خلع المأمون
تركنا ميمونة في بيت الأمين ببغداد كأنها على الجمر لفرط حزنها ويأسها، ولا سيما أنها لم ترَ سلمان ولا عرفت مقره حتى ظنته مات أو لحق بحبيبها بهزاد، وكذلك اشتدَّ شوقها إلى جدتها واستوحشت لبُعدها وجهلها مكانها. فكانت تقضي نهارها وحيدةً تتظاهر بانحراف صحتها أو دوار في رأسها، فإذا خلت إلى نفسها أخرجت كتاب حبيبها وقبَّلته وكررت قراءته استئناسًا بصاحبه. وكلما كررت ما قاله من عبارات النقمة على العباسيين وتهديده بالانتقام يختلج قلبها في صدرها حذرًا من وقوع ذلك الكتاب في يد بعض أعدائها، ولكنها كانت حريصةً على إخفائه لا تثق بأحدٍ ممن حولها من الجواري أو الوصائف، ما عدا فريدة قهرمانة القصر؛ لأنها من صديقات دنانير المعجبات بتعقُّلها وحكمتها، وقد أوصتها هذه بها خيرًا. على أنها مع ارتياحها لها كانت تخافها أيضًا على سرها؛ وذلك لعلمها بتفشِّي الجاسوسية، فلم تُطلعها على شيءٍ من أمر الكتاب أو أمر بهزاد الذي انقطعت أخباره عنها كما انقطعت أخبار سلمان، ولم تكن تعلم أنه في القصر على قاب قوسين منها ولكنه متنكر، لا يعرف أحد ممن في القصر عنه شيئًا إلا أنه الملفان سعدون رئيس المنجمين!
قضت في ذلك أيامًا لا تدري ما يصير إليه أمرها، ولا تبالي ما تراه من اشتغال جواري القصر ونسائه باللهو والضحك، أو سماع الغناء أو الضرب بالآلات، أو غير ذلك، فإذا رأتهم في مجلس أُنس انفردت في غرفتها وأخرجت كتاب بهزاد وأخذت تقرؤه، فإذا سمعت وقع خطوات أو صوت متكلم أخفت الكتاب في جيبها. واتفق مرة أنها أحسَّت بالوحشة وأرادت الاستئناس بذلك الكتاب فأرادت أن تخرجه من جيبها فلم تجده، فأحسَّت كأن قلبها سقط من مكانه، وأعادت البحث جيدًا فلم تقف له على أثر، فخافت خوفًا شديدًا وزادت وحشتها من الانفراد هناك. وأحسَّت بافتقارها إلى رفيق يؤنسها فلم تجد خيرًا من أن تدعوَ جدتها إليها، فكتبت إلى دنانير بطاقة شكت فيها استيحاشها وسألتها عن جدتها ثم عهدت إلى القهرمانة في توصيل البطاقة إلى دنانير في قصر المأمون، وكانت فريدة تتمنَّى القيام لدنانير بمثل هذه الخدمة، فأسرعت في إرسال البطاقة إليها في الخفاء.
فلما وصلت البطاقة إلى دنانير، سارعت إلى أم جعفر وأطلعتها عليها فقالت هذه لها: «أرسليني إليها ودعيني أمُتْ عندها؛ فقد كنت أظنهم سيُطلِقون سراحها بعد أيامٍ فإذا هي باقية إلى أجل غير مُسمًّى.»
فقالت دنانير: «هل تذهبين إليها متنكرة؟»
قالت: «أخاف إذا عرفوني أن يزيدوا في التضييق على ميمونة.»
فقالت: «أرسلك إلى صديقتي فريدة على أنكِ مُربية ميمونة، وأوصيها بأن تُقيمك معها، ولا أظنها إلا فاعلة.»
فأثنت عبادة على غيرتها ولبست ثيابها وودَّعتها، وركبت حمارًا توجهت به إلى مدينة المنصور، ومعها رسول من دنانير إلى القهرمانة، فلما وصلا إلى قصر المنصور بعث الرسول بكتاب دنانير إلى القهرمانة، فأدخلت عبادة القصر، ولم تَخْفَ عليها حقيقة حالها، كما أنها لم تكن تجهل أمر ميمونة، لكنها تجاهلت في الحالين رغبةً في إخفاء ذلك عن أهل القصر؛ لأنها كانت من جُملة الذين غمرتهم نعم البرامكة وأُجبروا على كتمان شكرهم، ولا تسل عن سرور ميمونة بجدتها حتى أصبحت لا يهمها أن يطول احتباسها هناك. ولم تجد بُدًّا من إطلاعها على ما دار بينها وبين بهزاد وما تبادلاه من عواطف المحبة حتى بلغت إلى الكتاب فأخبرتها بضياعه. ولم تكن عبادة غافلةً عما بين الحبيبين ولكنها كانت تتجاهل أحيانًا، وقد ساءها ضياع الكتاب في القصر، وأصبحت تخاف العقبى.
أما سلمان فكان أثناء ذلك يُغري الأمين بخلع أخيه، وكان يستعين على ذلك بالفضل بن الربيع وابن ماهان، وظل الفضل يُلح على الأمين في ذلك مدفوعًا بخوفه من انتقام المأمون منه إذا أفضت الخلافة إليه. وكان الأمين يتردَّد في الأمر إن لم يكن خوفًا من العواقب فحفظًا للعهد أو عملًا برابطة الإخاء. فلما كثر إلحاح الفضل عليه زايله التردُّد وبقي عليه أن يشاور أمه زبيدة؛ لأنه كان يؤمن بسداد رأيها، وكانت تقيم يومئذٍ بقصرها «دار القرار» بقرب قصر الخلد، فتردَّد بين أن يركب إليها وبين أن يستقدمها إليه في قصر المنصور، وظل يفكر في ذلك حينًا ثم غلب عليه حبُّ اللهو فشُغل بصيد السمك من بِركة كبيرة في حديقة القصر فيها سمك مجلوب إليها فحمل قصبه وجعل يصطاد السمك من تلك البركة وحوله جماعات من الوصفاء الخصيان بألبسة النساء، يجرون بين يديه في تهيئة الصنارة أو تنفير السمك من بعض أطراف البركة إلى حيث يُلقي صنارته، وبعضهم يحملون شباكًا وآخرون يُعِدون القصب أو الصنانير أو غير ذلك. وهو مشتغل بلهوه مُعجَب بنشاطه يداعب الوصفاء إظهارًا لقوة عضله، فيلتقط أحدهم بيده ويرفعه حتى يُلقيَه في الماء، فيُطري الحاضرون قوته الخارقة ويُعربون عن عجزهم عن الإتيان بمثل ذلك. وكان الأمين فيما يُقال قويَّ العضل بحيث يصارع الأسد فيصرعه.
وفيما هو في لهوه جاء بعض الغلمان يقول: «إن موكب مولاتنا أم أمير المؤمنين قادم.»
فسُرَّ بقدومها لرغبته في استشارتها، فأمر قَيِّم القصر بالاستعداد لاستقبالها، وأمر قَيِّمة القصر بترتيب الوصائف والوصفاء صفوفًا وفي جملتهم فرقة من الجواري المقدودات الحسان كانت أمه زبيدة قد أهدتهن إليه لما رأت اشتغاله بالخدم والغلمان عن النساء، فاتخذت هؤلاء الجواري وألبستْهن لباس الغلمان فعمَّمت رءوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية، وألبستْهن القراطق والمناطق فبانت قدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إليه فاستحسنهن واجتذبن قلبه وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، فقلده بعضهم في ذلك. فلما سمع بقدوم أمه رأى أن يَسُرها بإشراك هؤلاء الجواري في استقبالها فأمر القَيِّم بترتيب الغلمان صفوفًا يرأسها كوثر الذي اشتُهر بافتتانه به، فصُفَّت فرق الخصيان والجواري، وفرق الغلمان الجرادية، والحبشان الغرابية، وكل فرقة في زيٍّ خاصٍّ وأشكالٍ وألوانٍ خاصة؛ فهناك القصير من الملابس والطويل، وهناك الأحمر والأزرق والسماوي والوردي والأصفر. وفيهم الغلمان بألبسة النساء، والنساء بألبسة الغلمان، يتخللهم العوادون وأصحاب الطنابير والمزاهر.
واصطفوا هكذا من باب القاعة إلى باب القصر الخارجي، وبين الصفوف غلمان بعضهم يحرق البخور وبعضهم يحملون الأزهار وآخرون يُنشدون الأشعار، ومشى الأمين بين الصفين لاستقبال أمه بباب القصر، وكانت في قبةٍ من خشب الصندل منزلة بالفضة، والقبة قائمة على هودج يحمله بغلان عليهما سرجان من الفضة، يقودهما غلمان عليهم أقبية من الديباج المزركش، وقد نُقشت عليها شارة الدولة لأنهم من الجند، وفاحت رائحة المسك عن بُعد.
