سر يؤرقني
«على أي حال، إنه يعرف كيف يفتن النساء.» هكذا قالت إت لِشار. لم يكن بمقدورها أن تعرف ما إذا كانت شار قد صارت أكثر شحوبًا لدى سماعها ذلك؛ نظرًا لأن شار كانت بالفعل شاحبة لأقصى درجة، ومع ابيضاض شعرها الآن، صارت أشبه بشبح إنسان. بيد أنها لا تزال جميلة؛ إذ لم تفقد رونقها.
واصلت إت قائلة: «إنه لا يكترث بالسن أو الحجم. أعتقد أنها موهبة فطرية يتمتع بها، لكني آمل ألا تكون السيدات ينخدعن فيه ويقعن بين براثنه.»
قالت شار: «هذا أمر لا يقلقني.»
قبل يوم واحد، قبلت إت دعوة بلايكي نوبل للذهاب معه في واحدة من جولاته والاستماع إلى معسول كلامه. ووُجهت الدعوة أيضًا إلى شار، ولكنها لم تذهب بالطبع. كان بلايكي نوبل يقود حافلةً، كان الجزء السفلي منها مطليًّا باللون الأحمر فيما كان الجزء العلوي مخططًا، بحيث تشبه المظلة. وعلى جانب الحافلة كُتبت الكلمات التالية: «جولات على شواطئ البحيرات، مقابر الهنود، الحدائق الجيرية، منتجع المليونيرات، مع السائق والمرشد بلايكي نوبل.» كان بلايكي يقيم في غرفة بالفندق، وكان يعمل أيضًا مع أحد مساعديه بالأرض في تجزيز العشب وتقليم أشجار أسوار الحدائق وحفر الحواف. يا له من ذل بعد عز! قالتها إت في بداية فصل الصيف عندما اكتشفت عودته؛ فقد عرفته هي وشار في الأيام الخوالي.
وهكذا وجدت إت نفسها محشورة في حافلته مع الكثير من الغرباء، لكنها بحلول عصر اليوم كوَّنت صداقات مع عدد منهم، وقطعت على نفسها وعودًا بتوسعة بعض السترات، كما لو أنه لم يكن لديها ما يشغلها بالفعل. كان هذا كله على هامش الأحداث، أما ما كان يشغل بالها حقًّا فهو مراقبة بلايكي.
وما الذي لديه ليستعرضه؟ بضع رُبًى ينمو عليها العشب، مدفون تحتها جثث الهنود، بقعة من الأرض مليئة بمنحوتات جيرية غريبة الشكل، كئيبة المنظر، ذات لون أبيض مائل للرمادي — في محاكاة متكلفة لنباتات (يمكنك أن تعتبرها مقبرة إن أردت ذلك) — ومنزل عتيق ذو هيئة بشعة بُني بأموال الخمور، غير أن بلايكي حقق أقصى استفادة منه؛ إذ بدأ عرضه بحديث تاريخي عن الهنود، أتبعه بحديث علمي حول الحجر الجيري. لم يكن أمام إت وسيلة لمعرفة مدى صحة ما يرويه لهم. أما آرثر فيعرف، ولكنه لم يكن هناك؛ فلم يكن هناك سوى نسوة سخيفات، يأملن أن يمشين بجانب بلايكي من المعالم السياحية وإليها، والدردشة معه وهن يحتسين الشاي في جناح الحجر الجيري، متطلعات إلى أن يضع يده القوية أسفل مرافقهن، بينما تمسد يده الأخرى مكانًا ما حول الخصر، وهو يساعدهن في النزول من الحافلة (همست إت بحدة: «أنا لست سائحة» عندما حاول فعل ذلك معها).
أخبرهن أن المنزل كان مسكونًا. وكانت أول مرة في حياتها تسمع إت عن ذلك، وهي التي تعيش على بعد عشرة أميال منه طوال حياتها؛ إذ إن امرأة قتلت زوجها، ابن المليونير، أو على الأقل يُعتقد أنها هي من قتله.
«كيف؟» هكذا صاحت إحدى السيدات في إثارة جنونية.
عندها قال بلايكي بصوت رقيق، جمع بين السخرية والحنو في الوقت نفسه: «آه، إن السيدات حريصات دائمًا على معرفة الوسيلة. لقد قتلته بالسم … البطيء، أو هذا ما قالوه. بيد أن هذا كله محض إشاعات، ثرثرة أهل البلدة.» (قالت إت لنفسها: ثرثرة أهل البلدة! مستحيل.) «كل ما هنالك أنها لم تحب صديقاته من السيدات. لم تحبهن الزوجة. بالقطع لم تحبهن.»
أخبرهن أن الشبح أخذ يذرع الحديقة جيئة وذهابًا، بين صفين من شجر التنوب الشائك. لم يكن القتيل هو من يمشي، بل زوجته، نادمة على فعلتها. ابتسم بلايكي في أسف لمن جاءوا معه في الحافلة. في البداية اعتقدت إت أن اهتمامه مصطنع، مجرد مغازلة تجارية عادية، لمنحهم بضاعة تعادل قيمة ما دفعوه من أموال، ولكن فكرتها تلك أخذت في التغير شيئًا فشيئًا؛ فقد كان ينحني على كل امرأة يتحدث إليها — بصرف النظر عن بدانتها أو نحافتها أو سخافتها — كما لو كان هناك شيء خاص فيها يود العثور عليه. كانت نظرته لطيفة وضاحكة ولكنها في حقيقتها جادة وثاقبة (هل كانت تلك هي النظرة التي تطل من أعين الرجال في نهاية المطاف عندما يمارسون الحب، تلك النظرة التي لن تراها إت أبدًا؟) جعلته يبدو وكأنه يريد أن يكون غواصًا في أعماق البحار، يغوص ويغوص عبر الفراغ والبرد والحطام لاكتشاف شيء واحد وطَّن نفسه على اكتشافه، شيء صغير ولكنه ثمين، شيء يصعب إيجاده، كياقوتة في قاع المحيط. تلك هي النظرة التي تود أن تصفها لشار. لا شك أن شار رأتها من قبل، لكن هل عرفت كيف يجري توزيعها بالمجان؟
•••
كانت شار وآرثر يخططان لرحلة ذلك الصيف لمشاهدة حديقة يلوستون وأخدود جراند كانيون، لكنهما لم يذهبا؛ إذ تعرض آرثر لسلسلة من نوبات الدوار قبيل نهاية المدرسة، ونصحه الطبيب بملازمة الفراش. كان آرثر يعاني العديد من الأمراض؛ فقد كان مريضًا بالأنيميا ويعاني عدم انتظام ضربات القلب، علاوة على متاعب كليتيه. وكانت إت تخشى إصابته بسرطان الدم، حتى إن الأرق داهم لياليها من فرط القلق.
قالت لها شار بهدوء: «لا تكوني سخيفة، كل ما هنالك أنه مجهد وحسب.»
استيقظ آرثر في المساء وجلس مرتديًا منامته. جاء بلايكي نوبل للزيارة، وقال إن غرفته بالفندق تقع فوق المطبخ مباشرة، وإنه كان يشعر كما لو أنهم كانوا يحاولون طهوه بالبخار، وهو ما جعله يستحسن هواء الشرفة اللطيف. لعبوا الألعاب التي يحبها آرثر، ألعاب معلم المدرسة. لعبوا لعبة الجغرافيا، وحاولوا معرفة من بمقدوره تكوين أكبر عدد من الكلمات من اسم «بيتهوفن». فاز آرثر؛ فقد حصل على أربع وثلاثين نقطة، وكان مسرورًا أيما سرور.
قالت شار: «تحسب نفسك وجدت الكأس المقدسة!»
لعبوا لعبة «من أنا؟» حيث كان على كلٍّ منهم اختيار شخصية ما — حقيقية أو خيالية، حيَّة أو ميتة، إنسان أو حيوان — فيما كان على الآخرين محاولة تخمين من تكون تلك الشخصية من خلال طرح عشرين سؤالًا فقط. استطاعت إت تخمين حقيقة الشخصية التي يقصدها آرثر بعد السؤال الثالث عشر: السير جالاهاد.
