الخائن لا صديق له
وبعد أيامٍ عُقد لبهزاد على ميمونة، ثم بعث إلى سلمان فولاه رياسة الخرمية، فذكَّره سلمان بوعده بالتوسُّط لدى الفضل فأشار مُطيعًا. وفي اليوم التالي ركبا إلى بيت الفضل بن سهل، وكان الفضل قد بلغ أوج سعده بما أُوتيَه من التوفيق باستقلال المأمون بالخلافة، وبالوصية بها بعده لعلي الرضا، فأصبح الفضلُ الآمرَ الناهيَ تجري إرادته حتى على المأمون. فلما أنبأه الحاجب أن بهزاد وسلمان بالباب أمر بإدخالهما، وكان مجلسه غاصًّا بأصحاب الحاجات وفيهم الوجهاء والقواد إلا أخوه الحسن لأنه سار إلى بغداد. فلما دخل بهزاد رحَّب به الفضل ودعاه للجلوس إلى جانبه على السرير، وأشار إلى سلمان فجلس على كرسيٍّ بين الخاصة، فأخذ الفضل يسأل بهزاد عن سفره وما شاهده فأخبره أنه قادم من بغداد بعد أن شهد سقوطها فقال له: «وهل كنت فيها يوم مقتل الأمين؟»
قال: «نعم، كنت مع صديقي سلمان وشاهدنا رأس الأمين منصوبًا على حائط البستان.» فضحك ضحكة الظافر وقال: «على الباغي تدور الدوائر.»
ثم شُغل بقضاء مصالح الناس وسكت بهزاد ريثما ينفضُّ المجلس، ولم يتم ذلك إلا بعد أذان الظهر، فانصرف الناس ولم يبقَ غير بهزاد وسلمان والفضل.
فنظر بهزاد إلى الفضل وقال: «يسرُّني أن أَرويَ لك ما أتاه صديقي سلمان من المعجزات في أثناء هذه الوقائع؛ فإنه كان من أكبر العاملين في تنفيذ رغبات ذي الرياستين بعقله وسيفه.» فابتسم الفضل وقال: «سنكافئه بولاية عملٍ من الأعمال المهمة، أم تراه مثلك لا يرغب في المناصب؟»
فضحك بهزاد وقال: «إذا قلدتَه عملًا فقد أسبغت عليه نعمك، ولكنني أحب أن ينال حظوةً أخرى في عينَيك يتشرف بها بين الأقران.»
فقال: «وما ذلك؟» قال: «أن تُزوجه بابنة أخيك.»
فوجم الفضل ثم قال: «وأيَّ بنات أخي تعني؟» قال: «بوران.»
فتراجع وتغيَّر وجهه وهزَّ رأسه وقال: «أيطلب هو ذلك؟»
قال: «بل أنا أطلبه له إذا شئت؛ فإنه من خير الرجال.»
قال: «يعزُّ عليَّ ردُّ طلبك يا بهزاد؛ فإن بوران مخطوبة.»
فظن بهزاد لأول وهلةٍ أنه يعني خطبتها له فأراد الاستفهام، فسبقه سلمان إلى الكلام وقال: «لمن؟»
فنظر الفضل إليه وقد امتعض من اعتراضه وقال: «مخطوبة لأعظم رجلٍ في الإسلام اليوم.» فأدرك سلمان أنه يَعني المأمون، وتحقق ذهاب العروس من يده فانقبضت نفسه وهاج غضبه وقال: «يلوح لي أن ذا الرياستين نسي وعده.»
قال: «أي وعد؟» قال: «ألم نتواعد على شيء؟»
قال وفي صوته جفاء وانتهار: «متى تواعدنا؟»
قال: «هل أقول ذلك الآن؟» قال: «قل ما تشاء.»