فلما وقف الهودج بباب القصر تنحَّى الواقفون إلا كبير الخصيان فأعان السيدة زبيدة على نزولها، ثم تقدَّم الأمين وقبَّل صدرها فقبَّلت رأسه، ومشت بخُفين مرصعين بالجوهر وعلى رأسها نقاب مُحاك بالذهب في حاشيته صور مُرصَّعة بالحجارة الكريمة، ويلوح من خلال النقاب عصابتها المرصعة وعقود الجوهر في عنقها والقراطق في أذنيها، وعلى كتفها مطرف ذهبي اللون التفَّت به فغطى مَنكِبَيها وجنبَيها، وظهر تحته ثوبها الحريري الوردي يُغطي قدمَيها من الخلف ولا يغطيهما من الأمام لتظهر خفافها المرصعة. وهي أول من رصَّع الخفاف بعد الإسلام. على أن من يَلقى زبيدة لا يشغله لباسها الفاخر الثمين عما في مُحيَّاها من الجمال الجاذب، وما يتجلى فوق ذلك من ملامح السيادة ودلائل الأبهة والجلال.
ولم تطأ قدماها باب القصر حتى انتشر خبر قدومها، فبلغ عبادة فارتعدت فرائصها، وخفق قلبها، وأحبَّت الانزواء لئلا يظهر ذلك عليها. أما ميمونة فكانت كثيرة الشوق لمشاهدة موكب أم الخليفة، وقد طالما سمعت عنها وعن عظمتها فأطلت من كِوَى القصر الخفية فأُعجبت بجمال زبيدة وجلالها.
•••
ظل الأمين وأمه سائرَين إلى قاعةٍ خاصة عملًا بإشارتها؛ لأنها كانت تريد أن تُسِرَّ إليه أمرًا. وقبل جلوسها جاءت المواشط فنزعن عنها بعض ما يُثقلها من الألبسة، ووقف بعض الوصائف والغلمان بالمراوح والمذابِّ بين يدَيها، واشتغل آخرون بإعداد الشراب والطعام، ولكنها قالت للأمين: «أحب أن أراك يا محمد على انفراد، ولا أرب لي في الطعام.»
فأشار الأمين فخرج الجميع ولم يبقَ غيرهما، فجلست على السرير وأشارت إليه أن يجلس بجانبها، فجلس وقال: «ما أسعدَ هذه الساعةَ يا أماه. كأنك جئتِ على موعد؛ فقد كنت هذا الصباح أهمُّ بالذهاب إليكِ أو استقدامكِ لأستشيركِ في بعض الشئون، فإذا بكِ تفاجئينني فتفاءلت خيرًا.»
فابتسمت والغضب بادٍ في عينيها وقالت: «خيرًا إن شاء الله! ولكني جئتك لأمرٍ آخر يهمني ويهمك!»
فاهتمَّ الأمين وقال: «وما ذلك يا أماه؟»
قالت: «ألا تزال تلك الفتاة الضالة عندك؟»
فقال: «أية فتاة؟» قالت: «أعني ابنة عدونا الذي تعمَّد خلعك من ولاية العهد، وأغرى أباك الرشيد بمبايعة ابن مراجل.»
فأدرك أنها تعني ميمونة بنت جعفر فقال: «نعم يا سيدتي، لا تزال بين جواري القصر.»
قالت: «وكيف أبقيتها ولم تَخَفْ شرَّها؟»
قال: «لأني وجدتها يتيمة مسكينة لا ضرر منها، وقد أوصتني ابنة أخي بها خيرًا بعد أن أبيت إطلاق سبيلها لأُبقيَها هنا اتقاء ما نخشاه منها.»
قالت: «يتيمة مسكينة؟! تبًّا لها من خائنة غادرة! وأغرب من ذلك أن تقبل شفاعة ابنة أخيك، وأخوك أشد عداءً لك من أعدائك! ألم يستعن عليك بالخراسانيين؟ وإذا أتيح له أن يخلعك عن هذا العرش ألا تظنه يفعل؟ ومن أوجد هذا الغرور في نفسه، أليس هو جعفر بن يحيى أبا هذه الفتاة؟ لقد كان أبوك رحمه الله أدرى منك بأقدار الرجال فقتله شر قتلة، ولو لم يبادر إلى قتله ما جلستَ أنت هذا المجلس، فكيف تقول بعد ذلك إنها يتيمة مسكينة وإن ابنة أخيك أوصتك بها خيرًا؟ إن أخاك قد غلب فيه دم الفرس على دم الهاشميين فأخذ من أمه مراجل أكثر مما أخذ من أبيه الرشيد؛ فتراه يستعين بأخواله علينا.»
قالت ذلك وقد حمي غضبها وامتُقع لونها وذهب احمرار شفتيها وتورُّد وجنتيها، ووافق ذلك ما يجول في خاطره من خلع أخيه فأراد أن يجعل ذلك برأيها فقال: «ألم يكن أبي قد بايع لي ولأخي عبد الله بالخلافة بعهدٍ علَّقه على الكعبة؟»
فقطعت كلامه وقالت وصوتها يخنقه الحنق: «لا قيمة لذلك العهد لأنه كُتب بإغراء الوزير الخائن رغبةً في إخراج الخلافة من بني هاشم عن طريق أخيك هذا، وهل يصلح أبناء الجواري للخلافة إذا وُجد أبناء الأحرار؟ أيُقاس ابن الجارية مراجل بابن زبيدة بنت جعفر؟ أتعلم من هي مراجل وكيف اتصلت بأبيك حتى ولدت عبد الله؟»
قال: «لا.» قالت: «أنا أقصُّ عليك خبرها. كانت مراجل من جملة جواريَّ مثل مارية وقاربة وغيرهما، فرأيت أباك مشتغلًا عني بمُغنية ليحيى وزيره اسمها دنانير، وصار يقضي كثيرًا من وقته عندها، فشكوته إلى أعمامه فأشاروا عليَّ بأن أشغله عنها بجوارٍ أهديهن إليه، فأهديته عشر جوارٍ منهن مراجل هذه وهي فارسية. فلما ولدت له عبد الله رباه جعفر من صغره على حب الفرس حتى جرى ما نعلمه؛ فكيف يكون هذا صنوك. أما العهد الذي أشرت إلى أنه مُعلق في الكعبة فابعث من يأتي به ومزقه لأنه كُتب خداعًا.»
فسُرِّي عن محمد وقال: «إذن أنتِ ترين أن أخلع أخي عبد الله من ولاية العهد؟»
قالت: «أولم تخلعه بعد؟ اخلعه قبل أن يخلعك.»
فاعتدل في مجلسه وقال: «قد كنت عازمًا على استطلاع رأيكِ في هذا؛ فالحمد لله على أن وافق رأيكِ رأي الفضل.»
فقالت: «اخلعه وبايِع لابنك موسى وإن كان صغيرًا، فتكون الخلافة أعرق في بني هاشم؛ لأنه لم يولد لبني العباس خليفة والداه هاشميان إلا أنت، فأولادك أعرق في النسب الهاشمي من سائر العباسيين.»
فانبسطت سرائر الأمين وسكت وأطرق فابتدرته قائلة: «ولْنعُدْ إلى تلك الفتاة الخائنة، فما أجدرك أن تقتلها وتتخلص منها.»
قال: «أقتلها؟ وأيَّ ذنب أتت؟ وما الذي نخافه من بقائها حية؟»
قالت: «إنك غافل يا محمد عما يجري حولك، وقد شغلك اللهو عن دسائس المملقين. أما أنا فساهرة على شئونك وأعلم ما يجري في قصرك. وقد تبيَّنت أن بقاء هذه الفتاة في قصرك أشد خطرًا عليك من بقاء ولاية العهد لأخيك، فاقتلها!» فاستغرب الأمين تشديدها وهو لم يرَ في الفتاة ما يوجب ذلك فقال: «لا شيء عليَّ إذا قتلتها، ومثلها مئات بل ألوف في قصري، ولكنني وعدت أم حبيبة بأن أحافظ عليها.»
