الإعصار!
هبَّت الرياح بقوة رهيبة فأطاحَت بالصاري الكبير ومزَّقَت شراعَه وصرخ «أحمد» في «عثمان»: أسرع بطيِّ باقي الأشرعة بسرعة يا «عثمان»!
وقفز «عثمان» بخفة ورشاقة نحو الصاري الثاني للسفينة ليخفض شراعه وفي نفس اللحظة تهاوَى الصاري الكبير، ولولا أن تحرَّك «أحمد» من مكانه لسحقه تحته … وتحطَّم جدارُ السفينة مرة أخرى بسبب الصاري الثقيل الذي تدحرج وسقط في قلب الماء وومض البرق والرعد في السماء، وتعالَى الموجُ الثائر فترنَّحَت السفينة بشدة ومالَت على جنبها، ولم يستطع «عثمان» حفْظَ توازنه فوق الصاري الثاني فأفلتَت أصابعه وسقط في قلب الماء عند ميل السفينة.
كان الوحيد الذي لاحظ سقوطَ «عثمان» في الماء هو «خالد» وبرغم ترنُّح السفينة الشديد فقد أسرع باختطافِ حبلٍ قريب وألقاه في الماء ليتشبَّثَ به «عثمان» وكاد يلمس سطح السفينة حتى اسودَّت السماء كأنها أصبحت ليلًا … وبدأَت تُدوِّي حول الشياطين أصواتٌ كأنها انفجاراتٌ تكاد تصمُّ الآذان.
وصاح «قيس»: إنه إعصار … تشبَّثوا بأماكنكم …
وما كاد «قيس» ينتهي من عبارته حتى انفتحَت أبواب السماء وسقط مطرٌ غزير كأنه السيل … واندفعَت الرياح المجنونة وهي تزأر لتحمل أيَّ شيء غير ثابت فوق سطح السفينة لتُلقيَه في البحر الثائر فتبتلعه أمواجُه … وأخذَت الأمواجُ تضرب السفينة بعنف وقد بدأَت في الدوران البطيء حول نفسها …
وكان الشياطين يعرفون ما يعنيه ذلك جيدًا …
وصرخ «خالد»: سوف تبتلعنا الدوامة …
وكان الموقف يائسًا … ولم يَعُد للشياطين سيطرة على السفينة التي بدَت وكأن شياطين جهنم تلهو بها … ولم يكن لدى الشياطين أيةُ وسيلة إنقاذ … وباتَت المسألةُ مسألةَ وقتٍ فقط قبل أن يسحقَهم الإعصار أو تبتلعهم الدوامة.
وصاح «أحمد» في زملائه: … تشبَّثوا بأماكنكم جيدًا … سوف أُحاول إنقاذ السفينة ومهما حدث لي فلا تحاولوا التدخل.
واندفع «أحمد» نحو الصاري الثاني قبل أن ينتبهَ أحدٌ لما يريده … وتسلَّق «أحمد» الصاري بذراعَين فولاذيَّتَين في الوقت الذي كانت الرياح تهبُّ بسرعة لا تقل عن مائة وخمسين كيلومترًا في الساعة وتكاد تقتلع السفينة من مكانها.
أخذ «أحمد» يصعد الصاري بالرغم من مقاومة الرياح وترنُّح الصاري … وجذب أحبال الصاري فانفتح الشراع بقوة ولطم «أحمد» في وجهه وامتلأ الشراع بالهواء في لحظة فمالَت السفينة بشدة بسبب قوة الرياح حتى أوشكَت على الغرق.
وصرخ «عثمان»: ماذا تفعل يا «أحمد»؟! … إنك تعجِّل بنهايتنا … وسوف تُغرق السفينة بسبب الشراعِ المفتوح ودفْعِ الرياح لنا …
ولكنَّ صوتَه لم يَصِل إلى أبعد من أُذُنَيه بسبب صراخ العاصفة … وترنَّح الصاري بقوة مثل عود قش وأوشك أن يتحطم … وقفز «أحمد» من مكانه إلى سطح السفينة فدفعَته الريح بقوة ليصطدمَ بنهايتها في رأسه.
وأحسَّ «أحمد» بالخبطة قوية وتحسَّس رأسَه فلمس شيئًا لزجًا … كان رأسُه ينزف، ولكنه تحامل على نفسه وتشبَّث بحاجز السفينة …
وأخذ ميل السفينة يزداد والشراع المفرود يكاد يتمزق تحت وطأة الرياح … ولكن الشياطين لاحظوا شيئًا …
كان دوران السفينة حول نفسها قد بدأ يقلُّ … وأخذَت تسير ببطء مترنِّح متحدية العاصفة والموج والريح …
كانت السفينة تسبح إلى مركز العاصفة والدوامة … وكانت تهتزُّ مثل ريشة في مهبِّ الريح … وزحف «أحمد» مقتربًا من «إلهام» التي بدأَت قُواها تخور، فأمسكها بذراعه اليمنى، على حين أمسك بحاجز السفينة باليد الأخرى بقوة حديدية …
وانفجرَت «إلهام» باكيةً وهي تقول: لا فائدة … سوف نغرق ونموت في هذه العاصفة دون أن يحسَّ أيُّ إنسان بنا …
همس «أحمد» لها: لا تخشَي شيئًا يا «إلهام» … سوف ننجو … ثقي بي.
