المرأة الإسبانية
عزيزي هيو، عزيزتي مارجريت
- (١)
الاكتفاء بزوج واحد ليس من طبيعة الرجل ولا المرأة.
- (٢)
السبب الذي يجعلنا نحس بالغيرة هو الهجران. هذه فكرة سخيفة؛ لأنني كإنسانة ناضجة أستطيع الاعتناء بنفسي؛ لا يمكن أن أتعرض للهجر بالمعنى الحرفي للكلمة. أيضًا نشعر بالغيرة، أو بالأحرى أشعر بالغيرة بسبب افتراضي أنه إذا كان هيو يحب مارجريت، فهو يأخذ شيئًا مني ويعطيها إياه. الأمر ليس كذلك بالضبط؛ فإما أنه يحبها أكثر مما يحبني — إلى جانب الحب الذي يكنه لي — أو أنه لم يحمل لي بداخله حبًّا من الأساس. وحتى إن كان الأمر الأخير حقيقيًّا، فهذا لا يعني أنني إنسانة غير جديرة بالحب. إذا كنت أشعر بداخلي أنني قوية وسعيدة، فإن حب هيو لي غير ضروري لاعتدادي بذاتي، وإذا كان هيو بالفعل يحب مارجريت فيجب أن أكون فرحة، أليس كذلك؟ أفلا ينبغي أن أكون فرحة لأن هيو يشعر بهذه السعادة في حياته؟ ولا يمكنني أن أطالبه بشيء …
عزيزي هيو، عزيزتي مارجريت
ليس كونكما على علاقة فقط هو ما يؤلمني، بل خداعكما لي بهذه البراعة هو ما يؤلمني بحق، إنه لشيء مروِّع عندما تكتشف أن الواقع الذي تعيشه واقع مزيف. بالتأكيد، ألم يكن وجود مارجريت معنا بالمنزل طوال الوقت، وخروج ثلاثتنا معًا، وتظاهر مارجريت بأنها صديقتي الصدوقة، ألم يكن ذلك كله خيانة لا داعي لها؟ كم من مرة لا بد أنكما ضحكتما أمامي وأنتما تتبادلان النظرات من خلفي غير عابئَيْن بي عندما نكون معًا. كان الأمر برمته عبارة عن مسرحية أخرجتماها من أجل تسليتكما دون رحمة بي، وطبعًا بكوني تلك المرأة البلهاء المغفلة ساعدتكما على إشعال لهيب مطارحتكما الغرام. إني حقًّا أزدريكما، إني لا أستطيع فعل ما فعلتماه؛ لا أستطيع أن أجعل من إنسان أحببته وتزوجته أضحوكة، بل لا أستطيع حتى أن أجعل من إنسان كان محسنًا لي وكان صديقي أضحوكة …
مزَّقتُ هذين الخطابين، وجعَّدتُهما بقبضة يدي، وألقيتُ بهما في سلة المهملات. كان كل شيء بالمقصورة منظمًا بدقة ويفي بالغرض؛ بداخل هذا المهجع المعدني المنجد يستطيع المرء، بلا عناء أو قلق، أن يمضي حياته. يتجه القطار غربًا تاركًا مدينة كالجاري. جلستُ أراقب الأمواج البنية الهائجة التي ترتفع حتى سفح التلال، وأخذت أنتحب على وتيرة واحدة، وأنا أشعر بالدوار. إن الحياة ليست كالقصص الساخرة الكئيبة التي طالما أحببت قراءتها، ولكنها كالمسلسلات التليفزيونية التي تعرض بالنهار، ستبكي بحق من شدة ابتذالها وسخافتها أكثر من أي شيء آخر.
صديقة. عشيقة. لم يَعُد أحدٌ يستخدم كلمة عشيقة الآن، فكلمة صديقة تبدو جريئة مع أنها تحمل براءة زائفة؛ مما يجعل معناها مراوغًا بشكل غريب. احتمالات الغموض والمعاناة التي تحملها الكلمة القديمة اختفت تمامًا؛ ليس بمقدور فيوليتا أن تكون صديقة أحدهم، لكن نيل جوين تستطيع ذلك؛ فهي أكثر عصرية.
إليزابيث تايلور: عشيقة.
ميا فارو: صديقة.
هذا هو تحديدًا نوع اللعبة التي اعتدنا أنا وهيو ومارجريت أن نلعبها معًا في أمسياتنا القديمة، أو أغلب الظن كنا نتسلى بها أنا ومارجريت ونثير ثائرة هيو بانهماكنا فيها.
ما من كلمة من الممكن أن تصف مارجريت بحق.
في الربيع الماضي ذهبنا معًا إلى وسط البلدة لشراء فستان جديد، كنت معجبة ومتأثرة بطريقة مارجريت في التوفير، وحسها المتدبر. كانت فتاة غنية، حيث كانت تعيش في أبلاندز مع أمها العجوز، لكنها تقود سيارة رينو عمرها ست سنوات، ومنبعجة من أحد جانبيها، وكانت تأتي المدرسة ومعها شطائر، وكانت لا تضمر السوء لأحدٍ.
حاولت إقناعها بشراء فستان طويل من القطن، ذي لون أخضر داكن، ومطرز بالفضي والذهبي، لكنها قالت:
«إنه يشعرني بأنني بغيٌّ، أو كامرأة تحاول أن تكون بغيًّا، وهو الشيء الأسوأ.»