فأفلت جأش زبيدة من يدها عند سماعها قوله، ونهضت وقالت: «إنك لا تزال ساذجًا تجوز عليك الألاعيب، وإلا لأدركت من شفاعة بنت عبد الله فيها أن هناك ما يبعث على الشك. اعلم أن ميمونة هذه مخطوبة لأكبر أعداء العباسيين، وبينها وبينه مراسلة تشفُّ عن تعمُّده الانتقام لأبي مسلم الخراساني وجعفر بن يحيى، وهو يَعُد العباسيين خائنين غادرين، وإذا كنت في شكٍّ مما أقول فاقرأ هذا الكتاب.» قالت ذلك وأعطته لفافة فيها كتاب بهزاد، فأخذ الأمين الكتاب وطفق يقرؤه ولم يصل إلى آخره حتى ارتجفت يداه وارتعشت أنامله لما حواه من الطعن في العباسيين والنقمة عليهم وتهديدهم؛ فنظر إلى أمه وكانت قد قعدت واتكأت على الوسادة وأخذ الغضب منها مأخذًا عظيمًا، فالتفتت إليه وقالت: «أرأيت هذه اليتيمة المسكينة؟ هذا خطيبها يزعم أننا غلبْنا بالغدر والخيانة، وأنه سينتقم لأبيها وذاهب إلى خراسان لهذا، فكيف تُبقيها في قصرك وبين جواريك تطَّلع على أحوالك ومساعيك وأسرارك؟»
فدُهش الأمين لسهر أمه على شئونه وقال: «كيف وصلتِ إلى هذا الكتاب ومن أتاكِ به؟»
قالت: «أتيت به من وسط قصرك لأني ساهرة وأنت نائم!»
فأخذته العزة بالإثم وقال: «سآمر بإلقائها في قاع دجلة الساعة.»
قالت: «أتُلقيها في دجلة بلا سؤالٍ ولا جواب؟»
قال: «أليس الغرض أن نتخلص منها؟»
قالت: «ما أقلَّ دهاءَك! قبل أن تقتلها استطلعها ما تعلمه من أحوال أعدائنا؛ فلا ريب أنها تعرف أسرارهم، ومتى نلت مرادك منها فاقتلها أو أغرقها كما تشاء.»
قال: «أدعوها إليكِ الساعةَ ونسألها معًا؟» قالت: «افعل.»
فصفق فجاءه أحد الغلمان فقال له: «إليَّ بالجارية ميمونة.»
وكانت ميمونة منزويةً مع جدتها في أبعد غُرف القصر خوفًا من أن تراهما زبيدة. وعبادة تتوسل إلى الله أن ترجع زبيدة قبل أن تراها، وإذا بالغلام قد جاء يدعو ميمونة إلى أمير المؤمنين. فلما سمعت عبادة قوله أسقط في يدها، وتحققت أن زبيدة أتت لتُحرض ابنها على الإيقاع بها بعد مقابلتها تلك؛ فندمت على ذهابها إليها. ولم تجد ميمونة بُدًّا من الطاعة، فتبعت الغلام حتى أتى القاعة، فدخل وقال: «الجارية بالباب يا مولاي.» قال: «تدخل.»
فدخلت مُطرقة خجلًا وركبتاها تصطكَّان من الخوف؛ فوقع نظرها على زبيدة وهي متكئة وقد زادها الغضب هيبةً ورهبة، والأمين جالس بجانبها كأنه بعض غلمانها. فوقفت وحيت فابتدرها الأمين قائلًا: «تقدَّمي يا ميمونة.»
فمشت نحوه وهي تنظر إلى الأرض وقد أخذتها الرعدة من الخوف، فمدَّ يده وفيها الكتاب وقال: «أتعلمين لمن هذا الكتاب؟»
فلما وقع نظرها على الكتاب عرفته وأيقنت بافتضاح سرها، فلم تَعُد يدها تطاوعها على تسلُّمه من شدة الارتعاش، فتناولته وأناملها ترتعد فسقط من يدها فانحنت لالتقاطه عن البساط فسقطت واهنة القوى ولم تَعُد تستطيع الوقوف وانحدرت دموعها على خديها، وحاولت أن تنظر إلى الكتاب فلم تستطع وغلب عليها البكاء فتربَّعت عند قدمَي الأمين تُقبِّلهما وتبكي ولا تفوه بكلمة.
فصاحت زبيدة فيها قائلة: «ويلكِ ما يبكيكِ؟ أتظنين البكاء ينجيكِ؟ من هو بهزاد هذا؟ أليس حبيبك حامل سيف النقمة على العباسيين؟» ثم رأت أنها يجب أن تحتال في كشف سرها فعمدت إلى الملاينة فقالت: «لا تخافي، إنما يُنجيكِ الصدق. قولي لنا أين حبيبك الآن؟ وما الذي تعرفينه من أحوال الخراسانيين. فإذا صدقتِنا القول أطلقنا سراحكِ وأبقينا عليكِ، وإلا فإنكِ مقتولة لا محالة.»
فقالت وصوتها يتقطع من البكاء: «ثقي يا سيدتي بأني لا أعلم شيئًا غير ما في هذا الكتاب، وقد تفهمين من تلاوته أنني لم أكن قبله أعرف هذا الشاب، وأقسم برأس أمير المؤمنين أني لم أعد أعرف شيئًا عنه بعد تلاوته.»
فضحكت زبيدة مُستخِفة وقالت: «وتقسمين برأس أمير المؤمنين؟»
قالت: «أقسم به لأني صادقة في قسمي.»
فقال الأمين: «اصدقينا يا بُنية ولا خوف عليكِ. وإذا لم تقولي الصدق أتينا برئيس المنجمين في هذه الساعة فيكشف مكنونات صدرك؛ فإذا أطلعنا على شيءٍ تنكرينه كان جزاؤك العذاب الأليم.»
قالت: «الأمر لأمير المؤمنين، وليس عندي غير الذي قلته.»
فصفق الأمين وأمر الغلام بأن يدعوَ رئيس المنجمين، فذهب الغلام، وكانت ميمونة قد وقفت فأمرها الأمين بالجلوس فجلست، ولم تكن تعلم أن رئيس المنجمين هو سلمان نفسه، وكانت تظن سلمان هرب أو مات لطول غيابه عنها، وبعد قليلٍ أقبل الملفان سعدون بعمامته الكبيرة السوداء وجُبته الطويلة وتحتها الثوب العسلي وقد تمنطق بزُنَّار غرس فيه الدواة، واصطنع لحية كثيفة مسترسلة دبَّ فيها الشيب تتصل من الجانبين بسالفين كثيفين، وغير ذلك من قيافة الحرانيين أهل الذمة، وهي تخالف ما تعرفه عن سلمان ولو خامرها شك فيه لعرفته من عينيه وأنفه.
ودخل سعدون وحيَّا ووقف متأدبًا وقد تأبط الكتاب وعيناه تختلسان النظر إلى أهل ذلك المجلس، فرأى ميمونة وزبيدة، ووقع بصره على كتاب بهزاد بين يدَي الأمين؛ فعرفه لأنه هو الذي حمله إلى ميمونة، فأدرك لأول وهلةٍ سبب استقدامه، ثم أمره الأمين بالقعود بلا حجاب أو ستر بينهما، فقعد جاثيًا وعيناه لا تتحولان عن الأرض، فابتدره الأمين قائلًا: «دعوناك يا ملفان سعدون نطلب إليك أن تستطلع سِرَّ هذه الجارية؛ فقد سألناها فأنكرت وهددناها باستطلاع سرها على يدك، فاصدقنا.»
وكانت زبيدة جالسةً تنظر إلى المنجم ولا تتكلم حتى ترى علمه، وكانت قليلة الإيمان بالمنجمين، وإنما رضيت باستدعاء المنجم ساعتئذٍ إرهابًا لميمونة لعلها تعترف خوفًا من العقاب. أما سعدون فأخرج كتابه والتمس أن يؤتى إليه بكانون فيه نار من خشب الزيتون زاعمًا أن المندل لا يتم إلا إذا كانت النار من ذلك الخشب، فأتوه بالنار في شبه مبخرة من الفضة وضعوها على طبقٍ بين يديه، وهو ماضٍ في القراءة والتمتمة، ثم أخرج من جيبه قطعة بخور ألقاها في النار، وطلب قدحًا فيه ماء فأتوه به فأخذه بيساره بين الإبهام والسبابة وتفرَّس في الماء حينًا ثم استأذن الخليفة في أن تتقدَّم ميمونة نحوه وتضع يدها على كتابه فتقدمت وهي ترتعد خوفًا ووضعت كفها على ذلك الكتاب. وتناول سعدون يدها الأخرى وقرأ أساريرها ثم رفع يدها عن الكتاب وأجلسها وفتح الكتاب وقرأ همسًا وهو يبتسم ابتسام الفائز ويهزُّ رأسه، ثم نظر إلى الأمين قائلًا: «إن لهذه الفتاة حديثًا طويلًا وإن لها لشأنًا.»
فضحكت زبيدة استخفافًا بهذه النبوءة؛ لأنها لا تدل على معرفة، فأدرك سعدون غرضها فنظر إليها وهو يتحاشى التفرُّس في وجهها تأدبًا وقال: «لا أقول ذلك تعميةً أو إبهامًا، ولكنني أعني أنها ليست من عامة الناس، بل من أصلٍ عريق في الكرامة والوجاهة وإن كانت اليوم في جملة الجواري.»
فقطعت زبيدة كلامه قائلة: «إذا كنت على ثقةٍ مما تقول فأنبئنا عن حقيقة حالها بصراحة.»
قال: «وأقول ذلك أمامها؟» فقالت: «قل.»