قال: «تواعدنا عليه لما كفرتُ بالمجوسية واعتنقت الإسلام رغبةً في المناصب وتواطأنا على السعي في هذا السبيل، وأنت يومئذٍ لا تملك شيئًا، وكانت بوران طفلة. أما الآن فقد تغيَّرت الأحوال وأصبحتَ ذا الرياستين وصاحب الأمر والنهي، فاذكر ما تعاقدنا عليه وأني قمت بما عليَّ، فهلا قمت بما عليك؟» فظهر الغضب في وجه الفضل لما يتخلل كلام سلمان من التعريض والتلميح وقال: «لا أذكر شيئًا من ذلك. ولكن ما رأيك، هل نرد خطيبها خائبًا ونزفها إليك؟ وعلى كل حال فالأمر لوالدها وهو غائب.»
فوقع قوله في قلب سلمان وقوع السهم وامتُقع لونه ورقص شارباه في وجهه وتحفَّز للنهوض، فرأى بهزاد تغيُّره فوقع في حيرةٍ وأراد أن يستأنف الكلام فرأى الفضل يتناول مذبته ويتزحزح في مجلسه فعلم أنه يفضُّ المجلس، فوقف بهزاد وسلمان وانصرفا بعد أن حيَّاهما الفضل تحيةً فاترة. فلما خرجا أراد بهزاد أن يُخفِّف من غضب سلمان فلم يَدَعه هذا يقول شيئًا وهمَّ بوداعه فقال بهزاد: «لا تغضب يا أخي، لعل للرجل عذرًا مقبولًا.» فأجابه وفي صوته خشونة الغضب: «لا عذر له، ولكنه دنيء الأصل لا يعرف قدر الرجال وسأُريه عاقبة أمره.» ومشى مهرولًا. وظل بهزاد واقفًا حتى توارى سلمان عنه وهو يَحسِب لهذا التهديد ألف حساب. لعلمه أن صاحبه ذو كيدٍ ومكرٍ لا يَثنيه عن الأذى ضمير أو عهد ولا يَرعى ذمةً أو جوارًا.
أما سلمان فسار توًّا إلى قصر المأمون واستأذن في مقابلته فأذن له، فلما اختليا قال سلمان: «إني من موالي أمير المؤمنين، ويُفرحني أن ما بذلناه في سبيل نُصرته لم يذهب عبثًا فمنَّ الله علينا ببقائه وبالخلافة وهو خليق بها.»
فتوقَّع المأمون من وراء ذلك خبرًا جديدًا ولم يكن غافلًا فاغتنم هذه الفرصة وقال: «إني شاكر لأخوالي الخراسانيين فإنهم أصحاب الفضل.»
فتظاهر سلمان بالتردُّد كمن يُقدم رِجلًا ويُؤخر أخرى فقال له المأمون: «قل ما بدا لك ولا تَخَفْ.»
قال: «أنا أعلم أني أُستهدف للموت بما سأقوله، ولكنني أقوله رغبةً في حفظ حياة أمير المؤمنين ودوام دولته، وأرجو أن يبقى قولي سرًّا عن كل إنسان.» فاهتمَّ المأمون وقال: «أتوصيني بحفظ السر وقد قامت دولتنا به؟ قل سريعًا. لا تَخَفْ.»
قال: «إن وزيرك الفضل بن سهل يوهمك أنه ردَّ السلطة إليك وهو يُدبِّرها لنفسه.» فخاف المأمون أن يكون الرجل مدسوسًا من الفضل عليه فقال: «إن مثل الفضل أهل للتمتُّع بنفوذ الكلمة بعد الذي بذله في سبيلي.»
قال: «أرى مولايَ يُحاذِر أن يظهر ما يجول في خاطره ورأيه الأعلى، ولكنني أقول إن الفضل إنما أراد السلطة لنفسه ليس لنفوذ كلمته فحسب، ولكنه يسعى في نقل الخلافة من العباسيين إلى العلويين لترجع إلى الفرس؛ ولذلك اشترط البيعة لعلي الرضا بعد أمير المؤمنين.»
فانتبه المأمون لمساعي الفضل في هذا الشأن، ولم يكن غافلًا عنها من قبلُ، ولعله اضطُرَّ إليها رغبةً في التغلب على أخيه، فقال: «ولكنني بايعت لعلي الرضا مختارًا لأني لم أجد في بني العباس من هو أهل للخلافة.»
