الأمين والفضل بن الربيع
كان الأمين جالسًا في صدر القاعة على سريرٍ من الآبنوس المنزل بالعاج بلا ترصيع ولا تذهيب؛ لأنه السرير الذي كان يجلس عليه المنصور قبل أن يغرق العباسيون في الحضارة والترف واستخدام الذهب والجوهر في آنيتهم ومجالسهم، وكانت على أرض القاعة طنافس ثمينة قليلة الزينة عليها الوسائد والكراسي. وقد ارتدى الأمين مثل ملابسه يوم المبايعة لأنه ما زال يستقبل المهنئين والمبايعين، فدخل ابن الفضل ورفيقه فرأيا بين يدي الأمين ماهان صاحب الشرطة، وقد قعد على وسادةٍ قعود أهل الدولة بلا كبير تهيُّب؛ لأن الأمين لم يكن في مثل هيبة أبيه، ولا سيما مع من تعوَّد مجالستهم من خاصَّته في مجالس الشراب أو الطرب، ومع أمثال ابن ماهان وغيره من ذوي شُوراه الذين يحتاج إلى رأيهم أو مساعدتهم.
وكان الأمين شديد الثقة بابن ماهان والفضل بن الربيع، يستشيرهما في مهامِّه. فلما جاءه كتاب الفضل في ذلك الصباح يُنبئه بقدومه ومعه الأحمال ومن بقي من رجال الرشيد وأنه لا يلبث أن يصل إلى بغداد ليقصَّ عليه تفصيل ما فعله، اهتمَّ الأمين بذلك الكتاب وبعث إلى ابن ماهان ليُطلعه عليه، وأمر بألا يُدخلوا عليهما أحدًا من الزُّوار. فجاء ابن ماهان فدفع إليه الأمين كتاب الفضل، ثم لم يكد يتم قراءته حتى جاء الحاجب يستأذن لابن الفضل ورفيقه، فسأل الأمين عن ذلك الرفيق فقال الحاجب: «هو رجل من علماء حران كأنه حاخام أو ملفان.»
فقال: «وما شأنه؟»
فعلم ابن ماهان أنه الملفان سعدون، فتبسم وقال: «أظنه الملفان سعدون الحراني. إن لهذا الرجل شأنًا عظيمًا، وله قوة غريبة على استطلاع الغيب.» فالتفت الأمين إلى ابن ماهان وقال: «هل تعرفه؟»
قال: «إذا كان هو الملفان سعدون فقد عرفته؛ لأني اجتمعت به في جلسة ورأيت منه المعجزات.»
فهز الأمين رأسه وقال: «إني قليل الثقة بهؤلاء الدجالين.»
قال: «ليس الرجل دجالًا يا مولاي، بل هو منجم.»
قال: «المنجمون كثيرون عندنا وقلما يَصدُقون!»
قال: «سترى فيه ما لم تعهده في سواه إذا أذنت في دخوله، وعند الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان.»
فأشار الأمين إلى الحاجب أن يُدخلهما ففعل.
ولما أقبل ابن الفضل على الأمين حيَّاه بتحية الخلافة ووقف حتى أشار إليه بالجلوس، ثم التفت إلى الملفان فابتدره هذا بالسلام أيضًا، فقال له: «اجلس يا ملفان.»
فجلس على البساط جاثيًا وتأدب في مجلسه مُطرقًا ساكتًا، فقال له الأمين: «أخبرنا صاحب شرطتنا أنك من المنجمين.»
فأجاب سلمان: «إني من عبيد أمير المؤمنين.»
قال: «وهل أنت صادق في تنجيمك؟»
قال: «على أن أصدق في إبلاغ أمير المؤمنين ما أراه وأقرؤه طبقًا لقواعد العلم، وله الرأي في تصديقه أو تكذيبه!»
فحوَّل الأمين نظره إلى صاحب الشرطة كأنه يستشيره فيما يمتحنه به، فقال: «هذا كتاب الوزير يقول فيه إنه سيقصُّ على أمير المؤمنين ما فعله في طوس، فليُمتحن الملفان به.»
فاستحسن الأمين ذلك، والتفت إلى سعدون وقال: «جاءنا كتاب وزيرنا الساعة بأنه قادم إلينا، فهل لك أن تُخبرنا بما سيتلوه علينا؟»
فأحنى الملفان رأسه احترامًا، ثم مدَّ يده إلى جيبه وأخرج الدرج المعهود، وحل المنديل وأخذ يُقلبه بين يديه، ويتمتم مُظهرًا أنه يقرأ ويتفهَّم ويتفطَّن، ثم رفع بصره إلى الأمين وقال: «إن الوزير حفظه الله يحمل إليك خبرًا مهمًّا خاصًّا بالخلافة.»
فضحك الأمين مستخفًا وقال: «طبعًا، إنه يعلم بمبايعتي وليس في ذلك شيء من الغيب!»
قال الملفان: «صدق أمير المؤمنين، ولكن الوزير سينقل إليك شيئًا جديدًا عن أخيك المأمون، ولعله أخرجه من البيعة!»