الدموع، دموع التماسيح، لا أعلم ماذا تعني …
كنا دائمًا طائشتين كبنات المدارس الثانوية. عندما تنعم التفكير في ذلك، هل كان هذا شيئًا طبيعيًّا؟ كنا نختلق القصص عن كل الناس الذين نراهم بالشارع. كنا نضحك بشدة من قلوبنا لدرجة أننا كنا نضطر إلى الجلوس على مقعد انتظار الحافلة، وعندما تأتي الحافلة نلوح لها ونحن ما زلنا نضحك. كنا على حافة الجنون بحق، كانت كلٌّ منا منجذبة للأخرى بسبب حبنا لنفس الرجل، أو كنا منجذبتين لنفس الرجل بسبب حب كلٍّ منا للأخرى. اعتدت على العودة يوميًّا مرهقة من كثرة الكلام والضحك، وأقول لهيو: «إنه أمر مضحك، لم يكن لي صديقة كهذه منذ سنين.»
•••
ذات ليلة على العشاء كانت تجلس بمقعدها المعتاد وقالت إنها تريد منا أن نخاطبها منذ الحين بمارجريت وليس مارج. مارج هو الاسم الذي يناديها معظم الناس به، الاسم الذي يناديها زملاؤها المدرسون به، حيث كانت تعمل مدرسة للغة الإنجليزية والتربية البدنية بالمدرسة التي كان هيو مديرًا لها. يقولون عن مارج هونكر إنها فتاة عظيمة عندما تعرفها جيدًا، إنسانة رائعة بحق، وتستطيع أن تستشف من الطريقة التي يتحدثون بها أنها ليست جميلة.
«مارج اسم أبله، في الواقع مثلي، أعتقد أن مارجريت ستجعلني أشعر أنني أجمل.» قالت ذلك أثناء العشاء وفاجأتني بأمنيتها البسيطة التي قالتها بنبرة مضحكة. كنت أنا مهتمة بها كاهتمام الأم بابنتها، وكنت دائمًا أتذكر أن أناديها بمارجريت كما طلبت، لكن هيو لم يهتم وكان يناديها مارج.
«مارجريت لها ساقان جميلتان، عليها أن تلبس تنورات أقصر.»
«جسمها رياضي وعضلاتها مفتولة أكثر مما ينبغي.»
«يجب أن تترك شعرها ينمو ويسترسل.»
«ثمة شعر ينمو بوجهها.»
«يا له من شيء وضيع لتقوله.»
«إني لا أصدر أحكامًا عليها، لكني أقرر حقيقة واقعة.»
إنها حقيقة، فمارجريت لها زغب ناعم ينمو بمحاذاة أذنيها، وبحواف فمها، وجهها كوجه صبي في الثانية عشرة، أشقر ويعلو وجهه النمش. مارجريت حاضرة الذهن، متقدة الذكاء، نحيلة البدن برشاقة، ومعظم الوقت خجولة. كنت دائمًا أقول إن هناك شيئًا جذابًا بها، وهيو يوافقني الرأي، إنها من نوعية النساء اللاتي تقول عنها النساء الأخريات إن بها شيئًا جذابًا جدًّا، ويتساءل هيو لماذا تقول السيدات الأخريات عنها ذلك؟ لأنها لا تمثل تهديدًا.
لا تمثل تهديدًا.
لماذا نُفاجأ عندما نكتشف أن هناك آخرين غيرنا قادرين على نسج الأكاذيب؟
•••
كنا نستضيف المدرسين الصغار؛ الشباب المرتدي الجينز، وأيضًا الشابات المرتديات الجينز أو تنورات جلدية قصيرة، ذوي الشعر الطويل، والصوت الخفيض، سلبيين لكن حاسمين. تغير المدرسون عن أيامنا. ارتدت مارجريت فستانها الصوفي وردي اللون بطول الركبة، وساعدت بتحضير القهوة وهي جالسة على وسادة جعلت قدميها تبدوان طويلتين جدًّا، ولم تتفوَّه بما مجمله عشرون كلمة طيلة المساء. كنت أرتدي فستانًا من فساتيني الطويلة، ألوانه متعددة كالطاووس، لبسته لأحاول خلق جو من الألفة. كنت أمتدح نفسي، ومرونتي، وذوقي العصري، نعم، ذوقي غير المنتمي للعصور الوسطى. كنت أشعر بالتباهي بنفسي أمام شخصٍ ما، مارجريت؟ هيو؟ لكن سعادة هيو الحقيقية كان مصدرها مارجريت، عندما يذهب الجميع.
«المشكلة أنني لا أعلم إن كان بالفعل لي علاقة بهذا، لا أعلم إن كان لي علاقة بكل تلك العلاقات بين الأشخاص، أعني أنني أحيانًا أعتقد أن كل ما أمر به هو من نسج خيالي …»
كانت مارجريت تضحكني أيضًا، كنت فخورة بها بالطريقة غير الأخلاقية التي يسعد بها الآباء عندما يقلد طفلهم المهذب ضيفًا مغرورًا رحل لتوه، لكن كانت تلك الأجواء المنعشة بلا أدنى شك تسود بين هيو ومارجريت، حقيقة. أحبها هيو لإدراكها، واستخفافها، وخداعها؛ تلك الصفات التي تبدو لي الآن أدنى من أن تكون مرغوبة. كلاهما خجول، هيو ومارجريت، كلاهما غير بارع في المعاملات الاجتماعية، ويضطربان أمام الناس بسهولة، لكنهما باردان من الداخل، أبرد من أن يتباهيا بمفاتنهما ومغامراتهما مثلما نفعل. إنهما لا يكشفان عن أنفسهما. بالطبع لن يعترف أحدهما بهذا، ولن يتحدثا عن هذا. بإمكاني أن أغرس أظافري بجلدهما ومتأكدة من أن أصابعي هي التي ستنزف لا جسديهما، بإمكاني أن أصرخ بوجهيهما إلى أن ينفجر حلقي ولن يتغير شيء من هدوئهما، بل ولن يشيحا بوجهيهما المخادع بعيدًا عني. كلاهما أشقر، كلاهما يخجل بسهولة، كلاهما يسخر من غيره بأعصاب باردة.