«لم يَدُر بخلدي قطُّ أن تعرفيه بهذه السرعة.»
«لقد تذكَّرت ما قالته شار عن الكأس المقدسة.»
قال بلايكي مقتبسًا عن السير جالاهاد: «قوتي تساوي قوة عشرة؛ لأن قلبي نقي!» ثم أضاف: «لم أكن أعرف أنه بمقدوري تذكُّر ذلك.»
قالت إت: «كان حريًّا بك أن تكون الملك آرثر. فاسمك على اسمه.»
«كان حريًّا بي ذلك، فالملك آرثر كان متزوجًا من أجمل امرأة في العالم.»
قالت إت: «ها، نعرف جميعًا نهاية تلك القصة.»
توجهت شار إلى غرفة المعيشة وأخذت تعزف على البيانو في الظلام:
عندما جاءت إت لاهثة في يونيو الماضي، وقالت: «خَمِّني مَن رأيتُ وسط البلدة بالشارع؟» أجابتها شار التي كانت جالسة متكئة على ركبتيها تلتقط حبات الفراولة: «بلايكي نوبل.»
«أرأيتِهِ؟»
قالت شار: «كلا، كل ما هنالك أنني خمَّنت ذلك، أعتقد أنني خمَّنتُه من نبرة صوتك.»
اسمٌ لم يأتيا على ذكره طوال ثلاثة عشر عامًا. وكانت إت مندهشة للغاية، حتى إنها لم تستطِع التفكير في التفسير الذي طرأ على بالها لاحقًا. فما الذي يدعو إلى أن يكون هذا الأمر مفاجِئًا لشار؟ فخدمة البريد متاحة في هذه البلدة، متاحة طوال الوقت.
قالت: «سألته عن زوجته، تلك المرأة المغرمة بالدُّمى» (كما لو أن شار لا تتذكَّر ذلك). «وقال لي إنها قد ماتت منذ زمن طويل. ليس هذا وحسب، بل تزوج مرة أخرى وماتت أيضًا. ولم تكن أيٌّ منهما ثرية. وأين كل مال آل نوبل، من الفندق؟»
قالت شار وهي تقضم حبة فراولة: «لن يتسنَّى لنا أبدًا أن نعرف.»
•••
افتُتح الفندق مؤخرًا مرة أخرى. كان آل نوبل قد تخلَّوا عنه في العشرينيات وتولَّت البلدة تشغيله فترة من الوقت كمستشفى؛ أما الآن فقد اشتراه بعض الناس من تورونتو، وجددوا غرفة الطعام، ووضعوا فيه ركنًا للمشروبات، واستصلحوا المروج والحديقة، مع أن ملعب التنس بدا غير قابل للإصلاح. كذلك وُضعت أدوات الكروكيه بالخارج مرة أخرى، وجاء الناس للإقامة فيه في فصول الصيف، لكنهم ليسوا من نوعية الأشخاص الذين اعتادوا المجيء إليه: أزواج متقاعدون، وكثيرٌ من الأرامل والسيدات غير المتزوجات. ما من أحدٍ يكلِّف نفسه عناء المشي مسافة مربع سكني واحد لرؤيتهم وهم ينزلون من على متن القارب، ناهيك عن أنه لم يَعُد هناك قارب. هذا ما دار بخلد إت.
في المرة الأولى التي التقت فيها بلايكي نوبل في الشارع حرصت على ألا تُفاجَأ. كان يرتدي بدلة كريمية اللون، وشعره الذي طالما اكتسى بالبياض بفعل الشمس، صار الآن أبيض، كله.
«بلايكي. عرفتُ أنه إما أنت أو أن ما أراه ليس إلا مخروط آيس كريم الفانيليا. أراهن أنك لا تعرف من أنا.»
«أنتِ إت ديزموند، والشيء الوحيد المختلف فيك هو أنك قصصت ضفائر شعرك.» وطبع قبلة على جبينها؛ لا يزال جريئًا كعهدها به.
قالت إت وهي تتساءل في نفسها عمن رأى ما حدث: «إذن فقد عدت مرة أخرى لزيارة ديارك القديمة.»
«لم آتِ للزيارة فحسب، وإنما سترينَني كثيرًا.» ثم أخبرها كيف أنه علم بافتتاح الفندق مرة أخرى، وكيف أنه أصبح يمتهن قيادة الحافلات في الجولات السياحية في أماكن مختلفة بفلوريدا وبانف. وعندما سألته أخبرها بأمر زيجتيه الاثنتين، ولم يسألها قطُّ إن كانت قد تزوجت؛ ليقينه من عدم زواجها، كما لم يسأل إن كانت شار تزوجت، حتى أخبرته هي بنفسها.
•••
تذكَّرت إت أول مرة أدركت فيها أن شار جميلة. كانت تنظر إلى صورة التُقطت لهم: هي وشار وشقيقهما الذي مات غرقًا. كانت إت في العاشرة من عمرها في الصورة، أما شار فكانت في الرابعة عشرة، في حين كان ساندي يبلغ حينذاك سبعة أعوام ولم يُكتب له أن يعيش بعدها سوى أسبوعين فقط. كانت إت جالسة على كرسي بدون مساند للذراعين، وشار من خلفها، طاوية ذراعيها على ظهر الكرسي، فيما كان ساندي مرتديًا بدلة بحَّار وجالسًا القرفصاء على الأرض، أو الشرفة الرخامية، كما يخيَّل للرائي؛ نظرًا للمؤثرات التي لم تُحدِثها سوى ستارة متربة مصفرة اللون، ولكنها ظهرت في الصورة عمودًا رخاميًّا مشدودة إليه ستارة، لتنحسر عن شجر الحور ونوافير عن بعد. كانت شار تزين شعرها من الأمام بدبابيس، وترتدي فستانًا حريريًّا ذا لون أزرق متألق يصل إلى كاحلها — بالطبع لم يظهر لونه في الصورة — مع شرائط مخملية معقدة سوداء اللون. كانت تبتسم ابتسامة رقيقة تنمُّ عن الرزانة. يُخيَّل لمن يراها أنها في الثامنة عشرة أو الثانية والعشرين. لم يكن جمالها من النوع المبهرج المفتقر للثقة بالنفس الذي كان يظهر كثيرًا على التقويمات وعلب السيجار في تلك الفترة، بل كان ذكيًّا ومرهفًا، عنيدًا، ومفعمًا بروح التحدي.
أطالت إت النظر إلى الصورة، ثم ذهبت ونظرت إلى شار التي كانت في المطبخ. كان هذا يوم الغسيل. كانت المرأة التي جاءت للمساعدة تسحب الملابس عبر العصَّارة، فيما كانت أمهما تجلس للاستراحة محدقة عبر الباب السلكي (إنها لم تتجاوز وفاة ساندي قط، ولم يتوقع أحدٌ منها أن تتجاوزها). كانت شار تنشِّي ياقات أبيها الذي كان يمتلك محلًّا يبيع فيه التبغ والحلوى في الساحة ويرتدي ياقة جديدة يوميًّا. كانت إت مهيأةً نفسيًّا لرؤية بعض التحوُّل، كما في الخلفية، ولكن خاب أملها؛ إذ كانت شار منحنية على حوض النشا متعكرة المزاج تلوذ بالصمت (فهي تبغض يوم الغسيل حيث الحرارة والبخار وخفق الملاءات وضجيج الغسالة الشديد، في الواقع لم تكن شار مغرمة بأيٍّ من الأعمال المنزلية)، مما جعلها تُظهِر وجهها الحقيقي بنفس الانسجام المعبِّر عن الترفُّع، كما في الصورة تقريبًا. هذا جعل إت تفهم — وإن كان بطريقة غير محببة تمامًا — أن صفات الشخصيات الأسطورية حقيقية، وأنها تظهر على السطح حيثما وحينما لا تتوقع ظهورها. فلطالما حسبت أن النساء الجميلات هنَّ مِن صُنع الخيال؛ فقد اعتادت هي وشار الذهاب لمشاهدة الناس وهم ينزلون من قارب الرحلة، أيام الآحاد، ويمشون حتى الفندق. كان اللون الأبيض من الكثرة بحيث إنه يؤذي عينيك؛ فساتين السيدات، ومظلات الشمس، وملابس الرجال المناسبة لفصل الصيف، وقبعات بنما المصنوعة من القش، ناهيك عن ضوء الشمس المبهر المنعكس على صفحة الماء، وفرقة العزف. ولكن بالنظر عن كثب إلى أولئك السيدات، وجدتْ إت ما يعكِّر صفو هذه الصورة؛ بشرة متجعدة أو أردافًا سمينة أو رقبة هزيلة كرقبة الدجاج أو شعرًا مجعدًا كأعشاش الطيور. لم يكن أي شيء كهذا يفوت إت، على صغر سنها آنذاك. وفي المدرسة كانت محل احترام الجميع؛ نظرًا لرباطة جأشها وسلاطة لسانها؛ إذ لم تكن تتورع عن إخبارك بأنك كنت تقف عند السبورة وجوربك مثقوب أو حاشية ثوبك ممزقة. كانت تقلد المدرس وهو يقرأ قصيدة «دفن السير جون مور» (ولكن في ركنٍ آمن بفناء المدرسة بعيدًا عن مسامع المدرسين).