قال: «وهل تضمن أن يكون بنو عليٍّ أهلًا لها … وهب أنك فعلت ذلك مختارًا، فهل تضمن أن يصبر الفضل على نقلها حتى يستوفيَ أمير المؤمنين حظَّه منها؟ اعذر صراحتي يا أمير المؤمنين، وأنا واثق من بقاء هذا سرًّا، ولا أطلب إلا الحذر من هذا الرجل على حياتك ثم على دولتك.»
فأطرق المأمون وقد جالت في خاطره خواطر كثيرة وحدَّثتْه نفسه بأمورٍ سكت عنها واكتفى بقوله: «وما الحيلة؟»
فاستبشر سلمان بهذا السؤال وقال: «إذا عهد أمير المؤمنين في ذلك إليَّ فإني أُنقذه بجرعة عسلٍ أو شربة ماء.»
فأعظم المأمون جسارة هذا الرجل وقال في نفسه: «إن وجود مثل هذا الغادر خطر على أعدائه وأصدقائه؛ لأنه بعد أن بذل نفسه في خدمة الفضل أصبح يسعى في قتله؛ فلا بد لذلك من سببٍ حمله على التغير، ولا يبعد أن يحدث ما يُغيِّره على سواه.» لكنه رأى فيه عونًا على التخلص من الفضل، فسكت هنيهة ثم قال: «سننظر في ذلك.» واكتفى سلمان بهذا الجواب لعلمه أنه لا يجيبه على اقتراحه جوابًا صريحًا لأسبابٍ يعرفها مثله.
وتحرك المأمون فخرج سلمان ولبث المأمون بعد خروجه يُفكر فيما سمعه وهو يخاف أن يكون قد جاء جاسوسًا من قِبل الفضل، فعزم على استطلاع رأي الفضل خلسة.
وفي ذلك المساء جاء الفضل إلى المأمون على عادته وقد أنبأه جواسيسه بدخول سلمان على المأمون في ذلك اليوم، فظنه جاء ليوسطه في شأن بوران ولم يخطر بباله أنه يجيء للوشاية به في أصل مشروعه لما في ذلك من الإيقاع بالفرس كافة. وتعمَّد المأمون الخلوة بالفضل وتبادلا الأحاديث المتنوعة حتى ذُكر سلمان فقال المأمون: «قد بلغني عن هذا الرجل أعمال أتاها في بغداد يُمدح عليها.»
فقال الفضل: «نعم يا سيدي، قد أعان حزبنا بمساعٍ أساسها المكر والخيانة وقد أفادتنا، ولكنه كبير المطامع.» قال: «لا بأس من تقليده منصبًا.»
فابتسم الفضل وقال: «عرضتُ عليه ذلك فرأيتُه طامعًا فيما يقصر أمثاله عن نيله. ولو علم أمير المؤمنين بمطمعه لاستغربه.» قال: «وما هو؟»
قال: «إنه طامع في بوران ابنة أخي، ولما قلتُ له إنها مخطوبة غضب كأنه أولى بها من أمير المؤمنين.» وكان المأمون قد خطب بوران من أبيها سرًّا.
فأدرك المأمون سِرَّ الخلاف وعلم أن الرجل لم يَبُحْ بسِرِّ الجماعة إلا انتقامًا، ولم يَفت المأمون إطلاع الفضل على مجيء سلمان، فأحب أن يُذهب خوفه من تلك الزيارة فهز رأسه احتقارًا لسلمان وسكت، وترك المسألة وأظهر الاستغراب لما سمعه وغيَّر الحديث، فانصرف الفضل وهو مقتنع بأنه أوغر قلب المأمون على سلمان.
•••
ولبث المأمون بعد ذلك يُراقب ما يبدو من الفضل ليتحقَّق ما بلغه حتى جاء علي الرضا ذات يومٍ لزيارته وهو ولي عهده على الخلافة، فرحب به وجرى الحديث بينهما فقال علي: «إنما جئتك لأنبئك بما يُخفيه وزيرك الفضل عليك.»