إنهما يحتقرانني.
إنه شيء قذر بالطبع، فالحب كله لهما وحدهما ولا شيء لي.
إني عائدة من زيارة أقارب لي يسكنون بمختلف أنحاء المدينة، هؤلاء الناس أشعر أني مرتبطة بهم بعلاقات عاطفة قوية، قوية بدرجة تفوق الوصف؛ لدرجة أني أفزع من فكرة موت أحدهم كفزعي من موتي، لكني لا أستطيع أن أقول لهم شيئًا وليس بيدهم ما يفعلونه لي. عندما ذهبت لزيارتهم أخذوني برحلة صيد، وذهبنا للعشاء بالخارج والاستمتاع بالمنظر من المباني العالية، ماذا من الممكن أن يفعلوه أكثر من ذلك؟ بالطبع لن يسرهم أن يسمعوا أخبارًا سيئة عني، إنهم يقدرونني لمزاجي المبتهج، وحسن مظهري، ونجاحي المتواضع والملموس بنفس الوقت — لقد قمت بترجمة مجموعة من القصص القصيرة وبعض كتب الأطفال من الفرنسية إلى الإنجليزية، وبإمكانهم الذهاب إلى المكتبة ورؤية اسمي على أغلفة الكتب — ولأني الأكبر سنًّا فيهم والأقل حظًّا، تحديدًا، أشعر أنه لزام عليَّ أن أمنحهم تلك الأشياء. حظي وسعادتي هما جانب واحد من بين المؤشرات القليلة التي تؤكد لهم أن الحياة ليست كلها مساوئ.
الكثير من الأقرباء، والكثير من الزيارات.
هب أني عدت إلى المنزل، وكان كلاهما هناك، هب أني دخلت لأجدهما على السرير، بالضبط مثل ما يروى في بريد المعذبات بالجريدة (التي أنوي ألا أضحك منه مرة أخرى)، كيف سيكون شعوري؟ سأذهب إلى الدولاب وأحضر باقي ملابسي وأحزم حقائبي، وأتحدث بمنتهى الدبلوماسية مع من بالسرير قائلة:
«هل تودان احتساء بعض من القهوة؟ أتخيل أنكما تحتاجان إليها من فرط تعبكما.»
أقول ذلك لأجعلهما يضحكان، لأجعلهما يضحكان كأن شيئًا لم يكن، وكأنهما يمدان يديهما لي ليدعواني للجلوس، للجلوس معهما على السرير.
في تصور آخر، ربما أذهب إلى غرفة النوم، ودون أن أنبس ببنت شفة ألتقط كل ما أجده أمامي — زهرية، زجاجة مرطب، صورة من على الحائط، حذاء، ملابس، الكاسيت الخاص بهيو — وأقذف بتلك الأشياء على السرير، والشباك، والجدران، ثم أقتلع الشراشف وأمزقها إربًا إربًا، وأرفس مرتبة السرير وأنا أصرخ، ثم أنهال على وجهيهما بالصفعات، وأضرب جسديهما العاريين بفرشاة الشعر، كما فعلت الزوجة في رواية «أرض الله الصغيرة»؛ تلك الرواية التي قرأتُ منها عاليًا إلى هيو بنبرة كوميدية، أثناء رحلة طويلة بالسيارة عبر البراري طوَّقَنا فيها الغبار.
ربما حكينا لها عن ذلك، وتفاخرنا أمامها بكثير من المداعبات التي كانت تحدث بيننا أثناء المغازلة، أو حتى بشهر العسل، بينما يظهر على وجهها علامات الإعجاب والتعطش لسماع المزيد؛ كنت أنا أتباهى بذلك، أما عن هيو، فليس لديَّ أدنى فكرة عما كان يشعر به أو يقصده من ذلك.
رغمًا عني أصدرت صرخة قوية تعبيرًا عن احتجاجي.
وضعت يدي أمام فمي المفتوح، ولأوقف الألم عضضتها، عضضت يدي. نهضت وذهبت باتجاه الحوض لأنضح وجهي بالماء، ووضعت بعضًا من أحمر الخدود ومشطت شعري وضبطت حواجبي، وذهبت خارجة.
