنا الفضل خارجًا من مجلسه وهو يستعيذ بالله مما آل إليه أمر تسرُّعه في طلب ميمونة، وأخذ يُهيئ الأعذار للدفاع عن نفسه، معتمدًا على ما له من النفوذ والدالة لدى الأمين، ولبث ينتظر أن يدعوَه إليه.
أما سعدون أو سلمان، فإنه مع أسفه لوقوع ميمونة في يد الأمين، سُرَّ لنجاحه في إغراء الفضل وابن ماهان بتوسيع الخرق بين الأمين وأخيه. وأصحاب المطامع السياسية لا يفهمون لغة القلوب ولا يُبالون حركاتها، وإنما يهمهم الوصول إلى الغرض الذي يسعَون إليه، فإذا اعترض طريقَهم رأس أو قلب داسوه، على أن سلمان كان يعرف منزلة الفتاة عند بهزاد، وقد أوصاه هذا بها خيرًا، فلم يسعه إلا أن يهتمَّ لأمرها ويعمل على سلامتها.
وفي صباح اليوم التالي بعث الأمين إلى الفضل، فلما وافاه في داره الخاصة أجلسه إلى جانبه، ثم تلطَّف في الاستفهام عن أمر الفتاة. فقال الفضل: «لعل أمير المؤمنين أكبرَ إقدامي على طلب هذه الفتاة باسمه من بيت أخيه، ولكن لم أفعل ذلك إلا اضطرارًا وإخلاصًا في خدمة الدولة. هل عرف أمير المؤمنين من هي هذه الفتاة؟»
فقال: «لم أعرف إلا أنها غريبة وفدت على بيت أخي المأمون.»
قال: «لو أن مولاي تأمَّلها لرأى صورة أبيها فيها. إنها بنت جعفر بن يحيى الذي قتله أمير المؤمنين الرشيد جزاء خيانته!»
فبُغت الأمين ونظر إلى الفضل مشدوهًا وقال: «ابنة جعفر بن يحيى؟ أظنك واهمًا.»
قال: «كلا يا مولاي، ولو سألتها لاعترفت. وقد علمت بنزولها بيت مولانا المأمون صباح أمس، فكتبت إلى قهرمانة القصر أن ترسلها لأن أمير المؤمنين يريد أن يراها، فأجابت رسولي الشاكري جوابًا شديدًا. ولم يسعني غيرةً على كرامة مولاي إلا أن شدَّدت في طلبها، ولم أكن أحسب العلائق وطيدة إلى هذا الحد بين طرائد أمير المؤمنين وبين بيت أخيه؛ فالأجدر بأهل هذا البيت أن يكونوا عونًا لنا على أمثال هؤلاء. نعم إنها فتاة لا خوف منها، ولكن ما ضر أن نستفهمها وهناك أسباب للظن، ولكن …» وسكت كأنه يكتم شيئًا يخشى إبداءه، فابتدره الأمين قائلًا: «ولكن ماذا؟ قل.»
فقال: «إن أمير المؤمنين أدرى مني بما يُحاك في الخفاء، ولا أحب أن أدخل بينه وبين أخيه، ولكنني لا أستطيع السكوت عما يمسُّ الدولة وحقوق المسلمين؛ فما معنى أن تأوي إلى بيت مولانا المأمون بنت جعفر عدو الخلافة الذي قُتل جزاء دسه وخيانته وإطماعه المأمون في ولاية العهد بعد أن كانت لأمير المؤمنين وحده، وهل لم يقنع المأمون بولاية العهد فامتدَّ طمعه إلى الخلافة؟»
فلما سمع الأمين ذلك أجفل وحدَّق في الفضل تحديقًا شديدًا، ولو لم يكن الفضل قد تعوَّده لهاب منظره؛ لأنه كان شديد الهيبة قوي البدن يَلقى الأسد ولا يبالي؛ فاستدرك الفضل قائلًا: «لا أعني أن مولانا المأمون يطلب الخلافة لنفسه، ولكنني أخشى إذا طال حلم أمير المؤمنين عليه أن يُغريَه بعض خاصته بطلبها.»