فأعاد النظر إلى القدح ثم نظر في وجهها وقال: «إنها بنت وزير مات مقتولًا.»
فلما قال ذلك اقشعرَّ بدن الفتاة وامتُقع لونها، والتفت الأمين إلى أمه لفتة ظافر فرآها لا تقلُّ دهشةً عنه ولكنها تجاهلت وقالت: «ربما كنت مصيبًا فيما قلته.» ومدت يدها إلى كتاب بهزاد وقبضت عليه بكفها وقالت: «وما الذي بيدي؟» قال: «كتاب.»
فقهقهت وقالت: «بورك في مهارتك، إن الأطفال يعرفون ذلك. فإذا كنت رئيس المنجمين كما يُسمُّونك فقل ماذا في هذا الكتاب.»
قال: «يسوءني يا سيدتي استخفافُك بعلمي، وقد يجدر بي بعد ما سمعتُه أن أسكت عما أعلمه، ولكنني أقول لك إنك تقبضين على كتاب من نار، بل النار أخفُّ وطأةً على هذه اليد اللطيفة مما في هذا الكتاب. إن بيدكِ كتابًا من رجل فارسي إلى هذه الفتاة وفيه من نُصرة الفرس والغض من مقام العباسيين ما يسوءُكِ ويسوء مولاي أمير المؤمنين. وإذا لم يُقنعك هذا الإجمال فصلته تفصيلًا. إن هذا العلم لم يَكذبني من قبل، ولا أدري إذا كان قد صدقني الآن.»
فبُغتت زبيدة ولم تَعُد تستطيع إخفاء الإعجاب فقالت: «صدقتَ أيها الملفان، وإذ قد علمت سِرَّ الكتاب فأعلمنا عن صاحبه أين هو الآن؟»
قال: «هو بعيد يا سيدتي. إنه في خراسان.»
قالت: «وما علاقة هذه الفتاة به؟»
قال: «إنها علاقة قريبة العهد، وإذا ادَّعت غير ذلك فإنها كاذبة، ولا تُسأل عمَّا حواه الكتاب من كلام التهديد أو الانتقام؛ لأنها كانت خالية الذهن منه حين وصوله إليها، ثم لم تَعُد تعلم عن صاحبه شيئًا.»
وكانت ميمونة أكثر السامعين استغرابًا؛ لأن الرجل قرأ ما في ضميرها، ولو أرادت هي أن تترجم إحساسها لم تستطع تبيانه بأوضح من ذلك، فأشرق وجهها وبانت الطمأنينة في مُحيَّاها، ونظرت إلى الأمين نظر الاسترحام وظلت ساكتة.
أما زبيدة فخفَّت نقمتها على ميمونة ولم يَخِفَّ كُرهها فقالت لسعدون: «هل تعتقد أن هذه الجارية بريئة؟»
قال: «هذا ما أظهره لي المندل، وعهدي به لا يَكذبني. وعند أمير المؤمنين الخبر اليقين عنه.»
فأشارت إلى ميمونة أن تخرج فخرجت وهي لا تُصدق أنها نجت. ثم التفتت زبيدة إلى الملفان سعدون وقالت: «إني واثقة من علمك أيها الملفان، ولكن قلبي لا يُحدثني عنها خيرًا.»
قال: «لأنكِ تكرهينها، ولا عجب فإن أباها أساء إليكِ وإلى سيدي أمير المؤمنين، وإذا رأيتِ أن أعيد المندل في فرصةٍ أخرى فعلت. وإذا أذن أمير المؤمنين أن أجالسها مرةً أخرى على انفرادٍ زدته تفصيلًا عن أحوالها.»
فقال الأمين: «لك ذلك أيها الملفان.» ونظر إلى أمه نظرةً فهمت غرضه منها بينما سعدون يتشاغل بجمع ما تفرَّق بين يديه من ورق كتابه استعدادًا للخروج. فابتدرته زبيدة قائلة: «أما وقد بدا لنا منك هذا العلم الواسع في استطلاع الغيب فأخبرنا عما يجول في خاطري وخاطر أمير المؤمنين.»
فأدرك أن المأمون أهم ما يمكن أن يجول في خاطرهما وقتئذٍ فقال: «يجول في خاطركما أشياء كثيرة أهمها يمس رجلًا في خراسان تحذرونه ويحذركم، وقد تخافونه وهو أشد خوفًا منكم.»
فوافق قوله ما في نفسها فقالت: «صدقت، وماذا ترى بعد ذلك؟» فأعاد النظر في الكتاب طويلًا حتى ظهر الاهتمام في جبينه وتصبَّب العرق منه، ثم رفع نظره إليها وقال: «لا أرى مناصًا من تجريد السيوف.»
قالت: «ومن يُجردها؟» قال: «إنما يظفر السابق وعلم المستقبل عند الله.»
فالتفتت إلى الأمين ولسان حالها يقول: «ألم أقل لك بادر إلى خلعه قبل أن يخلعك؟»
فقال الأمين: «وقد أشار وزيرنا الفضل بخلع عبد الله، فإذا لم يُذعن حملنا عليه بالجيوش، فهل نغلب؟»
فتناول الكتاب ثانية وقلب عدة صفحاتٍ ثم قرأ ونظر إلى السماء من نافذةٍ في تلك القاعة، وأخرج قلمًا من منطقته وغطسه في المِداد وكتب وحسب ثم قال: «قلت لمولاي إن علم المستقبل عند الله وليس لي. ولكن يظهر لي من هذا الحساب أن الفئة التي فيها الفضل هي الغالبة بإذن الله.»
فازداد الأمين اعتقادًا بضرورة الخلع، فأثنى خيرًا على الملفان سعدون وأمر له بجائزة، فعلم هذا أن قد آن له أن ينصرف فجمع أوراقه وأدواته واستأذن وخرج.
ثم نهضت زبيدة للذهاب، فأتتها المواشط فألبسنها ما خلعته عند وصولها. ولما ودعت ابنها نصحت له بأن يأتيَ للإقامة بقصر الخلد قريبًا منها؛ فوعدها بذلك فعادت بموكبها إلى دار القرار.
وأقر الأمين بعد ذهابها خلع أخيه وتولية ابنه موسى، وبعث إلى خراسان بذلك كما تقدم. ثم جنَّد جندًا أراد أن يجعل الفضل قائدًا عليه. ولكن هذا رغَّبه في ابن ماهان ففعل، وخرج الجند لمقاتلة طاهر بن الحسين في الري، وبعد إرسال الجند انتقل الأمين إلى قصر الخلد ونقل معه بطانته. أما ميمونة وسعدون فأبقاهما وأمر بالاحتفاظ بهما.
•••
كانت ميمونة قد خرجت من حضرة الأمين وهي ترقص فرحًا ودهشةً حتى أتت جدتها وكانت تنتظرها على مثل الجمر، فقصت عليها ما جرى وأثنت على مهارة رئيس المنجمين، فاستغربت عبادة ما سمعته وقالت: «جزاه الله خيرًا، إن الله سخره لإنقاذنا من هذا الخطر العظيم، ولولاه ما رضيت تلك الملكة الظالمة بغير قتلنا.»
فقالت ميمونة: «وقد تخلى سلمان عنا فأرسل الله لنا من يأخذ بيدنا، إنه سبحانه لا يترك المظلوم حتى ينصره.»
ومكثتا في ذلك القصر بعد انتقال الأمين إلى قصر الخلد لا يعلمان شيئًا مما يجري من شئون السياسة، وفقدت ميمونة تسليتها بفقدها كتاب بهزاد، ولما طال غياب سلمان عنها كادت تنساه لولا ارتباط ذِكره بذِكر بهزاد. وكيف تنساه وهو خليفة بهزاد عليها وقد حمل إليها كتابه؟ وكانت في شوقٍ كثير لمعرفة مكان حبيبها لتُطلعه على حالها لعله يسعى في إنقاذها. وأنى لها ذلك وهي محبوسة بين أربعة جدران لا تسمع خبرًا ولا ترى رجلًا. وكانت عبادة تحاول التخفيف عنها جهد طاقتها.
وفيما هما جالستان ذات يوم جاءتهما قهرمانة القصر تقول: «إن رئيس المنجمين يطلب مشاهدة ميمونة.» فبُغتت الفتاة وصعد الدم إلى وجهها وقالت: «ما شأننا معه؟»
قالت: «إن أمير المؤمنين أوصى بألا يؤذن لأحد في مشاهدتك غير رئيس المنجمين متى شاء، ولا بأس عليك منه.»
فتحوَّلت بغتتها إلى سرور وقالت في نفسها: «سأسأله عن سلمان أو بهزاد إذا آنست منه عطفًا لعله يهديني إلى مكانهما.» ثم قالت للقهرمانة: «هل يأتي إلينا أم نذهب نحن إليه؟»
قالت: «طلب أن يراكِ على انفرادٍ في غرفته.»