فبُغت الأمين وقال: «هل أخرجه منها؟»
فهز الملفان كتفيه وقال: «يظهر لي مما أقرؤه في هذه الأوراق أنه فعل ذلك، ولم يجد في سبيله مشقة؛ فإذا كان فيه ما يسوء أميرَ المؤمنين فلا ذنب لي.»
فتظاهر الأمين باستيائه لإخراج أخيه من البيعة وقال: «هل فعلها الفضل؟ ما أظنه فعلها! فاحذر مما تقول واعلم أنك تقول قولًا تُقطع فيه الرقاب.»
فقال بجأشٍ رابط: «قلت لمولاي إني لا أقول شيئًا من عندي وإنما أنا أقرؤه فيما بين يديَّ، وإذا طويت الكتاب نسيت ما قلته.»
فقال الأمين وهو يُظهر الغضب: «إنها وشاية تُعاقَب عليها!»
قال وهو ساكن الجأش: «العفو يا مولاي، لا ذنب لي فيما قلته؛ فإني أقول ما أراه، ولم يخدعني هذا العلم من قبل.»
فبالغ الأمين في إظهار التهديد، ثم قال: «يكفي هذا.» والتفت إلى ابن الفضل وقال: «هل جاءك من أبيك شيء من هذا القبيل؟»
قال: «كلا يا مولاي، إنه لم يكتب إليَّ بشيء.» ولم يجسر أن يُخبره بما قصه عليهم الملفان بالأمس.»
ثم التفت إلى ابن ماهان وقال: «ألم أقل لكم إن هؤلاء المنجمين يتقرَّبون إلينا بكذبهم؟»
فابتسم ابن ماهان ابتسامَ المستعطف وهمس للأمين قائلًا: «إنني أعرف صدق أخبار الملفان سعدون، وإذا شاء مولاي أن يختبر صدقه فعل، إن الوزير لا يلبث أن يصل إلى بغداد الليلة أو صباح غدٍ، وسيعلم مولاي ما فعله، والرأي بعد ذلك لأمير المؤمنين!»
وكان الملفان أثناء ذلك يتشاغل بتقليب الدرج بين يديه يتمتم كأنه لا يسمع ما يقولون حتى سمع الأمين ينادي: «يا غلام.»
فدخل الحاجب وتأدب فقال له: «قل لصاحب الإنزال أن يأخذ هذا الملفان إلى دار الأضياف، يقيم هناك في كرامةٍ ورعايةٍ حتى أطلبه.» والتفت إلى الملفان وقال: «تفضل إن شئت وكن مطمئنًّا حتى ندعوك.»
فنهض سلمان واستعاذ بالله من الانتظار مخافة أن يُبطئ على أهل القصر المأموني وهم في قلقٍ على تأخُّر الطبيب بهزاد، لكنه لم يرَ بُدًّا من الطاعة؛ فخرج وسار مُكرَّمًا إلى منزلٍ بجانب مطبخ العامة، جاءوه فيه بما يحتاج من الطعام والشراب.
ومكث هناك كأنه على الجمر بقية يومه، وفي ضحى اليوم التالي جاءه رسول الخليفة يستقدمه إلى المجلس الخاص، فسار بعد أن أصلح هندامه وأتقن تنكُّره وهو يتظاهر بالسذاجة وصفاء النية وخلوص السريرة، فلما دخل على الخليفة وجد عنده ابن ماهان وابن الفضل، فأمره الأمين بالجلوس وقال له: «إن وزيرنا الفضل آتٍ عما قريب، وسنسأله عن أمره بحضورك ثم نرى ما يكون.»
فحنى رأسه مطيعًا ووقف، فأمر له الأمين بالجلوس فجلس.
ثم جاء الحاجب يقول: «الوزير الفضل بالباب يا مولاي.»
فأبرقت أسرة الأمين وصاح: «يدخل وزيرنا الفضل.»
وما عتم أن عاد الحاجب ووسع الستر، فدخل الفضل وآثار السفر بادية في وجهه، فحيَّا بتحية الخلافة وقال: «يعذرني أمير المؤمنين أن أدخل عليه قبل إصلاح شأني.»
وكان الفضل يومئذٍ في أواسط الكهولة وقد وَخَطَ الشيب لحيته وتغضَّن جبينه وظهر تغضُّنه مع أن أكثره مخبأ تحت القلنسوة، وقد تردَّى بالقباء الأسود على عادة الداخلين على الخلفاء العباسيين.
فهشَّ له الأمين وأجلسه على كرسي بجانبه، فأخذ الفضل يُعزيه في الرشيد، ثم هنَّأه بالخلافة ودعا له بطول البقاء، وسكت وهو يجيل نظره في الجالسين كأنه يلتمس الخلوة ليقص على الأمين ما جاء به، فابتدره الأمين قائلًا: «إذا كنت قد جئتنا بخبرٍ فاقصصه علينا.»
فقال: «هل أقصُّه الآن؟» قال: «نعم، قل ما عندك، إن هذا المنجم يزعم أنه عرف ما فعلته، وقد أردت أن أمتحن معرفته، فإذا كان مصيبًا أنعمنا عليه وإلا كان عقابه شديدًا.»