مع ذلك كان سيلائمها كثيرًا، هي وليس شار، أن تجد الجمال في إحدى أولئك السيدات. كان ذلك سيلائمها أكثر مقارنة بشار في مئزرها المبلل وتعابير وجهها المكفهر وهي منحنية على حوض النشا. فلم تكن إت ممن يحبون المتناقضات، لم تكن تحب أن تكون الأشياء في غير محلها، لم تكن تحب الألغاز أو المبالغات.
لم تعجبها السمعة السيئة البائسة التي التصقت بها جراء الربط بينها وبين غرق ساندي، لم تحب احتفاظ الناس في ذاكرتهم بمشهد والدها وهو يحمل الجثمان من الشاطئ. كان يمكن رؤيتها في الشفق، مرتدية سروالها الرياضي، تتقافز بحركات دائرية في حديقة المنزل المنكوب. وقد مطَّت شفتيها ساخرة، دون أن يراها أحدٌ، عندما قالت شار يومًا ما في المنتزه: «هذا أخي الصغير الذي مات غرقًا.»
•••
كان المنتزه يطل على الشاطئ. كانوا يقفون مع بلايكي نوبل، ابن مالك الفندق الذي قال: «تلك الأمواج قد تكون خطرة؛ فمنذ ثلاث أو أربع سنوات مضت غرق طفلٌ ها هنا.»
«إنه أخي الصغير الذي مات غرقًا.» عندما قالتها شار، تصديقًا على كلامه، لم تَقُلها بتأثُّر، بل من باب التسلية تقريبًا، ولتثبت له أنه لا يعرف إلا أقل القليل عن أهل موك هيل.
لم يكن بلايكي نوبل أكبر من شار سنًّا، ولو كان كذلك لالتحق بجبهة القتال في فرنسا، ولكنه لم يكن مضطرًّا للعيش في موك هيل طوال حياته؛ لذا لم تكن معرفته بأهالي البلدة الحقيقيين أفضل حالًا من معرفته بنزلاء فندق والده المعتادين. وفي شتاء كل عام كان يذهب مع والديه إلى كاليفورنيا بالقطار؛ حيث شاهد أمواج المحيط الهادي، وتعهد بالولاء لعلم بلاده. كان ذا مظهر غير متكلِّف، وذا بشرة لوَّحتها الشمس. كان هذا في وقت لا يكتسب فيه الناس بشرة ملوَّحة عادةً نتيجة لقضاء أوقات الفراغ، بل بسبب العمل فقط. كذلك ابيضَّ شعره من أشعة الشمس. كان جمال هيئته يضاهي جمال هيئة شار تقريبًا، ولكن وسامته أفسدها سحره، أما هي فلا.
كان ذلك اليوم هو يوم الذروة في موك هيل وجميع البلدات الأخرى الواقعة على البحيرات، وبجميع الفنادق التي ستتحول في وقت لاحق إلى مخيمات سانشاين كامبس لأطفال المدينة، ومصحات للسل، وثكنات لتدريب الطيارين بالسلاح الجوي الملكي إبان الحرب العالمية الثانية. كان يتم تجديد الطلاء الأبيض للفندق في ربيع كل عام، وتُوضع قطع خشبية مفرغة مليئة بالزهور على الأسوار، فيما تُشد أصص الزهور بسلاسل وتتأرجح فوقها. تم نثر أدوات الكروكيه والأرجوحات الخشبية على المروج في الخارج، وجرى تمهيد ملعب التنس. وبالنسبة لسكان المدينة الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الإقامة في الفندق، من عمال المصانع وكتبة المتاجر وفتيات المشاغل، فكانوا يقيمون في صفٍّ من أكواخ صغيرة يربط بينها سورٌ شبكي يخفي سلال القمامة ودورات المياه الجماعية، ممتدٌّ حتى الشاطئ. أما فتيات موك هيل، أو تحديدًا مَن كانت لهنَّ أمهات يَقُلنَ لهنَّ ما يجب عليهنَّ فعله، فكنَّ يُحذَّرنَ من السير هناك. لكن لم يخبر أحدٌ شار بما عليها فعله؛ لذلك كانت تسير على طول الممشى أمامهم في وضح النهار، مصطحبة معها إت بغرض الصحبة. لم يكن في نوافذ الأكواخ زجاج، وإنما مصاريع خشبية متهالكة تُغلَق في الليل. ومن وراء الثقوب المظلمة كانت تأتيهما دعوة أو اثنتان خافتتان، تنمَّان عن الأسى أو السُّكْر، وهذا كل شيء. لم يكن في مظهر شار ولا أسلوبها ما يجذب الرجال، بل ربما كان يثنيهم. وفي جميع مراحل دراستها بالمدرسة الثانوية في موك هيل لم تتخذ صديقًا واحدًا. كان بلايكي نوبل أول أصدقائها، إذا اعتبرناه كذلك.
ما الذي آلت إليه تلك العلاقة بين شار وبلايكي نوبل في صيف عام ١٩١٨؟ لم يتسنَّ لإت قطُّ أن تعرف على وجه اليقين؛ فهو لم يتصل بهاتف المنزل، على الأقل ليس لأكثر من مرة أو مرتين، وبقي مشغولًا بعمله في الفندق. وفي عصر كل يوم كان يقود سيارة الرحلات المكشوفة، مع مظلة أعلاها، على طريق شاطئ البحيرة مصطحبًا السياح لزيارة مقابر الهنود الحمر وحديقة الأحجار الجيرية ولإلقاء نظرة عبر الأشجار على القصر الحجري المبني على الطراز القوطي، الذي بناه أحد مصنِّعي الخمور في تورونتو، والمعروف محليًّا باسم قلعة الخمر. كذلك كان بلايكي مسئولًا عن برنامج المنوعات الذي يقدِّمه الفندق أسبوعيًّا، مع مجموعة من المواهب المحلية، والضيوف الذين يستعين بخدماتهم، والمغنين والممثلين الكوميديين المحترفين الذين يجلبهم خصوصًا من أجل العرض.
بدا أن الأوقات المتأخرة من الصباح هي الأوقات المفضلة له هو وشار؛ حيث دأبت شار على قول: «هيا، يجب أن أذهب إلى وسط البلدة.» وكانت في الواقع تلتقط البريد وتمشي جزءًا من الطريق حول الساحة قبل أن تغير وجهتها إلى المنتزه، وسرعان ما يخرج بلايكي نوبل من الباب الجانبي للفندق ويأتي مهرولًا على الممر المنحدر. في بعض الأحيان لم يكن يعبأ حتى بالممر ويقفز من فوق السور الخلفي؛ ليثير إعجابهما. لم يكن يفعل شيئًا من هذا، من هرولة أو قفز، بالطريقة التي يفعلها بعض الصبية من مدرسة موك هيل الثانوية، برعونة ولكن بتلقائية. كان بلايكي نوبل يتصرف كرجل يقلد الصبيان؛ وكان يسخر من نفسه ولكن كان رشيقًا كممثل.