فأجفلت وقالت: «أنفرد به في غرفته، وهو رجل غريب؟»
فقالت عبادة للقهرمانة: «هل تأذنين أن أكون أنا معها في تلك المقابلة؟»
قالت: «لا بأس.»
فنهضتا وتنقبتا، وأرسلت القهرمانة معهما غلامًا أوصلهما إلى غرفة الملفان سعدون في بعض أطراف القصر، وقرع الغلام باب الحجرة وأنبأ بوصول ميمونة ورجع؛ ففتح سلمان الباب وهو بقيافته المعهودة ورحَّب بالفتاة وجدتها وأدخلهما الحجرة وأقفل الباب وراءهما. فلما وجدت ميمونة نفسها في ذلك المكان استوحشت وتلفَّتت فلم تجد حولها إلا أدواتٍ وأشياءَ لا تفهم لها معنًى، من أنابيبَ وأقداحٍ مختلفة الأشكال والألوان، وألواحٍ عليها رسوم وخطوط بعضها يُقرأ وبعضها طلاسم لا يُقرأ. وكان قبل دخولهما قد نزع جُبته وبقي بالإزار (القفطان) العسلي وحوله الزُّنَّار وعلى رأسه عمامة صغيرة، فأشار إلى ميمونة وجدتها بالقعود على طنفسة بجانب طراحته فقعدتا وهما لا تتكلمان. فقعد هو بين يديهما وخاطب ميمونة قائلًا: «هل تعلمين يا ميمونة أني أنقذتكِ من القتل؟»
فدُهشت لما سمعتْه يذكر اسمها وقالت: «نعم يا سيدي، وإني لا أنسى لك هذا الجميل، جزاك الله خيرًا.»
قال: «إني لا أسألكِ على ذلك أجرًا، وأتقدَّم إليك أن تَصدقيني في سؤالٍ أُلقيه عليك: هل تفعلين؟»
قالت: «نعم، وهل أستطيع غير ذلك وأنت تكشف مكنونات القلوب؟»
قال: «هل تحبين بهزاد كثيرًا؟»
فتورَّدت وجنتاها فجأة، وأطرقت حياءً فابتدرها قائلًا: «لا ينبغي أن تستحيي مني، قولي.»
فتنهدت وظلت مُطرقة ولم تُجب. فأجابت عبادة عنها وقالت: «أظن رئيس المنجمين فهم جوابها دون أن تنطق به؟»
فوجَّه خطابه إلى العجوز وقال: «وهل أنتِ لا تزالين تعرفين الحب ودلائله رغم ما مرَّ بكِ من الأهوال؟»
فلم تستغرب عبادة إشارته إلى حالها بعد ما بلغها من إعجازه في كشف الضمائر فسكتت؛ فالتفت إلى ميمونة ويده على لحيته يُمشطها بأنامله وقال: «قد علمتُ أنكِ تحبين بهزاد، ولكن هل هو يحبك؟»
فرفعت كتفيها وهي مُطرقة كأنها تقول: «لا أعلم.»
فابتدرها قائلًا: «لو كان يحبك لم يترككِ في هذا القصر ويذهب، وقد تبقين فيه العمر. وقد دبَّرت لك سبيلًا للنجاة، فإذا أطعتِني أفلحتِ.»
قالت: «إني رهن أمرك يا سيدي.»
قال: «إني أعرف شابًّا هو خير شبان بغداد وأكبر وجيهٍ فيهم، يحبك حبًّا مبرحًا وأنتِ لا تحبينه.» وتوقَّف عن الكلام، فأدركت أنه يشير إلى ابن الفضل، فأظهرت الاشمئزاز والتفتت إلى جدتها كأنها تُكلفها أن تُجيب عنها، فهمَّت عبادة بالكلام، فقطع سعدون كلامها قائلًا: «إني أعرف الجواب، ولكن رفضكِ لا ينفعك؛ لأن الرجل صاحب النفوذ الأكبر، وإذا طلب من أمير المؤمنين دفعكِ إليه فأجدر بك أن تقبلي راضية. وهذه نصيحتي؛ فإن بهزاد بعيد، ومن يدري فقد لا ترينه بعد.»
فضاق صدر ميمونة عند ذلك وانحبست عواطفها ولم تستطع أن تُمسك عن البكاء، فنهضت عبادة وقالت كمن يستغيث: «أما وقد اطلعت على سِرِّنا وعرفت حقيقة حالنا، فأتوسل إليك أن تكون عونًا لنا لا علينا.»
فأشار إليها أن تقعد وقال: «ماذا تريدين؟»
قالت: «لا نصيب فينا للفتى الذي تشير إليه، وأنت تعرف السبب، والموت أيسر علينا من إجابة طلبه. وإنما أتقدم إليك أن ترشدنا بعلمك إلى أمر يهمنا.» قال: «وما ذلك؟»
قالت: «أضعنا عونًا كبيرًا خلَّفه لنا بهزاد عند سفره، وهو الذي أوصل كتابه إلى ميمونة، ثم لم نعد نراه ولا نعرف مكانه، فهل تكشف لنا خبره بالمندل؟»
فضحك وقال: «أظنكِ تبحثين عن سلمان؟» قالت: «نعم.»
قال: «إن الوزير سألني عنه أيضًا.»
فقالت عبادة: «وهل هو في بغداد؟» قال: «نعم، إنه في هذا القصر.»
فبُغتت ميمونة وقالت: «في هذا القصر؟» قال: «وفي هذه الغرفة.»
وأحسَّت عبادة عند ذلك كأن غشاوة انكشفت عن عينيها وتذكرت ميمونة صوت سلمان فصاحت: «سلمان؟ سلمان؟»
فقال: «لا ترفعي صوتك، نعم أنا سلمان، أنا رئيس المنجمين!»
ولم تستطع الإمساك عن الضحك وبان البِشْر في وجهها وخفق قلبها وأحسَّت كأنها لقيت حبيبها بهزاد لأملها في الاطلاع على أخباره، فلم تَعُد تعرف كيف تسأل سلمان وتستفهمه، وأرادت التكلم فتلجلجت فسبقها إلى الكلام قائلًا: «ستلومينني على اختفائي كل هذه المدة، ولكنني لم أختفِ إلا رغبةً في خدمتك، فلما رأيت منفعة لك في الظهور ظهرت، وأظنني أفدتك.»
فقالت عبادة: «إنك أنقذتنا من الموت، جزاك الله خيرًا و…»
وقطعت ميمونة كلام جدتها فقالت: «وأين بهزاد الآن؟»
قال: «في بغداد أو حولها.»
فصاحت: «في بغداد؟ ألا يأتي إلينا؟»
قال: «وهل تظنين أن ظهوره سهل؟ إنه لا يظهر إلا إذا آن الأوان. وقد تغيرت أحوال بغداد منذ وطئ ترابها؛ لأن الأحزاب السرية عادت إلى عملها بإرشاده، فكثرت العثرات في طريق هذا الغلام القابض على قضيب الخلافة.»
فقالت: «بورك فيك يا سلمان، لله ما أكرم نفسك! بهزاد أتى من خراسان؟ هل رأيته؟» قال: «نعم، رأيته وحادثته.»
قالت: «وأين شاهدته وكيف؟» قال: «لنا مكان نلتقي فيه لا يعرفه أحد سوانا.»
قالت وقد أشرق وجهها: «إذن هو هنا وسنراه؟ ومتى يكون ذلك؟»
قال: «لكل شيء وقت، لا تكوني لجوجة.»
قالت: «حسنًا، كما تشاء، والآن ما الذي ترى أن نصنع؟»
قال: «تبقيان كما كنتما، وتكتمان ما رأيتما عن كل إنسان، حتى يأتيَ الوقت الموافق وأظنكما تثقان بما أقوله.»
فقالت عبادة: «مضى علينا زمن لم نسمع فيه خبرًا عن المأمون ولا عن الأمين ولا عن الحال بينهما.»
قال: «أُبشركِ يا سيدتي بأن الله سينتقم لكِ ولنا. إن الأمين خلع أخاه المأمون من ولاية العهد، فخلعه هذا أيضًا، وقام الفرس لنصرة المأمون لأنهم أخواله، وجرَّدوا جيشًا بقيادة طاهر بن الحسين، وجرد الأمين جيشًا بقيادة ابن ماهان صاحب الشرطة، فالتقى الجيشان في الري فانتصر جيش المأمون وقُتل ابن ماهان وتشتت جيشه، ولما وصلت هذه الأخبار إلى الأمين وقع في حيرةٍ وبعث إليَّ فذهبت إليه في قصر الخلد واستشارني، فأشرت عليه بأن يرسل الفضل بن الربيع في الحملة الثانية، وأنا أعلم أن الفضل لا يذهب، وجعلت نجاحه في الحرب مشروطًا بإرسال الفضل وابنه، فآل ذلك إلى اختفاء الفضل، ولم تفلح الحملة الثانية فضعف حال الأمين واستخفَّ به رجال دولته حتى همُّوا بخلعه، ولكنهم لم يستطيعوا لأن سلمان لم يكن معهم، ولو شئت لخلعوه ولكنني أردت إضعافه فقط.»
