الخطر المجهول!
اندفعَت ناقلة البترول الهائلة نحو سفينة الشياطين مثل وحشٍ بحريٍّ خرافي يوشك أن ينقضَّ على سمكة صغيرة … وبأقصى قوته أدار «أحمد» دفةَ السفينة الشراعية محاولًا الابتعادَ عن مقدمة ناقلة البترول، واستطاع بالفعل تحاشيَها في آخر لحظة، ولكن السفينة الصغيرة اصطدمَت بجنب ناقلة البترول فتحطَّم جزءٌ من جنب السفينة الشراعية وترنَّحَت السفينة بقوة واهتزَّت فوق سطح الماء بعنف، وبكل قوة جاهد «أحمد» ليخرج من منطقة دوامات الناقلة … ولكن الناقلة العملاقة كانت تُثير حولها اضطرابًا وأمواجًا لا حدَّ لها فاندفع الماء فوق سطح سفينة الشياطين وأوشك أن يُغرقَها واندفع الشياطين في عنفٍ يتشبَّثون بجدار سفينتهم التي أخذ الموج يدفعها ويُلقيها لأعلى وأسفل كأنها حبة رمل في عاصفة هوجاء.
وأخيرًا ابتعدَت ناقلةُ البترول العملاقة بدون أن تحسَّ حتى بسفينة الشياطين وما سبَّبَته لها من خسائر.
واندفع الشياطين الستة نحو جدارِ السفينة المحطَّم الذي كان الماء ينفذ منه إلى داخل سفينتهم، وبسرعة تعاونوا في إصلاح جدار السفينة وترقيعه بألواح الخشب … حتى تمكَّنوا من سدِّه … ثم أسرعوا في نزْح الماء من سطح سفينتهم بالدلاء الكبيرة … ولم ينتهوا من مهمتهم إلا قرابة الظهر.
وجلس الشياطين منهكين القوى لما بذلوه من جهد، والتمعَت الدموعُ في عينَي «إلهام» وقالَت معتذرة: إنني آسفة … لم أكن أدري أنني سأتسبَّب في هذا الخطر.
أجابها «أحمد» برفق: لا داعي للأسف يا «إلهام» إننا بشرٌ وكلٌّ منَّا معرَّضٌ للخطأ …
عثمان: للأسف لا توجد لدينا خرائط ملاحية أو خرائط بطرق سير السفن والناقلات الكبيرة حتى نتفاداها … هذه الرحلة تتطلَّب منَّا الاعتماد على حواسِّنا بنسبة مائة في المائة. واندفع «خالد» و«قيس» إلى داخل السفينة … كان الشياطين يخشَون أن يكون البلل قد أصاب أسلحتَهم المخفاة في قلب السفينة … ولكنها لحسن الحظ كانت بعيدةً عن المياه.
وراقب «أحمد» جدارَ السفينة المحطم … كان الماء لا يزال ينفذ منه بكميات قليلة مما يتطلَّب جهدًا مستمرًّا في نزْحِه … وكانت السفينة تميل قليلًا جهةَ اليسار وقد تحطَّم الصاري الكبير وتخلخلَت الدفة من مكانها.
قال «عثمان» بقلق: إن السفينة بحاجة إلى إصلاح … وللأسف فنحن لا نملك حتى جهاز إرسال لنُخبر رقم «صفر» بذلك.
مصباح: إنني أرى أنه من الأفضل العودة إلى عدن لإصلاح سفينتنا فهي … لن تصمدَ للإبحار في المحيط.
قال «أحمد» بحسم: لا … إننا لن نعودَ إلى عدن … بل سنواصل إبحارنا إلى المحيط ولنعتبر أن ما حدث لنا كان في قلب المحيط حيث لا مكان نلجأ إليه … إن الشياطين لا يتراجعون أبدًا.