قالت إت لشار وهي تشاهده: «أليس مغرورًا؟» كان رأيها المبدئي في بلايكي أنه شخص بغيض.
قالت شار: «بلى، هو كذلك.»
ثم وجهت حديثها إلى بلايكي، قائلة: «إت تقول إنك مغرور.»
«وماذا قلتِ لها أنتِ؟»
«لقد قلتُ لها إنك يجب أن تكون كذلك، فلا أحد غيرك يُعجب بك.»
لم يُلقِ بلايكي بالًا؛ وكان رأيه المبدئي في إت أنها جديرة بالإعجاب. يمكنه بحركة سريعة مفاجئة منه أن يفك ضفائرها ويفسد تسويتها. حكى لهما أشياء عن فناني الحفل، وأخبرهما أن المغني الاسكتلندي كان سكيرًا يلبس مشد الصدر، وأن مقلد الشخصيات النسائية حتى في فندقه يرتدي ثياب نوم كحلية مكسوة بالريش، وأن محركة العرائس كانت تتحدث إلى دميتيها (ألفونس وأليسيا) كما لو كانتا شخصيتين حقيقيتين، وأنها أجلستهما في الفراش من حولها ونامت بينهما.
سألته شار: «وأنَّى لكَ أن تعرف ذلك؟»
«لقد أخذتُ لها إفطارها في غرفتها.»
«أعتقد أن لديكم خادمات في الفندق يتولَّين تلك المهمة.»
«اعتدتُ في الصباح التالي للعرض أن أفعل ذلك. هذا عندما أسلِّمهم مظروف أجرهم وأوراق مغادرتهم؛ فبعضهم قد يمكث أسبوعًا كاملًا إن لم تخبريه بالمغادرة. جلستْ محركة العرائس في الفراش وحاولتْ إطعامهما فتات لحم الخنزير المقدد والحديث إليهما وجَعْلهما تردَّان عليها. كان سيُجَنُّ جنونُك لو رأيتِها.»
قالت شار بهدوء: «أعتقد أنها مجنونة.»
•••
ذات ليلة من صيف ذلك العام استيقظت إت متذكِّرة أنها تركت فستانها الوردي المصنوع من قماش الأورجانزا على الحبل بعد غسله بيديها، وظنت أنها سمعت صوت هطول الأمطار، بضعًا من أولى قطراتها وحسب. في الواقع لم تكن السماء تمطر، وما سمعته لم يكن سوى حفيف أوراق الشجر، ولكنها ارتبكت لاستيقاظها هكذا. اعتقدتْ أيضًا أن الوقت متأخِّر جدًّا من الليل، ولكن بالتفكير في الأمر لاحقًا تبيَّن لها أنها في منتصف الليل تقريبًا. نهضت ونزلت السلم، وأضاءت مصباح المطبخ الخلفي وخرجت من الباب الخلفي. وقفت بالشرفة الصغيرة وجذبت حبل الغسيل نحوها، عندئذٍ وتحت قدميها تقريبًا من بين العشب النامي بجوار الشرفة مباشرة، حيث كانت هناك أجمة كبيرة من زهور الليلك نمت وانتشرت دون أن يعتني بها أحدٌ لتصل إلى حجم شجرة، كان هناك شخصان لا هما بواقفَيْن ولا بجالسَيْن، يُطِلَّان برأسيهما كما لو كانا راقدَيْن على الفراش، وهما لا يزالان متشابكَيْن بطريقة أو بأخرى. لم يُضِئ مصباح المطبخ الخلفي الخارجَ إضاءة مباشرة، ولكنه أضاء الفناء بما يكفي كي ترى وجهيهما. كانا بلايكي وشار.
لم يتسنَّ لها قطُّ معرفة الحالة التي كانت عليها ملابسهما لترى إلى أي مدى وصلا أو سيمضيان. لم تكن تريد ذلك؛ فيكفيها أن ترى وجهَيْهما، وفمويهما المفتوحين المتورمين، وخديهما المصعرين للقبلات، وعيونهما الجاحظة. تركت إت فستانها وهرولت عائدة إلى المنزل، ومن ثم إلى فراشها حيث فوجئت بالنعاس يهبط عليها. في اليوم التالي لم تَقُل لها شار كلمة واحدة عما حدث، كل ما قالته: «إت، لقد أحضرتُ لكِ فستانك؛ فقد خشيت أن تمطر ليلًا.» كما لو أنها لم ترَ إت في الخارج ليلة أمس تجذب حبل الغسيل، هكذا تساءلت إت. كانت تعرف أنها لو قالت: «لقد رأيتِني» فلربما ردَّت عليها شار بأنها كانت تحلم. تركت شار تعتقد أنها انخدعت بتصديق ذلك، إذا كان هذا ما اعتقدته شار. بتلك الطريقة انفتح الطريق أمام إت لمعرفة المزيد؛ انفتح أمامها الطريق لترى كيف تبدو شار حينما تخور قواها وتترك لنفسها العنان. لم يكن ساندي يبدو أكثر ضياعًا منها حينما غرق وسُدَّت فتحتا أنفه بتلك الأشياء الخضراء.
•••
قبل الكريسماس وصلت موك هيل أخبار زواج بلايكي نوبل. تزوج محركة العرائس صاحبة الدميتين (ألفونس وأليسيا)، هاتين الدميتين اللتين تُلبِسهما ملابس سهرة وتصفِّف شعرهما تصفيفات أنيقة على طريقة فيرنون وإيرين كاستل، لدرجة أنهما علقتا بالذاكرة أكثر من السيدة نفسها. الشيء الوحيد الذي يتذكَّره الناس على وجه اليقين عنها هو أن سنَّها لا تَقِلُّ عن الأربعين بكل تأكيد، فيما كان بلايكي صبيًّا في التاسعة عشرة من عمره. ولأنه لم يتربَّ كسائر الأولاد الآخرين؛ فقد سُمح له بإدارة الفندق والسفر إلى كاليفورنيا والاختلاط بكل أنواع الناس؛ وكانت النتيجة فساد الأخلاق وعدم القدرة على التنبؤ بتصرفاته.
شربت شار سمًّا، أو ما حسبت أنه سمٌّ، ولم يكن في الواقع سوى مزهرة الغسيل؛ إذ كانت أول ما أمكنها الوصول إليه على رف المطبخ الخلفي. رجعت إت إلى البيت بعد المدرسة — كانت قد سمعت الخبر ظهيرة ذلك اليوم من شار نفسها في الواقع، وأخذت تضحك وقالت: «ألم يكن ذلك ليقتلك؟» — ووجدت شار تتقيَّأ في دورة المياه. صاحت فيها شار قائلة: «اذهبي وأحضري الدليل الطبي.» وندَّت عنها آهة ألم فظيعة لم تستطِع أن تتمالكها، مستطردة: «هيا اقرئي ما يقوله عن السم.» بيد أن إت ذهبت للاتصال بالطبيب. خرجت شار مترنحة من الحمام وممسكة بزجاجة مبيض الغسيل التي كانوا يحتفظون بها خلف الحوض، وقالت بصوت هامس يخرج بصعوبة: «إذا لم تضعي السماعة فسأشرب الزجاجة كلها.» كان من المفترض أن أمهما نائمة خلف باب غرفتها المغلق.
اضطرت إت إلى وضع السماعة والنظر في الكتاب القديم القبيح الذي قرأت فيه منذ أمدٍ بعيد عن الولادة وعلامات الوفاة، وتعرَّفت فيه على كيفية فحص الفم بمرآة. كان لديها انطباع خاطئ بأن شار قد شربت بالفعل من زجاجة مبيض الغسيل، ومن ثم قرأت كل ما يخص ذلك الموضوع، ثم اكتشفت أنها شربت من المزهرة. ولم يكن الدليل يحوي شيئًا عنها، ولكن بدا لها أن أفضل شيء يمكنها فعله أن تحثَّ شار على التقيؤ، كما ينصح الدليل حيال معظم السموم — وإن كانت شار تتقيأ بالفعل ولم تكن في حاجة إلى حثِّها على ذلك — ثم شُرْب لتر من اللبن. وعندما تجرَّعت شار اللبن أصيبت بالغثيان مرة أخرى.