فقال ابن ماهان: «هل يأذن أمير المؤمنين في كلمة.» قال: «قل.»
قال: «إذا كان القتل جزاء هذا الملفان إذا ظهر كذبه، فما جزاؤه إذا صدق؟ هل يأمر مولاي حينئذٍ بأن يجعله كبير المنجمين في قصره لعله ينفعنا بعلمه؟»
قال: «سأفعل.» والتفت إلى الفضل وقال: «قل ما الذي فعلتَه بأخينا عبد الله المأمون والخلافة؟»
فاستغرب الفضل السؤال على هذه الصورة وقال: «فعلت ما أراه عائدًا على الدولة بالخير؛ فليس يخفى على أمير المؤمنين أن مولانا الرشيد كان عند سفره قد استمع لإغراء بعض ذوي الأغراض، فبايع للمأمون وأوصى له بجميع ما في عسكره، مع أن البيعة سبقت لمولانا الأمين صاحب هذا العرش، فلما قُبض الرشيد رأيت أن في بقاء بيعة المأمون ما قد يؤدي إلى انقسام الخلافة واستفحال الفتنة، فاستشرتُ أصحابي وأجمعنا على الرجوع إلى الصواب، فأبطلنا بيعة المأمون وجعلنا الخلافة مستقلة لمولانا أمير المؤمنين.»
قال: «والمأمون ماذا فعلتم به؟»
قال: «لم نفعل به شيئًا؛ فإنه باقٍ على خراسان كما كانت الوصية من قبل، على أن يكون وليًّا للعهد.»
فما أتم كلامه حتى بانت الدهشة في وجه الأمين، ونظر إلى الملفان سعدون، فرآه مُطرقًا هادئًا لا يخامره خوف ولا اضطراب، فلم يتمالك الأمين أن صاح به: «ويلك من أين أتاك علم الغيب؟»
فرفع بصره إلى الأمين وقال: «لا فضل لي يا مولاي، إن هذا العلم معروف عند المنجمين، ولكن الذين يصدقون في استخدامه قليلون.»
فقال: «إنما أعجبني صِدقك من غير ادِّعاء، قد جعلناك رئيس المنجمين.»
فوقف سلمان وانحنى بين يدي الأمين ودعا له بطول البقاء ثم قال: «إن هذه نعمة لا أستحقها!»
قال: «بل أنت أهل لذلك وهذا جزاء الصادقين.» وصفق فجاء الحاجب فقال له: «قل لقيِّم الدار أنْ يُعِد للملفان منزلًا يقيم به وأن يفرض له العطاء؛ فقد صار رئيس المنجمين.» ثم أشار إلى الملفان أن يجلس فانحنى ثانيةً وكرر الدعاء وجلس وهو يقول: «إن منازل أمير المؤمنين واسعة وحيثما أقمت فإنما أكون في حياطته غارقًا في نعمائه، وإذا سمح لي أن أقيم حيث شئت كان ذلك أدعى لمرضاته؛ لأني لا أستغني عن الانفراد في منزلي أحيانًا لعمل المندل أو مطالعة كتب التنجيم، على أن أكون بين يدي أمير المؤمنين متى شاء، ولو جاز أن تُرد هِبَته لتقدمتُ إليه أن يجعلني خادمًا رقيقًا بلا أجر؛ فإن من تعاطى هذه الصناعة على حقها وجب عليه إنكار نفسه والبُعد عن ملاذِّ الدنيا وعن التوسع في أسباب العيش، ولكن نِعَم أمير المؤمنين لا تُرد.»
فاستغرب الأمين هذا التعفُّف ولم يخطر له سماعه من مثل هذا الرجل وهو يعلم أن أمثاله إنما يتقرَّبون إلى دار الخليفة طمعًا في المال؛ فالتفت إلى ابن ماهان والاستغراب بادٍ في وجهه كأنه يستطلع رأيه فقال ابن ماهان: «إن الملفان سعدون هذا طبعه، والأمر لأمير المؤمنين.»
فقال: «ولكنا قد نحتاج إليه في ساعةٍ لا نجده فيها.»
فقال الملفان: «إني أقيم بدار أمير المؤمنين على أن يؤذَن لي في الخروج إلى منزلي متى رأيت في الخروج فائدة فلا يعترضني أحد، ولا أظن الحاجة تمس إلى دعوتي فلا يجدوني.»
فقال الأمين: «لك ذلك.»
وكان الفضل أثناء الحديث ينظر إلى الملفان سعدون ويتفرَّس فيه، وقد دُهش لما سمعه وكأنه ارتاب في أمره.
أما الأمين فكان شديد الرغبة في سماع تفصيل الخبر من الفضل، فألقى قضيب الخلافة على السرير بجانبه وتزحزح من مكانه، فأدرك الحضور أنه يريد أن ينصرفوا، فوقفوا وخرجوا، بينما أشار الأمين إلى الفضل أن يبقى. أما سلمان فمشى حتى بلغ مكان بغلته فركبها ومضى إلى القصر المأموني.