تسمى العربات بالقطار بأسماء مشاهير المكتشفين، أو بأسماء الجبال أو البحيرات. غالبًا ما كنت أسافر بالقطار عندما كان أبنائي صغارًا، وكنت أنا وهيو فقراء؛ حيث كان القطار يسمح للأطفال دون السادسة بالركوب بالمجان. أتذكر تلك الأسماء المكتوبة على الأبواب الثقيلة، وأتذكر كيف كنت أدفع الأبواب وأظل ممسكة بها بينما أستحث أبنائي الأشقياء والمتدافعين على المرور منها، كنت دائمًا أتنقل متوترة بين العربات كأن الأطفال سيسقطون بطريقة ما، رغم علمي بأن هذا لن يحدث. كان عليَّ أن أنام بالقرب منهم ليلًا وأجلس معهم نهارًا وهم يقفزون حولي أو عليَّ، لدرجة أنني كنت أشعر أن جسدي مهروس تحت أقدامهم وأكواعهم وركبهم. وكنت أفكر كم هو جميل أن تسافر المرأة وحدها، ليكون بمقدورها احتساء القهوة بعد تناول الوجبات دون قلق وهي لا تفعل شيئًا سوى النظر من النافذة، وتستطيع الذهاب إلى عربة الطعام وتناول شراب. الآن واحدة من بناتي تسافر متطفلة في أوروبا، والأخرى مرشدة بمعسكر للأطفال المعاقين، وكل الوقت الذي ضاع في الاهتمام والفوضى — والذي كنت أتخيل أنه لن ينتهي — أصبح وكأنه لم يكن من الأساس.
دخلنا بالقطار عبر الجبال دون أن أشعر، طلبت شراب الجين مع ماء الصودا، كانت الكأس الزجاجية تلتقط أشعة الشمس وتعكسها بحلقة من الضوء على البساط الأبيض، مما يضفي على المشروب صفاء ويعطيني إحساسًا بأنه مجدد لنشاطي، كمياه الجبل، شربته بنهم كأني لم أرتوِ منذ زمن.
هناك سلم صغير يمتد من عربة الطعام وحتى القبة حيث يجلس الناس من محطة كالجاري بلا شك في انتظار مشاهدة الجبال. أما المسافرون الذين أتوا متأخرين ويتمنون لو أن الناس ترحل عن مقاعدها فقد اعتلوا بضع درجات من السلم ليشرئبوا بأعناقهم ليتفقدوا الوضع ثم يعودوا ساخطين.
قالت سيدة بدينة ترتدي عمامة: «يبدو أن الموجودين سيظلون جالسين أسبوعًا.» قالتها وهي تتلفَّت حولها لتحدِّث مجموعة يبدو أنهم أحفادها، كانت تملأ السلم كله بجسدها. ابتسم الكثير منا وكأن القدر ساق إلينا هذه السيدة بحجمها وصوتها العالي وبساطتها لتسرِّي عنا.
كان هناك رجل يجلس وحده بأقصى العربة يستند بظهره على الشباك، وكان ينظر إليَّ مبتسمًا، ملامح وجهه تذكرني بوجه أحد نجوم السينما من العصر الماضي، وجهه عجوز لكنه وسيم، يحمل ملامح جميلة تنمُّ عن التصميم واليقظة، وإن غلبه كبر السن. كان يشبه دانا أندروز، أو أحدًا مثله. كانت الملابس بلون الخردل تعطيني انطباعًا غير سعيد.
لم يأتِ ويجلس بجواري، بل ظلَّ يسترق النظر إليَّ من حين لآخر. وعندما نهضت وهممت بترك العربة، أحسست أنه يراقبني، وتساءلت ماذا لو حاول ملاحقتي؟ ليس لديَّ بال له، ليس الآن، لا أستطيع أن أعيره اهتمامي الآن. فيما مضى كنت مستعدة لأي رجل تقريبًا، عندما كنت بسن المراهقة وبعدها أيضًا، عندما كنت زوجة شابة، كان أي رجل ينظر لي بأي تجمع، أو نظرات أي مدرس تتعلق بي بحجرة الدراسة، أو حتى نظرات غريب بحفلةٍ ما، كان ربما يتحول إلى الحبيب الذي كنت أبحث عنه دائمًا — عاطفي، ذكي، وحشي لكنه حنون — شخص يجعلني بطلة بمشاهد الأفلام المتفجرة، البديعة التي يعرفها الجميع. بعد ذلك، بعد مرور سنوات قليلة على زواجي، اعتزمت أن أحول تخيلاتي إلى حقيقة. بالحفلات، عندما أرتدي صدريتي التي تظهر صدري بمظهر أكبر، وأصفف شعري التصفيفة الإيطالية المشعثة، وأرتدي فستاني الأسود ذا الشرائط الرفيعة على الظهر، كنت أبحث عن أي رجل لأقع بحبه، وليقحمني معه بعلاقة ملتهبة. وحدث هذا بطريقة أو أخرى، أنتم ترون أنه ليس بالأمر البسيط، ليس بالأمر الواضح كما سيصدق من يرى حزني الآن، وإحساسي المؤكد بالخيانة. كلا. وقد ترك الرجال عليَّ علامات لم أشغل بالي بإخفائها عن هيو، حيث إن هناك أجزاء من جسمي لم ينظر إليها قط؛ فكما تعرضت للكذب كنت أنا نفسي أكذب. وقد أعرب رجال عن عشقهم الجائع لحلمتي صدري وتلك الندبة عند سرة بطني والشامات على ظهري وقالوا لي أيضًا، كما هو جدير بهم أن يفعلوا: «والآن لا تبالغي في أهمية ما فعلناه.» بل كان بعضهم يقول أحيانًا: «أنا أحب زوجتي حقًّا.» وبعد فترة من الوقت أقلعت عن تلك الممارسات وذهبت سرًّا لزيارة طبيب نفساني قادني إلى أن أفهم أنني أحاول جذب اهتمام هيو، واقترح عليَّ طريقة بديلة لجذب اهتمامه من خلال اللطف والإغراء وفنون الحب في جميع أنحاء المنزل. لم أُرِد الجدال معه، ولا مشاركته التفاؤل. بدا لي وكأنه لا يفهم طبيعة شخصية هيو فهمًا حقيقيًّا، مفترضًا أن بعض حالات الرفض تنبع ببساطة من عدم الطلب على نحو صحيح. بالنسبة لي يبدو رفضه أساسيًّا، مطلقًا. ولا يمكنني التفكير في التكتيكات التي يمكن أن تغيره. لكنه كان ذكيًّا بما فيه الكفاية. وقال إنه يفترض أنني أرغب في البقاء مع زوجي. كان محقًّا؛ فلا يمكن أن أفكر — لا أستطيع تحمل مجرد التفكير — في بديل.