فانصرف ذهن الأمين عن ميمونة إلى الخلافة وأخيه، وإنما جرَّه الفضل إلى ذلك عمدًا ليشغله عن لومه في طلبها باسمه، وليتدرج إلى إغرائه بخلع المأمون تأمينًا لنفسه؛ لعلمه أن المأمون إذا أفضت الخلافة إليه فلن يُبقيَ عليه ولا على أهله وربما نكل بهم، فلا نجاة له ولهم إلا بخلعه عن خراسان ليتفرَّق مريدوه عنه ويَضعف أمره.
فقال الأمين: «إن هؤلاء الفرس أصل بلائنا؛ فإنهم ما زالوا من زمن أبي مسلم يناوئوننا ويَمنُّون علينا بأنهم ساعدونا في نَيل الخلافة مع أنهم لم ينالوا شيئًا إلا باسمنا، وهُم الآن يُغرون أخي بأن يستأثر بها دوني.»
فقال الفضل: «إذا كان أمير المؤمنين في شكٍّ مما أقول، فهذا رئيس المنجمين، فليسأله عن الرجل الخراساني الذي أشرت بالقبض عليه يوم وصولي، إن هذا الرجل رسول حزب الخراسانيين أنصار المأمون، وقد أرسلوه ليدسَّ الدسائس ويوقظ الفتنة، وعلمت بأمره يوم كنت في طوس، فلما قدمت إلى بغداد أرسلت في طلبه فلم يجده العيارون في منزله، ثم لقيت الملفان سعدون رئيس المنجمين أمس، وتحدثت معه في ذلك، وكان صاحب الشرطة معنا، فعرف الملفان الرجل وقال: «إنه هرب من بغداد إلى أحزابه الطامعين في إرجاع الأمر إلى الفرس.» ولا ريب في أنهم يتخذون اسم مولانا المأمون وسيلةً إلى تحقيق مطامعهم، فإذا بلغوا مأربهم فما أظنهم يستبقون أحدًا ولا المأمون نفسه. لا تغضب يا مولاي إذا صرَّحت بما يجول بخاطري؛ فإن صالح الدولة يقتضي ذلك، وها هو ذا ابن ماهان صاحب الشرطة يؤيد قولي. والرأي لأمير المؤمنين.»
وكان الفضل يتكلم منفعلًا متظاهرًا بالغَيرة على الدولة، والأمين يُصغي له بكل جوارحه. وقد أهمه الأمر فأمسك عن التصريح برأيه حتى يشاور ابن ماهان، وعاد إلى الكلام عن ميمونة فقال: «سننظر في ذلك، وأما ميمونة التي ذكرت أنها ابنة جعفر البرمكي، فإنها في قصرنا بين جوارينا، ولا أرى أن نُسيء إليها إلا إذا ظهر لنا ما يوجب ذلك، وقد ترفَّقتُ بها لأجل بنت أخي.»
فقال الفضل: «الرأي لأمير المؤمنين.» ولم يهمه أمر الفتاة مثلما أهمه خلع المأمون، وإن كان ابنه يؤثر ميمونة على كل الدولة لأنه شابٌّ رُبِّي في مهد الرخاء ولم يُعانِ السياسة، وقضى ما مرَّ من عمره متكلًا على أبيه، وقد عَلِق بميمونة وما كان يريد بها إلا خيرًا، ولولا ما سبق من حبها بهزاد وحقدها على الفضل، لما كان ثَمَّةَ ما يمنعها من قَبوله.
ورأى الفضل أن الأمين يُشير بفضِّ الجلسة، فنهض وخرج وظل الأمين وحده يفكر حائرًا فيما وعد به ابنة أخيه من إطلاق سراح ميمونة، ويرى في إطلاقها خطرًا خوَّفه الفضل منه. ثم نهض وسار إلى دار النساء، وسأل عن مقر بنت أخيه فدلُّوه عليه.