ساد الصمت بعض الوقت … وتساءل «خالد»: متى سنصل إلى مشارف المحيط الهندي؟
أجابه «أحمد»: إذا استمرت سرعة الرياح بنفس معدلها وظل البحر على استقراره فسنصل خلال ثلاثة أيام … وسنحاول إصلاح أعطاب السفينة بقدر طاقتنا؛ لأنه بعدها لن يكون لدينا وقت … إلا للدفاع عن أنفسنا.
ومضَت الأيام الثلاثة بلا حوادث جديدة … وقام الشياطين بإصلاح صاري السفينة بقدر استطاعتهم ورتْق الشراع الكبير وتثبيته في مكانه … كما أصلحوا الدفة وتمكَّنوا من ضبطها … وفي نهاية الأيام الثلاثة ارتفعَت روحُهم المعنوية كثيرًا … وكان «أحمد» محقًّا في طلبه لزملائه الاعتماد على أنفسهم تمامًا … وخلال هذه المدة تقاسم الشياطين العمل فوق السفينة وقيادتها حتى لا يتعرضوا لأي أخطار كما حدث مع ناقلة البترول العملاقة …
واندفعت سفينة الشياطين إلى قلب المحيط … ومرَّت على البعد أمامهم سفنٌ عديدة، وأطلقت صفارتها تشجيعًا للشياطين، بعد أن تناقلت الأقمار الصناعية في العالم أخبار الرحلة البحرية الشراعية لعبور المحيطَين، الهندي والأطلنطي.
وقال «مصباح»: لقد صِرْنا في قلب المحيط … تُرَى متى سيبدأ القراصنة هجومهم علينا؟
خالد: أعتقد أنهم سيتركوننا حتى نقترب من مقرِّهم، ثم يبادروننا بالهجوم فهذا أسهل لهم.
قيس: تُرَى هل يقومون الآن بمراقبتنا؟
ابتسم «أحمد» قائلًا: إنهم لا يملكون عيونًا سحرية لذلك … وحتى لو فعلوا فلن يجدوا غير مجموعة من الشبان العرب الذين غامروا بعبور المحيط في سفينة شراعية صغيرة …
وكانت «إلهام» منهمكة في تدوين كلِّ ما مرَّ بهم من أحداث، واقترب منها «أحمد» باسمًا وقال لها: هل تفكرين في التقاعد واعتزال العمل ونشْر المذكرات بدلًا منها؟
لم تردَّ «إلهام» وألقى «أحمد» نظرةً نحو دفتر المذكرات … وكانت آخر عبارة كتبَتها «إلهام» تقول: إن قلبي يشعر بخطر شديد قادم.
وتلاقَت عينَا «إلهام» مع «أحمد» وسألها ببطء … هل تخشَين من شيء ما؟ … لقد واجَهْنا مئات المخاطر ولم يهتزَّ قلبنا فلا تخشَي شيئًا.
أجابته «إلهام»: إنني لا أخشى هؤلاء القراصنة مهما كانوا … إن الخطر الذي أشعر به من نوع آخر.
وقبل أن يسألها «أحمد» عن ذلك الخطر الذي يُقلقها، ظهرَت في الأفق سحابةٌ سوداء تقترب نحوهم بسرعة … كانت تبدو كأنها مقدِّمةُ إعصار … وكان يعلم تمامًا أن الأعاصير نادرة الحدوث في ذلك المكان … ولكنها ليست مستحيلة … وفي نفس اللحظة اضطرب سطح البحر بقوة، وارتفعَت أمواجه بطريقة عجيبة … وصفَّرت الرياح بشدة كأنها زفيرُ ماردٍ مجهول … وأخذَت سفينة الشياطين تترنَّح بقوة تحت ذلك الخطر الرهيب القادم من بعيد.
وتلاقَت أنظار «إلهام» و«أحمد» وعرَف في تلك اللحظة نوعَ الخطر الذي كانت تخشاه «إلهام».
وانفتحَت أبواب الجحيم في اللحظة التالية …