توقف القطار بمحطة فيلد، مسافة بسيطة بعد حدود مقاطعة كولومبيا البريطانية، فترجلت منه ومشيت بجوار السكة الحديد وريح حارة تهب.
ثم سمعت من يقول: «إنه لشيء لطيف الترجل عن القطار لبعض الوقت، أليس كذلك؟»
تعرفت عليه بالكاد، فهو رجل قصير، تمامًا مثل نجوم السينما الوِسام حسبما أعتقد، ملابسه كانت بالفعل بلون الخردل، السترة والبنطلون بلون الخردل، أما قميصه المفتوح فكان لونه أحمر، وكان حذاؤه خمريًّا، وكان صوته يوحي بأنه رجل ذو علاقات ومعاملات عامة يومية.
«أتمنى ألا أتسبب بإزعاجك إذا سألتك، هل أنت برج الأسد؟»
«كلا.»
«سألتك لأنني برج الحمل، وعادة ما يستطيع مواليد برج الحمل التعرف على مواليد الأسد، فهذان البرجان بينهما تفاهم جيد.»
«آسفة.»
«رأيت أنك شخصية لطيفة أود تجاذب أطراف الحديث معها.»
تركته وعدت إلى القطار، دخلت مقصورتي وأغلقت الباب وجلست أتصفح المجلات، حتى إعلانات الخمور وأحذية الرجال، لكنني شعرت بالأسف، ربما لم يكن يقصد شيئًا بالفعل أكثر مما قاله. فأنا بالفعل شخصية يحب المرء تجاذب أطراف الحديث معها. السبب أني سأستمع لأي شيء. ربما كان السبب هو تلك المقالات التي أقرؤها بالمجلة منذ أن كنت مراهقة (عندما أجد أي عنوان يصف حدثًا ما أو أحدهم بالشعبية كان يجعل القشعريرة تسري بجسدي ويجبرني على قراءته)، والتي حثتني على تنمية ذلك الفن الاجتماعي الجاذب. لم أكُن أقصد إحراجه، ولكن المحادثة وجهًا لوجه مع أي مؤمن إيمانًا شديدًا بفكرة أو كذبة — مثل معظم الناس — أو أنه خاض سلسلة من التجارب الغامضة التي يود مشاركتي الحديث عنها، تجعلني مذهولة، وهو أمر كافٍ جدًّا ليصيبني بالشلل. كان هيو يقول في هذه الحالة: عليك بالنهوض والابتعاد. وهذا ما أفعله.
•••
«سؤالي لك إن كنت من مواليد برج الأسد كان فقط على سبيل تجاذب أطراف الحديث، ما أردت أن أقوله لك شيء مختلف، لكنني لم أعرف كيف أبدأ، في الواقع، مذ أن رأيتك وأنا أعتقد أني رأيتك قبل ذلك.»
«أوه، أنا لا أعتقد ذلك، لا أعتقد أنك رأيتني من قبل.»
«أعتقد أننا نعيش أكثر من حياة.»
هل ما يقصده بعيش أكثر من حياة هو خوض تجارب متعددة؟ ربما هو على وشك تبرير عدم إخلاصه لزوجته، إن كان له واحدة.
«أنا أُومن بذلك، لقد ولدت من قبل ومت من قبل، هذه حقيقة.»
عندما كنت أختلق القصص لهيو عن أي رجل بخيالي كنت أقول له، أرأيت؟ دائمًا ما يجدونني.
«هل سمعت يومًا عن جماعة الصليب الوردي؟»
«هل هي الجماعة التي تعلن عن فن إتقان الحياة؟»
قد تفوت عليه نبرة السخرية، لكنه يستطيع أن يستشف الوقاحة. فاكتسب صوته نبرة توبيخ مملة.
«رأيت واحدًا من تلك الإعلانات منذ ست سنوات. كنت بحالة مزرية، كان زواجي منتهيًا لتوه وكنت أعاقر الخمر مما أضر بصحتي، لكن لم تكن هذه هي المشكلة، أتعرفين؟ إنها ليست المشكلة الحقيقية، لقد اعتدت فقط الجلوس والتفكير، وهذا سبب وجودي هنا على أي حال. مثل موقفي من الدين؛ لقد سئمت هذا كله. لا أستطيع القول إن هناك شيئًا مثل الروح. وإن لم توجد، فما الفارق إذن؟ أتفهمين ما أعنيه؟
بعد ذلك بدأت في الكتابة إليهم، وحصلت على بعض من إصداراتهم السابقة، وبدأت في حضور اجتماعاتهم. أول مرة ذهبت هناك، كنت خائفًا من أن يكون الأمر كالذهاب إلى مستشفى المجانين، لم أكُن أعرف ما الذي من الممكن أن أراه هناك، أتعرفين؟ يا لها من صدمة عندما رأيت نوعية الناس هناك؛ أناس ذوو نفوذ، أناس أغنياء، أناس محترفون. كل الأشخاص من نخبة المجتمع من المثقفين والمتعلمين، إنهم ليسوا جماعة مجانين، إنها جماعة مشهورة وموثوقة علميًّا.»