وقالت شار بين تقلصات الألم: «لم أفعل ذلك بسبب بلايكي نوبل. لا تفكري في هذا أبدًا؛ فأنا لست بتلك الحماقة، وما هو إلا منحرف تافه، وإنما فعلتها لأنني سئمت حياتي.»
قالت إت بتأثر بعدما مسحت شار وجهها: «ما الذي أصابك بالسأم من حياتك؟»
«لقد سئمت تلك البلدة وكل أهلها الأغبياء، وأمي ومرضها بداء الاستسقاء، وتولِّي شئون المنزل وغسيل الملاءات كل يوم. لا أظن أنني سأتقيأ مرة أخرى. أعتقد أنه يمكنني شرب بعض القهوة؛ فالقهوة مناسبة الآن.»
أعدَّتْ إت إبريقًا من القهوة وانتقت شار أفضل كوبَيْن، وأخذت الاثنتان تضحكان مقهقهتَيْن وهما ترتشفان القهوة.
قالت إت: «لقد سئمت اللاتينية، وسئمت الجبر. أظن أنني سأتجرَّع بعضًا من مزهرة الغسيل.»
قالت شار: «الحياة كلها منغِّصات. أيتها الحياة، أين لدغَتُك؟»
«بل أيها الموت، أيها الموت، أين لدغتك؟»
«هل قلتُ الحياة؟ كنت أقصد الموت. أيها الموت، أين لدغتك؟ معذرةً.»
•••
في عصر أحد الأيام بقيت إت مع آرثر فيما ذهبت شار للتسوق وتغيير الكتب في المكتبة. أرادت إت أن تُعِدَّ له شراب البيض، فذهبت للبحث عن جوزة الطيب في خزانة شار. ومع الفانيليا ومستخلص اللوز وشراب الرم الاصطناعي، وجدت بالخزانة زجاجةً صغيرة لسائل غريب؛ فوسفيد الزنك. قرأت الملصق وقلبتها في يديها. إنه مبيد للقوارض؛ فهو سمُّ فئران إذن. إنها لم تسمع شار وآرثر من قبل يشتكيان من متاعب مع الفئران، وهم يتركون القط توم العجوز نائمًا عند أقدام آرثر. فتحت إت غطاء الزجاجة واشتمَّتها للتعرف على رائحة السم. كان عديم الرائحة، بالطبع، ومن المؤكد أنه عديم الطعم أيضًا، وإلا فلن يخدع الفئران.
أعادت الزجاجة حيث وجدتها، وأعدَّت لآرثر شراب البيض ثم قدَّمته له وشاهدته وهو يشربه. سمٌّ بطيء؛ هكذا عادت بها ذاكرتها إلى قصة بلايكي السخيفة. شرب آرثر كطفل صغير مُحدِثًا ضوضاء تنمُّ عن إعجابه بالشراب، وهو ما أثار سعادتها أكثر من سعادة آرثر نفسه؛ فقد كان آرثر سيشرب أي شيء تقدمه له. تلك طبيعته.
«كيف حالك هذه الأيام يا آرثر؟»
«أوه، إت، في بعض الأيام أحسُّ بأنني أقوى قليلًا، ثم لا ألبث أن أصاب بانتكاسة. الأمر يستغرق بعض الوقت.»
ولكن لم ينقص من الزجاجة شيء، فالزجاجة تبدو ممتلئة. يا له من هراء فظيع! كتلك الأشياء التي تقرؤها في روايات أجاثا كريستي. سوف تتحدث إلى شار عن الأمر، ولا بد أن شار ستخبرها بالسبب.
ثم سألت آرثر: «هل تريدني أن أقرأ لك؟» فقال لها نعم. جلست بجوار الفراش وقرأت له من كتاب عن دوق ولنجتون. كان يقرأ من الكتاب بنفسه ولكنَّ ذراعَيْه تعبتا من الإمساك به. كل تلك المعارك والحروب والفظاعات، ما الذي يعرفه آرثر عن تلك الأشياء؟ لماذا يهتمُّ بها لهذه الدرجة؟ لم يعرف شيئًا. لم يعرف لماذا حدث ما حدث، ولماذا لم يستطِع الناس التصرف على نحو عقلاني. لقد كان خيِّرًا على نحو مثالي، وقارئًا للتاريخ، ولكنه لم يقرأ شيئًا عما يجري أمام عينيه؛ لا في بيته ولا في أي مكان. كانت إت مختلفة عنه في معرفتها أن ثمة شيئًا يجري في الخفاء، حتى وإن كانت لا تفهم السبب؛ كانت تختلف عنه في معرفة أن هناك من لا يمكنك الوثوق بهم.
لم تَقُل شيئًا لشار على كل حال، وكلما كانت في المنزل حاولت اختلاق الأعذار للبقاء وحدها في المطبخ، حتى تستطيع فتح الخزانة والوقوف على أطراف أصابعها وإلقاء نظرة داخلها لترى الزجاجة من بين الزجاجات الأخرى حتى تتأكد من أنه لم ينقص منها شيء. أخذت تعتقد أنها ربما أمست غريبة الأطوار قليلًا، كما تفعل العجائز؛ وخوفها هذا أشبه بالمخاوف السخيفة والبريئة التي تنتاب الفتيات الصغيرات في بعض الأحيان، من أنهن سوف يقفزن من النافذة، أو يخنقن طفلًا بجلوسهن في عربته؛ مع أن مصدر خوفها لم يكن نابعًا من تصرفاتها هي.
•••
نظرت إت إلى شار وبلايكي وآرثر، وهم جلوس في الشرفة، محاوِلة أن تقرِّر ما إذا كانوا يريدون الدخول وإضاءة الأنوار ولعب الورق. أرادت أن تقنع نفسها بسخافة أفكارها. لمع شعر كلٍّ من شار وبلايكي في الظلام. وبينما أوشك آرثر على الصلع الكامل، كان شعر إت متناثرًا داكنًا. بدت لها شار وبلايكي من نفس الفصيلة؛ نفس الطول وخفة الوزن والقوة مع أبهة جامحة. جلسا متباعدَيْن أحدهما عن الآخر، ولكنهما كانا ملحوظَيْن معًا. عشيقَان. ليست كلمة رقيقة كما يظنُّ الناس، بل قاسية ومدمرة. كان آرثر جالسًا على الكرسي الهزَّاز واضعًا لحافًا على ركبتيه، يبدو لها غِرًّا كشيء لم يكتمل نموه؛ غير أن مَن هم على شاكلة آرثر هم، بطريقة ما، السبب في معظم المتاعب.
«أحب حبيبي واسمه يبدأ بحرف الراء؛ لأنه رقيق، واسمه ريكس، ويعيش في مطعم.»
«أحب حبيبي واسمه يبدأ بحرف الألف؛ لأنه أليف، واسمه آرثر، ويعيش في قفص.»
قال آرثر: «عجبًا يا إت! لم يخطر ذلك على بالي قط. ولكني لا أعرف إن كنت سأحب القفص.»
قالت شار: «تعتقد أننا كنا جميعًا في الثانية عشرة من العمر.»
•••
بعد حادثة مزهرة الغسيل أصبحت شار مشهورة؛ أخذت تشارك في الأعمال المسرحية التي تنظمها جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو، مع أنها لم تمتلك قطُّ موهبة ممثلة أو مغنية. ودائمًا ما كانت تقوم بدور البطلة الباردة والجميلة في المسرحيات، أو سيدة المجتمع العصبية الفاتنة. تعلَّمت التدخين، وذلك بسبب اضطرارها للقيام بذلك على خشبة المسرح. في مسرحية لن تنساها إت أبدًا، لعبت دور تمثال، أو بمعنًى أدق، لعبت دور فتاة مضطرة للتظاهر بأنها تمثال، بحيث يقع شاب معين في حبها، ثم يكتشف في وقت لاحق، مما يصيبه بالحيرة وربما خيبة الأمل، أنها إنسان. كان على شار أن تقف مدة ثماني دقائق ساكنة تمامًا على خشبة المسرح، ملتحِفة بملاءة بيضاء، تطل على الجمهور بسحنة جميلة لا تنقل أي مشاعر. وقد تعجَّب الجميع من قدرتها على أداء هذا الدور.