وكانت ميمونة قد شعرت عند دخولها قصر الخلافة بانقباضٍ شديد، وقام بذهنها أنها أضاعت آمالها، لعلمها بما ينويه حبيبها من الكيد للأمين، فلم تجفَّ لها دمعة رغم ما حاولته دنانير من التخفيف عنها. وكانت زينب تزداد شفقةً عليها ورغبةً في إنقاذها، وقد بشَّرتها بما وعدها به عمُّها من إطلاق سراحها. فانقضت الليلة وميمونة يائسة لعلمها بأن الفضل لا يسكت عن كشف حقيقتها للأمين حتى ينجوَ من اللوم.
وفي صباح اليوم التالي جاءتها دنانير وزينب، وأدارتا الحديث معها للترفيه عنها، ولكنها ظلت منقبضة النفس لا يُفرِّج كربتَها غير البكاء، ولا سيما أن جدتها ليست معها، وأنها لا تعرف أين سلمان؛ فمكثت صامتة ودموعها تتساقط على خدَّيها وقد ظهر عليها الذل والانكسار. وزاد هذا زينبَ انعطافًا نحوها، وكانت واثقة من وعد عمِّها. وبينما هن في ذلك سمعن حركة وهرجًا بين خدم القصر، ثم جاءت بعض الجواري تقول: «إن أمير المؤمنين قادم ليرى ابنة أخيه.»
فنهضت زينب للقائه بالباب، ووقفت دنانير وميمونة احترامًا. ثم دخل الأمين وقعد على وسادةٍ هناك، وأجلس زينب إلى جانبه وسألها: «أفي شوقٍ أنتِ إلى قصركِ يا زينب؟»
فقالت: «كما يشاء أمير المؤمنين.»
فاستحسن تأدُّبها على صغر سنها وقال: «لقد أمرت القهرمانة بإعداد هودجٍ يحملكِ وحاضنتَكِ إلى دجلة، ثم تركبان الحراقة إلى القصر.»
فنظرت إليه زينب نظر المدل الطامع وقالت: «وميمونة؟»
فقال وهو يضاحكها: «تبقى في ضيافتنا يومًا أو يومين، ثم نبعث بها مُعزَّزة مُكرَّمة.» قالت: «ألست وعدتني بأن ترسلها معي؟»
قال: «بلى، ولكني رأيت أن تبقى عندنا ضيفةً كما كانت عندكِ. وما أظنها ترفض الضيافة في قصر الخلافة.»
ورفعت زينب بصرها إلى دنانير كأنها تستغيث بها، فنظر الأمين إلى دنانير وقال: «قولي لمولاتكِ إن ميمونة ستبقى عندنا ضيفة مُكرَّمة ثم نرسلها.»
فعلمت دنانير أنه مُصِر على استبقائها عنده، وأدركت سبب إبقائها لأنها تنسَّمت من أخبار القصر أنه اجتمع في الصباح بالفضل؛ فوقعت في حيرة وقالت: «إن أمير المؤمنين لا يُرد أمره، وبقاء جاريته في قصره شرف لها.»
فلما تحققت ميمونة أنها باقية سكتت والدمع ينحدر على خدَّيها، فوقع نظر الأمين عليها فرقَّ لها وكاد يأمر بإطلاق سبيلها، ولكنه تذكَّر كلام الفضل فأمسك ونهض قائلًا لزينب: «سيري في حراسة الله يا ابنة أخي.» ثم أوصى بها دنانير خيرًا، والتفت إلى ميمونة وقال: «لا بأس عليكِ يا بُنية.» وخرج فأمر قَيِّمة الدار أن تُعِد ما يلزم لنقل زينب وحاضنتها إلى قصر المأمون. فأرادت زينب أن تتعلق بميمونة وتمتنع عن الذهاب، فأمسكتها دنانير وأفهمتها أن أمر الخليفة لا يُرد ولا بأس على ميمونة. فلما خلت ميمونة إلى زينب ودنانير بعد خروج الأمين أطلقت لنفسها عنان البكاء حتى كاد يُغمى عليها، فأخذت دنانير تُهوِّن عليها ووعدتها بأن تُخبر سلمان بخبرها ليسعى في إنقاذها، كما وعدت بتوسيط سواه إذا اقتضى الأمر ذلك.