قال: «وما ذاك؟» قال: «إن أهلك في بغداد لما علموا أنك بايعتَني بعدك نقموا عليك أشياء وقالوا عنك إنك مسحور مجنون، وبايعوا إبراهيم ابن عمك المهدي مكانك وخلعوا بيعتك لاعتقادهم أنها ستئول بعدك لي.»
فاستغرب المأمون ذلك لأنه لم يكن بلغه فقال: «لم يَبلغني شيء من ذلك.»
قال: «لأن وزيرك الفضل يتناول أخبار البريد ويُخفيها عليك رغبةً في منافعه.» فشكر المأمون لعليٍّ حرية ضميره وقال: «أذكر أن الفضل قال لي إن أهل بغداد أقاموا إبراهيم بن المهدي أميرًا عليهم لا خليفة.»
قال: «إن الفضل قد كَذَبك. والخلاف قائم الآن بين الحسن بن سهل وبين إبراهيم، والناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه الفضل، ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك.» فقال المأمون: «ومن يعلم هذا؟»
فسَمَّى له رجالًا اطَّلعوا على ذلك فاستقدمهم المأمون، وسألهم بعد أن أعطاهم الأمان من الفضل وكتب لهم خطه به، فأخبروه بالبيعة لإبراهيم بن المهدي، وأن أهل بغداد قد سَمَّوه الخليفة السني، وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان عليٍّ منه. فلما سمع المأمون ذلك أثنى على عليٍّ وصرفه، ولما خلا بنفسه أخذ يفكر في أمره فصمَّم على قتل الفضل، ولكنه خاف من بقاء علي الرضا وليًّا للعهد، وأنه إذا لم يُقتل ظل موقفه حرجًا.
وبلغ سلمان ما كان من عليٍّ وما قصَّه على المأمون، فعلم أن التمرة قد نضجت، فدخل على المأمون في خلوةٍ فلمَّح له المأمون تلميحًا فهم مراده منه، وانصرف يُعِد المكائد ويغتنم الفرص.
وسافر المأمون إلى بغداد سنة ٢٠٢ﻫ، فلما وصل إلى سرخس وثب قوم على الفضل في الحمام فقتلوه، وكان ذلك بمساعي سلمان، فحاكَم المأمون الذين وثبوا عليه وقتلهم، وبعد أن وصل المأمون إلى بغداد بقليلٍ شاع مقتل علي الرضا بأكلة عنبٍ مسموم، وتحدَّث الناس أن المأمون دسَّ له ذلك العنب، وإنما دسَّه سلمان.
فنجا المأمون بذلك وظلت الخلافة في أهله، ولكنه ظل خائفًا من سلمان فدسَّ إليه من قتله خوفًا من انقلابه عليه، فمات جزاء غدره فصح فيه قول بهزاد: «إن الغادر تعود عليه عاقبة غدره.»
أما بهزاد فلم يَعُد يرى سلمان منذ افترقا يوم خروجهما من عند الفضل، ثم بلغه مقتل الفضل بن سهل وعلي الرضا فأسف لضياع مساعيه في نقل السلطة إلى الفرس، ولكنه تعزَّى بما وُفق إليه من الانتقام لجده وحميه، وعاش مع عروسه في راحةٍ والناس لا يعرفون أنه حفيد أبي مسلم وأنها ابنة جعفر البرمكي. ثم بحث عن سلمان فعلم أن المأمون قتله خوفًا من غدره، فقال في نفسه: «ذلك جزاء الخيانة وعاقبة الغدر.»
أما المأمون، فبعد أن جاء بغداد تزوَّج ببوران بنت الحسن بن سهل ترضيةً لأبيها عما لحق بأخيه؛ فإن سبب قتله لم يخفَ عليه. ولزفاف بوران احتفال محفوظ في بطون التاريخ.