فأُعجبت ميمونة بدهاء سلمان، وسُرَّت بما دبَّره للفضل وابنه. ثم قال سلمان: «فامكثا في قصر المنصور هذا برعاية قهرمانته، وربما ذهبتُ أنا إلى الخليفة ومكثت في قصر الخلد أيامًا.» وصفق فأتى غلامه فقال له: «اذهب بهما إلى القصر، وقل للقهرمانة فريدة أني أحب أن أراها.»
فمضى بهما. وهمَّ سلمان بلبس ثيابه وأمر الغلام أن يُعِد له بغلته ليركب إلى قصر الخلد ويمر في طريقه على القهرمانة ويوصيها بهما. ثم ركب ومرَّ بالقهرمانة وأوصاها بأن تحتفظ بهما، فأشارت مطيعة، فتحوَّل يطلب قصر الخلد والغلام في ركابه، والناس ينظرون إليه ويوسِّعون له إعجابًا بما اشتُهر عنه من معجزات التنجيم.
وصل سلمان إلى قصر الخلد فوجد بالباب جماعة من العيارين يحرسونه بدلًا من الجند، وعرفه أحدهم فنهض وحيَّاه ووسَّع له فدخل على بغلته إلى ردهة القصر، ولقي الهرش رئيس العيارين خارجًا على فرسه، فلما وقع نظرُ هذا على الملفان سعدون أوقف فرسه وسلَّم عليه. فسأله عن سبب وجود رجاله بالباب بدلًا من الجند فقال: «إن الجند غاضبون على أمير المؤمنين.»
قال: «لماذا؟» قال: «إن خبره يطول ولا أستطيع بسطه ونحن راكبان، ولا أظنه يخفى عليك ولكنني أقول موجزًا: إن طاهرًا وأصحابه لما أفلحوا في وقعة الري وقُتل ابن ماهان ضعفت عزائم جنده وهربوا وتقدَّم طاهر فاستولى على أعمال الجبال، فجنَّد الأمين حملة أخرى فعادت خائبة، وضعفت سطوة الخليفة حتى حاول قواده خلعه ثم رجعوا عن ذلك، وظل طاهر يتقدم في جنده حتى أتى الأهواز ثم استولى على واسط فالمدائن، ونزل أخيرًا إلى صرصر وهي على مقربة منا. وكان أمير المؤمنين يُخرج الأموال ويُفرقها في رجاله. وبلغ ذلك رجال طاهر فطمعوا في الأموال، فجاء منهم جماعة إلى الأمين فأعطاهم وغلف لحاهم بالغالية وأكرمهم كثيرًا؛ فغضب جنده لأنه لم يكرمهم مثل هذا الإكرام فتفرقوا عنه غاضبين، فبعث إليَّ أن آتيَ برجالي لنصرته.»
فضحك سعدون وقطع كلام الهرش قائلًا: «رُبَّ مصيبةٍ أتت بنعمة، لا بد أن يكون الأمين قد بذل لكم الأموال فغنمتم، وأنت تعلم أن ما يَسرُّك يَسرُّني وأنك أهل للعطاء أكثر من أولئك القواد الخائنين ومن الوزراء؛ فهذا الفضل بن الربيع لما رأى الأمر استفحل ترك مولاه واختفى وهو سبب هذا البلاء كله.» قال ذلك وودَّع الهرش وساق بغلته فاستوقفه الهرش قائلًا: «إنك داخل على الخليفة، ومتى رأيته يزول عجبك مما بلغ إليه أمرك.»
فلم يفهم سلمان قصده، فلما نزل عن بغلته عند الباب الثالث من أبواب القصر ودخل الحديقة أدرك السر.
وذلك أنه سلَّم البغلة لغلامه ومشى في الحديقة يتوكأ على عصاه وينظر ذات اليمين وذات الشمال، فلا يرى إلا غلمانًا يركضون وبعضهم حفاة مكشوفو الرءوس، فأوجس خيفة من هذا المنظر. وظل ماشيًا في بعض طرق الحديقة حتى أشرف على بِركة كبيرة في وسط الحديقة وقد تكأكأ حولها الغلمان ونزع بعضهم ثيابه وغطس فيها، وآخرون واقفون يحدقون في مائها، ثم رأى الأمينَ نفسَه مقبلًا كالوالِه وعليه ثياب المنادمة وقد ذهبت القلنسوة عن رأسه، فظن سلمان أن دسيسةً كُشفت في القصر يراد بها قتل الأمين وأن الغلمان يفتشون عن صاحبها وتوهَّموا أنه نزل البركة التماسًا للفرار إلى دجلة؛ لأن البركة متصلة بقناةٍ تمر من تحت السور، فإذا أُغلقت الأبواب على الهارب وكان يُحسن السباحة استطاع الخروج من القناة إلى دجلة لا يعترضه إلا شبكة كالمصفاة منصوبة عند مخترق القناة من السور لا يصعب عليه نزعها.
ثم سمع الأمينَ يصيح قائلًا: «أين مقرطتي؟ أين ذهبت؟ من أخذها؟ يا سعيد، يا جوهر، يا كوثر، يا … تعالوا، أظنها وقعت في البركة، ابحثوا عنها، ألقُوا الشباك.»
فلما سمع كلامه تذكَّر ما سمعه من الهرش، وعرف ما يعنيه؛ فقد كانت هذه الضجة كلها لأن الأمين أضاع مقرطته، وهي سمكة كانت قد صِيدت له صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا در، وكثيرًا ما كان يلهو بها، فاتفق أن تفقَّدها في هذه الساعة فلم يجدها، وشغل أهل القصر بالتفتيش عنها. فلما رأى سعدون ذلك تنحَّى جانبًا حتى يفرغ الأمين من لهوه أو يجد مقرطته، وقال في نفسه: «كيف تستقيم أمور دولة هذا شأن خليفتها؛ فلا عجب إذا فاز أخوه الساهر على أمره، ومعه جند يتفانَون في نصرته؟ وهذا إنما يُحيط به المتملقون طمعًا في رفده.»
وفيما هو كذلك رأى الأمين ينظر إليه وقد تحوَّل مجونُه وتهتُّكه إلى جدٍّ واهتمام، وأشار إليه أن يتبعه؛ فمشى سعدون في أثره حتى اجتاز باب القصر الداخلي واتصل منه إلى دهليز ينتهي بقبة يُسمُّونها «طارمة» مصنوعة من خشب الصندل والعود، مساحتها عشر أذرع في مثلها، اتخذ لها فراشًا مبطنًا بأنواع الحرير والديباج المنسوج بالذهب الأحمر وغير ذلك من أنواع الإبرَيْسَم، ورأى رجالًا وقوفًا ببابها عليهم سيماء الوجاهة، وقد وسَّعوا للأمين عند دخوله، ومنهم: إبراهيم بن المهدي عم الخليفة، وسليمان بن جعفر المنصور من شيوخ بني هاشم. فلما دخل الأمين أشار إلى سعدون بالدخول وصرف الباقين، فترك سعدون عُكازه ونعاله بالباب ودخل. فجلس الأمين على دكة في صدر القبة وأشار إليه أن يقعد، فقعد وهو يعجب لتغير حاله. ووقع نظره على آثار لمجلس شراب وغناء كان منعقدًا هناك قبل مجيئه، فرأى الأقداح مبعثرة والأباريق متفرقة بين فارغ ومملوء وأطباق الفاكهة مصفوفة، ورأى بين يدي الأمين قدحًا من بلور يسع شرابًا يزن خمسة أرطال وقد قُلب وانكسر. ورأى قدحين مثله بين وسادتين كان عليهما اثنان من خاصة الجُلاس لعلهما سليمان بن المنصور وإبراهيم بن المهدي، وهما أرفع مقامًا من سائر جُلاسه.