لم أجادله فيما قال.
«مائة وأربع وأربعون سنة! هذه هي الفترة الزمنية بين بداية الحياة والحياة الأخرى، لذلك إذا مات أحدنا، ولنقل، بسن السبعين، يتبقى نحو أربعة وسبعين عامًا حتى بداية الحياة التالية، عندما تولد روحك من جديد.»
«وهل تتذكر؟»
«تقصدين من الحياة الأولى للتالية؟ حسنًا، أنت على دراية بنفسك، الإنسان العادي لا يتذكر أي شيء، لكن بمجرد أن يتفتح عقلك، ستدركين ماذا يدور حولك، وسببه، بعد ذلك ستبدئين في التذكر. إنها حياة واحدة تلك التي أنا متأكد من أني عشتها، كان ذلك في إسبانيا وفي المكسيك، كنت واحدًا من أحد فاتحي المكسيك، أتعرفينهم؟»
«نعم.»
«شيء مضحك، دائمًا كنت أعرف أنني أستطيع امتطاء الخيل، لكني لم أفعل ذلك، فأنا فتى من المدينة، ولم يكن لدينا المال، ولم يكن لدينا حصان. لكني ما زلت أشعر بأني أجيد امتطاء الخيل. بعد ذلك عند حضوري أحد اجتماعات جماعة الصليب الوردي بفندق بفانكوفر منذ عامين أتى إليَّ زميل كبير في السن، كان من كاليفورنيا، وقال: أنت كنت هناك، أنت كنت واحدًا منهم. لم أدرك وقتها عما يتحدث، فأردف: في إسبانيا، كنا معًا. وقال إنني كنت أحد الفاتحين الذين ذهبوا إلى المكسيك وأنه كان واحدًا ممن تخلَّفوا. لقد تعرَّف على وجهي. أتعرفين ما أغرب شيء في كل ذلك؟ عندما انحنى ليحادثني خُيِّل لي أنه يرتدي قبعة، مع أنه لم يكن كذلك، ذلك النوع من القبعات المكسوة بالريش، وخُيِّل لي أن شعره أسود وطويل، بدلًا من كونه رماديًّا وقصيرًا. كان هذا كله قبل أن ينبس ببنت شفة مما قاله، أليس ذلك شيئًا ذا دلالة؟»
بلى، ذو دلالة، لكني سمعت أشياء كهذه من قبل، سمعتها من أشخاص اعتادوا رؤية الأشباح تطير من فوقهم، أشخاص يسيِّرون حياتهم بناءً على ما يقوله المنجمون، لدرجة أنهم غيروا أسماءهم وانتقلوا إلى عناوين جديدة؛ لأن القيم الرقمية التي تحملها الحروف الجديدة ستبارك لهم حياتهم. هذه هي الأفكار التي يعتنقها أناس يعيشون معنا في هذا العالم، وأستطيع الآن معرفة الأسباب.
«ما البرهان الذي تريدينه لأثبت لك أنك أيضًا كنتِ هناك؟»
«في إسبانيا؟»
«نعم في إسبانيا، لقد اعتقدت منذ رأيتك أنك امرأة إسبانية، ربما كنتِ ممن تخلفوا أيضًا، هذا يفسر ما أراه، عندما أنظر إليكِ — أنا لا أقصد أي إساءة فأنت امرأة جذابة جدًّا — أراكِ أصغر مما أنت عليه. لعل هذا بسبب أنني عندما تركتك بإسبانيا كنت بعمر العشرين أو الواحد والعشرين، ولم أَرَكِ ثانية بتلك الحياة، أنت لا تمانعين أن أقول ذلك، أليس كذلك؟»
«لا، لا، إنه من دواعي سروري فعلًا أن يراني أحدٌ هكذا.»
«أنا دائمًا على يقين بأنه يجب أن يكون هناك قيمة أكبر للحياة، أنا لست إنسانًا ماديًّا، ليس من طبيعتي، ولهذا السبب لم أحقِّق قدرًا كبيرًا من النجاح، فأنا أعمل رجل مبيعات للعقارات، لكن لا أعتقد أني أعير عملي الاهتمام اللازم إذا كنت أريد النجاح. لكني لا أهتم، فأنا أعيش وحدي.»
أنا أيضًا، أعيش وحدي، ولا أستطيع التفكير بما سأفعله، ولا أستطيع التفكير بما أفعله مع ذلك الرجل إلا أن أقحمه بحكاية من الحكايات التي سأرويها لهيو، لإثارة فضوله، كطرفة أو فكاهة لهيو. يريد هيو أن تُرى الحياة على هذا النحو؛ فهو يحب النبرة الباردة، المشاعر المجردة التي يجب أن يُتغاضى عنها كاللحم العاري.
«هل تحبني، هل تحب مارجريت، هل تحب كلتينا؟»
«لا أعرف.»
كان يقرأ المجلة، دائمًا ما يقرأ وأنا أحدثه، كان يقول تلك الكلمات بصوت ملول، بالكاد مسموع، وكأنه مُكره على الحديث.
«حسنًا، سنتطلق، هل ستتزوجها؟»
«لا أعرف.»