والذي شجعها على الانضمام إلى جمعية مسرح الهواة وجمعية أوراتوريو كان آرثر كومبر، المدرس في المدرسة الثانوية الوافد حديثًا إلى موك هيل، الذي كان يدرِّس التاريخ لإت في سنتها النهائية. كان الجميع يقولون إنه يعطيها درجة الامتياز لأنه يحب شقيقتها، ولكن إت كانت تعلم أن ذلك مرده إلى استذكارها بجد أكثر من أي وقت مضى؛ إذ تعلمت تاريخ أمريكا الشمالية كأن لم تتعلم شيئًا آخر في حياتها. لم تنسَ قط تسوية ميسوري ورحلة ماكينزي إلى المحيط الهادي عام ١٧٩٣.
كان آرثر كومبر يناهز الثلاثين من العمر أو نحو ذلك، يتميز بجبهة عالية صلعاء، ووجه أحمر مع أنه لم يقرب الشراب (اعترى وجهه الشحوب في وقت لاحق)، وسلوك أخرق أهوج؛ فقد أوقع بزجاجة الحبر من على مكتبه ولطخ أرضية حجرة التاريخ بعلامة لن تزول. «يا إلهي! يا إلهي!» قالها وهو يخرُّ على الأرض متتبعًا أثر الحبر المنتشر، ليمسحه بمنديله. أخذت إت تقلِّده، قائلة: «يا إلهي! يا إلهي!» وكل صيحاته الهوجاء وإيماءاته المشوشة. ثم، عندما أخذ مقالها عند الباب، ولمع وجهه الأحمر بإشراقة تنمُّ عن اللهفة، ورحَّب بعملها وبها هي نفسها أيما ترحيب، شعرت بالأسف. وقد رأت إت أن هذا هو السبب الذي دفعها للعمل بجد؛ حتى تكفِّر عن سخريتها منه.
كان لديه عباءة أكاديمية سوداء يرتديها على بدلته وهو يلقي الدروس. حتى عندما لم يكن يرتديها، كان بمقدور إت أن تراها عليه. وعندما كان يهرول بطول الشارع إلى إحدى مهامه العديدة التي يؤديها بكل سرور، مسرعًا إلى مطربي أوراتوريو، قافزًا على خشبة المسرح — التي كانت ترتجُّ تحت قدميه — ليُري شيئًا للممثلين في مسرحية، بدا لها وهو يقوم بذلك وكأنه يمتلك أجنحة الغراب الطويلة المضحكة تلك ترفُّ من ورائه، الأمر الذي يجعله مختلفًا عن غيره من الرجال، سخيفًا ولكنه مثير للاهتمام، كقس متخرج في كلية هولي كروس. أقنعته شار بالتخلي عن العباءة تمامًا، وذلك بعد زواجهما؛ فقد سمعت أنه تعثَّر بها وهو يرتقي درجات سلم المدرسة فانبطح أرضًا. وكانت تلك نهاية أمر العباءة التي مزَّقتها إربًا.
«خشيتُ أن يأتي يوم تتأذَّى منها حقًّا.»
لكن آرثر قال لها: «آه. لعلك اعتقدتِ أنني أبدو فيها أخرق.»
لم تنكر شار ذلك، مع أن عينيه الناظرتين إليها وابتسامته العريضة كانت تستجديها أن تنكره؛ إذ التوت شفتاها عند الزوايا رغمًا عنها، تعبيرًا عن الازدراء والغضب. رأت إت — كلاهما رأَيَا — موجة جارفة هائلة من هذا الشعور تجتاحها قبل أن تتمكن من أن تبتسم في وجهه وتقول: «لا تكن سخيفًا.» ثم حاولت جاهدة أن تُبقي ابتسامتها وعينيها مثبتتَيْن عليه، في محاولة للتشبث بصلاحه (الذي رأته، كما رآه الجميع، ولكنه لم يؤدِّ في النهاية إلا إلى إثارة ثائرتها، في رأي إت، شأنه شأن أي شيء آخر فيه، مثل جبهته المتعرِّقة وتفاؤله الزائد عن الحد)، قبل أن تعاودها موجة الغليان مرة أخرى وتجتاحها تمامًا.
تعرضت شار للإجهاض خلال السنة الأولى من زواجها، وظلت بعدها مريضة فترة طويلة، ولم تحمل بعدها قطُّ. في ذلك الحين لم تكن إت تعيش في المنزل؛ إذ كانت تقطن في سكن خاص في الساحة، ولكنها كانت تحضر للمنزل مرة واحدة في يوم الغسيل، لمساعدة شار في تعليق الملاءات على حبل الغسيل. حينها كان والداهما قد توفيا — توفيت أمهما قبل الزفاف أما أبوهما فتوفي بعدها — ولكن بدا لإت أن الملاءات تخص سريرين.
«هذا يجعلك تغسلين كمًّا هائلًا.»
«ما هذا؟»
«تغيير الملاءات بطريقتك تلك.»
كثيرًا ما كانت إت تذهب هناك مساءً لتلعب الريمية بأوراق اللعب مع آرثر بينما تعزف شار على البيانو في الظلام في غرفة أخرى. أو تتحدث إلى شار وتقرأ من كتب المكتبة معها، بينما يعلِّم آرثر أوراقه. كان آرثر يوصلها إلى منزلها. فوبخها ذات مرة قائلًا: «ما الذي يدعوك إلى مغادرتنا والعيش بمفردك؟ يجب أن تعودي وتعيشي معنا.»
«ثلاثة معًا عدد كبير.»
«هذا لن يدوم طويلًا؛ فلا بد أن أحدهم سيأتي يومًا ويقع على رقبته.»
«إذا كان هو من الحماقة لأن يقع على رقبته، فلن أقع أنا من أجله أبدًا في المقابل، ومن ثم نعود من حيث بدأنا.»
«لقد كنت أحمق ووقعت على رقبتي من أجل شار، وانتهى بها الأمر بالفوز بي.»
الطريقة التي نطق بها اسمها توحي بأن شار فوق وخارج كل الاعتبارات التقليدية؛ أعجوبة ولغز لا يمكن لأحدٍ أن يأمل في حلِّه، وأنهما محظوظان لمجرد السماح لهما بالتفكير فيها. كانت إت على وشك أن تقول: «لقد ابتلعت فاتنتك مزهرة الغسيل ذات مرة حزنًا على رجل لم يكن لها»، ولكنها فكرت في أنه سيكون لذلك تأثير إيجابي عليه؛ إذ ستبدو شار أكثر روعة في عينيه، مثل بطلة بإحدى مسرحيات شكسبير. اعتصر آرثر خصر إت كما لو كان يؤكد على الإبهام الذي يكتنف علاقتهما الودية، وإكباره اللاإرادي لها، أمام أختها. شعرت بعد ذلك بشدة ضغطة أصابعه كما لو أنها قد تركت خدوشًا حيث تربط تنورتها. بدا كما لو أن شخصًا شارد الذهن يجرب الضغط على مفاتيح البيانو.
•••
اشتغلت إت بمهنة تفصيل الملابس. كانت تمتلك غرفة ضيقة تطل على الساحة، كانت متجرًا ذات يوم؛ حيث تقص القماش وتخيطه وتقيس الملابس وتكويها، أما النوم والطبخ فكانت تتدبر أمرهما خلف ستارة في نفس الغرفة. كانت تستلقي في فراشها وتحدق في مربعات القصدير المضغوط في سقف غرفتها، وشكل الورود الذي تتخذه. كل ذلك ملكها وحدها. لم يكن آرثر يحب حديثها عن تفصيل الملابس؛ لأنه يعتقد أنها أذكى من ذلك العمل. كل الجهد الشاق الذي بذلته في دراسة التاريخ أعطاه فكرة مبالغًا فيها عن ذكائها. وقالت له: «إن قص القماش وقياس الملابس، إذا فعلته بالطريقة الصائبة، يتطلب من الذكاء أكثر مما يتطلبه تدريس حرب ١٨١٢؛ لأنك ما إن تدرسها حتى تعرف أحداثها وينتهي الأمر دون أن تغير فيك تلك المعرفة شيئًا. أما كل قطعة ملابس جديدة فتمثل منتجًا جديدًا تمامًا.»