فأدرك سعدون أن الأمين كان في مجلس طرب وعلم بضياع مقرطته فأسرع للبحث عنها، ولكنه استغرب انقلابه من اللهو إلى الاهتمام، فلبث ساكتًا حتى يبدأ الأمين بالكلام. أما هذا فإنه أزاح بقايا القدح المكسور بين يديه ونظر إلى سعدون وتنهَّد وقال: «لم يبقَ لي صديق أُودِعه سرى إلاك؛ فرجالي تفرَّقوا عني ولم أجد بينهم مخلصًا؛ لأنهم إنما يطلبون مالي، أما أنت فقد أُعجبت بعلمك واطِّلاعك على الخفايا فأحببت أن أستشيرك، ويسوءُني أنك جئتني ورأيت اشتغالي بعبث الغلمان، ثم دخلت هذا المجلس ورأيت ما فيه من آثار الندمان، على ما نحن فيه من أسباب القلق وبواعث الاهتمام.» ثم تنهَّد تنهدًا عميقًا وقال: «ولكنني أفعل ذلك لأُذهب ما بي من اليأس، فبعثت إلى بعض أعمامي، فجاءوا إليَّ بالمغنيات والشراب فشربنا وسمعنا، ولم يذهب شيء مما في نفسي، بل زدت يأسًا وكدرًا لَما سمعت الجواري يُنشدن من أبيات الشؤم، ولا أدري أفعلن ذلك عمدًا أم اتفاقًا كقول إحداهن:
وإني لأخشى ممن حولي وهم مثل مرازبة كسرى ليس فيهم من يهمه أمري، حتى الفضل وزيري تخلى عني وتركني واختفى، وزادني تشاؤمًا أن إحدى المغنيات قامت لحاجةٍ لها فعثرتْ بهذا القدح فكسرتْه، وهو قدحي ما برحت أشرب به منذ أعوام لم يُصِبه عطب. فهل أُلام إذا تطيَّرت؟» قال ذلك وصوته يكاد يختنق.
فقال سعدون: «لا بأس عليك يا مولاي.»
فقطع الأمين كلامه قائلًا: «حتى أنت لم تَصدقني هذه المرة أو أن تنجيمك لم يَصدق.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «أتذكر حديثك في قصر المنصور لما سألتك عن القتال بيني وبين أخي فبشَّرتني بالنجاح؟»
فأطرق كأنه يفكر ثم قال: «لو راجع مولاي ما قلته يومئذٍ لتحقق صِدق قولي؛ فقد قلت إن العلم يدلني على أن الفئة التي فيها الفضل هي الغالبة، فهل ذهب الفضل في تلك الحملة؟»
فانتبه الأمين لذلك وقال: «نعم لم يذهب، وقد أردت أن أرسله مع الحملة الثانية فتنصَّل، ولما ألححتُ عليه خاف التبعة فاختفى ولم أَعُد أراه ولا أعلم أين هو.»
فهزَّ سلمان رأسه متعجبًا، ثم أطرق هنيهة وهو يحكُّ جبينه بسبَّابته وقال: «بل أرى المندل قد صدقني أيضًا؛ فإن وزير أخيك في خراسان اسمه الفضل، وهو أقوم على نصرته من قيام هذا الفضل على نصرة أمير المؤمنين. إني واثق من صحة ما أعلمه، وإذا ظهر خطأ فإنما يكون في فهم ما يظهر لنا من النتائج.»
فصدق الأمين قوله وزادت ثقته به وقال له: «والآن لا أُخفي عليك أني قد فرغت يدي من الرجال وخزانتي من الأموال، حتى ضربت ما في قصوري من آنية الذهب والفضة نقودًا وأعطيتها لرجالي، وبِعت الآنية الثمينة وفرَّقتها فيهم، وجمعت ما استطعت جمعه من أموال التجار لأسترضيَ جندي، ولكن هذا كله لم يُفدني شيئًا وأصبحت كما ترى.» قال ذلك وغصَّ بِريقه. ورأى سعدون دمعتين تتلألآن في عينيه فلم تتحرك شفقته أو حُنوُّه، وإن أظهر ذلك احتيالًا للوصول إلى غرضه. وكان يودُّ استفحال الأمر بين الأخوين حتى لا تذهب مساعي الفرس عبثًا، فأبدى أسفه لِما سمعه من حال الأمين وقال: «ألم تبحث عن المال في قصر أخيك، فقد علمتُ بمالٍ حفظه نوفل خادم القصر من أيام مولانا الرشيد؟»
فقطع الأمين كلامه قائلًا: «كان عند نوفل هذا ألف ألف درهم أخذناها مع الضِّياع والغلات.»
فأطرق سعدون وقد سرَّه تضعضُع الأمين، ثم قال: «أنت تطلب المال لإرضاء الجند، وفي بغداد جند يحارب بلا عطاءٍ ويأخذ عطاءه مما يغنمه.»
قال: «أظنك تعني العيارين والشطار؟»
قال: «نعم، فهؤلاء يحاربون عراةً وسلاحهم المقاليع ومخالي الخوص يحملون بها الحصى يَرمون بها الناس فتؤذيهم أكثر مما تؤذيهم السيوف والرماح. وفي بغداد اليوم من هؤلاء نحو خمسين ألفًا فأْمر زعيمهم أن يُجنِّدهم.»
قال: «أتظنني غافلًا عن ذلك؟ كان الهرش عندي الساعة وقد أمرته بإعدادهم فوعدني بأن يفعل، وأظنه سيجمع من تصل إليهم يده من باعة الطريق وأهل السجون والأوباش والطرارين وأهل السوق. وهؤلاء إذا قاموا خربت المدينة، ولكن …» وسكت.
فأدرك سعدون أنه يكتم شيئًا يخاف التصريح به، فظل ساكتًا ينتظر ما يبدو، فعاد الأمين إلى الكلام فقال: «أشار عليَّ بعض خاصتي الباقين على ولائي بأن أخرج من بغداد بمن بقي من رجالي، وهم سبعة آلاف فارس فأَمُر ليلًا من أحد أبواب المدينة حتى آتيَ الجزيرة أو الشام، فيفرضون الفروض ويَجبون الخراج ويكون لي مملكة واسعة هناك، وأترك بغداد لأصحابها حتى يقضيَ الله بما يشاء؛ فما رأيك؟»
فلما سمع سعدون ذلك تحقَّق أنه الرأي الصواب، وخاف إذا عمل الأمين به أن يُعرقل مساعيَ الفرس؛ لأن بقاء الأمين حيًّا في مملكةٍ أخرى يُفسد عليهم سعيَهم، فقال: «هل يرى أمير المؤمنين فائدة من الفرار؟ ومن أي بابٍ يخرج بسبعة آلاف فارس وبغداد محاطة بالأعداء من كل جانب شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؛ فإذا وقع في يد أعدائه — لا قدَّر الله — فإنهم يستحلون منه ما لا يستحلونه في حالٍ أخرى.»
فقال الأمين: «ألا نجد لنا مخرجًا من بغداد؟»
قال: «إذا شاء أمير المؤمنين صعدنا إلى إحدى المنائر العالية، وأشرفنا على بغداد وأرباضها فنرى أماكن العدو رأيَ العين والأمر بعد ذلك له.»
•••
استحسن الأمين رأي سلمان، ونهض وقال: «في هذا القصر منارة عالية هلمَّ بنا إليها.» فنهض سعدون في أثره حتى صعدا المنارة وأطلا منها على بغداد وقصورها، فالتفتا أولًا نحو الشرق وقال سعدون: «انظر يا مولاي، هذه مضارب هرثمة بن أعين وراء دجلة؟ وهذه مضارب عبيد الله بن وضاح في الشماسية ومعه جند عظيم وقد حفظ الجسر الأعظم. وجند هرثمة يحرسون طريق خراسان؛ فلا سبيل إلى الفرار من هذه الجهة، وأما جهة الغرب فهذا طاهر وجنده في البستان قُرب باب الأنبار وكأني أراهم يقتربون بأعلامهم. أراهم دخلوا محلة الكرخ حول باب الكوفة وما يليها وسائر الأرباض الغربية الجنوبية، وكادوا يحصروننا والعيارون يدفعونهم بالمقاليع، ألا ترى الحصى يتطاير فوق البيوت؟»
وكان الأمين ينظر إلى ذلك وقلبه يختلج وامتُقع لونه، وتحقَّق ضياع أمره، فلم يُجب ولكنه وجَّه نظره نحو الحربية في الشمال فرأى النار قد لعبت فيها فصاح: «ويلاه! ما هذا؟»
فقال سعدون: «أظن أوشاب السكان وأهل السجون اغتنموا فرصة اشتغال الناس بالقتال فألقَوا النار في البيوت ليتمكنوا من السرقة والنهب. انزل يا سيدي إلى قصرك فإنك آمِن فيه وهو حصن منيع.»
فنزل الأمين وسعدون وراءه حتى بلغا الدار فرأيا أهلها في هرج ومرج يركضون ذات اليمين وذات الشمال كأنهم يُفتشون عن ضائع، وحالما وقع بصرهم على الأمين أجفلوا وصاحوا: «هذا مولانا أمير المؤمنين. هو هنا.» وما عتم أن رأى أمه زبيدة تعدو نحوه حتى ضمَّته إلى صدرها ودموعها تتساقط وهي تقول: «ولداه، أين كنت؟ لقد بلبلت بالي لغيابك هذه الساعة. وقيل لي إنك كنت جالسًا هنا ثم لم يجدوك وذكروا أنك لم تخرج فطار صوابي لتغيُّبك في مثل هذا الوقت.»