وصلت مارجريت عند تلك النقطة من الحديث، ونجحت في تغيير دفة الحوار إلى بعض الفناجين الخزفية التي اشترتها لنا للتو، كهدية، وتأمل ألا أقذفها خارجًا في ظل غيظي؛ لأنها — أي مارجريت — تعتقد أنها ستكون مفيدة في حال انتقالها للعيش معنا. ابتسم هيو لسماعه ذلك، وكان ممتنًّا. قلت في نفسي حينها إننا إذا نسجنا الفكاهات يمكننا جميعًا أن نحيا.
أسعد لحظة في زواجنا عندما كنا لا نواجه أي مشكلات في اتخاذ القرارات. كنا بجنوب ميشيجان في رحلة، حين كان الأطفال صغارًا. كان مهرجانًا رديئًا في يوم تلبدت سماؤه بالغيوم. ركبنا قطارًا لعبة، وشردنا نحن معًا حتى توقفنا أمام قفص به دجاجة، ولافتة مكتوب عليها أن تلك الدجاجة تستطيع أن تعزف على البيانو. قلت إنني أريد سماعها، فأسقط هيو عشرة سنتات بالمكان المخصص، وما حدث كان كالآتي، عندما سقطت العملة، فُتح باب سحري، وهبطت حبة ذرة على مفتاح البيانو، فذهبت الدجاجة لتلتقطها فأحدثت نغمة وهي تلتقطها. فصُدِمتُ وقلت إن هذا غش واحتيال. لسبب ما صدَّقت ما هو مكتوب على اللافتة بأن الدجاجة حقًّا تعزف على البيانو. لكن فعل هيو — عندما أسقط العملة — بدا طيشًا لا يتصف به هيو مطلقًا، طيشًا بدا لي فعلًا مدهشًا، وإقرارًا علنيًّا بالحب، أكثر من أي شيء آخر فعله أو قاله في أي وقت آخر، حتى في لحظات احتياجه إليَّ أو رضائه. كان هذا الفعل مدهشًا ومؤقتًا، كرؤيتك مثلًا طائرًا صغيرًا بألوان نادرة يجلس عن قرب بحيث لا يجرؤ أحدٌ على النظر إليه مباشرة ويسترقون النظر فحسب. في تلك اللحظة، كان حنان أحدنا على الآخر لا يعكره شيء، وينبع منا تلقائيًّا، وبدت صراعاتنا وكأنها غير حقيقية. بوابة جديدة فُتحت لنا على الحياة، أغلب الظن، لكننا لم نعبرها.
أما عن أتعس لحظة في زواجنا فلا أستطيع أن أتذكرها، فكل شجاراتنا يمتزج بعضها ببعض، وهي في الحقيقة تكرار لنفس المشاجرة وفيها يعاقب كلٌّ منا الآخر — أعاقبه بالكلمات ويعاقبني بالصمت — بسبب فكرة كلٍّ منا عن الآخر لا أكثر. لم نكُن نحتاج إلى أكثر من ذلك.
إنه الإنسان الوحيد الذي لا أمانع أن أراه يعاني، لن أمانع أن أرى لمحات الألم الطويلة على وجهه، وأقول: الآن عرفتَ كيف يكون الألم، أليس كذلك؟ الآن عليك أن ترى بنفسك. نعم، حتى عندما يبلغ ألمه منتهاه سأريه بسمتي، بسمتي الراضية، نعم سأريه إياها.
«عندما توصلت لإدراك ذلك، كنت كمن مُنح بداية جديدة.»
يؤمن الناس هذه الأيام بالبدايات الجديدة، يؤمنون بها حتى نهاية حياتهم. يجب أن يُسمح للمرء بأن يبدأ من جديد، مع شخص جديد، مع نفسك القديمة التي لا يعلمها أحدٌ سواك؛ لا يستطيع أحدٌ منع أي شخص من القيام بذلك. فالناس الكرماء يتركون أبوابهم مفتوحة ليمنحوا الهبات للآخرين، ولِمَ لا؟ فهذا سيحدث على أي حال.
تجاوز القطار ريفيلستوك وأخذ يسير وسط الجبال التي تتلاشى تدريجيًّا. كانت عربة الطعام خالية إلا مني ومن عضو جماعة الصليب الوردي، وبعض النُّدُل ينظفون المكان.
«عليَّ أن أذهب الآن.»
لم يحاول إيقافي، بل قال:
«كان من بالغ سعادتي أن سمحتِ لي بالتحدث معك، وآمل ألا تعتقدي أني مجنون.»
«كلا، كلا، إطلاقًا.»
تناول بعضًا من الكتيبات من جيبه الداخلي وأعطاني إياها قائلًا:
«ربما تودين قراءتها، إن كان لديك الوقت.»
شكرته.
نهض من مجلسه لتوديعي، بل وانحنى لي قليلًا بإجلال إسباني.
•••
مشيت إلى محطة فانكوفر وحدي حاملة حقيبتي وقد اختفى عضو جماعة الصليب الوردي بمكان ما، تلاشى كأنني نسجته من وحي خيالي، ربما لم يستقل القطار حتى فانكوفر، ربما نزل بإحدى قرى فرازر فالي بالصباح الباكر البارد.
لم يكن أحدٌ في استقبالي، فلا أحد يعرف أني قادمة. بدا جزء داخلي من المحطة محددًا بسياج ومعزولًا عما سواه. حتى في هذا التوقيت الذي يعتبر واحدًا من توقيتين يشهد فيهما المكان نشاطًا كبيرًا، بدا المكان مهجورًا وخاليًا.