قال آرثر: «ما زلت مندهشًا مما آل إليه حالك.»
لقد فاجأتِ الجميع، ولكن ليست إت نفسها، التي تغيرت بسهولة من فتاة تتقافز بحركات دائرية إلى أحد معالم البلدة؛ فقد استأثرت بسوق تفصيل الملابس على حساب الحائكات الأخريات؛ إذ كانت المشتغلات بتلك المهنة مجرد مخلوقات متواضعة غير مهمة على أي حال، يَدُرنَ على بيوت الناس، وَيَحُكْنَ الملابس في الغرف الخلفية ويعبِّرن عن امتنانهن لزبائنهن شكرًا لهم على ما يقدمونه من وجبات. وطوال سنوات عمل إت لم يظهر أمامها سوى منافِسة جدية، وهي امرأة فنلندية أطلقت على نفسها لقب مصممة أزياء. جرَّبها بعض الناس؛ لأن الناس لا يرضون أبدًا، لكن سرعان ما تبيَّن أنها مجرد مظهر مخادع دون مهارة حقيقية. لم تأتِ إت على ذكرها قط، بل تركت الناس يكتشفون حقيقتها بأنفسهم؛ ولكن بعد ذلك، عندما غادرت هذه المرأة البلدة وذهبت إلى تورونتو — حيث ما من أحدٍ يعرف التفصيل الجيد من السيئ بحسب ما استنتجت إت مما رأته في الشوارع — لم تَعُد إت تكبح جماح نفسها؛ إذ كانت تقول للزبونة التي تفصِّل لها: «أرى أنك لا تزالين ترتدين ذلك الثوب من القماش المقصوص على شكل رقم ٧ الذي فصَّلته لك صديقتي الأجنبية، رأيتُك في الشارع.»
فتقول لها الزبونة: «أوه، أعرف. ولكني مضطرة إلى ارتدائه حتى يبلى.»
«لا تستطيعين رؤية نفسك من الخلف؛ لا فارق إذن.»
كانت الزبائن يقبلن منها هذا التقريع، بل وأصبح شيئًا متوقعًا بالنسبة لهن. صرن يلقِّبنها بالفظيعة، إت الفظيعة. دائمًا ما تضعهن في موقف غير مؤاتٍ، ولا عجب، فهي تحادثهن وهن في ملابسهن التحتية يرتدين مشدات الجسم. حتى السيدات اللاتي يبدون حازمات وقويات جدًّا في الخارج يتحولن هنا إلى نسوة مسلوبات الإرادة كاسفات البال يكشفن عن أفخاذ تدعو للرثاء مضغوطة بفعل المشدات، وثنيات طويلة مؤسفة في الثديين، وبطون انتفخت ثم فُرِّغت فتجعَّدت بسبب الولادة والعمليات.
دأبت إت على إغلاق الستائر الأمامية بإحكام، مشبكة الفرجة بينها بدبوس.
«هذا لمنع الرجال من التطفل.»
فتضحك السيدات بعصبية.
«هذا لمنع جيمي ساندرز من أن يعرج إلينا ويتلصص علينا.»
كان جيمي ساندرز أحد قدامى المحاربين بالحرب العالمية الأولى، ويمتلك محلًّا صغيرًا بجوار محل إت يبيع فيه سروج الأحصنة والمنتجات الجلدية.
«أوه، إت. جيمي ساندرز لديه ساق خشبية.»
«ولكن ليست لديه عيون خشبية، أو أي شيء آخر أعرفه.»
«إت، أنتِ فظيعة.»
•••
حرصت إت على أن تفصِّل لشار ملابس تُظهر جمالها. وأكثر انتقادَيْن كانا يوجَّهان إلى شار في موك هيل هما أنها ترتدي ملابس أنيقة جدًّا، وأنها تدخِّن؛ نظرًا لأنها زوجة مُعلِّم وينبغي لها أن تمتنع عن كلا هذين الأمرين، ولكن آرثر بالطبع سمح لها بفعل كل ما يعجبها، بل إنه اشترى لها مبسم سيجار حتى تبدو كسيدة تظهر على غلاف مجلة. كانت تدخِّن في إحدى حفلات الرقص بالمدرسة الثانوية، وارتدت فستان سهرة عاري الظهر مصنوعًا من الساتان، وراقصت صبيًّا سبق له أن تسبَّب في حمل فتاة في المدرسة الثانوية، ولم يأبه آرثر لذلك. لم تتمَّ ترقيته إلى منصب ناظر المدرسة؛ بعد أن تجاوزه مجلس المدرسة مرتين واستقدم نظَّارًا من خارجها، وعندما منحوه الوظيفة في النهاية، في عام ١٩٤٢، كان ذلك بشكل مؤقت فقط؛ لأن الكثير جدًّا من المعلمين كانوا بعيدين في الحرب.
كافحت شار كثيرًا لكي تحافظ على قوامها. وما من أحدٍ باستثناء إت وآرثر يعلم كمَّ الجهد الذي بذلته لتحقيق تلك الغاية. وباستثناء إت فلا أحد يعلم كل شيء عن تلك المسألة؛ فقد كان والداهما بدينَيْن، وورثت شار عنهما الميل إلى البدانة، مع أن إت دائمًا ما كانت نحيفة كالعصا. اعتادت شار ممارسة التمارين الرياضية وشرب كوب من الماء الدافئ قبل كل وجبة. ولكن في بعض الأحيان كانت تعكف على الأكل بنهم. كانت إت تعلم عنها أنها يمكن أن تلتهم دستة من كعك الكريمة واحدة تلو الأخرى، أو رطلًا من حلوى الفول السوداني أو فطيرة ليمون المارنج كاملة، ثم لا تلبث أن تصاب بالشحوب والرعب فتقوم بابتلاع كميات كبيرة من الملح الإنجليزي بكميات تفوق الكمية المقررة بثلاث أو أربع أو خمس مرات، فتظل مدة يومين أو ثلاثة مصابة بالإعياء والجفاف للتكفير عن خطاياها، على حسب قول إت. وخلال تلك الفترات لا تستطيع النظر إلى الطعام. ويكون على إت أن تأتي وتطهو الطعام لآرثر، الذي لم يكن على علم بأمر الفطائر أو حلوى الفول السوداني أو خلافه، ولا حتى بأمر الملح الإنجليزي. كان يعتقد أنها زادت رطلًا أو اثنين وتمر بمرحلة محمومة من الحمية الغذائية. كان يشعر بالقلق عليها.
دأب آرثر على أن يقول لإت: «ما الفارق، ما أهمية ذلك؟ فهي لا تزال جميلة.»
«لن تؤذي نفسها.» هكذا ترد عليه إت مستمتعة بطعامها، وسعيدة لأن قلقه لم يفسد شهيته، فدائمًا ما تطبخ له طعام عشاء شهيًّا.
•••
يتبقى أسبوع على عطلة عيد العمال، وقد ذهب بلايكي إلى تورونتو مدة يوم أو يومين، على حد قوله.
قال آرثر: «الجو هادئ من دونه.»
قالت إت: «لم أجد قطُّ أنه ذلك المحاور البارع.»
قال آرثر: «إنما أعني الطريقة التي تعتادين بها على أحدهم.»
قالت إت: «ربما ينبغي لنا ألا نعتاد عليه.»
لم يكن آرثر سعيدًا؛ فهو لن يعود إلى المدرسة بعد حصوله على إجازة بدون مرتب حتى نهاية عطلة الكريسماس. لم يَدُر بخلد أحدٍ أنه سيعود عندئذٍ.
قال: «أعتقد أن لديه خططه الخاصة لهذا الشتاء.»