فأثَّرت لهفة أمه تأثيرًا شديدًا في نفسه ولم يتمالك عن البكاء، ثم تجلد وأظهر رباطة الجأش وقال: «وما الذي يُخيفك يا أماه؟ إننا في خيرٍ إن شاء الله. وإنما كنت مع رئيس المنجمين. ما الذي جاء بكِ الآن؟»
فأمسكت بالأمين ودخلت به غرفة ودخل سعدون في أثرهما وأقفلوا الباب وقالت: «جئتُ لأمرٍ مهم؛ أنت تعلم أني لا أغفل عن التفكير في أمرك، وقلبي يدلني على خطرٍ يهددنا من يد ذلك الخراساني بهزاد. وما زلت أبثُّ العيون للبحث عنه حتى قيل لي إنه في بغداد، ولكنني لم أقف على مسكنه، وبينما أنا أتوقع الوقوف عليه حلمت حلمًا مزعجًا لا أقصُّه على أحد، بل أنا أريد نسيانه. على أنني لم أعد أستطيع صبرًا على بهزاد هذا، وإذا استطعنا القبض عليه فكأننا هزمنا نصف الجيش؛ لأنه منذ وطئ هذه الديار تغيَّرت حالنا وقوي جند طاهر؛ وذلك لأن بهزاد زعيم كبير وله نفوذ على كبار البغداديين، وقد ذكرت لك مرارًا أنه رئيس عصاباتٍ سريةٍ أعضاؤها من أكبر تجار بغداد وأهل النفوذ فيها.» قالت ذلك وقعدت.
فقعد الأمين وهو يشير إلى سعدون أن يقعد، وقال لأمه: «وأين هو؟»
قالت: «لا أدرى أين هو، ولكنني سأبعث إلى هذه الفتاة أستقدمها إليَّ لعلها تعترف بمكانه فيسهل علينا القبض عليه.»
فالتفت الأمين إلى سعدون كأنه يستطلع رأيه ثم قال: «ما لنا ولتلك الفتاة؟ هذا رئيس المنجمين عندنا.»
فقالت وهي تعتدل في مجلسها على الوسادة بجانب ابنها: «أخبِرنا أيها الملفان عما يدلك عليه علمك عن ذلك الخراساني.»
فأخرج كتابه وقرأ فيه على عجلٍ ووضع قطعة من البخور في فمه ومضغها قليلًا ثم قال: «إنه في بغداد يا سيدتي.» قالت: «هل تعرف مكانه؟»
قال: «يلوح لي أنه بين ماءين، ولكن ليس في النهر، على أن تحقيق ذلك يحتاج إلى وقتٍ أوسع وجوٍّ أصفى، أما تلك الفتاة فلا تعلم مكانه. وكيف يتأتى ذلك وهي محبوسة في قصر أمير المؤمنين لا يراها أحد ولا ترى أحدًا؟»
فأطرقت زبيدة هنيهة وقالت: «علمت أن ابن الفضل يهواها وهي لا تريده، ولولا اختفاء ابنه لزوجته بها برغم أنفها.» وسكتت ثم قالت: «والفضل هذا خاننا عند الحاجة إليه. إنه أصل هذه المصائب وهو الذي حرَّض محمدًا على خلع أخيه والتجريد عليه. لعنه الله من خائن!»
وغصَّت زبيدة بِريقها كأنها شعرت بالخطر المحدق بابنها، ثم استأنفت الكلام وبدا على وجهها الاهتمام وقالت: «ولكنني حسنة الظن بالفضل.» وأَحس الأمين بما تُضمره من الخوف عليه فأحبَّ أن يصرف ذهنها عن هذا فتجلد وتكلف الابتسام وقال: «سوف يلقى الخائن جزاءه، اذهبي يا أماه إلى قصركِ الآن واطمئني وادعي لنا بالنصر، ولا يغرنك ما ترين من كثرة جند الأعداء فإننا غالبون بإذن الله، ولنا من العيارين أكبر معين.»
فعلمت أنه يريدها أن تنصرف، فنهضت وهمَّت بالخروج فأحست بما يُحبِّب إليها البقاء، ولم يطاوعها قلبها على فراق ابنها كأنه أنذرها بالخطر عليه، فأرادت أن تعود إلى مقعدها فخافت أن تُكدِّر ابنها فوقفت هنيهة تتردَّد ثم أكبت على الأمين وقبَّلته في عنقه قُبلاتٍ حارة، فأحس بسخونة الدمع فدفعها بلطف وقبَّل صدرها وهو يغالب عواطفه ويخاف أن تخونه دموعه. أما هي فأسرعت في الخروج وشعرت بأن قلبها خُلع من صدرها وانصرفت في موكبها إلى قصرها.
وكانت الشمس قد مالت إلى المغيب فقال سعدون: «هل يأمر لي مولاي بالانصراف؟»
فقال: «امكث، لا تفارقني. إني سأحتاج إليك الليلة.»
فتوقَّع سعدون من وراء ذلك نبأً جديدًا، فنظر إلى وجه الأمين فرأى اضطرابًا لم يعهده فيه من قبل، فهمَّ بالخروج إلى بعض غرف الأضياف فأشار إليه الأمين أن يمكث، ثم صفق فجاءه غلام فقال: «إليَّ بالشراب وأنِر الشموع.» فلما خرج الغلام نزع الأمين عمامته عن رأسه وزفر زفرةً سُمع لها دوي وقال: «يلومونني على الشراب، وماذا يفعل اليائس في مثل هذه الحال؟ إن الشراب يُنفِّس الكرب ويُذهب الغم حتى يقضيَ الله بما يشاء.»
أما سعدون فجلس متأدبًا محتشمًا، ثم جاء الغلمان بمائدة الشراب والفاكهة وأناروا الشموع الكبيرة المعروفة باسم الأمين، فصاح الأمين بالغلام قائلًا: «هل عمي إبراهيم هنا؟» يريد إبراهيم بن المهدي المغني.
قال: «كلا يا مولاي.»
فأشار إليه أن يملأ له قدحًا، ثم أخذه وأشار إليه أن يملأ قدحًا آخر وقال لسعدون: «ألا تشرب يا ملفان؟»
قال: «إذا أمرني أمير المؤمنين أطعته، ولكنني لم أذقها قبل الآن والشراب لا يتفق وصناعتي.»
فقال الأمين للساقي: «دعه لا تَسقِه؛ إننا في حاجةٍ إلى علمه وصناعته الليلة، وإذا جاءنا رسولٌ فأوصِ صاحب بابنا أن يوصله إلينا حالًا ولو في نصف الليل.»
فازداد سلمان رغبةً في استطلاع ما يُضمره الأمين، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فشرب الأمين بضعة أقداح وسُرِّي عنه، فالتفت إلى سعدون وقال: «أتدري لماذا استبقيتك هنا دون سواك؟» قال: «كلا يا سيدي.»
قال: «لو أردتُ لكشفتُ سِري لبعض خاصتي، ولكنني أصبحت لا أثق بأحدٍ من أهل بطانتي بعد أن تكشَّفوا لي عن أعداءٍ في ثياب الأصدقاء، وما منهم إلا من يطمع في مالي، ويكفيك مثلًا منهم وزيري سبب هذا الخصام بيني وبين أخي؛ فإنه لما رأى اشتداد الأزمة خاف على حياته واختفى ولم يبالِ ما يهددني، وهكذا فعل كل رجال دولتي؛ فإنهم بقوا معي حتى أنفقتُ أموالي وبعتُ جواهري وآنيتي، فلما فرغت يدي تخلَّوا عني. وشدد الأعداء الحصار علينا فمنعوا الأقوات عنا.» وكأنه خاف أن تبدوَ جهشة بكائه فتناول قدحًا وفاكهةً يتشاغل بهما، وأعطى سعدون بعض الفاكهة وهو يقول: «ومن كان هذا شأنه مع رجال بطانته كيف يُرجى فلاحه؟»
فاستبشر سعدون من شكواه وتحقَّق سقوط دولته، ولكنه تظاهر بالاستغراب وقال: «لا ييأس أمير المؤمنين، إن الله ناصره فليتوكلْ عليه.»
فقال: «طالما خدعتْني الآمال، وصدقتُ المتملقين أهل الفساد حتى نزغ الشيطان بيني وبين أخي، فرأيت رجاله أثبتَ من رجالي وقواده أكفأ من قوادي ورجعت إلى رشدي، فإذا أحببتُ أن أصالحه لا أجد من يتوسط بيني وبينه، فها أنا ذا أَطلعتك على سِرٍّ ضننتُ به على أهل دولتي. وعلى أمي.»
فقال سعدون: «إني عند ثقة مولاي.» فقال الأمين: «لا أُخفي عليك أني لما فرغت يدي من الرجال والمال وامتنع عليَّ الخروج بعثتُ إلى هرثمة في البر الشرقي أطلب الأمان وأنا في انتظار الجواب، فهل أحسنت؟»