قابلني هيو هنا بهذا المكان منذ واحد وعشرين عامًا، في نفس الوقت في الصباح. كان حينها مكانًا صاخبًا ويعج بالزحام. سافرت أنا غربًا كي أتزوجه واستقبلني هو بباقة زهور سقطت من يده حين رآني. كان حينها أقل سيطرة على مشاعره، ومع ذلك لم يكن كثير الحديث. وجهه أحمر، ويبدو صارمًا بطريقة مضحكة، مليء بالعواطف التي يتحملها بقوة، وكأنه مصاب بمرض لا يطلع عليه أحدٌ. وعندما كنت ألمسه لم يكن يسترخي، لدرجة أنني كنت أستطيع أن أشعر بأعصاب جسده المتصلبة. وما كان منه إلا أن يغلق عينيه ويواصل ما كان يفعله، وحده. ربما كان يتنبأ بحدوث أشياء؛ فساتين مطرزة، أشياء تدفعه للحماس، أو قصص خيانات زوجية. لم أكُن في الغالب مستعدة لأن أكون رءوفة به، لقد انزعجتُ لرؤيتي الورود المتساقطة، وتمنيت أن يلقي عليَّ التحية بطريقة أخرى غير تلك الطريقة الكرتونية، كنت قلقة من مواجهة براءته التي بدت أكثر من براءتي، لم أمانع أن أُشعره بقدر من عدم رضاي عما يحدث. مع مرور السنين على هذا الزواج توالت الأحداث، الحدث تلو الحدث، ارتُكبت أخطاء، الخطأ تلو الخطأ، لم يَعُد أحدٌ يستطيع معرفة المسئول عن هذا كله.
لكننا مشينا قُدمًا كلٌّ منا باتجاه الآخر، تشبث كلٌّ منا بالآخر وتعلق به. انسحقت بيننا الورود التي التقطها هو من الأرض ولم نُلقِ لها بالًا. تعانقنا وكأننا نجسد صورة حية لشخصين أُنقذا لتوهما بمعجزة. كان هذا من الممكن أن يحدث ثانية، ويتكرر. ودائمًا ما سيكون الخطأ نفسه.
آآآه.
دوَّت صرخة في محطة القطار، صرخة حقيقية، لكنها لم تصدر مني أنا. رأيت الناس وقد توقفوا لسماع الصرخة أيضًا. كانت الصرخة كأنها صيحة صادرة عن شخص دخيل، مليئة بمشاعر الظلم الشديد. نظر الناس باتجاه الأبواب المفتوحة من ناحية شارع هاستينجز، وكأنهم ينتظرون هذا الغريب ليأتي آخذًا بالثأر منهم. لكن اتضح أن الصراخ أتى من رجل عجوز، كان جالسًا بجوار رجال عُجُز آخرين على مقعد الانتظار بآخر المحطة. في الماضي كان هناك عدة مقاعد، الآن هو مقعد واحد يحمل رجالًا عُجُزًا، لا يسترعون انتباه أي شخص مثل الجرائد القديمة. وقف الرجل على قدميه ليبث صراخه الذي بدا أنه ناتج عن الغضب، غضب وترويع يشعر بهما، أكثر من كونه ناتجًا عن الألم. عندما خبت صرخته، تحول الرجل قليلًا، ثم ترنح، وكأنه يحاول التشبث بالهواء بذراعيه الممدودتين أمامه، وأصابعه المفتوحة، ثم سقط على الأرض وهو ينتفض بشدة. لم يتجشَّم أحد الرجال الآخرين الجالسين على المقعد نفسه عناء مساعدته، لم ينهض أحدهم، إنهم حتى بالكاد نظروا إليه، ثم أكملوا قراءة الجريدة أو أخذوا يحدقون بأقدامهم. وفجأة توقف الرجل عن الانتفاض.
مات الرجل، لقد عرفت ذلك. أتى شخص، مدير أو مسئول بالمحطة، ليتفحصه، في حين أكمل بعض الناس سيرهم بأمتعتهم كأن شيئًا لم يحدث، ولم ينظروا بذلك الاتجاه. بعض الناس مثلي تقدموا نحو مكان استلقاء الرجل وتوقفوا، تقدموا وتوقفوا، وكأنه يصدر عنه إشعاعات خطيرة.
«لا بد أنها أزمة قلبية.»
«بل سكتة دماغية.»
«هل مات؟»
«بالتأكيد، انظر، الرجل يضع عليه معطفه.»
وقف المسئول لا يرتدي شيئًا على قميصه. يجب أن يرسل معطفه للمغسلة. استدرت مبتعدة بصعوبة، ومشيت باتجاه مدخل المحطة، وكأنه يتعين عليَّ ألا أرحل، وكأن صرخات الرجل الذي مات ما زالت تطلب مني شيئًا لأفعله، لكني لا أستطيع حتى التفكير في هذا الشيء. هذه الصرخة التي أطلقها الرجل كانت كفيلة بأن تردعني أنا، وتردع هيو، ومارجريت، وعضو جماعة الصليب الوردي، وكل إنسان حي. كل ما نقوله أو نفعله أصبح غير حقيقي ولا طائل من ورائه. وكأننا نلف وندور خارج السيطرة منذ وقت طويل، ندور حول أنفسنا في دوامات، ونصدر ضجيجًا يملأ الدنيا صخبًا. ولكن يمكن لكل هذا أن يهدأ ويسكن في لحظة واحدة، لحظة واحدة نجد فيها أنفسنا للمرة الأولى هامدين لا نملك أن نؤذي بعوضة. كان مشهد هذا الرجل يبعث برسالة؛ أنا أُومن بذلك بالفعل، لكني لا أعلم كيف أوصل هذه الرسالة.