«قد تكون لديه خططه الخاصة لهذه اللحظة؛ فأنت تعرف أن لديَّ زبائني من نزلاء الفندق، ولديَّ أصدقائي، ومنذ أن ذهبت في تلك النزهة وأنا أسمع أشياء.»
لم تعرف كيف أتاها ذلك الخاطر لتقول ما قالت، فلا تعرف من أين جاءها ذلك الخاطر. لم تخطط له، ولكنه جاءها بكل سهولة وبصدق.
«أسمع أنه اصطحب امرأة موسرة إلى الفندق.»
كان آرثر يهتم لتلك الأحاديث، وليس شار.
«أرملة؟»
«مرتين على ما أعتقد. تمامًا كما ترمَّل هو مرتين. وقد ورثت أموالًا من كليهما. كان الأمر محل شكٍّ لبعض الوقت وكانت هي تتحدث عنه صراحة. أما هو فلم يَقُل شيئًا في المقابل. ألم يَقُل لك شيئًا، ألم يَقُل لكِ يا شار؟»
قالت شار: «كلا.»
«سمعت عصر اليوم أنه خارج البلدة في الوقت الحالي، وأنها قد غادرت أيضًا. ليست تلك المرة الأولى التي يفعل فيها شيئًا كهذا؛ فأنا وشار نتذكَّر شيئًا كهذا.»
عندئذٍ أراد آرثر أن يعرف ما ترمي إليه، فأخبرته بقصة السيدة محركة العرائس، متذكِّرة حتى اسمَي دميتيها، مع أنها لم تأتِ بالطبع على ذكر حكاية شار، التي حضرت ذلك الحوار بل وكانت تشارك فيه قليلًا.
«قد يرجعان، ولكني أظن أنهما قد يستشعران الحرج. قد يستشعر الحرج من المجيء هنا، على أي حال.»
قال آرثر: «لماذا؟» وقد سعد بقصة محركة العرائس، ثم أضاف: «نحن لا نمنع أي شخص من أن يتزوج.»
نهضت شار ودخلت المنزل. وبعد برهة تناهى إلى سمعهما صوت البيانو.
•••
السؤال الذي دائمًا ما كان يلحُّ على بال إت في السنوات الأخيرة: ما الذي كانت تعتزم فعله بشأن هذه القصة عند رجوع بلايكي؟ نظرًا لأنه لم يكن لديها سبب يجعلها تعتقد أنه لن يرجع. والإجابة هي أنها لم تُعِدَّ أي خطط على الإطلاق. كل ما هنالك أنها افترضت أنها ربما تثير مشكلة بينه وبين شار، تجعل شار تتشاجر معه، وتستثير شكوكها حتى لو لم تكن الإشاعات حقيقية، وتجعل شار تستنبط ما قد يفعله مرة أخرى في ضوء ما فعله من قبل. لم تكن تعرف ما تريده. كل ما أرادته أن تخلق حالة من الريبة؛ لأنها اعتقدت عندئذٍ أن شخصًا ما عليه فعل ذلك قبل فوات الأوان.
تعافى آرثر بالقدر المتوقع ممن هم في سنه، وعاد إلى تدريس التاريخ لطلاب السنة النهائية في المدرسة الثانوية، مع العمل نصف الوقت حتى يحين موعد تقاعده. أما إت فقد احتفظت بمكانها بالساحة وحاولت أيضًا النهوض وطبخ بعض الطعام والقيام ببعض أعمال النظافة لآرثر. أخيرًا وبعد تقاعده عادت إت إلى المنزل، تاركة مكانها الآخر لأغراض العمل فقط، حيث قالت: «دعِ الناس يعيدوا ويزيدوا كما شاءوا عن عمرنا.»
عاش آرثر حياة مديدة بالرغم من ضعفه البدني وبطء حركته. مشى يومًا ما إلى الساحة قاصدًا إت، فاصطحبها معه وذهبا إلى المنتزه. كان الفندق قد أُغلق وبيع مرة أخرى، وسَرَتْ إشاعة أنه سيتم افتتاحه مركزًا لإعادة تأهيل مدمني المخدرات، ولكن البلدية تلقَّت عريضة احتجاج فتراجعت عن المشروع، وفي نهاية المطاف تم هدمه.
لم يَعُد بصر إت بنفس قوته المعتادة، مما اضطرها إلى الإبطاء في العمل، وردِّ بعض الزبائن، بيد أنها لا تزال تعمل كل يوم. في المساء كان آرثر إما يشاهد التليفزيون أو يقرأ، بينما هي إما تجلس في الشرفة أيام الطقس الدافئ، أو في غرفة الطعام أيام الشتاء، مسترخية على الكرسي الهزاز ومريحة عينيها. جاءت وشاهدت نشرة الأخبار معه، وأعدَّت له مشروبه الساخن، من الكاكاو أو الشاي.
•••
لم يكن هناك أثر للزجاجة. ذهبت إت وألقت نظرة على الخزانة بأسرع ما يمكن؛ بعد أن هرولت إلى المنزل استجابة لمكالمة آرثر في الصباح الباكر، ووجدت الطبيب، ماكلين العجوز، يدخل البيت في الوقت نفسه. أسرعت وفتشت في القمامة، ولكنها لم تجد لها أثرًا.
هل كان لدى شار الوقت لدفنها؟ كانت ترقد على السرير وهي متأنقة في كامل ملابسها، وشعرها ملموم بعناية. لم تكن هناك ضجة حول سبب الوفاة كما هي الحال في القصص. كانت قد اشتكت إلى آرثر من شعورها بالضعف في الليلة السابقة بعد رحيل إت، وقالت إنها تعتقد أنها ستصاب بالأنفلونزا. وهكذا قال الطبيب العجوز أزمة قلبية، وقضي الأمر. بيد أن إت لم تستطِع معرفة السبب. ما الذي كان في الزجاجة ولا يترك أثرًا على الجسم على الإطلاق؟ ربما ما كان في الزجاجة ليس ما هو مكتوب عليها، حتى إنها غير متأكدة أصلًا من أن تلك الزجاجة كانت موجودة في الليلة الماضية؛ فقد كانت متحمسة للغاية تجاه ما كانت تقوله مما حال دون ذهابها وإلقاء نظرة، كما اعتادت أن تفعل. وربما تم التخلص منها في وقت سابق وتجرعت شار شيئًا آخر، كالحبوب مثلًا. وربما كانت أزمة قلبية حقًّا؛ فعمليات التطهير القاسية تلك من شأنها أن تضعف قلب أي إنسان.
كانت جنازتها في يوم عيد العمال بحضور بلايكي نوبل الذي قطع جولته بالحافلة. أما آرثر، وفي خضم أحزانه، فقد نسي القصة التي حكتها إت، ولم يُفاجأ بحضور بلايكي، الذي رجع إلى موك هيل في يوم دفن شار، متأخرًا بضع ساعات، كما في القصص. وفي خضم ارتباكها الطبيعي لم تستطِع إت تذكُّر اسم مسرحية روميو وجولييت التي تذكَّرتها لاحقًا. بيد أن بلايكي نوبل لم يقتل نفسه بالطبع، بل عاد إلى تورونتو. وظل مدة عام أو عامين يرسل بطاقات المعايدة في الكريسماس، ثم انقطعت أخباره تمامًا. وما كانت إت لتُفاجَأ لو ثبت في النهاية عدم صحة حكاية زواجه، فقط توقيتها هو الخاطئ.
في بعض الأحيان كان الكلام يقف على طرف لسان إت قبل أن تقول لآرثر: «ثمة سر يؤرقني كنت أعتزم إخبارك به.» فهي لم تصدق أنها كانت ستدعه يموت دون أن يعرفه. لم تكن لتسمح له بذلك. وقد احتفظ بصورة لشار على مكتبه، وهي صورة التُقطت لها وهي ترتدي ملابس تلك المسرحية التي لعبت فيها دور الفتاة التمثال. غير أن إت تغاضت عن الأمر، يومًا بعد يوم. وظلت هي وآرثر يلعبان الريمية بأوراق اللعب وقامَا على رعاية حديقة صغيرة، مع قصب التوت. لو أنهما كانا متزوجين لقال عنهما الناس إنهما في غاية السعادة.