وفي الفضاء بدأ لون السماء يتحول بطريقة عجيبة … فقد تلوَّن السحاب بلونٍ أحمرَ دامٍ كأنه الدماء المسفوحة فوق السحاب … وظهرَت تشكيلات عجيبة من أضواء البرق المنفجر في السماء، وعلى حين بغتةٍ سكَن كلُّ شيء حول الشياطين … كفَّ البحرُ عن ثورته … وتوقَّفَت الريح عن الهبوب … وتهادَت السفينة برفق فوق سطح الماء الساكن كأنها تسبح فوق محيط مرسوم فوق لوحة … وليس محيطًا حقيقيًّا …
وقالت «إلهام» ذاهلةً وهي لا تصدِّق ذلك السكون العجيب الذي أحاط بهم فجأة: ماذا حدث؟ … إن العاصفة والدوامة اختفتَا فجأة … هل نحن في حلم؟!
أجابها «أحمد»: لا … لقد صِرْنا في مركز الدوامة والعاصفة.
ومن بعيدٍ وصلَت إلى آذانهم أصواتُ انفجارات الريح والعاصفة والمطر المنهمر كالسيل، وقال «أحمد»: إن العاصفة لا تزال تهبُّ حولنا … وفي العادة فإنَّ أيَّ إعصارٍ يُغرق أيَّ شيء يحيط به من جوانبه … ولكن قلبه يكون ساكنًا هادئًا؛ ولهذا خاطرتُ بتوجيه شراع السفينة ليقودَنا إلى مركز الدوامة والإعصار.
وقف الشياطين لحظاتٍ لا يصدِّقون ما يحدث أمامهم … كانت الظاهرة التي رأوها بأعينهم أعجبَ ظاهرة طبيعية يمكن أن تُصادفَ إنسانًا … ففي قلب الموت المدمِّر … كان نجاتهم وبعد أقل من ساعتين هدأ كلُّ شيء … وعادَت السماء تصفو فوقهم … وظهرَت الشمس وهي تُوشِك على الغروب … وبدأ زفير الرياح العادية … وارتعش سطحُ الماء وعاد إلى طبيعته. وتنهَّد «عثمان» في راحة قائلًا: حمدًا لله … لقد مرَّت العاصفة والإعصار بسلام. واندفع الشياطين محاولين إصلاحَ ما دمَّرَته العاصفة … ولكنها كانت مهمةً فاشلة … فقد تحطَّمَت أغلبُ أسوارِ وجدران السفينة … وتحطَّمَت أغلبُ صواريها. وانتزعَت الدفة من مكانها … وامتلأت السفينة بالماء من ثقوب عديدة في قلبها.
قال «قيس» يائسًا: سوف تغرق السفينة خلال ساعتين بسبب الماء المتسرب إليها … ولن نتمكن من إنقاذها …
خالد: وليست لدينا أية أجهزة لإرسال إشارة استغاثة …
أضاف «عثمان»: ولا توجد سفن قريبة لتمدَّ إلينا يدَ النجاة … يبدو أننا نجونا من العاصفة لنموت غرقَى مع السفينة …
وساد السكون القاتل فوق وجوه الشياطين … كانوا في موقف يائس بالفعل في قلب المحيط بدون أن يدريَ بهم إنسان … حتى رقم «صفر».
وفجأةً علا صوتُ أزيزٍ حولهم … وظهرَت على البُعد في الأفق نقطةٌ صغيرة راحَت تقترب ببطء … كانت طائرة هليوكبتر …
وقفز «عثمان» بسعادة هاتفًا: لقد جاء الإنقاذ … لا بد أنها طائرة أرسلها رقم «صفر» لنجدتِنا … وأخذ الشياطين يُلوِّحون للطائرة العمودية التي اقتربَت منهم، وحلَّقت فوق السفينة الموشكة على الغرق … وأخذ الشياطين يتصايحون ويُلوِّحون للطائرة … ولكنها بعد أن دارَت حول السفينة دورتَين، انطلقَت مبتعدةً من نفس الجهة … وترامق الشياطين ذاهلين، وقال «عثمان»: إنها ليست طائرةً تابعةً لنا وإلا لحاولَت انتشالَنا ومساعدتَنا.
وقال «خالد»: وهي لا تحمل أية إشارة أو علامة تدل على الجهة التي تتبعها … ولكن القوانين البحرية والجوية تنصُّ على أنه من المفروض أن تقدِّم لنا واجبًا.
تساءل «أحمد» بقلق: تُرَى ماذا تكون هوية هذه الطائرة؟ … إنني أشك في أنها نفس … الطائرة التي حلَّقَت فوقنا عند بداية رحلتنا وظنناها تابعةً لقوات حرس الحدود.
اتسعَت عينَا «إلهام» وهي تقول: هل يمكن أن تكون هذه الطائرة تابعةً للقراصنة؟ … وجاءت الإجابة سريعًا … عندما ظهرَت سفينةُ القراصنة على البُعد وقد شهرَت مدافعَها نحو سفينة الشياطين.