ساحة الحرب
سار بهزاد على فرسه وقد التفَّ بالعباءة وتلثَّم بالكوفية وتقلد الخنجر تحت العباءة بجانب السيف، ومرَّ بالري في الضحى فعلم من أحاديث القوم أن طاهرًا ينوي المبادرة إلى القتال قبل أن يطَّلع عدوُّه على قلة رجاله. وما لبث أن سمع قرع الطبول للحرب وقد علت الضوضاء وتصاعد الغبار، فصعد إلى أكمةٍ أشرف منها على سهل، فرأى الجيشان يتأهَّبان للقتال والفرق بينهما كبير، فأوجس خيفةً على جند طاهر، وصمَّم على ألا يبرح المكان حتى يرى النصر لجند المأمون ولو كلفه ذلك حياته.
وكان ابن ماهان قد عبَّأ جنده ميمنةً وميسرةً وقلبًا، وعبَّأ عشر رايات مع كل رايةٍ مائة رجل، وقدَّمها راية راية، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وأمر أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالها أن يتقدَّموا برايتهم ليحلوا محلها حتى تستريح. ثم وقف بنفسه يُشرف على القتال.
أما طاهر فإنه عبَّأ أصحابه كراديس، كل كردوس كتيبة بصفوفها، وجعل كردوسه في الوسط، ومشى بجنده على هذا النظام وهو يُحرِّضهم على الثبات والصبر. ولحظ بهزاد أن جماعة من رجال طاهر فرُّوا إلى ابن ماهان فشقَّ ذلك عليه، ولكنه ما لبث أن علم أن ابن ماهان — بدلًا من أن يُكرم أولئك الفارين ليرغب غيرهم في المسير إليه — أمر بجلدهم وإهانتهم وتعذيبهم مما أغضب الباقين عليه. وظل بهزاد واقفًا وعيناه شائعتان وقلبه يخفق رغبةً في الاشتراك في تلك المعركة ولكنه لبث يترقب الفرصة السانحة.
وبينا هو هكذا إذا بطاهر بن الحسين قد خرج من جنده على فرسه حتى أشرف على جند ابن ماهان وبيده رمح أشرعه، وفي رأس الرمح رق عَلِم أنه صورة بيعة المأمون. فوقف طاهر بين الصفين وطلب الأمان من ابن ماهان حتى يتكلم، فلما أمَّنه رفع الرمح بيده والبيعة معلقة به وقال: «ألا تتقي الله عز وجل؟ إن هذه البيعة قد أخذتَها أنت بنفسك؛ فاتقِ الله فقد بلغتَ باب قبرك.»
فغضب ابن ماهان لهذه الإهانة وأمر بالقبض على طاهر فلم يستطع أحد ذلك. ولم يسمع بهزاد شيئًا من كلام طاهر لبُعده عنه ولكنه فهم فحواه. وما عتم أن رأى الجيشين يتحركان للالتحام، فهجمت ميمنة ابن ماهان على ميسرة طاهر فانهزمت هذه هزيمة منكرة، وفعلت ميسرة ابن ماهان مثل هذا في ميمنة طاهر فأزالوها عن مكانها؛ فخاف بهزاد وتحركت حميته وأوشك أن يسوق جواده إلى وسط المعركة لينصر طاهرًا، ولكنه تجلد ليرى له مدخلًا نافعًا. وما فتئ يستجمع الهاربين ويردهم ويُحرِّضهم على القتال وهو يَجول على جواده ملثمًا ويخاطب الفارين بالفارسية يُعيِّرهم بالفرار ويحقر ابن ماهان ورجاله في أعينهم، فكان لكلامه وقع شديد على نفوسهم فأخذوا يرتدُّون إلى صفوفهم.
وكان طاهر من الجهة الأخرى يُحرِّضهم على الثبات والصبر، فاجتمعت قلوبهم وحملوا على عدوهم حملة شديدة في القلب فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الرايات بعضها إلى بعض فانتقضت ميمنة ابن ماهان، وكانت ميمنة طاهر وميسرته قد عادتا إلى المعركة فتشدَّد قلب طاهر وقوي جنده كأن بهزاد بث فيهم روحًا جديدة، فتقهقر جند ابن ماهان بغير انتظام.
فلما رأى ابن ماهان تقهقُر جنده أخذه الرعب وخاف الفشل فنهض بنفسه، وأقبل يُحرِّض رجاله على الثبات ويعدهم بالمال ويُقبِّح عمل طاهر ورجاله؛ فرأى بهزاد الفرصة قد آنت للعمل، وأن هذا الانكسار لا يكون قاضيًا إلا إذا قُتل القائد الكبير، فكرَّ بنفسه كالصاعقة ويده على خنجره لا يبالي بما يتساقط حوله من النبال أو يتكسر من الحراب، حتى دنا من ابن ماهان وصاح فيه: «قف أيها القائد ولا تقل إني أخذتك غدرًا.»
فتحوَّل ابن ماهان إلى بهزاد ولم يعرفه من تحت اللثام، لكنه استلَّ سيفه وضربه فخلا بهزاد من الضربة، واستلَّ خنجره كالبرق الخاطف وطعنه في صدره فخرَّ قتيلًا، ورجع بهزاد من المعركة وقد اكتفى بما فعله ولم يَعُد يراه أحد. وشاع في المعسكر أن ابن ماهان قتله أحد رجال طاهر بسهم، ثم احتزَّ بعضهم رأسه وحمله إلى طاهر، وشُدت يداه إلى رجليه كما يفعلون بالدواب، وحُمل على خشبة إلى طاهر، فأمر به فأُلقي في بئر، وأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكرًا لله تعالى. وتمَّت الهزيمة على جند الأمين ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف وتبعوهم فرسخَين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة انهزم فيها عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغنموا غنيمة عظيمة. ونادى طاهر: «من ألقى سلاحه فهو آمن.» فطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم ورجع طاهر إلى الري وكتب إلى المأمون وذي الرياستين: «بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي إلى أمير المؤمنين ورأس علي بن عيسى بن ماهان بين يديَّ وخاتمه في أصبعي وجنده مُصرَّفون تحت أمري، والسلام.» فورد الكتاب مع البريد في ثلاثة أيامٍ وبينهما نحوٌ من خمسين ومائتي فرسخ. فدخل الفضل على المأمون فهنَّأه بالفتح، وأمر الناس فدخلوا وسلموا عليه بالخلافة، ثم وصل الرأس بعد الكتاب بيومين فطِيف به في خراسان.